فصل: سنة خمس وستين وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة أربع وستين وستمائة:

في المحرم: عقد الأمير سيف الدين قلاوون عنده على ابنة الأمير سيف الدين كرمون التتري الوافد. فنزل السلطان من قلعة الجبل، وضرب الدهليز بسوق الخيل، عندما دخل الأمير قلاوون عليها. وقام السلطان بكل ما يتعلق بالأسمطة، وجلس على الخوان، ولم يبق أحد من الأمراء حتى بعث إلى قلاوون الخيل وبقج الثياب، وأرسل إليه السلطان تعابى قماش وخيلا وعشرة مماليك، فقبل قلاوون المتقدمة واستعفى من المماليك، وقال: هؤلاء خوشداشيتي في خدمة السلطان فأعفي.
وفيه كتب إلى دمشق بثلاثة تقاليد: أحدها بتقليد شمس الدين عبد الله محمد بن عطا الحنفي قاضي القضاة، والآخر بتقليد زين الدين أبي محمد عبد السلام بن على بن عمر الزواوي المالكي قاضي القضاة المالكية، والثالث بتقليد شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة. فصار بدمشق أربعة قضاة، وكان قاضي القضاة الشافعي شمس الدين أحمد بن خلكان، فصار الحال كما هو بديار مصر، واستمر ذلك. واتفق إنه لما قدمت عهود القضاة الثلاثة لم يقبل المالكي ولا الحنبلي، وقبل الحنفي فورد مرسوم السلطان بإلزامهما بذلك، وأخذ ما بأياديهما من الوظائف إن لم يفعلا، فأجابا. ثم أصبح المالكي وعزل نفسه عن القضاء والوظائف، فورد المرسوم بإلزامه فأجاب، وامتنع هو والحنبلي من تناول جامكية على القضاء. وقال بعض أدباء دمشق لما رأي اجتماع قضاة كل واحد منهم لقبه شمس الدين:
أهل دمشق استرابوا ** من كثرة الحكام

