فصل: سنة ست عشرة وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة ست عشرة وستمائة:

فيها قدم الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب- صاحب حماة- إلى الملك الكامل، نجدة في عسكر كثيف، ومعه الطواشي مرشد المنصوري، فتلقاه السلطان وأعظم قدره، وأنزله على مينته، وهي المنزلة التي كانت لأبيه وجده عند السلطان صلاح الدين يوسف، ووصل الفائز إبراهيم بن العادل إلى أخيه الأشرف موسى برسالة أخيهما الكامل للاستنجاد على الفرنج، فأكرمه وأمسكه عنده، فإن الغرض إنما كان إخراجه من أرض مصر.
وفيها اشتد قتال الفرنج، وعظمت نكايتهم لأهل دمياط، وكان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض، وغلت عندهم الأسعار، حتى أبيعت البيضة الواحدة من بيض الدجاج بعدة دنانير، وامتلأت الطرقات من الأموات، وعدمت الأقوات، وصار السكر في عزة الياقوت، وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه، وآلت بالناس الحال إلى أن لم يبق عندهم غير شيء يسير من القمح والشجر فقط، فتسور الفرنج السور، وملكوا منه البلد يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، فكانت مدة الحصار ستة عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً، وعندما أخذوا دمياط وضعوا السيف في الناس، فلم يعرف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطان بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحصن الفرنج أسوار في مياط، وجعلوا جامعها كنيسة، وبثوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظم الخطب واشتد البلاء، وندب السلطان الناس وفرقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون الناس لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع السلطان في بناء الحور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحر إلى عكا وبرزوا من مدينة دمياط يريدون أخذ مصر والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين العسكر بحر أشموم وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف رجل وعشرة آلاف فارس، فقدم السلطان الشواني تجاه المنصورة، وهي مائة قطعة، واجتمع الناس من أهل ومصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقي الدين طاهر المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام، وألا يبقى أحد وذكروا أن ملك الفرنج قد أقطع ديار مصر لأصحابه.
فقال:
يهددونا بأهل عكا ** أن يملكونا وأهل يافا

ومن لنا أن يلوا علينا ** فالروم خير من الريافا

يعني أهل الريف، فإنه كان قد كثر تسلطهم، وطمعوا في أمر السلطان، واستخفوا به، لشغله بالفرنج عنهم، وخرج الأمير علاء الدين جلدك، والأمير جمال الدين بن صيرم، لجمع الناس مما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي فأجمع من المسلمين عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين دمياط، وسارت الشواني- ومعها حراقة كبيرة- إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر، وقدمت النجمات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدد الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائف لا يحصي لهم عدد فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها، في حدهم وحديدهم، وقد زين لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليك البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات كان أولها قدوماً الملك الأشرف موسى بن العادل، وآخرها على السكة الملك المعظم عيسى، وفيما بينهما بقية الملوك: وهم المنصور صاحب حماة، والناصر صلاح الدين قلج أرسلان، والمجاهد صاحب حمص، والأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك وغيرهم، فهال الفرنج ما رأوا، وكان قدوم هذه النجدات في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفاً، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخفوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة، وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضاً بثلاث قطائع فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصلح، كما سيأتي إن شاء الله.
وفيها مات قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، وقام من بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، ثم قتله أخوه الأمجد عمر.
ومات نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، فقام من بعده الأمير بحر الدين لؤلؤ بأمر أخيه ناصر الدين محمود بن القاهر عز الدين، وعمره ثلاث سنين.
وفيها أمر الملك المعظم عيسى بتخريب القدس، خوفاً من استيلاء الفرنج عليها، فخربت أسوار المدينة وأبراجها كلها، إلا برج داود- وكان من غربي البلد- فإنه أبقاه، وخرج معظم من كان في القدس من الناس، ولم يبق فيه إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال، فشق على المسلمين تخريب القدس وأخذ دمياط.
وفيها هدم المعظم أيضاً قلعة الطور التي بناها أبوه العادل، وعفى أثارها.
وفيها خرجت كتب الخليفة الناصر لدين الله إلى سائر الممالك، بإنجاد الملك الكامل بدمياط.
وفيها مات عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، ملك قونية، بعدما ملك أرزن الروم من عمه طغرل شاه ابن قلج شاه بن قلج أرسلان، وملك أنكورية من أخيه كيقباد، فصار سلطان الروم، وقام من بعده أخوه علاء الدين كيقباد.
وفيها ابتدأ ظهور التتار- ومساكنهم جبال طمغاج من أرض الصين، بينها وبين بلاد التركستان ما يزيد على ستة أشهر- واستولوا على كثير من بلاد الإسلام، وكانوا لا يدينون بدين، إلا أنهم يعرفون بالله تعالى، من غير اعتقاد شريعة، فملكوا الصين- وكان ملكهم يقال له جنكزخان- ثم ساروا إلى تركستان وكاشغر فملكوا تلك البلاد، وأغاروا على أطراف بلاد السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان محمد بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، ثم استولوا على بخاري وغيرها من بلاد العجم.

