فصل: فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ) لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ، ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ بِلِسَانِهِ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ جَازَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ، إذْ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّرْعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ:
أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا هُوَ السَّفَهُ.
وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ) كَالْإِلْقَاءِ فِي الْبَحْرِ وَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ.
(وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ) غَيْرَ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ تَصَرُّفٍ يَتَّصِلُ بِمَالِهِ، وَلَا يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ وَالْإِكْرَاهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، وَمَا لَا يَتَّصِلُ بِمَالِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَوْ يَتَّصِلُ بِهِ، لَكِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، فَالْحَجْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ حَتَّى صَحَّ مِنْهُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَ) كُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ) فَهَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ (بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُ، وَالْمَنْعُ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ بِلِسَانِهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ يَدِهِ) وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِهِمَا.
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ.
وَالْفَائِدَةُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّفِيهُ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ، فَعِنْدَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا وَعُقُوبَةً وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ) وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ (لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ) وَنُوقِضَ بِالْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ وَيُحْجَرُ عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ قَالَ مُخَاطَبٌ وَهُوَ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا لِسُقُوطِ الْخِطَابَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ وَبَعْضِ الْخِطَابَاتِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالشَّهَادَاتِ وَشَطْرِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ ضُمَّ إلَى ذَلِكَ حُرٌّ سَقَطَ الِاعْتِرَاضُ (وَهَذَا) أَيْ عَدَمُ الْحَجْرِ (لِأَنَّ) فِي الْحَجْرِ سَلْبَ وِلَايَتِهِ (فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ) وَهُوَ ظَاهِرٌ (قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ مِنْهُ لِيَكُونَ هُوَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ عَلَى التَّبْذِيرِ، وَالْحَجْرِ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ: أَيْ لَا يُقَاسُ السَّفِيهُ عَلَى الصَّبِيِّ (لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّارِعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عَاقِلٌ (وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ) فَكَانَ قِيَاسٌ قَادِرٌ عَلَى عَاجِزٍ وَهُوَ فَاسِدٌ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ: يَعْنِي أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ بِدُونِ الْحَجْرِ مُفِيدٌ (لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ) إنَّمَا يَكُونُ (فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ) أَيْ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُفِدْ. قَالَ (وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ) لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ، حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِذَا حُجِرَ إلَخْ) تَفْرِيعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ حَجَرَ عَلَى السَّفِيهِ عَلَى رَأْيِهِ ثُمَّ رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ جَازَ تَصَرُّفُهُ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَاقَى مُجْتَهَدًا فِيهِ وَنَقْضُهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ الْقَاضِي فَتْوَى لَا قَضَاءٌ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَقْتَضِي الْمَقْضِيَّ لَهُ وَالْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ وَلَا مَقْضِيَّ لَهُ هَاهُنَا.
سَلَّمْنَا وُجُودَ الْمَقْضِيِّ لَهُ عَلَى احْتِمَالٍ بَعِيدٍ وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ السَّفِيهُ مَقْضِيًّا لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَجْرَ نَظَرَ لَهُ، لَكِنَّ نَفْسَ هَذَا الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ فَصَارَ مَحَلًّا لِلْقَضَاءِ يَحْتَاجُ إلَى إمْضَاءٍ، فَلَوْ رَفَعَ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ وَصِحَّةِ الْحَجْرِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ. (ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ.
وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ) لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ وَصَارَ كَالصِّبَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ، وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ وَيَتَقَطَّعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا، ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ.
فَعِنْدَهُمَا لَمَّا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَفِيهًا مُنِعَ عَنْهُ مَالُهُ إلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَتَصَرُّفَاتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ نَافِذَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ، فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ سُلِّمَ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ الرُّشْدُ مِنْهُ، وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ، وَتَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ (وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ كَالصِّبَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ) وَهَذَا الدَّلِيلُ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ لَكِنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّأْدِيبِ، وَلَا تَأْدِيبَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَصِيرُ جِدًّا بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ فِي الْإِنْزَالِ وَهُوَ اثْنَتَا عَشَرَةَ سَنَةً وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ.
وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً فَيُقَالُ: مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ إلَخْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ) دَلِيلٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا، لِأَنَّ الْعَادَةَ وِجْدَانُهُ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ بِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الْبُلُوغِ مِنْ حَيْثُ السِّنُّ ثَمَانَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَا قَرُبَ مِنْ الْبُلُوغِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْبُلُوغِ، وَقُدِّرَ ذَلِكَ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ التَّمْيِيزِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ: «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا» (وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا) فَإِنْ قِيلَ: الدَّفْعُ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ يُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْإِنْسَانُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِصَيْرُورَةِ فُرُوعِهِ أَصْلًا فَكَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ.
قَالَ (ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ) أَرَادَ أَنَّ التَّفْرِيعَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ فَإِذَا بَاعَ لَا يَنْفُذُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ.
فَعِنْدَهُمَا لَمَا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ لِتَظْهَرَ فَائِدَةُ الْحَجْرِ عَلَيْهِ) فَيَكُونُ مَوْقُوفًا (فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ فِيهِ مَصْلَحَةً) بِأَنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ رَابِحًا وَكَانَ الثَّمَنُ بَاقِيًا فِي يَدِهِ (أَجَازَهُ) وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ كَانَ الْبَيْعُ خَاسِرًا وَلَمْ يَبْقَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِهِ لِخُرُوجِ الْمَبِيعِ عَنْ يَدِهِ بِدُونِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ) وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ إذَا وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ وَالسَّفَهُ لَا يَنْفِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَامَ التَّوَقُّفُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ (لِلنَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَبَ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ). وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لابد مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّظَرِ وَالْحَجْرُ لِنَظَرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْقَاضِي.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ، إذْ الْعِلَّةُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا.
الشَّرْحُ:
وَلَوْ بَاعَ السَّفِيهُ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لابد مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَهُوَ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ (وَالنَّظَرِ) لَهُ فِي إبْقَاءِ الْمَبِيعِ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ (فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَجِّحٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا) عَلَيْهِ (عِنْدَهُ إذْ الْعِلَّةُ عِنْدَهُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا) وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ (وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَحْجُورًا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مَحْجُورًا بِمُجَرَّدِ السَّفَهِ. (وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا).
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَخْ وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يُخْرِجُ كَلَامَهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ.
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقَ كَالْمَرْقُوقِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ (وَ) إذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا (كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ وَالسِّعَايَةُ مَا عُهِدَ وُجُوبُهَا فِي الشَّرْعِ إلَّا لِحَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ (وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا) يَعْنِي بَعْدَ الْحَجْرِ (نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا) وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَمْ يُخَصَّ قَوْلُهُمَا بِالذِّكْرِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْحُكْمُ قَبْلَ الْحَجْرِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِ الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ السَّفَهِ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحَجْرِ عِنْدَهُ بَلْ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِهِمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَجْرُ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ.
وَعَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَنْفُذُ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (وَ) ذَكَرَ أَنَّ (الْأَصْلَ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ، وَمَا لَا فَلَا لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ) لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ (بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يَخْرُجُ كَلَامُهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السَّفِيهَ لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَمْ يُنَفِّذْهُ الْقَاضِي وَكَذَا لَوْ نَذَرَ بِهَدْيٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُنَفِّذْهُ فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ» وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ.
وَالثَّانِي أَنَّ الْهَازِلَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَتَقَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ وَالْمَحْجُورُ بِالسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، فَالْهَزْلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ وَالْحَجْرُ أَثَّرَ فِيهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِمَا إضَاعَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَجْرِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ وَالنَّذْرِ.
