فصل: (بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا):

(وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: (وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِزِنًا بَعْدَ حِينٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ وَضَمِنَ السَّرِقَةَ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْحُدُودَ الْخَالِصَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، هُوَ يَعْتَبِرُهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِالْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، فَالتَّأْخِيرُ إنْ كَانَ لِاخْتِيَارِ السَّتْرِ فَالْإِقْدَامُ عَلَى الْأَدَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِضَغِينَةٍ هَيَّجَتْهُ أَوْ لِعَدَاوَةٍ حَرَّكَتْهُ فَيُتَّهَمُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِلسَّتْرِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا فَتَيَقَّنَّا بِالْمَانِعِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ، فَحَدُّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَكُونَ التَّقَادُمُ فِيهِ مَانِعًا، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ غَيْرُ مَانِعٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَلِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى انْعِدَامِ الدَّعْوَى فَلَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُمْ، بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِلْمَالِ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ التُّهْمَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ فَبِالْكِتْمَانِ يَصِيرُ فَاسِقًا آثِمًا، ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حَتَّى لَوْ هَرَبَ بَعْدَ مَا ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أُخِذَ بَعْدَ مَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي بَابِ الْحُدُودِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ: الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالرُّجُوعِ عَنْهَا.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ثُبُوتَ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ لَا غَيْرُ، وَهُمَا الشَّهَادَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَأَخَّرَ الشَّهَادَةَ هَاهُنَا عَنْ الْإِقْرَارِ لِقِلَّةِ ثُبُوتِ الزِّنَا بِالشَّهَادَةِ وَنُدْرَتِهِ حَتَّى لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ ثُبُوتُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ، إذْ رُؤْيَةُ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ كَمَا فِي الْكِلَابِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ.
قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِحَدٍّ مُتَقَادِمٍ وَلَمْ يَكُونُوا بِعِيدَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ خَاصَّةً) وَأَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ إيضَاحٍ وَهِيَ تَعْدِيدُ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ صَرِيحًا مِنْ السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا، وَزِيَادَةِ الْحِينِ الَّذِي اسْتَفَادَ مِنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَدْرَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي التَّقَادُمِ، وَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الضَّمَانِ فِي السَّرِقَةِ؛ ثُمَّ كَمَا لَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ الشُّهُودُ أَيْضًا حَدَّ الْقَذْفِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَالْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ مَوْجُودَةٌ وَذَلِكَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ أَجْرَيْنِ مَطْلُوبَيْنِ لَهُ يُقَالُ احْتَسَبْت بِكَذَا أَجْرًا، وَالِاسْمُ الْحِسْبَةُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ الْأَجْرُ وَالْجَمْعُ الْحِسَبُ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ حَدِّ السَّرِقَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ كَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِسَرِقَةٍ مُتَقَادِمَةٍ لَمْ تُقْبَلْ، فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الدَّعْوَى.
وَوَجْهُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا مَرَّ، وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ لِلْمَالِ وَهُوَ حَقُّ الْعَبْدِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ) جَوَابٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ فِي التَّقَادُمِ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ تُهْمَةُ الضَّغِينَةِ وَالْعَدَاوَةِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى كَوْنِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي كُلِّ فَرْدٍ أَوْ لَا، كَمَا أُدِيرَ الرُّخْصَةُ عَلَى السَّفَرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى وُجُودِ الْمَشَقَّةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ) جَوَابٌ آخَرُ.
وَوَجْهُهُ أَنَّ السَّرِقَةَ (تُقَامُ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ) لِأَنَّهَا تُوجَدُ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِيِ غَالِبًا (عَلَى غَفْلَةٍ مِنْ الْمَالِكِ) فَلَا يَكُونُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ عَارِفًا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى يَسْتَشْهِدَ بِالشَّاهِدِ (فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إعْلَامُهُ) فَإِذَا كَتَمَهُ صَارَ آثِمًا.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ التَّقَادُمُ كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ) أَيْ الِاسْتِيفَاءَ (مِنْ الْقَضَاءِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إمَّا إعْلَامُ مَنْ لَهُ الْقَضَاءُ أَوْ التَّمْكِينُ لِمَنْ لَهُ الْقَضَاءُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِالْقَضَاءِ، وَهَذَانِ الْمَعْنَيَانِ يَحْصُلَانِ بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ تَمَامُهُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي حُقُوقِهِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا النِّيَابَةَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ، وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ بُعْدُهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ.
وَالتَّقَادُمُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يُقَدَّرُ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْحُ:
(وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ حِينٍ) كَمَا ذَكَرْنَا (وَهَكَذَا أَشَارَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدَّرْ فِي ذَلِكَ) نَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ نَوَادِرِ الْمُعَلَّى.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: جَهَدْنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَأَبَى، وَفَوَّضَهُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) ذَكَرَ فِي الْمُجَرَّدِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ سَأَلَ الْقَاضِي مَتَى زَنَى بِهَا فَقَالُوا مُنْذُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالُوا شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ دُرِئَ الْحَدُّ.
قَالَ النَّاطِفِيُّ: فَقَدْ قَدَّرَهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِشَهْرٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَ فُلَانٍ عَاجِلًا فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْأَصَحُّ) يَعْنِي تَقْدِيرَ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ الَّذِي قُلْنَا مِنْ تَقْدِيرِ التَّقَادُمِ بِشَهْرٍ (إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَاضِي وَبَيْنَهُمْ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، أَمَّا إذَا كَانَ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمَانِعَ بَعْدَهُمْ عَنْ الْإِمَامِ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ التُّهْمَةُ) (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا، وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةُ غَائِبَةٌ فَإِنَّهُ يُحَدُّ) وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ غَائِبٌ لَمْ يُقْطَعْ.
وَالْفَرْقُ أَنَّ بِالْغَيْبَةِ تَنْعَدِمُ الدَّعْوَى) لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ عَلَى الْغَائِبِ (وَهِيَ شَرْطٌ فِي السَّرِقَةِ دُونَ الزِّنَا وَبِالْحُضُورِ يُتَوَهَّمُ دَعْوَى الشُّبْهَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَوْهُومِ) لِأَنَّهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا لِئَلَّا يَنْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحُدُودِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً وَادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ الْحَدُّ لِمَكَانِ شُبْهَةِ الصِّدْقِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ، فَإِذَا كَانَتْ غَائِبَةً كَانَ الثَّابِتُ عِنْدَ غَيْبَتِهَا احْتِمَالَ وُجُودِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الْقِصَاصِ غَائِبًا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ فَيُقِرُّ بِالْعَفْوِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ وَأَقَرَّ بِهِ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِحَقِيقَةِ الْعَفْوِ لَا بِشُبْهَتِهِ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا تَثْبُتُ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لَا شُبْهَةُ شُبْهَتِهِ (وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ حُدَّ)؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمَتُهُ أَوْ امْرَأَتُهُ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ أَنْ لَا يَزْنِيَ، وَالشُّهُودُ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفُوهَا لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِشَهَادَتِهِمْ (وَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ) أَيْ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا (حُدَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ). (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ (وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً) لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُوجِبِ وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا.
وَلَهُ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا، وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ صَارَا قَاذِفَيْنِ لَهَا.