إذا هم جميعا شموس ** وحالهم في ظلام

وقال الآخر:
بدمشق آية قد ظهرت ** للناس عاما

كلما ولي شمس قاضيا ** زادت ظلاما

وكان استقلالهم بالقضاء في سادس جمادى الأولى.
وفيه وردت رسل الأنبرور، ورسل الفنش، ورسل ملوك الفرنج، ورسل ملك اليمن، ومعهم هدايا إلى صاحب قلاع الإسماعيلية. فأخذت منهم الحقوق الديوانية عن الهدية، إفسادا لنواميس الإسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفي شرهم بالهدية.
وفي ثامن صفر. كانت وقعة بين الأمير علم الدين سنجر الباشقردي نائب حمص، وبين البرنس بيمند بن بيمند ملك الفرنج بطرابلس، انهزم فيها الفرنج. وفيه كتب إلى دمشق بعمل مراكب، فعملت وحملت إلى البيرة. وفيه توجه السلطان إلى الإسكندرية، واهتم بحفر خليجها وباشر الحفر بنفسه، فعمل فيه الأمراء وسائر الناس، حتى زالت الرمال التي كانت على الساحل بين النقيدي وفم الخليج، ثم عدى السلطان إلى بر أبيار، وغرق هناك عدة مراكب، وألقى فوقها الحجارة، ثم عاد إلى قلعة الجبل، وحفر بحر مصر بنفسه وعسكره، ما بين الروضة والمنشاة بجوار جرف الروضة، وجهز المحمل وخلع على المتوجه به إلىالحجاز، وهو الأمير جمال الدين نائب دار العدل، وسير معه مبلغ عشره آلاف درهم لعمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرت الغلال لجرايات الصناع.
وفي جمادى الأولى: قدم فخر الدين بن جلبان من بلاد الفرنج بعدة من الأسرى، قد افتكهم. بمال الوقف المسير من جهة الأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق. فحضر عدة من النساء والأطفال، فسيرت النساء إلى دمشق ليزوجهن القاضي من أكفائهن. وفيه سافر الأمير جمال الدين بن نهار المهمندار الصالحي لبناء جسر على نهر الشريعة، ورسم لنائب دمشق بحمل كل ما يحتاج إليه من الأصناف. وفيه كل بناء الدار الجديدة عند باب السر المطل على سوق الخيل من قلعة الجبل، فعمل بها دعوة للأمراء.
وفي جمادى الآخرة: سار الأمير أقوش السفيري، ومعه أربعون ديوانا لاستخراج زكاة عرب بلاد المغرب، فوصل إليهم وأخذ منهم الزكاة التي فرضها الله وأخذ منهم الحقوق.
وفي ثالث رجب: اهتم السلطان بأمر الغزو، وسير إلى أعمال مصر بإحضار الجند من إقطاعاتهم، فتأخروا. فأرسل سلاح داريته إلى سائر الأعمال، فعلقوا الولاة بأيديهم ثلاثة أيام تأديبا، لكونهم ما سارعورا إلى إحضار الأجناد، فحضروا بأجمعهم.
وخرج السلطان في مستهل شعبان، ورحل في ثالثه وسار إلى غزة. وقدم الأمير أيدغدي العزيزي، والأمير قلاوون، في عدة من العسكر إلى العوجاء. ومضى السلطان إلى الخليل ثم إلى القدس، ومنع أهل الذمة من دخول مقام الخليل، وكانوا قبل ذلك يدخلون ويؤخذ منهم مال على ذلك، فأبطله واستمر منعهم. وسار السلطان إلى عين جالوت ووصل العسكر إلى حمص، وأغاروا على الفرنج ونزلوا على حصن الأكراد، وأخذوا قلعة عرقة وحلباء والقليعات وهدموها، فلما ورد الخبر بذلك جرد السلطان الأمير علاء الدين البندقدار، والأمير عز الدين أوغان، في عدة من العسكر إلى صور فأغاروا على الفرنج، وغنموا وأسروا كثيرا. وتوجه الأمير إيتامش إلى صيداء، وصار السلطان إلى مدينة عكا، وبعث الأمير بدر الدين الأيدمري، والأمير بدر الدين بيسري إلى جهة القرن، وأرسل الأمير فخر الدين الحمصي إلى جبل عاملة. فأغارت العساكر على الفرنج من كل جهة، وكثرة المغانم بأيديهم حتى لم يوجد من يشتري البقر والجاموس وصارت الغارات من بلاد طرابلس إلى أرسوف. ونزل عسكر السلطان على صور، وأقام السلطان في جهة عكا، والأمر ناصر الدين القيمري في عثليث، فطلب أهل عكا من الأتابك التحدث في الصلح. فاهتم السلطان بأمر صفد، وأحضر العساكر المجردة، ورحل الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأمير البندقدار والأمير عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها.