وَعَنْ الثَّانِي مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ قَصْدَ اللَّعِبِ بِالْكَلَامِ وَتَرْكَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ) فَإِنَّهُ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِإِلْزَامِ الْعُقُوبَةِ بِاللِّسَانِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهَا، كَمَا أَنَّ الرِّقَّ كَذَلِكَ (فَلَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقُ كَالرَّقِيقِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ) قُلْنَا: لَيْسَ السَّفَهُ كَالرِّقِّ لِأَنَّ حَجْرَ الرِّقِّ لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ، حَتَّى إنَّ تَصَرُّفَهُ فِيمَا لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ نَافِذٌ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَهَاهُنَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ فَيَكُونُ نَافِذًا (فَإِذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ) لِعَدَمِ قَبُولِهِ الْفَسْخَ (فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ) لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ لِمَعْنَى النَّظَرِ إلَى آخِرِ النُّكْتَةِ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرْعِ وَإِنَّمَا الْمَعْهُودُ أَنْ يَجِبَ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ) كَمَا فِي إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ يَسْعَى لِلسَّاكِتِ (وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ) لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ إنْشَاءَ حَقِيقَةِ الْعِتْقِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ إنْشَاءَ حَقِّهِ كَانَ أَوْلَى (إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ) وَالْبَاقِي عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ دَيْنًا. وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ.
الشَّرْحُ:
فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ وَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْعِتْقُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ يُوجِبُ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا أَلَا يَرَى أَنَّ مُصْلِحًا لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِغُرَمَائِهِ.
قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ قِنًّا، لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ يُوجِبُ السِّعَايَةَ قِنًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ لَيْسَ بِسَبَبٍ قَبْلَهُ، إلَّا إنْ جُعِلَ هَاهُنَا سَبَبًا قَبْلَهُ ضَرُورَةً فَلَا تَظْهَرُ سَبَبِيَّتُهُ فِي إيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ قِنًّا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ وَتَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا.
قِيلَ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَفِيهَا يَسْعَى الْعَبْدُ كَذَلِكَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ النَّفَاذِ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا غَيْرُ، أَلَا يَرَى أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْوَصِيَّةِ صَحِيحٌ دُونَ التَّدْبِيرِ. (وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَأُلْحِقَ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا.
وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ وَلَدَتْ جَارِيَتُهُ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ) وَ (إبْقَاؤُهُ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِحَيَاةِ ذِكْرِ الْإِنْسَانِ) بِبَقَاءِ الْوَلَدِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأُلْحِقَ السَّفِيهُ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ كَانَتْ الْجَارِيَةُ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ وَإِنْ مَاتَ مَدْيُونًا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ) أَيْ إنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا وَلَدٌ مِنْهُ (وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ) لِأَنَّ الدَّعْوَةَ حِينَئِذٍ كَانَتْ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ (فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ، إذْ لَيْسَ لَهَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ) فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ فَيَمْتَنِعُ بَيْعُهَا وَتَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ (بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا) فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَكَذَا فِي دَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَنْ تَصَرُّفِهِ (وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ مَعَهَا وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَخْ. قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا) لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ (وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ (وَبَطَلَ الْفَضْلُ) لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَلَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ (وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ إلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ (وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً) لِمَا بَيَّنَّا.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا) كَلَامُهُ وَاضِحٌ، وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ) يَعْنِي فِي لُزُومِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَسُقُوطِ الزِّيَادَةِ، إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْمَرَضِ تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَهَاهُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَصْلًا.