.سنة سبع عشرة وستمائة:

أهلت وانقضت، والحرب قائمة بين المسلمين وبين الفرنج على دمياط، في منزلة المنصورة.
وفيها استولى التتر على سمرقند وهزموا السلطان علاء الدين، وملكوا الري وهمذان وقزوين، وحاربوا الكرج، وملكوا فرغانة والترمذ وخوارزم، وخراسان ومرو ونيسابور، وطوس وهراة وغزنة.
وفيها ملك الأشرف موسى بن العادل ماردين وسنجار.
وفيها مات الملك المنصور ناصر الدين محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة- وكان إماماً مفتياً في عدة علوم، وله شعر جيد- في ذي القعدة، عن خمسين سنة، منها مدة ملكه ثلاثون سنة، وكان ابنه الأكبر الملك المظفر تقي الدين محمود في معسكر خاله الملك الكامل، بالمنصورة على مقاتلة الفرنج، فقام بمملكة حماة الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وكان عمره سبع عشرة سنة، فشق بذلك على أخيه المظفر، واستأذن الملك الكامل في العود إلى حماة، ظناً منه أنه يملكها، فإنه كان ولي عهد أبيه، فأذن له الملك الكامل، وسار فلقى الملك المعظم في الغور، فخوفه من التعرض إلى أخيه، فأقام بدمشق، ثم رجع المظفر إلى الملك الكامل، فأقطعه إقطاعاً، وأقام في خدمته.
وفيها كثرت مصادرة الصاحب صفي الدين بن شكر أرباب الأموال بمصر والقاهرة، من التجار والكتاب: وقرر التبرع على الأملاك، وهو مال جبي من الناس، وأحدث ابن شكر حوادث كثيرة، وحصل مالاً جماً.
وفيها قوي طمع الفرنج في ملك ديار مصر، وعزموا على التقدم إلى المسلمين، ليدفعوهم عن منزلتهم، ويستولوا على البلاد، فانقضت السنة وهم تجاه المسلمين على رأس بحر أشموم ودمياط.
وفيها غلت الأسعار بأرض مصر، فبلغ القمح ثلاثة دنانير كل أردب، فكانت من أشق السنين وأشدها على أهل مصر.
وفيها مات الشريف أبو عزيز قتادة بن أبي مالك إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله ابن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنه، سلطان مكة، في أخر جمادى الآخرة بمكة، عن تسعين سنة، وله شعر جيد، وقدم مصر غير مرة، ومعه أخوه أبو موسى عيسى، وكانت ولادته ومرباه بالينبع. وملك مكة بعده ابنه حسن بن قتادة فسار راجح بن قتادة مغاضباً له، وقطع الطريق في الموسم بين مكة وعرفة، فقبض عليه أقباش أمير الحاج العراقي، فبعث الشريف حسن لأقباش يعده بمال ليسلمه راجحاً، فوعده راجح بأكثر من ذلك، فعزم أقباش على أن يسلمه مكة، وتقدم لمقاتلة أميرها، فقتل أقباش، وفر راجح إلى الملك المسعود باليمن.

.سنة ثمان عشرة وستمائة:

فيها اشتدت قوة الفرنج، بكثرة من قدم إليهم في البحر، فتابع الملك الكامل الرسل في طلب النجدات، فقدمت عليه الملوك كما تقدم، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، وكانت العامة تكر على الفرنج أكثر ما يكر عليهم العسكر، وتقدم جماعة من العسكر إلى خليج من النيل في البر الغربي، يعرف ببحر المحلة، وقاتلوا الفرنج منه، وتقدمت الشواني الإسلامية في بحر النيل، لتقاتل شواني الفرنج، فأخفوا منها ثلاث قطع برحالها وأسلحتها.
هذا والرسل تزدد من عند الفرنج في طلب الصلح بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ماخلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنج، وقالوا: لا نسلم دمياط حتى تسلموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخذ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضاً، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتهم، وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكاناً عظيماً في النيل، وكان الوقت في قوة الزيادة، فإنه كان أول ليلة من توت، والفرنج لا معرفة لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلاً بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوي جهة واحدة ضيقة، فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند بحر أشموم طناح، فتهيأ الفراغ منها، وعبرت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنج إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقدر الله سبحانه بوصول فرقة عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدة حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حرب، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظفروا بها وبما معها من الحراقات، ففت ذلك في أعضاد الفرنج، وألقي في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، وعظمت نكاية المسلمين بهم، برميهم إياهم بالسهام، وحملهم على أطرافهم، فاجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين، ظناً منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخربوا خيامهم ومجانيقهم، وعزموا على أن يحطموا حطمة واحدة. فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لكثرة الوحل والمياه التي قد ركبت الأرض من حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلة الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلب الصلح، وبعثوا يسألون الملك الكامل- وإخوته الأشرف والمعظم- الأمان لأنفسهم، وأنهم يسلمون دمياط بغير عوض، فاقتضى رأي الملك الكامل إجابتهم، واقتضى رأي غيره من إخوته مناهضتهم، واجتثاث أصلهم البتة، فخاف الملك الكامل إن فعل ذلك أن يمتنع من بقي منهم بدمياط أن يسلمها، ويحتاج الحال إلى منازلتها مدة، فإنها كانت ذات أسوار منيعة، وزاد الفرنج عندما استولوا عليها في تحصينها، ولا يؤمن في طول محاصرتها أن يفد ملوك الفرنج نجدة لمن فيها، وطلباً لثأر من قتل من أكابرهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهراً، وما زال الكامل قائماً في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقية الملوك على أن يبعث الفرنج برهائن من ملوكهم- لا من أمرائهم- إلى أن يسلموا دمياط فطلب الفرنج أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينة، إلى أن تعود إليهم رهائنهم، فتقرر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكاً من ملوكهم رهناً، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلساً عظيماً، ووقف الملوك من اخوته وأهل بيته بين يديه بظاهر البرمون، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسلموها إلى المسلمين، فتسلمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعد تأخرهم إلى ما بعد تسليمها من الفرنج صنعاً جميلاً من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكن أخذها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقدم الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلاً من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلف ملوك الفرنج، على ذلك، وتفرق من كان قد حضر للقتال فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:ت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا ببغيه ** وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض

أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ** فأغرقهم في اليم بعضاً على بعض

فطرب الأشرف، وقال لها: كرري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأمرها فسكتت، وقال لجاريته: غن أنت فغنت على العود:
أيا أهل دين الكفر قوموا لتنظروا ** لما قد جرى في وقتنا وتجددا

أعباد عيسى إن عيسى وقومه ** وموسى جميعاً ينصرون محمدا

فأعجب الكامل بها، وأمر لها بخمسمائة دينار، ولجارية أخيه الأشرف بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الأجل هبة الله بن محاسن، قاضي غزة وكان في جملتهم، وانشد:
حبانا إله الخلق فتحنا لنا بدا ** مبيناً وإنعاماً وعزاً مجددا

تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ** وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا

ولما طغى البحر الخصم بأهله ال ** طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا

أقام لهذا الدين من سل عزمه ** صقيلاً كما سل الحسام المجردا

فلم تر إلا كل شلو مجدل ** ثوى منهم أو من تراه مقيدا

ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ** عقيرته في الخافقين ومنشدا

أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ** وموسى جميعاً ينصران محمدا

ويقال إن هذا المجلس كان بالمنصورة، ولما استقر الملك الكامل على تخت ملكه سارت الملوك إلى ممالكها، وعمت بشارة أخذ المسلمين دمياط أفاق الأرض، فإن التتار كانوا قد دمروا ممالك الشرق، وكادت مصر مع الشام يستأصل شأفة أهلها الفرنج، حتى من الله بجميل صنعه وخفي لطفه، ونصر عباده المؤمنين، وأيدهم بجنده، بعدما ابتلى المؤمنون، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وقدمت على الملك الكامل تهاني الشعراء بها الفتح، فكان أولهم إرسالاً شرف الدين بن عنين، بكلمته التي أولها:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنا ** إذا جهلت آياتنا والقنا اللدنا

غداة التقينا دون دمياط جحفلاً ** من الروم لا يحصى يقينا ولا ظنا

قد اجتمعوا رأياً وديناً وهمة ** وعزماً وإن كانوا قد اختلفوا سنا

تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت ** جموع كأن الموج كان لهم سفنا

وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ** إلينا سراعا بالجهاد وأرقلنا

فما برحت سمر الرماح تنوشهم ** بأطرافها حتى استجاروا بنا منا

سقيناهم كأساً نفت عنهم الكرى ** وكيف ينام الليل من عدم الأمنا

لقد صبروا صبراً جميلاً ودافعوا ** طويلاً فما أجدى دفاع ولا أغنى

بما الموت من زرق الأسنة أحمرا ** فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا

وما برح الإحسان منا سجية ** نورثها من صيد آبائنا الإبنا

وقد جربونا قبلها في وقائع ** تعلم غمر القوم منا بها الطعنا

أسود وغى لولا وقائع سمرنا ** لما لبسوا فيما ولا سكنوا سجنا

وكم يوم حر ما وقينا هجيره ** وكم يوم قر ما طلبنا له كنا

فإن نعيم الملك في وسطه الشقا ** ينال وحلو العيش من مره يجنى

يسير بنا من آل أيوب ماجد ** أبي عزمه أن يستقر بنا مغنى

كريم الثنا عار عن العار باسل ** جميل المحيا كامل الحسن والحسنى

سرى نحو دمياط بكل سميدع ** إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى

مآثر مجد خمرتها سيوفه ** طوال المدى يفني الزمان ولا تفنى

وقد عرفت أسيافنا ورقابهم ** مواقعها منا فإن عاودوا عدنا

منحناهم منا حياة جديدة ** فعاشوا بأعناق مقلدة منا

ولو ملكونا لاستباحوا دمائنا ** ولوغا ولكنا ملكنا فأسجحنا

وقال:
قسماً بما ضمت أباطح مكة ** وبمن حواه من الحجيج الموقف

لو لم يقم موسى بنصر محمد ** لرقى على درج الخطب الأسقف

لولاه ما ذل الصليب وأهله ** في ثغر دمياط وعز المصحف

ووردت أيضاً قصيدة القاضي الأجل بهاء الدين زهير بن محمد بن علي القاضي، وغيره من الشعراء. وفيها ملك التتر مراغة وهمذان وأفربيجان وتبريز.
وفيها مات الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق الأرتقي، صاحب حصن كيفا، وقام من بعده ابنه الملك المسعود داود.
وفيها ركب الملك الكامل من قلعة الجبل إلى منظرة الصاحب صفي الدين بن شكر- التي على الخليج بمصر- في ذي القعدة، وتحدث معه في نفي الأمراء الذين وافقوا الفائز وكانوا في جيزة دمياط لعمارتها، فكتب لهم بالتوجه من أرض مصر إلى حيث شاءوا، فمضوا بأجمعهم من الجيزة إلى الشام، ولم يتعرض الملك الكامل لشيء من موجودهم، وفرق أخبازهم على مماليكه.
وفيها مات أمين الدين مرتفع بن الشعار والي مصر، في يوم الجمعة ثالث محرم. ومات متولي تونس وبلاد إفريقية الأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى بن أبي حفص عمر بن ونودين الهنتاتي في يوم الخميس أول المحرم، وكان قد ولي تونس من قبل الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف العسري بن عبد المؤمن ملك الموحدين، في سنة اثنتين وستمائة، وكان أبو محمد قد قدم أكبر بنيه، الشيخ أبا زيد عبد الرحمن بن عبد الواحد فقام بأمر تونس، حتى قدم أخوه، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد، متولياً إفريقية من قبل العادل عبد الله بن المنصور يعقوب ملك الموحدين، في خامس رمضان منها، فاستمر أبو محمد عبد الله حتى قام أخوه أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد.
هذا والأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص هو أول من قام من الحفصيين بإمرة تونس، وهو جد ملوك تونس الحفصيين.

.سنة تسع عشرة وستمائة:

فيها قدم الأشرف موسى إلى مصر، فأقام بها عند أخيه السلطان الملك الكامل مدة، ثم عاد في رمضان. وفيها أوقع التتر بالكرج.
وفيها قدم المظفر موسى على أخيه الكامل بمصر.
وفيها قدم الملك المسعود يوسف بن الكامل من اليمن إلى مكة في ربيع الأول، وقد وحل عنها الشريف حسن بن قتادة، وقدم معه راجح بن قتادة إلى مكة، فرد الملك المسعود على أهل الحجاز أموالهم ونخلهم، وما أخذ لهم من الحور بمكة والوادي، ثم عاد إلى اليمن بعدما حج، ومنع أعلام الخليفة من التقدم، وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة، وبدا منه بمكة ما لا يحمد من رمي حمام الحرم بالبندق من فوق زمزم، ونحو ذلك، فهم أهل العراق بقتاله، فلم يقدروا على ذلك عجزاً عنه، واستناب الملك المسعود بمكة الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول، ورتب معه ثلاثمائة فارس وكان الشريف حسن بن قتادة قد نزل ينبع، وولي الملك المسعود أيضاً راحج بن قتادة السرين وحلى ونصف المخلاف، فجمع الشريف حسن وسار إلى مكة، وكسر ابن رسول، وملك منه مكة.
وفيها مات الأمير عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، المعروف بابن المشطوب، أحد الأمراء الصلاحية، في الاعتقال بحران، في ربيع الآخر.