هذا والسلطان مقيم على عكا حتى وافته العساكر، وعمل عدة مجانيق. ثم رحل والعساكر لابسة، وساق إلى قرب باب عكا، ووقف على تل الفضول. ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الإثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون. وصار السلطان يباشر الحصار بنفسه، وقدمت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد وقد عجزت الجمال عن حملها، فسار إليها الرجال من الأجناد والأمراء، لحملها على الرقاب من جسر يعقوب، وسار السلطان بنفسه وخواصه، وجر الأخشاب مع البقر هو وخواصه، فكان غيره من الناس إذا تعب استراح ثم يعود إلى الجر، وهو لا يسأم من الجر ولا يبطله، إلى أن نصبت المجانيق رمي بها في سادس عشريه، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي.
وأتت العساكر من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم إلى أن كانت ليلة عيد الفطر فخرج الأمير بدر الدين الأيدمري للتهنئة بالعيد، فوقع حجر على رأسه، فرسم السلطان بألا يجتمع أحد لسلام العيد، ولا يبرح أحد من مكانه خشية انتهاز العدو غرة العسكر ونودي يوم عيد الفطر في الناس. من شرب خمرا أو جلبها شنق.
وفي ثانيه: وقع الزحف على صفد، ودفع الزراقون النفط. ووعد السلطان الحجارين إنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة. وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته. فكان بين الفريقين قتال عظيم استشهد فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قتل جره رفيقه ووقف موضعه، وتكاثرت النقوب ودخل النقابون إليها، ودخل السلطان معهم، وبذل السلطان في هذا اليوم من المال والخلع كثيرا، ونصب خيمة فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يجرح من العربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يحضر إليها.
وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضاً، مقاتل.
وفي ليلة رابع عشره: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطان من ذلك وأمر خواصه بالسوق إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال. المسلمون عل هذه الصورة، وأنتم تستريحون؟ فأقيموا، وقبض السلطان على نيف وأربعين أميرا، وقيدهم وسجنهم بالزردخاناه، ثم شفع فيهم فأطلقهم وأمرهم بملازمة مواضعهم، وضربت الطبلخاناه واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنج الأمان، فأمنهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاح ولا لامة حرب ولا شيء من الفضيات، ولا يتلفوا شيئا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم، وأن يفتشوا عند خروجهم، فإن وجد مع أحد منهم شيء من ذلك انتقض العهد.
ولم تزل الرسل تتردد بينهم إلى يوم الجمعة ثامن عشره، ثم طلعت السناجق الإسلامية، وكان لطلوعها ساعة مشهودة. هذا والسلطان راكب على باب صفد حتى نزل الفرنج كلهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشهم، فوجد معهم ما يناقض الأمان من السلاح والفضيات، ووجد معهم عدة من أسري مسلمين أخرجوهم على إنهم نصارى. فأخذ ما وجد معهم وأنزلوا عن خيولهم، وجعلوا في خيمة ومعهم من يحفظهم. وتسلم المسلمون صفد، وولي السلطان قلعتها الأمير مجد الدين الطوري، وجعل الأمير عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه الناس، فشكر اجتهادهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضهم، وإنه ما قصد إلا حثهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقت نتحالل، وأمرهم فركبوا. وأحضرت خيالة الفرنج