فصل: سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)



.سنة تسعين وخمسمائة:

ودخلت سنة تسعين: وقد تنافرت القلوب، وقويت الوحشة بين الأخوين، واجتمعت:الأمراء الصلاحية على أن يكون الأمر كله للعزيز، فاضطربت أحوال الأفضل. وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر، من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم، يريد الشام وانتزاعها من أخيه الأفضل، من أجل أمور منها أن جبيل وهو من جملة الفتوح الصلاحية كان مع رجل كردي فقيه أقامه صلاح الدين مستحفظا بها، فأرغبه الفرنج بمال حتى سلمه لهم. وخرج الأفضل من دمشق ليستنقذه من الفرثج، فتعذر عليه، وظهر العجز عن استخلاصه، فامتعض الأمراء لذلك، وخوفوا العزيز من عاقبة أمر الفرنج، فسار في صفر واستخلف أخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، وترك بالقاهرة بهاء الدين قراقوش الأسدي وصيرم وسيف الدين يازكج وخطلج في تسعمائة فارس. واتفق أن الأمير صارم الدين قايماز النجمي أحد أكابر الأمراء الصلاحية استوحش من الأفضل لإعراضه عنه، فخرج من دمشق يريد إقطاعه، ولحق بالعزيز فأكرمه ورفع محله. وهم الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه، فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه، وحسنوا له محاربته، فمال إليهم. وبعث إلى عمه العادل وهو بالشرق، وإلى أخيه الظاهر بحلب، وإلى المنصور بحماة، وإلى الأمجد صاحب بعلبك وإلى المجاهد شيركوه صاحب حمص، يستنجدهم على أخيه العزيز. فوردت رسلهم في جمادى الآخرة، يعدون بالقدوم عليه. ثم إنه برز من دمشق، ونزل برأس الماء. فلما وصل العزيز إلى القصير من الغور ضاق الأفضل، ورجع من الفوار إلى رأس الماء، فأدركت مقدمة العزيز ساقته، وكادوا يكبسونه فانهزم إلى دمشق، ودخلها لخمس مضين منه. ونزل العزيز في غده على دمشق في قوة قوية، ونازل البلد. وكان الأفضل قد استعد لقتاله، فقدم العادل والظاهر والمنصور والمجاهد والأمجد إلى دمشق. وبعث العادل إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع في الأفضل، ويستأذنه في الاجتماع به، فأذن له. وخرج العادل فاجتمع بالعزيز وكل منهما راكب وتحدث معه في الصلح، وأن ينفس الخناق عن البلد، وكان قد اشتد الحصار، وقطعت الأنهار، ونهبت الثمار، والوقت زمن المشمش. فوافق العزيز عمه، وتأخر إلى داريا ونزل على العوج، وسير الأمير فخر الدين جهاركس الأستادار وهو يومئذ أجل الصلاحية إلى العادل، فقرر الصلح على شروط، وعاد إلى العزيز. فرحل ونزل مرج الصفر فحدث له مرض شديد، وأرجف بموته، ثم أبل منه. وأمر بعمل نسخة اليمن، وهى جامعة لمقترحات جميع الملوك، وحسم مواد الخلاف، وأن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه، والملك المجاهد شيركوه، يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له، وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون في حيز الملك الظاهر صاحب حلب ومؤزرا له. وبعث كل من الملوك أميرا من أمرائه ليحضر الحلف، فاجتمعوا يوم السبت ثاني عشر شهر رجب، وجرت أمور آلت إلى الحلف على دخن.
وتزوج العزيز بابنة عمه العادل، وقبل العقد عنه القاضي المرتضى محمد بن القاضي الجليس عبد العزيز السعدي. ووكل العادل القاضي محيي الدين محمد بن شرف الدين بن عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز، وعقد بينهما قاضي القضاة محيي الدين. وكتب العماد الكاتب الكتاب في ثوب أطلس، وقرئ بين يدي الملك الظاهر، وعقد العقد عنده.