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَصَارَا خَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ فَاسْتَكْرَهَهَا وَآخَرَانِ أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَقَالَا: يُحَدُّ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِهِمَا) أَيْ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ (عَلَى الْمُوجِبِ) لِلْحَدِّ (وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ جِنَايَةٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا) فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَمْ يَتَحَقَّقْ (لِأَنَّ طَوَاعِيَتَهَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهَا فَلَمْ يَثْبُتْ لِاخْتِلَافِهِمَا) فِيهَا وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهَا لِمَعْنًى غَيْرِ مُشْتَرَكٍ لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي وَطْءِ الصَّغِيرَةِ الْمُشْتَهَاةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا) وَكُلُّ مَا هُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ يَقُومُ بِهِمَا لَا يَتَّصِفُ بِوَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا لَهُ وَصْفَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ، لِأَنَّ الطَّوْعَ يُوجِبُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الزِّنَا وَالْكُرْهَ يُوجِبُ انْفِرَادَ الرَّجُلِ بِهِ وَاجْتِمَاعُهُمَا مُتَعَذَّرٌ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِعْلًا خِلَافَ الْآخَرِ فَاخْتَلَفَ الْمَشْهُودُ بِهِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ) دَلِيلٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ (صَارَا قَاذِفَيْنِ) لِعَدَمِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَالْقَاذِفُ خَصْمٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ وَإِذَا انْتَفَتْ شَهَادَتُهُمَا نَقَصَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ فَلَا يُقَامُ بِهَا الْحَدُّ وَكَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي إقَامَةَ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّوَاعِيَةِ (وَلَكِنْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ زِنَاهَا مُكْرَهَةً يَسْقُطُ إحْصَانُهَا) لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الزِّنَا مِنْهَا لَكِنْ لَا تَأْثَمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ. (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا جَمِيعًا)؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الزِّنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَلَمْ يَتِمَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابُ الشَّهَادَةِ وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ خِلَافًا لِزُفَرَ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الصُّورَةِ وَالْمَرْأَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالْكُوفَةِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ) يَعْنِي أَنَّهُ يَقُولُ يُحَدُّونَ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا، كَثَلَاثَةٍ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ.
وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ (لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ) يُرِيدُ شُبْهَةَ اتِّحَادِ الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ فِي الْحُدُودِ بِالْحَدِيثِ وَقَدْ وُجِدَتْ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا وَلَهُمْ أَهْلِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَعَدَدٌ كَامِلٌ عَلَى زِنَا وَاحِدٍ صُورَةً فِي زَعْمِهِمْ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ صُورَةِ النِّسْبَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْهُمْ وَاتِّحَادِ الْمَرْأَةِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاخْتِلَافُ بِذِكْرِ الْمَكَانِ فَيَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَدْرَأُ الْحَدَّ.
قِيلَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ لَمْ تُحَدَّ الشُّهُودُ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ (وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) مَعْنَاهُ: أَنْ يَشْهَدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَى الزِّنَى فِي زَاوِيَةٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي زَاوِيَةٍ وَالِانْتِهَاءُ فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى بِالِاضْطِرَابِ، أَوْ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي وَسَطِ الْبَيْتِ فَيَحْسِبُهُ مَنْ فِي الْمُقَدَّمِ فِي الْمُقَدَّمِ وَمَنْ فِي الْمُؤَخَّرِ فِي الْمُؤَخَّرِ فَيَشْهَدُ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ حُدَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ) ظَاهِرٌ.
وَلَا يُقَالُ: إنَّ ذَلِكَ احْتِيَالٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ لِدَرْئِهَا لَا لِإِثْبَاتِهَا، لِأَنَّ هَذَا احْتِيَالٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ حُجَّةٌ يَجِبُ تَصْحِيحُهَا مَا أَمْكَنَ، ثُمَّ إذَا قُبِلَتْ كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ قَبُولِهَا وُجُوبُ الْحَدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُكُمْ لَمْ تُصَحِّحُوا الشَّهَادَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ عَنْ إكْرَاهٍ وَانْتِهَاؤُهُ عَنْ طَوْعٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ وَالطَّوَاعِيَةِ لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إكْرَاهًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ عَنْ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِعْلُ الزِّنَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ إكْرَاهًا أَوْ أَوَّلُهُ إكْرَاهًا وَآخِرُهُ طَوْعًا، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَهَادَتِهِمْ اخْتِلَافُ الْمَشْهُودِ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) أَمَّا عَنْهُمَا فَلِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرِ عَيْنٍ، وَأَمَّا عَنْ الشُّهُودِ فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بِالنُّخَيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَأَرْبَعَةٌ زَنَى بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِدَيْرِ هِنْدٍ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ جَمِيعًا) النُّخَيْلَةُ تَصْغِيرُ نَخْلَةٍ الَّتِي هِيَ وَاحِدَةُ النَّخْلِ: مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ، وَالْبَاءُ الْمُوَحَّدَةُ الْمَفْتُوحَةُ وَالْجِيمُ تَصْحِيفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ حَيٍّ مِنْ الْيَمَنِ، وَدَيْرُ هِنْدٍ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَيْضًا مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ الْكُوفَةِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (فَلِاحْتِمَالِ صِدْقِ كُلِّ فَرِيقٍ) يَعْنِي أَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ فِي كَلَامِ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ قَائِمٌ، وَشُبْهَةُ الزِّنَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا وَهِيَ بِكْرٌ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ)؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ، وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النِّسَاءَ نَظَرْنَ إلَيْهَا فَقُلْنَا إنَّهَا بِكْرٌ، وَشَهَادَتُهُنَّ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إيجَابِهِ فَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمَا وَعَنْهُمْ) تَوْضِيحُهُ أَنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْبَكَارَةِ، وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ فِيمَا لَا اطِّلَاعَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ عَنْهُمَا، وَأَمَّا عَنْهُمْ فَلِأَنَّهُ تَكَامَلَ نِصَابُ الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُهَا بِقَوْلِ النِّسَاءِ وَلَا مَدْخَلَ لِقَوْلِهِنَّ فِي إثْبَاتِ الْحُدُودِ. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ أَحَدُهُمْ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ) وَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ الْمَالُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحَدُّ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ فَلَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةُ الزِّنَا؛ لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ (وَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ وَهُمْ فُسَّاقٌ أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَمْ يُحَدُّوا)؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ وَإِنْ كَانَ فِي أَدَائِهِ نَوْعُ قُصُورٍ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ.
وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَةِ فَاسِقٍ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ الزِّنَا، وَبِاعْتِبَارِ قُصُورٍ فِي الْأَدَاءِ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ عَدَمِ الزِّنَا فَلِهَذَا امْتَنَعَ الْحَدَّانِ، وَسَيَأْتِي فِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْعَبْدِ عِنْدَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَهُمْ عُمْيَانٌ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْأَدَاءِ) أَيْ يَظْهَرُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِأَدَاءِ الشُّهُودِ الشَّهَادَةَ، وَلَا أَدَاءَ لِلْعُمْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ لَا كَامِلًا وَلَا نَاقِصًا، فَانْقَلَبَتْ شَهَادَتُهُمْ قَذْفًا لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُمَا إلَى الزِّنَا وَلَمْ تَكُنْ نِسْبَتُهُمَا إلَى الزِّنَا شَهَادَةً فَكَانَتْ قَذْفًا ضَرُورَةً.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ وَالتَّحَمُّلِ) يَعْنِي بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَثَبَّتُوا فَالْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَمَا أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا شَهِدَ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ لَا بِالتَّثَبُّتِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الشُّهُودَ ثَلَاثَةٌ: شَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ وَهُوَ الْعَدْلُ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ لَكِنْ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ وَالْقُصُورِ وَهُوَ الْفَاسِقُ، وَشَاهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَلَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ كَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِمَا (وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ وَخُرُوجِ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ بِاعْتِبَارِهَا.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الشُّهُودِ عَنْ أَرْبَعَةٍ حُدُّوا لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ، إذْ لَا حِسْبَةَ عِنْدَ نُقْصَانِ الْعَدَدِ) فَإِنَّ الشَّاهِدَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حِسْبَةُ السَّتْرِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا حِسْبَةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا لِنُقْصَانِ عَدَدِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْحِسْبَةُ ثَبَتَ الْقَذْفُ لِأَنَّ خُرُوجَ الشَّهَادَةِ عَنْ الْقَذْفِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْحِسْبَةِ. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَضُرِبَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ وُجِدَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ)؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ الشُّهُودُ ثَلَاثَةٌ (وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَرْشُ الضَّرْبِ، وَإِنْ رُجِمَ فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: أَرْشُ الضَّرْبِ أَيْضًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهُ إذَا كَانَ جَرَحَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا مَاتَ مِنْ الضَّرْبِ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ.
لَهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِشَهَادَتِهِمْ مُطْلَقُ الضَّرْبِ، إذْ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْجَرْحِ خَارِجٌ عَنْ الْوُسْعِ فَيَنْتَظِمُ الْجَارِحُ وَغَيْرُهُ فَيُضَافُ إلَى شَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِعْلُ الْجَلَّادِ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَلْدُ وَهُوَ ضَرْبٌ مُؤْلِمٌ غَيْرُ جَارِحٍ وَلَا مُهْلِكٍ، فَلَا يَقَعُ جَارِحًا ظَاهِرًا إلَّا لِمَعْنًى فِي الضَّارِبِ وَهُوَ قِلَّةُ هِدَايَتِهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي الصَّحِيحِ كَيْ لَا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنْ الْإِقَامَةِ مَخَافَةَ الْغَرَامَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ) أَيْ أَرْشَ الْجِرَاحَةِ إذَا لَمْ يَمُتْ وَالدِّيَةُ إنْ مَاتَ.
(قَوْلُهُ فَصَارَ كَالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ) يَعْنِي إذَا شَهِدُوا الشُّهُودُ فَرُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَوْ قُتِلَ ثُمَّ رَجَعُوا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ.
وَوَجْهُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (فِي الصَّحِيحِ) يَعْنِي فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، ذَكَرَ فِي مَبْسُوطِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْجَلَّادِ فَلَهُ وَجْهٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِضَرْبٍ مُؤْلِمٍ لَا جَارِحٍ وَلَا كَاسِرٍ وَلَا قَاتِلٍ، فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ يَقَعُ فِعْلُهُ تَعَدِّيًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِيضَاحِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهًا حَسَنًا، وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ الْإِيجَابُ دُونَ الْإِيجَادِ، وَالْأَثَرُ الْحَاصِلُ مُوجِبٌ وُجُودَ الضَّرْبِ لَا مُوجِبٌ وُجُوبَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا لَمْ يُحَدَّ) لَمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا (فَإِنْ جَاءَ الْأَوَّلُونَ فَشَهِدُوا عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا) مَعْنَاهُ شَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ الزِّنَا بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ قَدْ رُدَّتْ مِنْ وَجْهٍ بِرَدِّ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ بِالْأَمْرِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلَا يُحَدُّ الشُّهُودُ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ.
وَهِيَ كَافِيَةٌ لِدَرْءِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الشُّبْهَةِ) مَعْنَاهُ لِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةٍ زَادَتْ عَلَى الْأَصْلِ لَمْ تَكُنْ فِيهِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ.
قَوْلُهُ (إذْ هُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُمْ) أَيْ الْفُرُوعُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَصْلِ، فَكَانَ الرَّدُّ لِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ رَدًّا لِشَهَادَةِ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأُصُولِ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَرِدُ يَتَعَدَّى رَدُّهَا إلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ وَجْهٍ وَذَلِكَ شُبْهَةٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا تُحَدُّ الشُّهُودُ) يَعْنِي الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ (لِأَنَّ عَدَدَهُمْ مُتَكَامِلٌ) وَالْأَهْلِيَّةُ مَوْجُودَةٌ (وَامْتِنَاعُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ) وَهُوَ شُبْهَةُ عَدَمِ التَّحْمِيلِ فِي الْفُرُوعِ، وَشُبْهَةُ الرَّدِّ فِي الْأُصُولِ (وَهِيَ كَافِيَةٌ لِلدَّرْءِ لَا لِإِيجَابِهِ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُسْقِطَةٌ لِلْحَدِّ لَا مُوجِبَةٌ لَهُ. (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَرُجِمَ فَكُلَّمَا رَجَعَ وَاحِدٌ حُدَّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَغَرِمَ رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّاجِعِ رُبْعَ الْحَقِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ الْقَتْلُ دُونَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ، وَسَنُبَيِّنُهُ فِي الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا الْحَدُّ فَمَذْهَبُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الرَّاجِعُ قَاذِفَ حَيٍّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ، وَإِنْ كَانَ قَاذِفَ مَيِّتٍ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي فَيُورِثُ ذَلِكَ شُبْهَةً.
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ بِهِ تُفْسَخُ شَهَادَتُهُ فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ وَقَدْ انْفَسَخَتْ الْحُجَّةُ فَيَنْفَسِخُ مَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ وَهُوَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ فَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حُدُّوا جَمِيعًا وَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حُدَّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَأَكَّدَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا فِي حَقِّ الرَّاجِعِ، كَمَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْإِمْضَاءِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ.
وَلَوْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ حُدُّوا جَمِيعًا.