وجميع من صفد، فضربت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوي نفرين. أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقم عند السلطان ويسلم، فاسلم وأقطعه السلطان إقطاعا وقربه، والآخر ترك حتى يخبر الفرنج. مما شاهده. وصعد السلطان إلى قلعة صفد، وفرق على الأمراء العدد الفرنجية والجواري والمماليك، ونقل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطان على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشبه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعة واحدة. واستدعى السلطان الرجال من دمشق للإقامة بصفد، وقرر نفقة رجال القلعة في الشهر مبلغ ثمانين ألف درهم نقره واستخدم على سائر بلاد صفد، وعمل بها جامعا في القلعة وجامعا بالربض ووقف على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قرية منها على قبر خالد بن الوليد بحمص.
وفي سابع عشريه: رحل السلطان من صفد إلى دمشق، فنزل الجسورة وأمر ألا يدخل أحد من العسكر إلى دمشق، بل يبقي العسكر على حاله حتى يسير إلى سيس ودخل السلطان إلى دمشق جريدة، فبلغه أن جماعة من العسكر قد دخلوا إلى دمشق، فأخرجهم مكتفين بالحبال. وأقام الملك المنصور صاحب حماة مقدما على العساكر وسيرهم معه، وفيهم الأمير عز الدين أوغان، والأمير قلاوون، فسارو في خامس ذي القعدة إلى سيس.
وفي ثالث ذي القعدة: مات كرمون أغا.
وفي ثامنه: أنعم السلطان على أمراء دمشق وقضاتها وأرباب مناصبها بالتشاريف، ونظر في أمر جامع دمشق، ومنع الفقراء من المبيت فيه، وأخرج ما كان به من الصناديق التي كانت للناس.
وفي عاشره: جلس الأتابك هو والأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق لكشف ظلامات الناس والتوقيع على القصص، بدار السعادة. وخرج السلطان للصيد فضرب عدة حلق، وسار إلى جرود ثم إلى أفامية، وجهز السلطان إلى مصر شخصا كان قد حضر إلى دمشق وادعي إنه مبارك بن الإمام المستعصم وصحبته جماعة من أمراء العربان، فلم يعرفه جلال الدين بن الدوادار ولا الطواشي مختار، وتبين كذبه فسير إلى مصر تحت الاحتياط، وجهز السلطان بعده شخصا آخر أسود إلى مصر، ذكر إنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضاً، وكان قد وصل إلى دمشق في ذي القعدة.
وفيه استولي السلطان على هونين وتبنين وعلى مدينة الرملة، فعمرها وصير لها عملا وولي فيها. وفيه أبطل السلطان ضمان الحشيشة الخبيثة، وأمر بتأديب من أكلها، وقدم رسول الاسبتار ملك الفرنج، يسأل استقرار الصلح على بلادهم من جهة حمص وبلاد الدعوة، فقال السلطان: لا أجيب إلا بشرط إبطال ما لكم من القطائع على مملكة حماة وهي أربعة آلاف دينار، وما لكم من القطيعة على بلاد أبي قبيس وهي ثمانمائة دينار، وقطيعتكم على بلاد الدعوة وهي ألف ومائتا دينار ومائة مد حنطة وشعير نصفين. فأجابوا إلى إبطال ذلك، وكتبت الهدنة وشرط فيها الفسخ للسلطان متى أراد، ويعلمهم قبل بمدة. وورد الخبر بأن فرنج عكا وجدوا أربعة من المسلمين في طين شيحا فشنقوهم، فرسم السلطان بالإغارة على بلاد الفرنج، فقتلت العساكر منهم فوق المائتين، وساقوا جملة من الأبقار والجواميس وعادوا. وورد كتاب والي قوص إنه وصل إلى عيذاب، وبعث عسكرا إلى سواكن، ففر صاحب سواكن، ففر صاحب سواكن، وعادوا إلى قوص وقد تمهدت البلاد، وصارت رجال السلطان بسواكن.