فلما كان يوم الجمعة أول شعبان: خرج الملك الظاهر غازي صاحب حلب لوداع أخيه، فركب العزيز إلى لقائه وأنزله معه، وأكلا ثم تفرقا، بعد ما أهدى كل منهما لأخيه هدية سنية. ثم خرج العادل لوداع العزيز في خواصه، ثم خرج الأفضل فودعه أيضا، وهو آخر من ودعه. ورحل العزيز من مرج الصفر في ثالث شعبان يريد مصر، فلما كان ثالث عشره عمل الأفضل دعوة عظيمة لعمه وبقية الملوك ووادعهم، ثم رحلوا من الغد إلى بلادهم إلا العادل، فإنه أقام إلى تاسع شهر رمضان، ثم رحل إلى بلاده بالشرق.
وقدم العزيز إلى القاهرة في يوم وأما الأفضل فإنه هم بمكاتبة العزيز بما يؤكد أسباب الصلح، فأماله عن ذلك خواصه، وأغروه بأخيه، ورموا جماعة من أمرائه بأنهم يكاتبون العزيز، فاستوحش منهم، وفطنوا بذلك فتفرقوا عنه. وسار الأمير عز الدين أسامة صاحب كوكب وعجلون عن الأفضل، ولحق بالعزيز فأكرمه غاية الإكرام، وأخذ يحرضه على الفضل، ويحثه على المسير إلى دمشق وانتزاعها منه، ويقول له: إن الأفضل قد غلب على اختياره، وحكم عليه وزيره الضياء ابن الأثير الجزري، وقد افسد أحوال دولته برأيه الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك، ويحسن له نقض اليمن، فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النية، ولم يوجد ذلك، فحنثهم في اليمين قد تحقق، وبرئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك، قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه، وبينا هو في ذلك إذ فارق الأفضل الأمير شمس الدين أيدمر بن السلار، وصل إلى العزيز، فساعد الأمر أسامة على قصده، ثم وصل أيضا إلى العزيز القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بق أبي عصرون، فاحترمه وولاه قضاء الديار المصرية، وضم إليه نظر الأوقاف.
وأقبل الأفضل بدمشق على اللعب ليله ونهاره، وتظاهر بلذاته، وفوض الأمور إلى وزيره، ثم ترك اللعب من غير سبب، وتاب وأزال المنكرات وأراق الخمور، وأقبل على العبادة، ولبس الخشن من الثياب، وشرع في نسخ مصحف بخطه، واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه بعبادة ربه، وواظب على الصيام، وجالس الفقراء، وبالغ في التقشف، حتى صار يصوم النهار ويقوم الليل.
وأما العزيز فإنه قطع خبز الفقيه الكمال الكردي من مصر، فأفسد جماعة على السلطان، وخرج إلى العرب فجمع ونهب الإسكندرية، فسار إليه العسكر فلم يظفروا به. وقطع العزيز أيضا خبز الجناح وعلكان ومجد الدين الفقيه وعز الدين صهر الفقيه، فساروا من القاهرة إلى دمشق، فأقطعهم الملك الأفضل الإقطاعات.
وفي شهر رمضان: كسر بحر أبي المنجا بعد عيد الصليب بسبعة أيام، وتجاهر الناس فيه بالمنكرات من غير نكر عليهم.
وفيه وقعت الآفة في البقر والجمال والحمير، مهلك منها كثير.
وفيه كثر حمل الغلة من البحيرة إلى بلاد المغرب، لشدة الغلاء بها، وكثرت بين الأمراء إشاعة أن إقطاعاتهم تؤخذ منهم، فقصروا في عمارة البلاد. وارتفع السعر بالإسكندرية، ونقص ماء النيل بعدما بلغ اثنين وعشرين إصبعا من سبعة عشر ذراعا، فرفعت الأسعار، وشرقت البلاد، وبلغ القمح كل أردب بدينار، وأخذ في الزيادة وتعذر وجود الخبز، وضج الناس، وكثرت المنكرات، وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره. وأقيمت طاحون لطحن الحشيش بالمحمودية، وحميت بيوت المزر، وجعل عليها ضرائب، فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر دينارا، ومنع من عمل المزر البيوتي، وتجاهر الكافة بكل قبيح، فترقب أهل المعرفة حلول البلاء.