وَقَوْلُهُ (وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ) يَعْنِي يُعْتَبَرُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَ بِمَهْرٍ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاحِدَةً ثُمَّ طَلَّقَهَا وَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ (لِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اعْتَضَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُسَدُّ بَابُ إتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ هَذَا أَضَرُّ لَهُ مِنْ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ إذْ هُوَ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْمَذَمَّةِ فِي التَّزَوُّجِ وَالطَّلَاقِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ». قَالَ (وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ (وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ) لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ النَّاسِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهَا إلَى مَصْرِفِهَا، لِأَنَّهُ لابد مِنْ نِيَّتِهِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً، لَكِنْ يَبْعَثُ أَمِينًا مَعَهُ كَيْ لَا يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَفِي النَّفَقَةِ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ فِعْلِهِ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ) وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ كَنَفَقَةِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَهَذَا وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ، لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ وَبِالسَّفَهِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَنْهُ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، لَكِنْ لَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ فِي الْقَرَابَةِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَعُسْرَةِ الْقَرِيبِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يُلْزِمُ إقْرَارُهُ شَيْئًا إلَّا فِي الْوَلَدِ، فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا تَصَادَقَا عَلَى النَّسَبِ قُبِلَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَصْدِيقِ الْآخَرِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّسَبِ، وَالسَّفَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَنْعِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِكَوْنِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ، لَكِنْ لابد مِنْ إثْبَاتِ عُسْرَةِ الْمُقَرِّ لَهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالزَّوْجِيَّةِ صَحِيحٌ وَيَجِبُ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالنَّفَقَةُ (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ (بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ) يَعْنِي مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ (حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِصَوْمٍ) لِكُلِّ حِنْثٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ وَعَنْ كُلِّ ظِهَارٍ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَالِ حَالَ التَّكْفِيرِ (لِأَنَّهُ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ (مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ) إذْ السَّبَبُ الْتِزَامُهُ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى التَّبْذِيرِ بِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ وَتَضْيِيعِ فَائِدَةِ الْحَجْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ مُرَتَّبٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِطَاعَةِ الرَّقَبَةِ فَأَنَّى يَصِحُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مُنْتَفِيَةٌ، لِأَنَّ دَلَائِلَ الْحَجْرِ تُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَى مَنْ يُعْتِقُهُ السَّفِيهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمَعَ السِّعَايَةِ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ. قَالَ (فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ (وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ) كَيْ لَا يُتْلِفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ (وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا) اسْتِحْسَانًا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَجِّ (وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إفْرَادِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ بَدَنَةً) تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، إذْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا وَهِيَ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ) وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا اسْتِحْسَانًا) لِذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْطِيَ لَهَا نَفَقَةَ السَّفَرِ، لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ.
كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُجْزِئُ فِيهِ الصَّوْمُ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لَيْسَ إلَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَزِمَهُ الدَّمُ يُؤَدِّي إذَا أَصْلَحَ. قَالَ (فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ) لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ إذْ هِيَ حَالَةَ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَخْلُفُ ثَنَاءً أَوْ ثَوَابًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى) وَقُيِّدَ بِالْمَرَضِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَالِبًا تَكُونُ فِي الْمَرَضِ، فَإِنَّ السَّفِيهَ الصَّحِيحَ إذَا أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَحُكْمُهَا كَحُكْمِ الْمَرِيضِ، وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهَا كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ فِي حَيَاتِهِ، وَاسْتَحْسَنُوا فِيهَا إذَا وَافَقَ الْحَقَّ وَمَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الثُّلُثِ، لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ مِنْ الْمَالِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ، وَحِينَئِذٍ لَا نَظَرَ لَهُ فِي الْمَانِعِ وَإِنَّمَا النَّظَرُ لَهُ فِي اكْتِسَابِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَفِي تَنْفِيذِهَا ذَلِكَ (وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى) فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ: إنَّ الَّذِي بَلَغَ سَفِيهًا وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَهُوَ يَعْقِلُ مَا يَصْنَعُهُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ، إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ وَلِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى الصَّغِيرِ يَشْتَرِي لَهُ مَالًا وَيَبِيعُ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْأَبِ وَلَا وَصِيُّ الْأَبِ عَلَى الْبَائِعِ السَّفِيهِ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ، وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَلَا عَتَاقُهُ، وَالرَّابِعُ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ، وَهَذَا السَّفِيهُ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ صَحَّ تَدْبِيرُهُ. قَالَ (وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي السَّفِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الْآيَةَ.
وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا، وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ) وَمَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى أَنَّ الْحَجْرَ عِنْدَهُ لِلزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْفَاسِقُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ.
وَعِنْدَهُمَا لِلنَّظَرِ لَهُ فِي مَالِهِ فَإِذَا أَصْلَحَ مَالَهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ حَجْرٌ (وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} الْآيَةَ) نَكَّرَ الرُّشْدَ وَهُوَ بِإِطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ مِنْهُ وَالْكَثِيرَ، وَمَنْ أَصْلَحَ فِي مَالِهِ فَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ (وَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ) يَعْنِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِسَفِيهٍ لَكِنَّهُ مُتَغَفِّلٌ يَعْنِي فِي التِّجَارَاتِ (وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ) وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ عَلَى حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ بَلْ قَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} لِمَا أَنَّهُ يُتْلِفُ الْأَمْوَالَ كَالسَّفِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ لِمَنْعِ الْمَالِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَجْرِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ:

قَالَ (بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً)، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا تَمَّ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ فِي الْغُلَامِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ يَطْعَنَ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَتِمُّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا اخْتِلَافَ.
وَقِيلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَّا الْعَلَامَةُ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ حَقِيقَةً وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْحَيْضُ فِي أَوَانِ الْحَبَلِ، فَجُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ.
وَأَمَّا السِّنُّ فَلَهُمْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ فِيهِمَا عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ.
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَأَشُدُّ الصَّبِيِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ الْقُتَبِيُّ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِنَاثَ نُشُوءُهُنَّ وَإِدْرَاكُهُنَّ أَسْرَعُ فَنَقَصْنَا فِي حَقِّهِنَّ سَنَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُوَافِقُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْمِزَاجَ لَا مَحَالَةَ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ) الْبُلُوغُ فِي اللُّغَةِ: الْوُصُولُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: انْتِهَاءُ حَدِّ الصِّغَرِ.
وَلَمَّا كَانَ الصِّغَرُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحَجْرِ وَجَبَ بَيَانُ انْتِهَائِهِ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ.
قَالَ (بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ إلَخْ) الْحُلُمُ بِالضَّمِّ مَا يَرَاهُ النَّائِمُ، يُقَالُ حَلُمَ وَاحْتَلَمَ بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ، وَالْأَصْلُ هُوَ الْإِنْزَالُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ}، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَا: إذَا تَمَّ لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْحٍ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَبَعْضُهُمْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ (وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ الْحُلُمَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ قَدْ بَلَغْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِينَ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا ظَاهِرًا، فَإِذَا أَخْبَرَا بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمَا الظَّاهِرُ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ) يُقَالُ: رَهَقَهُ: أَيْ دَنَا مِنْهُ، وَصَبِيٌّ مُرَاهِقٌ أَيْ دَانٍ لِلْحُلُمِ (وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ وَلَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ فَقَالَ قَدْ بَلَغْت فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا) ثُمَّ قِيلَ: إنَّمَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ بِالْبُلُوغِ إذَا بَلَغَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا يُقْبَلُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ) لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ.
(فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ (وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ) إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ (وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ) لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ إنَّمَا جَوَّزَاهُ نَظَرًا لَهُ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، أَمَّا الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنْعُ لِحَقِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
قَالَ (وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ لِأَجْلِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ.
قُلْنَا: التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ، وَالْمُسْتَحَقُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطَّرِيقِ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ الْحَبْسُ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا.
قَالَ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَرَاهِمُ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِلدَّائِنِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ بَاعَهَا الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ جَبْرًا.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا، أَمَّا النُّقُوذُ فَوَسَائِلُ فَافْتَرَقَا.