وفي يوم الإثنين النصف من ذي الحجة: جلس الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة بديار مصر، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، بدار العدل على العادة: وإذا بإنسان يخرق الصفوف وبيده قصة حتى وقف قدام الأمير، ووثب عليه بسكين أخرجها من تحت ثيابه، وطعنه في حلقه. فأمسك الأمير بيده فجرحها، ورفسه برجله ونام على ظهره، فوقع المجرم وقصد أن يضرب الأمير ضربة أخرى، أو يضرب الصاحب، فرجعت السكين في فؤاد الأمير صارم الدين المسعودي، فمات من ساعته، فقام الأمير فخر الدين والي الجيزة وقبض عليه ورماه، فوقع على قاضي القضاة، وأخذته السيوف حتى هلك. وحمل الأمير عز الدين الحلي إلى داره بالقلعة، وحضر المزينون إليه فوجدوا الجرح بين البلعوم والمنحر، وكان الذي ضربه جندار به شعبة من جنون، وتعاطي أكل السمنة فقوي جنه وكتب بهذا الحادث إلى السلطان، فوافاه الخبر وهو راجع من أفامية، فشق عليه ذلك وقال: والله يهون على موت ولدي بركة، ولا يموت الحلي. فقال له الأتابك: يا خوند والله طيبت قلوبنا إذا كنت تشتهي لو فديت غلاما من غلمانك بولدك وولي عهدك. ثم ورد الخبر بعافية الحلي مع مملوكه، فخلع عليه السلطان وأعطاه ألف دينار، وأعطي رفيقه ثلاثة آلاف درهم نقرة، وأحسن إلى ورثة الصارم المسعودي.
وأما الملك المنصور ومن معه، فإنهم ساروا إلى حصن دير بساك ودخلوا الدربند، وقد بني التكفور هيتوم بن قسطنطين بن باساك ملك الأرمن على رءوس الجبال أبراجا وهو الذي تزهد فيما بعد، وترك الملك لولده ليفون فاستعد ووقف في عسكره، فعندما التقى الفريقان أسر ليفون ابن ملك سيس، وقتل أخوه وعمه، وانهزم عمه الآخر، وقتل ابنه الآخر، وتمزق الباقي من الملوك وكانوا اثني عضو ملكا وقتلت أبطالهم وجنودهم. وركب العسكر أقفيتهم وهو يقتل ويأسر ويحرق، وأخذ العسكر قلعة حصينة للديوية، فقتلت الرجال وسبيت النساء وفرقت على العسكر وحرقت القلعة بما فيها من الحواصل. ودخلوا سيس فأخرجوها وجعلوا عاليها سافلها، وأقاموا أياما يحرقون ويقتلون ويأسرون. وسار الأمير أوغان إلى جهة الروم، والأمير قلاوون إلى المصيصة وأذنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهدموا عدة قلاع وحرقوا هذا وصاحب حماة مقيم بسيس، ثم عادوا إليه وقد اجتمع معهم من الغنائم ما لا يعد ولا يحصى، حتى أبيع رأس البقر بدرهمين ولم يوجد من يشتريه.
فورد الخبر بذلك والسلطان في الصيد بجرود، فأعطي المبشر ألف دينار وإمره طبلخاناه. ودخل السلطان إلى دمشق، وتجهز وخرج للقاء العسكر في ثالث عشر ذي الحجة فشكي إليه وهو بقارا من أهلها وهم نصارى: إنهم يتعدون على أهل الضياع، ويبيعون من يقع إليهم إلى الفرنج بحصن عكا، فأمر العسكر بنهبهم فنهبوا، وقتل كبارهم وسبي النساء والأولاد، وقدم عليه العسكر المجهز إلى سيس، وقدموا له نصيبه من الغنائم ففرق الجميع على عساكره، وأحسن إلى متملك سيس ومن معه من الأسري. وعاد السلطان إلى دمشق في رابع عشريه ومتملك سيس بين يديه وخلع على الأمراء والملوك والأجناد، فامتلأت بالمكاسب، وأبيع من الجواهر والحلي والدقيق والحرير ما لا يحصي كثرة، ولم يتعرض السلطان لشيء من ذلك، وعاد صاحب حماة إلى مملكته، بعد ما أنعم عليه السلطان بكثير من الخيول والأموال والخلع. وفيها قدمت رسل الملك أبغا بن هولاكو بهدايا وطلب الصلح وفيها أمر السلطان بجمع أصحاب العاهات، فجمعوا بخان السبيل ظاهر باب الفتوح من القاهرة، ونقلوا إلى مدينة الفيوم وأفردت لهم بلدة تغل عليهم ما يكفيهم، فلم يستقروا بها وتفرقوا ورجع كثير منهم إلى القاهرة وفيها اشتد إنكار السلطان للمنكر، وأراق الخمور وعفي آثار المنكرات، ومنع الحانات والخواطىء بجميع أقطار مملكته. بمصر والشام، فطهرت البقاع من ذلك. وقال القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور بن أبي بكر بن قاسم بن محتار بن المنير قاضي الإسكندرية، لما وردت إليه المراسيم بالإسكندرية وعفي متوليها أثر المحرمات:
ليس لإبليس عندنا أرب ** غير بلاد الأمير مأواه