وفيها قدم رسول متملك القسطنطينية يطلب صليب الصلبوت، فأحضر من القدس، وكان مرصعا بالجوهر، وسلم إليه على أن يعاد ثغر جبيل من الفرنج. وتوجه الأمير شمس الدين جعفر بن شمس الخلافة بذلك.

.تتمة سنة تسعين وخمسمائة:

في يوم الخميس رابع محرم: عقد مجلس بحضرة السلطان، حضره أصحاب الدواوين.
وفي عاشره: قدم الأمير حسام الدين ببشارة من عند الملك العادل وبقية الأولاد الناصرية، فتلقاه السلطان والأمراء، وحمل إليه سماط السلطنة، فطلب الموافقة بين الأهل.
وفي سادس عشره: ركب السلطان للصيد بالجيزة، ومر بباب زويلة، فأنكر بروز مصاطب الحوانيت في الأسواق، ورسم بهدمها، فهدمت بمباشرة محتسب القاهرة. ومر بصناعة العمائر، فرسم بسد طلقات الدور المجاورة للنيل فسدت.
وفي صفر: غيرت ولاة الأعمال.
وفي عاشره: حلف العزيز لعمه العادل.
وفي ثالث عشريه:عاد العزيز من الصيد بالجيزة.
وفي هذا الشهر: غلت الأسعار، فبلغ كل مائة أردب ثمانين دينارا.
وفي خامس عشره: قدم فارس الدين ميمون القصري مقطع صيداء، وسيف الدين سنقر المشطوب، وشمس الدين سنقر الكبير مقطع الشقيف، مفارقين الملك الأفضل، فدفع العزيز لميمون خمسمائة دينار، ولسنقر أربعمائة دينار، وللمشطوب ثلاثمائة دينار.
وفي ربيع الأول: اشتد الأمر في للزحام على الخبز لقلته في الأسواق، ووقع الحريق في عدة مراضع بالقاهرة.
وفي عاشره: أخرجت خيمة السلطان للسفر.
وفي ثالث عشره: انحل السعر قليلا، ووجد الخبز في الأسواق.
وفي نصفه: ورد كتاب علم الدين قيصر بأنه تسلم القدس من جرديك في تاسعه، وتسلم صليب الصلبوت، وقرر أيضا إعادة جبيل من الفرنج.
وفي سادس عشره: قدم بدر الدين لؤلؤ بكتاب الأفضل بخبر جبيل، وسبب قدوم ميمون ورفيقيه.
وفيه نزع السعر، وبلغ كل مائة أردب إلى مائة وخمسة وسبعين دينارا، وعظم ضجيج الناس من الجوع.
وفي سابع عشريه: وصل صليب الصلبوت من القدس، وهو خشبة مرصعة بجواهر في ذهب.
وفي ثامن عشريه: ولى زين الدين علي بن يوسف الدمشقي قضاء القضاة بديار مصر، عوضا عن صدر الدين بن درباس، بعناية جماعة من المماليك به، وخلع عليه.
وفي سلخه: قدم رسول الملك العادل.
وفي تاسع ربيع الآخر: هدم المحتسب حوانيت وإصطبلا كان صدر الدين بن درباس أنشأها في زيادة الجامع الأزهر بجوار داره، ورفع صدر الدين نقض ذلك إلى داره.
وقوي عزم السلطان على السفر، وبعث بهرام يقترض له مالا من تجار الإسكندرية، وطلب من قاضي القضاة زين الدين أن يقرضه مال الأيتام، وكان يبلغ أربعة عشر ألف دينار، فحملت إلى الخزانة. وكنب السلطان خطه بذلك وأشهد عليه، وأحال به على بيت المال، وقرر استخراجه منه وأمر بحمله إلى القاضي. هذا وقد تأخر القرض الذي كان السلطان صلاح الدين أقرضه في نوبة عكا، وهو ثلاثون ألف دينار، فلم يوف منه إلا يسيرا.
وفي سادس عشره: توجه جعفر بن شمس الخلافة إلى الفرنج لإعادة جبيل.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خرج السلطان إلى مخيمه ببركة الجب، واستناب في غيبته بهاء الدين قراقوش، ومعه ثلاثة عشر أميرا، ونحو سبعمائة فارس. وتوجه مع السلطان سبعة وعشرون أميرا، في ألفي فارس وألف من الحلقة.