الشَّرْحُ:
بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ:
الدَّيْنُ أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا، لَكِنْ بِشَرْطِ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْكَبِ فَلَا جَرَمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ حَجَرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ احْتِيَاطًا لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ إنْ وَقَعَ، وَأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْحَجْرَ كَانَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ لَهُ فِي الْحَالِ دُونَ مَا يَحْدُثُ لَهُ بِالْكَسْبِ أَوْ غَيْرِهِ، حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْحَادِثِ نَفَذَ، وَأَنْ يُبَيِّنَ مِنْ الْحَجْرِ لِأَجْلِهِ بِاسْمِهِ لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِإِبْرَاءِ الْغَرِيمِ وَوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ (وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ) وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ، فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى.
فَإِنْ قِيلَ: إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ وَتَرْكُ الْحَجْرِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الدَّائِنَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ، وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَإِهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى مِنْ الْحَبْسِ فَيَكُونُ أَعْلَى مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ.
وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ.
وَمَنَعَهُ التَّصَرُّفَاتِ) وَكَلَامُهُ ظَاهِرٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَنْ يَبِيعَ بِالْغَبْنِ يَسِيرًا كَانَ أَوْ فَاحِشًا.
وَقَوْلُهُ (التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ) لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ مَرْجُوحٌ فَلَا يُهْدَرُ بِهِ أَهْلِيَّةُ الْإِنْسَانِ وَلَا يُرْتَكَبُ الْبَيْعُ بِلَا تَرَاضٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيَّنٍ لِذَلِكَ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْإِيفَاءُ بِالِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِيهَابِ وَالسُّؤَالِ مِنْ النَّاسِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ (بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ) فَإِنَّ التَّفْرِيقَ هُنَاكَ مُتَعَيَّنٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَلَمَّا امْتَنَعَ عَنْ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ (قَوْلُهُ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا حَتَّى يُحْبَسُ بِرَفْعِ السِّينِ لِأَجْلِهِ: أَيْ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَتَقْرِيرُهُ.
سَلَّمْنَا لُزُومَ الْحَبْسِ لَكِنَّهُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْبَيْعِ بَلْ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا اخْتَارَهُ مِنْ الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِيهَابِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ وَبَيْعِ مَالِهِ بِنَفْسِهِ (قَوْلُهُ كَيْفَ) أَيْ كَيْفَ صَحَّ الْبَيْعُ (وَلَوْ صَحَّ الْمَبِيعُ كَانَ الْحَبْسُ ظُلْمًا لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا) وَلَكِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ (قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ) وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تُرَدُّ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقَاضِي عَلَى الْمَدْيُونِ فِي الْعُرُوضِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ (قَوْلُهُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ) قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يَعْكِسْ حَيْثُ لَمْ يُجْعَلْ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ نَظَرًا إلَى الِاتِّحَادِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَرْكُ أَحَدِ الشَّبَهَيْنِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي أَعَمُّ وَأَقْوَى، فَلَوْ ثَبَتَ لِلْغَرِيمِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مَعَ قُصُورِهِ لَثَبَتَ لِلْقَاضِي لِقُوَّتِهِ. (وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ثُمَّ الْعُرُوض ثُمَّ الْعَقَارُ يُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَدْيُونِ (وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتٌ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي) لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً وَقِيلَ دَسْتَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ، لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لابد لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ لِلْمَدْيُونِ كَمَا يَنْظُرُ لِلْغُرَمَاءِ فَيَبِيعُ مَا كَانَ أَنْظَرَ لَهُ. قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِإِقْرَارٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ)، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ (وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ) لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِعَدَمِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ: يَعْنِي إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَكَانَ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ (لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ) بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمَلٌ. قَالَ (وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِمَّنْ يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يُبْطِلُهُ الْحَجْرُ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَتْ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ. قَالَ (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهَا، إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ: يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ يَبْقَى فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَقُومُ بِمُعَالَجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ، وَالْمُحْتَرِفُ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْبَعِثَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ وَطْؤُهَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِقَضَاءِ الْأُخْرَى.
قَالَ (وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِيَ.
قَالَ (وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ (وَقَالَا: إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ.