وَقَالَ زُفَرُ: يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ (فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ حُدَّا وَغَرِمَا رُبْعَ الدِّيَةِ) أَمَّا الْحَدُّ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْغَرَامَةُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ عَلَى مَا عُرِفَ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَاذِفٌ حَيٌّ فَقَدْ بَطَلَ بِالْمَوْتِ) يَعْنِي لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ (وَإِنْ كَانَ قَاذِفٌ مَيِّتٌ فَهُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْقَاضِي) وَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسْقِطْ الْإِحْصَانَ فَلَا أَقَلَّ مِنْ إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِهَا (وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ) عَنْهَا لِأَنَّهَا تَنْفَسِخُ بِهِ، وَإِذَا انْفَسَخَتْ كَانَتْ قَذْفًا لِانْتِفَاءِ الْحِسْبَتَيْنِ جَمِيعًا (فَجُعِلَ لِلْحَالِ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ) وَإِذَا انْقَلَبَتْ قَذْفًا فَقَدْ انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا، وَإِذَا انْفَسَخَتْ حُجِّيَّتُهَا انْفَسَخَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْقَضَاءُ انْدَفَعَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مَرْجُومًا بِحُكْمِ الْقَاضِي فَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ وَلَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَجِبُ حَدُّ قَاذِفِهِ، لَكِنْ قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِقِيَامِ الْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي زَعْمِهِ صَحِيحٌ مُتَقَرَّرٌ، فَكَانَ قَذْفُهُ وَاقِعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ فَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَضَاءُ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمِهِمْ وَجَبَ الْحَدُّ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا كَانَ قَائِمًا فِي زَعْمٍ دُونَ زَعْمٍ كَانَ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَمِثْلُهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الدَّارِئَةَ لِلْحَدِّ.
وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ لَوْ ظَهَرَ عَبْدًا بَعْدَ الرَّجْمِ لَمْ يُحَدَّ الشُّهُودُ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمْ عَبْدًا بَعْدَ الْجَلْدِ حُدَّ وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِأَنَّ الْقَذْفَ إنْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ زُفَرُ.
وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا ظَهَرَ عَبْدًا عُلِمَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ شَهَادَةً بَلْ كَانَتْ قَذْفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا فَقَدْ قَذَفَ حَيًّا فَيُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ رَجْمًا قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا يُحَدُّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا كَانَتْ شَهَادَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَبِالرُّجُوعِ انْقَلَبَتْ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ قَاذِفًا لِلْمَيِّتِ فَيُحَدُّ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي لِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِيهِ لَكِنْ سُلِبَ عَنْهُ ذَلِكَ إذَا صَارَ شَهَادَةً (وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ بَقِيَ قَذْفًا) وَهَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: إنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ وَهَاهُنَا قَالَ: إنَّهَا قَذْفٌ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ قَذْفٌ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ ثُمَّ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ بِالرُّجُوعِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إنَّ فِيمَا قَالَ أَصْحَابُنَا مُؤَاخَذَةَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ بِذَنْبِ مَنْ رَجَعَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} لِأَنَّ الْكُلَّ قَذَفَةٌ عِنْدَ عَدَمِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ مُؤَاخَذٌ بِذَنْبِهِ لَا بِذَنْبِ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ) يَعْنِي بَعْدَ الرَّجْمِ لِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (فَلِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَ مِنْ قَبْلُ.
وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَخْ، وَمَعْنَاهُ يُحَدَّانِ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ مِنْ الشُّهُودِ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحُجَّةُ، وَقَدْ انْفَسَخَتْ الشَّهَادَةُ فِي حَقِّهِمَا بِالرُّجُوعِ فَيُحَدَّانِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا حِينَ رَجَعَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ، فَلَوْ لَزِمَهُ ذَلِكَ لَكَانَ لُزُومُهُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَرُجُوعُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ بِالْحَدِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَدَّ لَمْ يَجِبْ لَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بَلْ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ بَقَاءُ الْحُجَّةِ التَّامَّةِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِرُجُوعِ الثَّانِي وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْأَوَّلِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَرَّرِ لَا بِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى لَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا مَعًا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِرُجُوعِهِ وَحْدَهُ لَوْ ثَبَتَ أَصْحَابُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ. (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا فَرُجِمَ فَإِذَا الشُّهُودُ مَجُوسٌ أَوْ عَبِيدٌ فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ (وَقَالَا هُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ، لَهُمَا أَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا بِأَنْ شَهِدُوا بِإِحْصَانِهِ.
وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي مَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا شَهِدُوا بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ أَوْ أَخْبَرُوا، وَهَذَا إذَا أَخْبَرُوا بِالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، أَمَّا إذَا قَالُوا هُمْ عُدُولٌ وَظَهَرُوا عَبِيدًا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً، وَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا وَقَدْ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا) التَّزْكِيَةُ مِنْ زَكَّى نَفْسَهُ إذَا مَدَحَهَا، وَتَزْكِيَةُ الشُّهُودِ الْوَصْفُ بِكَوْنِهِمْ أَزْكِيَاءَ، وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَزُكُّوا (فَرُجِمَ فَظَهَرَ الشُّهُودُ مَجُوسًا أَوْ عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى الْمُزَكِّينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، مَعْنَاهُ إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ) أَيْ الضَّمَانُ (عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بِأَنْ يَقُولُوا أَخْطَأْنَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالِاتِّفَاقِ وَأَنْ يَكُونَ بِأَنْ يَقُولُوا تَعَمَّدْنَا التَّزْكِيَةَ مَعَ عِلْمِنَا بِحَالِهِمْ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
قَالَ (وَقِيلَ هَذَا إذَا قَالُوا) يَعْنِي لَوْ قَالُوا أَخْطَأْنَا لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، قَالَا: الْمُزَكُّونَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ هُوَ الزِّنَا وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ، وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَكَانَ كَمَا إذَا أَثْنَوْا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خَيْرًا فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ، إذْ إنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الزَّانِي وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خِصَالًا حَمِيدَةً فِي الشَّاهِدِ، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى أُولَئِكَ كَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى هَؤُلَاءِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَهَذَا) يَعْنِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً) فِيهِ نَظَرٌ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ كَلَامَ كُلٍّ مِنْهُمْ يَصِيرُ شَهَادَةً بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ الْقَضَاءُ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا ظَهَرَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِكَلَامِهِمْ فَلَمْ يَصِرْ شَهَادَةً.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا تَحُدُّ الشُّهُودَ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ قَذَفُوا حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَلَا يُورَثُ عَنْهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي الْكِتَابِ.
لَا يُقَالُ: لِمَ لَمْ يُجْعَلْ قَذْفًا لِلْمَيِّتِ لِلْحَالِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ كَمَا فِي صُورَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: عِلَّةُ الِانْقِلَابِ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يُوجَدْ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكُونُ ظُهُورُهُمْ عَبِيدًا أَوْ مَجُوسًا عِلَّةً لِلِانْقِلَابِ كَالرُّجُوعِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الِانْقِلَابَ صَيْرُورَةُ الشَّهَادَةِ قَذْفًا، وَكَلَامُهُمْ لَمْ يَقَعْ شَهَادَةً. (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَمَرَ الْقَاضِي بِرَجْمِهِ فَضَرَبَ رَجُلٌ عُنُقَهُ ثُمَّ وَجَدَ الشُّهُودَ عَبِيدًا فَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ) وَفِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً بِغَيْرِ حَقٍّ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاء؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بَعْدُ، وَلِأَنَّهُ ظَنَّهُ مُبَاحَ الدَّمِ مُعْتَمِدًا عَلَى دَلِيلٍ مُبِيحٍ فَصَارَ كَمَا إذَا ظَنَّهُ حَرْبِيًّا وَعَلَيْهِ عَلَامَتُهُمْ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَالْعَوَاقِلُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ، وَيَجِبُ ذَلِكَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ (وَإِنْ رُجِمَ ثُمَّ وُجِدُوا عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ)؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَضَاءَ صَحِيحٌ ظَاهِرًا وَقْتَ الْقَتْلِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ وُجِدَ صُورَةً وَصُورَةُ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكْفِي لِإِيرَاثِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ مُبِيحًا لِلدَّمِ، فَصُورَتُهُ تَكُونُ شُبْهَةً كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يُجْعَلُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ رَجَمَ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ: أَيْ الرَّجُلُ الَّذِي ضَرَبَ عُنُقَهُ لَمْ يَضْرِبْهُ وَإِنَّمَا رَجَمَهُ (ثُمَّ وُجِدُوا) أَيْ الشُّهُودُ (عَبِيدًا فَالدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْإِمَامِ فَنَقَلَ فِعْلَهُ) أَيْ فِعْلَ الرَّاجِمِ (إلَى الْإِمَامِ، وَلَوْ بَاشَرَهُ) الْإِمَامُ (بِنَفْسِهِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا) أَنَّ فِعْلَ الْجَلَّادِ يَنْتَقِلُ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَتَجِبُ الْغَرَامَةُ فِي مَالِهِمْ (كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتَمِرْ أَمْرَهُ) لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالرَّجْمِ دُونَ حَزِّ الرَّقَبَةِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ فِعْلُهُ إلَيْهِ. (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمْ ضَرُورَةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ فَأَشْبَهَ الطَّبِيبَ وَالْقَابِلَةَ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ) إلَى مَوْضِعِ الزِّنَا مِنْ الزَّانِيَيْنِ (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِشَمْسِ الْأَئِمَّةِ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِإِقْرَارِهِمْ بِالْفِسْقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ قَصْدًا فِسْقٌ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَيْفِيَّةَ النَّظَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَقَعَ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ يَجُوزُ شَرْعًا، فَإِنَّ الْخَتَّانَ يَنْظُرُ وَالْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالنِّسَاءَ يَنْظُرْنَ لِمَعْرِفَةِ الْبَكَارَةِ، وَبِالشُّهُودِ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَا لَمْ يَرَوْا كَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ وَالْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا. (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَأَنْكَرَ الْإِحْصَانَ وَلَهُ امْرَأَةٌ قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ) مَعْنَاهُ أَنْ يُنْكِرَ الدُّخُولَ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثَبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ وَالْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ بِالْإِحْصَانِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ رُجِمَ) خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ؛ فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ، وَزُفَرُ يَقُولُ إنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ زَنَى عَبْدُهُ الْمُسْلِمُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا لَا تُقْبَلُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهُوَ فَرْعُ مَا تَقَدَّمَ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (وَالْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ) أَيْ بِمِثْلِ هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا يَثْبُتُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ مِنْ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ بِالْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ.
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، فَالشَّافِعِيُّ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَزُفَرُ جَعَلَ الْإِحْصَانَ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَغَلَّظُ عِنْدَهُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَأَشْبَهَ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ) وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تُقْبَلُ فِيهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ شُهُودَ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ عِنْدَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي، لِأَنَّ شُهُودَ الْعِلَّةِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَوْلُهُ (فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ ذِمِّيَّانِ عَلَى ذِمِّيٍّ إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ الزَّانِيَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ الذِّمِّيَّ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا يُرْجَمُ مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الذِّمِّيِّ بِالْعِتْقِ مَقْبُولَةٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (وَلَنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ) بَعْضُهَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْمَرْءِ كَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ، وَبَعْضُهَا فُرِضَ عَلَيْهِ كَالْإِسْلَامِ، وَبَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ كَالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالدُّخُولِ بِالْمَنْكُوحَةِ (وَالْحَالُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الزِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا) قَبْلَ بَابِ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مَانِعًا عَنْ الزِّنَا لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعُقُوبَةِ الْغَلِيظَةِ (وَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدُوا بِهِ) أَيْ بِالنِّكَاحِ (فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ) يَعْنِي لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ وَدَخَلَ بِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا (بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ) يَعْنِي زُفَرَ مِنْ شَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى ذِمِّيٍّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ قَبْلَ الزِّنَا (لِأَنَّ الْعِتْقَ) هُنَاكَ (يَثْبُتُ) أَيْضًا (بِشَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهُ) تَارِيخٌ (يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ) مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ، وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ يَتَضَرَّرُ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِجَوَازِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ.
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَا يَضْمَنُونَ) أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَرَتِّبَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.