وفي ثالث جمادى الأولى: استقل السلطان بالمسير، ونزل على دمشق في تاسع جمادى الآخرة، ورحل عنها في ثامن عشريه بشفاعة عمه الملك العادل.
وفي تاسع رجب: دخل الأفضل دمشق، بعد أن تقرر الصلح بينه وبن أخيه الملك العزيز في سادسه.
وفي رابع شعبان: دقت البشائر بالقاهرة، فرحا بالصلح بين الأولاد الناصرية، وزينت الأسواق.
وفيه انحط السعر.
وقدم السلطان الملك العزيز إلى القاهرة سلخ شعبان.
وفي سابع رمضان: وصل الملك المعظم توران شاه وإخوته وعيالهم من دمشق، والديوان في ضائقة شديدة، فعجزوا عن إقامة وظائفهم ومطابخهم وجراياتهم، فنزلوا في الدار العزيزية. ونزعت الأسعار في المأكولات كلها.
وفي تاسع عشره: وصل عز الدين أسامة مفارقا للأفضل.

.سنة إحدى وتسعين وخمسمائة:

ودخلت سنة إحدى وتسعين، والعزيز على عزم المسير إلى الشام، فاستشار الأفضل:أصحابه، فمنهم من أشار عليه بمكاتبة العزيز واسترضائه، وأشار الوزير ابن الأثير عليه بالاعتصار بعمه العادل، واستنجاده على العزيز، فأصغى إليه، وكثرت الإشاعة بقصد العزيز إقامة الخطبة في دمشق باسمه، وضرب السكة له. فانزعج الأفضل، وخرج من دمشق في رابع عشر جمادى الأولى، وسار جريدة إلى عمه العادل، فلقيه بصفين، فلما نزلا ألحف الأفضل في المسألة له أن ينزل عنده بدمشق، ليجيره من أخيه العزيز، فأجابه وأنزله بقلعة جعبر، ثم سار معه إلى دمشق أول جمادى الآخرة، فوصل إليها في تاسعه، ودخل الأفضل إلى حلب على البرية، مستصرخا بأخيه الملك الظاهر، فتلقاه وحلف له على مساعدته، ثم رحل عنه إلى حماة، فتلقاه ابن عمه الملك المنصور محمد ابن المظفر، وحلف له، ثم سار عنه إلى دمشق، فدخلها في ثالث عشره وبها العادل، فأفضى إليه بأسراره. وعلم العادل اختلال أحوال الأفضل، وسوء تدبيره وقبيح سيرته، فانحرف عنه ونهاه فلم ينته إلا أنه مبالغ في كرامة عمه، حتى أنه ترك له السنجق. وصار العادل يركب بالسنجق السلطاني في كل يوم، ويركب الأفضل في خدمته.
فما هو إلا أن استقر ذلك إذ حدث بين الظاهر صاحب حلب وبين أخيه الأفضل وعمه العادل وحشة، من أجل ميل الملك المنصور صاحب حماة إلى العادل. فسير الظاهر إلى أخيه العزيز يحرضه على قصد الشام، ووعده بالمساعدة له على الأفضل، فوافق ذلك غرضه، وخرج من القاهرة بعساكره.
فلما قارب العزيز دمشق كاتب الملك العادل الأمراء سرا واستمالهم، وكان الأمراء الصلاحية قد وقع بينهم وبين الأمراء الأسدية تنافس، لتقديم العزيز الصلاحية على الأسدية. فعملت حيل العادل حتى وقعت الوحشة بين الطائفتين، ونفرت الأسدية من الملك العزيز. وكاتب العادل العزيز سرا يخوفه من الأسدية، ويحثه على إبعادهم عنه، وكاتب الأسدية، يخوفهم من العزيز ويستميلهم إليه. فحاق ما مكره وتم له ما دبره، وعزموا على مفارقة العزيز، وحسنوا للأكراد والمهرانية موافقتهم، فانقادوا إليهم. وكان مقدم أمراء الأكراد الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين، فاجتمع بالأكراد مع الأسدية، واتفقوا بأجمعهم على مفارقة العزيز والانضمام إلى العادل والأفضل، ومضايقة العزيز وعقدوا النية على مكاتبة من بقي منهم بمصر، أن يستقبلوا العزيز ويحولوا بينه وبين القاهرة، فيصير بذلك بين الفريقين، ويؤخذ باليد.
فلما كان في عشية الرابع من شوال: رحل الأمير أبو الهيجاء بالأكراد والمهرانية والأسدية، وهم لابسون لامة الحرب، ولحقوا بالعادل فسر بهم، لأنهم معظم الجيش. فلما أصبح نهار الخامس من شوال رحل العزيز يريد مصر، وهو متخوف من الأسدية المقيمين بالقاهرة. وكان نائبه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فلم يتغير على العزيز، ووصل إلى القاهرة فاستقر بها ثم إن العادل خرج بالأفضل من دمشق، ومعه العساكر يريد اخذ القاهرة، لما داخله من الطمع في العزيز، واتفق مع الأفضل على أن يكون للعادل ثلث البلاد المصرية، ويكون ثلثاها للأفضل. فأجابه إلى ذلك ورحلا من دمشق، وخرج معهم أيضا المنصور صاحب حماة، وعز الدين بن المقدم وسابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر واستخلف الأفضل بدمشق أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصرى وانضم إليهم عز الدين جرديك النوري نائب القدس، فلما وصلوا تل العجول، أخلع الأفضل على جميع الأسدية، وعلى الأكراد الأفضلية، وأعطاهم الكوسات. وسار الأفضل إلى القدس، وتسلمه من جرديك، وأعطاه بيسان وكوكب والجولان والمنيحة ثم سار العسكر حتى نزل على بلبيس، وبها، جموع الصلاحية والعزيزية، ومقدمهم فخر الدين جهاركس على الصلاحية، والأمير هكدري ابن يعلي الحميدي على طائفة الأكراد، فنازلهم العادل والأفضل.
وكانت أيام زيادة ماء النيل، والأسعار غالية والعلف متعذر، فبلغ العسكر الواصل الجهد، وندم أكابرهم على ما كان منهم، هذا والعزيز يمد أهل بلبيس بالمراكب المشحونة بالرجال والعدد، فبلغ ذلك الأسدية، فركبوا إلى المراكب، وأخذوا بعضها وغرقوا بعضها، وأسروا خلقا، وسلم ثمانية مراكب عادت إلى القاهرة، واشتد الحصارعلى بلبيس حتى كادت تؤخذ، وضاق العزيز بالقاهرة، وقلت الأموال عنده، وكان محببا إلى الرعية، لما فيه من حسن السيرة، وكثرة الكرم والرفق، فلما نازل العادل والأفضل بلبيس احتاج إلى استخدام الرجال، فلم يجد عنده مالا، فبذل له الأغنياء جملة أموال، فلم يقبلها، وكان القاضي قد تنزه عن ملابسة الدولة ومخالطة أهلها، واعتزل لما رأى من اختلال الأحوال، وكان عبد الكريم بن علي البيساني يتولى الحكم والإشراف في البحيرة مدة طويلة، فحصل من ذلك مالا جما. ثم حدثت بينه وبين أخيه القاضي الفاضل مشاجرة اقتضت اتضاع حاله عند الناس بعد احترامهم إياه، فصرف عن عمله. وكان متزوجا بامرأة موسرة من بنى ميسر، فسكن بها في ثغر الإسكندرية، وأساء عشرتها، لسوء خلق كان فيه، فسار أبرها إلى الإسكندرية، وأثبت عند قاضيها ضرر ابنته، فمضى القاضي بنفسه إلى الدار، فلم يقدر على فتح الباب الذي من داخله المرأة، فأمر بنقب الدار، وأخرج المرأة وسلمها لأبيها وأعاد بناء النقب، فغضب عبد الكريم وسار إلى القاهرة، وبذل للأمير فخر الدين جهاركس خمسة آلاف دينار مصرية، ووعد خزانة الملك العزيز بأربعين ألف دينار على ولاية قضاء الإسكندرية، وحمل ذلك بأجمعه إلى فخر الدين جهاركس. فأحضره جهاركس إلى العزيز، وهو حينئذ في غاية الضرورة إلى المال، وقال: هذه خزانة مال قد أتيتك بها من غير طلب ولا تعب، وعرفه الخبر. فأطرق العزيز مليا، ثم رفع رأسه وقال: أعد