حرمته الخمر والحشيش معا ** حرمته ماءه ومرعاه

وقال أبو الحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه ** وأخلي الثغر من رضابه

وأصبح الشيخ وهو يبكي * على الذي فات من شبابه

وفيها قدم على بن الخليفة المستعصم من الأسر عند التتار.

.ومات في هذه السنة من الأعيان:

الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي، بعد فتح صفد.
وتوفي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أمين الدين أبي الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي الدمشقي، ناظر الدواوين بها، عن تسع وستين سنة.
وتوفي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم الموقاني المقدسي الشافعي، المحدث الأديب.

.سنة خمس وستين وستمائة:

في المحرم: بعث السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، والأمير شهاب الدين بوزيا، في عدة من العسكر ورجال جبلية فقطعوا أقصاب الفرنج، وعادوا إلى صفد. وفيه قدمت نجدة للفرنج من قبرص، وعدتها نحو ألف ومائة فارس، وأغاروا على بلد طبرية، فخرج العسكر إلى عكا، وواقع الفرنج فقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقي إلى عكا وعمل فيها عزاء من قتل.
وفي ثانية: خرج السلطان من دمشق بعساكره إلى الفوار يريد الديار المصرية، وسار منه جريدة إلى الكرك ونزل ببركة زيزاء، وركب ليتصيد فتقطر عن فرسه في ثامنه، وتأخر هناك أياما حتى صلح مزاجه، وأكثر من الإنعام على جميع عساكره وأمرائه بجميع كلفهم من غلات الكرك، وعم بذلك الخواص والكتاب، وفرق فيهم جملا كثيرة من المال. واستدعى السلطان أمراء غزة وأحسن إليهم، وطلب الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك وأعطاه ألف دينار وخلع عليه، وسير الخلع إلى أهل الكرك ثم سار في محفة على أعناق الأمراء والخواص إلىغزة، وسار منها إلى بلبيس، فتلقاه ابنه بركة في ثالث صفر ومعه الأمير عز الدين الحلي، وزينت القاهرة، فلم يزل السلطان موعوكا إلى غرة شهر ربيع الأول، فركب الفرس وضربت البشائر لعافيته، وسار إلى باب النصر فأقام هناك إلى خامسه.
وصعد السلطان إلى القلعة، وقدم عليه رسول التكفور هيتوم صاحب سيس يشفع. في ولده للسلطان، ففك قيده في ثاني عشريه وكتب له موادعة على بلاده إلى سنة، وركب مع السلطان لرماية البندق في بركة الجب.
وفي آخر ربيع الأول: بعث السلطان الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكشف مكان يعمله جامعا بالحسينية. فسارا واتفقا على مناخ الجمال السلطانية، فلما عادا قال السلطان: لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال، وأولى ما جعلت ميداني الذي ألعب فيه الكرة وهو نزهتي جامعً وركب السلطان في ثامن ربيع الآخر ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة إلى ميدان قراقوش، ورتب بناءها جامعا، وأن يكون بقية الميدان وقفا عليه. عاد إلى المدرسة التي أنشأها بين القصرين، وقد اجتمع بها الفقهاء والقراء، فقال: هذا مكان جعلته لله تعالى، فإذا مت لا تدفنوني هنا، ولا تغيروا معالم هذا المكان. وصعد إلى القلعة.
وفيه وردت مكاتبة المنصور صاحب حماة، يستأذن في الحضور إلى مصر ليشاهد عافية السلطان، فأجيب إلى ذلك وقدم في سابع عشريه. فخرج السلطان إلى لقائه بالعباسية، وبعث إليه وإلى من معه التشاريف، وعاد إلى القلعة. فسأل المنصور الإذن بالمسير إلى الإسكندرية فأذن له، وسار معه الأمير سنقرجاه الظاهري، وحملت له الإقامات حتى عاد.
وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر: أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة، وكانت قد بطلت منه منذ ولي قضاء مصر صدر الدين عبد الملك بن درباس، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد ظل كذلك إلى أن سكن الأمير عز الدين أيدمر الحلي بجواره، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبه بيد جماعة، وتبرع له بمال جزيل، واستطلق له من السلطان مالا، وعمر الواهي من أركانه وجدرانه وبيضه وبلطه ورم سقوفه، وفرشه واستجد به مقصورة وعمل فيه منبرا، فتنازع الناس فيه هل تصح إقامة الجمعة فيه أم لا، فأجار ذلك جماعة من الفقهاء، ومنع منه قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز وغيره، فشكي الحلي ذلك إلى السلطان، فكلم فيه قاضي القضاة فصمم على المنع، فعمل الحلي بفتوى من أجاز ذلك وأقام فيه الجمعة. وسأل السلطان أن يحضر فامتنع من الحضور ما لم يحضر قاضي القضاة، فحضر الأتابك والصاحب بهاء الدين وعدة من الأمراء والفقهاء، ولم يحضر السلطان ولا قاضي القضاة تاج الدين. وعمل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالجامع مقصورة، ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع بالحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن العظيم، وعمل على ذلك أوقافا تكفيه.
وفي جمادى الآخرة: وصلت رسل الدعوة بجملة من الذهب، وقالوا: هذا المال الذي كنا نحمله قطيعة للفرنج قد حملناه لبيت مال المسلمين، لينفق في المجاهدين. وقد كان أصحاب بيت الدعوة فيما مضى من الزمان يقطعون مصانعات الملوك، ويجبون القطعة من الخلفاء، ويأخذون من مملكة مصر القطعة في كل سنة، فصاروا يحملون القطيعة لذلك الظاهر لقبامه بالجهاد في سبيل الله.
وفيه عمرت قلعة قاقون عوضاً عن قيسارية وأرسوف، وعمرت الكنيسة التي كانت للنصارى هناك جامعا. وسكن هناك جماعة فصارت بلدة عامرة بالأسواق، وفيه أمر السلطان باستخراج الزكاة من سائر الجهات: فاستخرج من بلاد المغرب زكاة مواشيهم وزكاة زروعهم، واستخرج من جهات سواكن وجزائرها الزكاة. وبعث السلطان إلى الحجاز الأمير شكال بن محمد، فطلب العداد من الأمير جماز أمير المدينة النبوية، فدافعه فمضى إلى بني خالد يستعين بهم على عرب جماز، ثم خاف وبعث إلى السلطان يطلب إرسال من يستخلفه على استخراج حقوق الله.
وفي سابع عشريه: توجه السلطان في جماعة من أمرائه إلى الشام، وترك أكثر العساكر بالديار المصرية. وكان معه المنصور صاحب حماة، فنزل السلطان غزة، ومضى صاحب حماة إلى مملكته بعد زيارة القدس فقدمت رسل الفرنج على السلطان بغزه، ومعهم الهدايا وعدة من أسري المسلمين، فكسا الأسري وأطلقهم. ورحل السلطان إلى صفد، فورد الخبر عليه هناك بتوجه التتار إلى الرحبة، فسار إلى دمشق مسرعا فدخلها في رابع عشر رجب، وجاء الخبر بقدوم التتار إلى الرحبة، وأن أهلها قتلوا وأسروا منهم كثيرا وهزموهم، فأقام بدمشق خمسة أيام، وعاد إلى صفد في رابع عشريه. ورتب السلطان أمر عمارة صفد، وقسم خندقها على الأمراء، وأخذ لنفسه نصيبا وافرا عمل فيه بنفسه، فتبعه الأمراء والناس في العمل ونقل الحجارة ورمي التراب وصاروا يتسابقون، فوردت عليه رسل الفرنج يطلبون الصلح، فرأوا الاهتمام في العمارة.
ثم إنه بلغه في بعض تلك الأيام أن جماعة من الفرنج بكما تخرج منها غدوة وتبقي ظاهرها إلى صحوة، فسري ليلة ببعض عسكره وأمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنج، فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا، ووضع السيف في الفرنج، وصارت الرءوس تحمل إليه من كل جهة، وكان الحر، فعملت عباءة على رمح ليستظل بها، وبات تلك الليلة وأصبح على حاله، ثم عاد إلى صفد، وقدمت رسل سيس بالهدية، فرأوا رسل الفرنج ورأوا رءوس القتلى على الرماح. وقدمت الأسري من هذه الغارة فضربت أعناقهم، وطلب السلطان رسل الفرنج وقال لهم: هذه الغارة في مقابلة غارتكم على بلاد الشقيف وردهم من غير إجابتهم إلى الصلح.