وَقَوْلُهُ (إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ.
وَقَوْلُهُ (فِي الْمُلَازَمَةِ) لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ (وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لابد أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إهْلَاكُهُ لِمَكَانِ الدَّيْنِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ الْهَلَاكُ إلَيْهِ بِالْمَخْمَصَةِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِمَالِ الْغَيْرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إهْلَاكُهُ لِأَجْلِ مَالِ الْغَيْرِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَوْ كَانَ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ، وَأَنَّهُ فِي الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَا يَمْنَعُ عَنْ الِاكْتِسَابِ فِي السِّجْنِ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، لِجَانِبِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَلِرَبِّ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ إذَا فَضَلَ مِنْهُ شَيْءٌ يُصْرَفُ ذَلِكَ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ) أَيْ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ أَنْ يَدُورُوا مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ (يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ، وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِي) وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّ الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِي حَقِّ الزَّمَانِ فَيَتَنَاوَلُ الزَّمَانَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْإِطْلَاقِ عَنْ الْحَبْسِ وَقَبْلَهُ.
وَقَوْلُهُ (يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) أَيْ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الدَّيْنِ، هَذَا إذَا أَخَذُوا فَضْلَ كَسْبِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ أَخَذَهُ الْقَاضِي وَقَسَمَهُ بَيْنَهُمْ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ.
وَأَمَّا الْمَدْيُونُ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَوْ آثَرَ أَحَدَ الْغُرَمَاءِ عَلَى غَيْرِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِاخْتِيَارِهِ فَلَهُ ذَلِكَ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ فَقَالَ: رَجُلٌ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَلِآخَرَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَمَالُهُ خَمْسُمِائَةٍ، فَاجْتَمَعَ الْغُرَمَاءُ وَحَبَسُوهُ بِدُيُونِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَيْفَ يَقْسِمُ أَمْوَالَهُ بَيْنَهُمْ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ حَاضِرًا فَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ دُيُونَهُ بِنَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ فِي الْقَضَاءِ، وَيُؤْثِرَ الْبَعْضَ عَلَى الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ أَحَدٍ فَيَنْصَرِفُ فِيهِ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ غَائِبًا وَالدُّيُونُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي فَالْقَاضِي يَقْسِمُ مَالَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ، إذْ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَقَوْلُهُ (بَيِّنَةُ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ) الْيَسَارُ اسْمٌ لِلْإِيسَارِ مِنْ أَيْسَرَ: أَيْ اسْتَغْنَى، وَالْإِعْسَارُ مَصْدَرُ أَعْسَرَ: أَيْ افْتَقَرَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ عَلَى بَيِّنَةِ الْعِسَارِ بِمَعْنَى الْإِعْسَارِ.
قَالَ فِي الْمُغْرِبِ: وَهُوَ خَطَأٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا) لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْإِعْسَارِ تُؤَكِّدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ فَصَارَ كَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مُقَابَلَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَقَوْلُهُ (فِي الْمُلَازَمَةِ لَا يَمْنَعُونَهُ إلَخْ) تَفْسِيرٌ لِلْمُلَازَمَةِ (وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ) وَلَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَحْبِسَهُ فِي مَسْجِدِ حَيِّهِ أَوْ فِي بَيْتِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَالسِّكَكِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَيَتَضَرَّرُ الْمُدَّعِي (وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ) كَغَدَاءٍ أَوْ غَائِطٍ (لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لابد لَهُ مِنْ مَوْضِعِ خَلْوَةٍ) وَعَنْ هَذَا قِيلَ: إذَا أَعْطَاهُ الْغَدَاءَ أَوْ أَعَدَّ لَهُ مَوْضِعًا لِأَجْلِ الْغَائِطِ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ (وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ) وَالْأَشَدَّ (عَلَيْهِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ) وَفِي مَعْنَاهُ مَنْعُهُ عَنْ الْإِكْسَابِ بِقَدْرِ قُوتِ يَوْمِهِ وَلِعِيَالِهِ. (وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يُلَازِمُهَا) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا.
الشَّرْحُ:
(وَالدَّائِنُ الرَّجُلُ لَا يُلَازِمُ الْمَدْيُونَةَ لِاسْتِلْزَامِهَا الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، لَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا). قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ.
ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَصَارَ كَالسَّلَمِ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ: أَعْنِي الدَّيْنَ، وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا، إلَّا فِي مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ مُمْتَنِعٌ فَأَعْطَى لِلْعَيْنِ حُكْمَ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ) إذَا اشْتَرَى مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ فَأَفْلَسَ وَالْمَتَاعُ بَاقٍ فِي يَدِهِ (فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَحْجُرُ الْقَاضِي بِطَلَبِ الْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي) حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ وَالْعَجْزُ عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ (يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ قِيَاسًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إيفَاءِ الْمَبِيعِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ) فَإِنْ قِيلَ: قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ فَارِقٍ وَهُوَ فَاسِدٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مَانِعٌ عَنْ الْفَسْخِ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ عَيْنٌ يُرَدُّ عَلَيْهَا الْفَسْخُ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَصَارَ كَالسَّلَمِ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَهُ دَيْنًا يَمْنَعُ عَنْ الْفَسْخِ فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِذَا تَعَذَّرَ قَبْضُهُ بِانْقِطَاعِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ كَانَ لِرَبِّ السَّلَمِ حَقُّ الْفَسْخِ (وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَمَّا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمَنْقُودَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ (وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ بِهِ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ: أَعْنِي الدَّيْنَ) وَالْعَجْزُ عَمَّا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَلَى الْبَائِعِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ عَقْدِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مَلِيًّا.
وَتَوْضِيحُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ الثَّمَنِ وَهُوَ يَمْلِكُ بِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ مَحَلِّهِ وَالذِّمَّةُ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُفْلِسِ وَالْمَلِيءِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَأَدْرَكَ رَجُلٌ وَفِي رِوَايَةٍ فَوَجَدَ الْبَائِعُ عِنْدَهُ مَتَاعَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» وَالِاسْتِدْلَالُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَاسِدٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَى الْخَصَّافُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ عِنْدَهُ مَتَاعَهُ فَهُوَ أُسْوَةُ غُرَمَائِهِ فِيهِ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ قَبَضَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ إنْ صَحَّ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ الْعَقْدُ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ.
وَهِيَ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْكَسَادِ، أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ فُلُوسٍ هِيَ ثَمَنٌ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْكَسَادِ كَذَلِكَ.
وَلَا يُشْكِلُ بِمَا إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ فَإِنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَوْلَى الْبَدَلَ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ حَقِيقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا عَجَزَ فَقَدْ تَغَيَّرَ مُوجِبُ الْعَقْدِ (قَوْلُهُ وَيَقْبِضُ الْعَيْنَ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَمَّا كَانَ الْعَيْنُ الْمَنْقُودَةُ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ لَا تَبْرَأَ ذِمَّةُ الْمَدْيُونِ بِدَفْعِ الْمَنْقُودَةِ، وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ بِالْوَصْفِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ وَجَعَلَ الشَّارِحُ الْعَيْنَ بَدَلًا عَنْهُ، فَإِذَا قَبَضَ الْعَيْنَ بَدَلًا عَنْهُ (تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ) مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ آخَرَ وَصْفٌ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا (هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ) أَيْ تَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ (فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا لَمْ يَتَعَذَّرْ) وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِ مَا هُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ (بِخِلَافِ السَّلَمِ) فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ فِيهِ لِحُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِكَ» فَيَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَيْنَ الْمَقْبُوضَةَ فِي مُقَابَلَةِ مَا فِي الذِّمَّةِ عَيْنَ مَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ الْعَجْزُ عَنْهُ عَجْزًا عَمَّا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفَسْخَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.