ثم ركب السلطان في حادي عشري شعبان وساق من صفد إلى عكا، فلما علم به الفرنج حتى وقف على أبوابها، فقسم البنائين والحجارين والناس على البساتين والأبنية والآبار لهدمها، فاقتسموا ذلك وشرعوا في الهدم وقطع الأشجار. وعمل السلطان اليزك بنفسه على باب عكا، وصار واقفا على فرسه وبيده رمح مدة أربعة أيام، حتى تكامل الإحراق والهدم وقطع الأشجار. ثم رجع إلى صفد، فوردت رسل سيس ورسل بيروت فأجيبوا عن مقاصدهم.
وفي شهر رمضان: وردت رسل صور يطلبون استمرار الهدنة، فأجيبوا إلى الصلح، وكتبت هدنة لمدة عشر سنين لصور وبلادها وهي مائة قرية إلا قرية بعد ما أحضروا دية السابق شاهين الذي قتلوه لأولاده وهي خمسة عشر ألف دينار صورية، قاموا بنصفها وأمهلوا بالباقي وأحضروا أيضاً عدة أسري مغاربة. وقدمت رسل بيت الاسبتار من الفرنج يطلبون الصلح على حصن الأكراد والمرقب، فأجيبوا وتقررت الهدنة لعشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، وبطلت القطائع عن بلاد الدعوة وعن حماة وشيزر وأفامية وعن أبي قبيس، وقد تقدم ذلك، وبطل أيضاً ما كان على عيناب، وهو خمسمائة دينار صورية وعن كل فدان مكوكان غلة وستة دراهم.
وقدم الشريف بدر الدين ملك بن منيف بن شيحة من المدينة النبوية يشكو من الشريف جماز أمير المدينة، وأن الإمرة كانت نصفين بين أبيه ووالده جماز. فكتب لجماز أن يسلمه نصف الإمرة، وكتب له تقليد بذلك وبنصف أوقاف المدينة النبوية التي بالشام ومصر وسلمت إليه، فامتثل جماز ما رسم به.
وفي ذي الحجة: نزحت بئر السقاية التي بالقدس حتى اشتد عطش الناس بها، فنزل شخص إلى البئر فإذا قناة مسدودة، فأعلم الأمير علاء الدين الحاج الركني نائب القدس، فأحضر الأمير بنائين وكشف البناء، فأفضي بهم في قناة إلى تحت الصخرة، فوجدا هناك بابا مقنطرا قد سد، ففتحوه فخرج منه ماء كاد يغرقهم، فكتب بذلك إلى السلطان، وإنه لما نقص ماء السقاية دخل الصناع فوجدوا سدا نقب فيه الحجارون قدر عشرين يوما، ووجد سقف مقلفط فنقب فيه قدر مائة وعشرين ذراعا بالعمل، فخرج الماء وملأ القناة.
وفي هذه السنة: أنشأ السلطان قنطرة على بحر أبي المنجا بناحية ببسوس وتولي عملها الأمير عز الدين أيبك الأفرم، فجاءت من أعظم القناطر. وفيها أنشأ السلطان القصر الأبلق بدمشق بالميدان الأخضر على نهر بردي، فتولي عمل ذلك الأمير أقوش النجيبي نائب دمشق، فعمره بالرخام الأبيض والأسود، وجعل جانبا عظيما منه تحف به البساتين والأنهار من كل ناحية، ولم يعمل بدمشق قبله مثله. ومازال عامرا تنزله الملوك إلى أن هدمه تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة، عند حريق دمشق وخرابها.
وفيها جلس منكوتمر بن طغان بن باتوتان بن دوشي خان بن جنكيزخان على كرسي مملكة القفجاق صراي، عوضاً عن الملك بركة خان بن دوشي خان بن جنكيزخان، بعد وفاته هذه السنة. وكان بركة خان قد مال إلى دين الإسلام، وهو أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي.
وفيها مات قاضي القضاة تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم العلامي الشافعي، المعروف بابن بنت الأعز، في سابع عشري شهر رجب، من إحدى وخمسين سنة، فولي قضاء القاهرة والوجه البحري تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، وولي قضاء مصر محيي الدين عبد الله بن شرف الدين محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن على بن صدقة بن حفص، المعروف بابن عين الدولة، في يوم الخميس تاسع شعبان،. بمرسوم ورد عليه عقيب وفاة تاج الدين ابن بنت الأعز، بأن يتولى قضاء مصر والوجه القبلي. وفيها حج الأمير الحلي، وتصدق بمال بعثه به السلطان الملك الظاهر، وحج الصاحب محيي الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنا.

.ومات في هذه السنة:

الأمير ناصر الدين حسن بن عزيز القيمري، نائب السلطنة بالساحل.
وتوفي شهاب الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المعروف بأبي شامة المقدسي الشافعي، بدمشق عن ست وستين سنة.