المال إلى صاحبه، وقل له إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلا، وعرفه أني إذا قبلت هذا منه أكون قد بعت به أهل الإسكندرية، وهذا لا افعله أبدا. فلما سمع هذا جهاركس وجم، وظهر في وجهه التغير. فقال له العزيز: أراك واجما، أظنك أخذت على الوساطة شيئا. قال: نعم خمسة آلاف دينار. فأطرق العزيز، ثم قال: أعطاك مالا تنتفع به، وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة، ثم وقع له بخطه إطلاق جهة طنبدة، ومغلها في السنة سبعة آلاف دينار، فلامه أصحابه وألحوا عليه في الاقتراض من القاضي الفاضل، فاستدعاه إلى مجلسه، بمنظرة من دار الوزارة كانت تشرف على الطريق، فعندما عاين القاضي الفاضل استحيا منه، ومضى إلى دار الحرم، احتراما له من مخاطبته في القرض، فلم يزل الأمراء به حتى أخرجوه من عند الحرم. فلما اجتمع بالفاضل قال له، بعد أن أطنب في الثناء عليه: قد علمت أن الأمور قد ضاقت علي، وقلت الأموال عندي، وليس لي إلا حسن نظرك، وإصلاح الأمر إما بمالك أو برأيك أو بنفسك. فقال القاضي الفاضل: جميع ما أنا فيه من نعمتكم، ونحن نقدم أولا الرأي والحيلة، ومتى احتيج إلى المال فهو في يديك.
واتفق أن العادل لما اشتد على أصحابه الغلاء والضيق استدعى القاضي الفاضل برسول قدم منه على العزيز، فسيره إليه. وقد قيل إن العزيز لما جرى على المراكب التي جهزها إلى بلبيس ما جرى، خاف على الملك أن يخرج من يده، فسير إلى عمه في السر يعرفه أنه قد أخطأ، وأنه قد عزم على اللحاق ببلاد المغرب، ويسأله الاحتفاظ بحرمه وأولاده. فرق له العادل، واستدعى القاضي الفاضل، فلما قرب منه ركب إلى لقائه وأكرمه، ومازالا حتى تقرر الأمر على أن الأسدية والأكراد يرجعون إلى خدمة العزيز، من غير أن يؤاخذهم بشيء، ويرد عليهم إقطاعاتهم، ويحلف العزيز لهم ويحلفون له، وأن يكون العادل مقيما بمصر عند العزيز، ليقرر قواعد ملكه، وأن العزيز والأفضل يصطلحان، ويستقر كل منهما على ما بيده. فعاد القاضي الفاضل، وقد تقرر الأمر على ما ذكر، وحلف كل منهم لصاحبه على الوفاء.
وخرج العزيز من القاهرة إلى بلبيس، فالتقاه عمه العادل وأخوه الأفضل، ووقع الصلح التام في الظاهر. ورحل الأفضل يريد الشام، ومعه الأمير أبو الهيجاء السمين، وصار الساحل جميعه مع الأفضل، وعاد العزيز إلى القاهرة، وصحبته عمه العادل، فأنزله في القصر من القاهرة. وأخذ العادل في إصلاح أمور مصر، والنظر في ضياعها ورباعها، وأظهر من محبة العزيز شيئا زائدا، وصار إليه الأمر والنهي والحكم والتصرف في سائر أمور الدولة، جليلها وحقيرها، وصرف القاضي محيي الدين محمد بن أبي عصرون عن قضاء مصر، وولى زين الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي.
وفيها جدد العزيز الصلح بينه وبين الفرنج.
وفيها ورد كتاب ملك الروم، يتضمن أن كلمة الروم اجتمعت عليه، وأنه أحسن إلى المسلمين وأمرهم بإقامة الجامع، فأقيمت الصلاة فيه يوم الجمعة الصلاة مع الخطبة، وأنه عمر جانبا منه كان انهدم من ماله، فتمكن من في القسطنطينية من المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة بها. والتمس ملك الروم الوصية بالبطرك والنصارى، وأن يمكنوا من إخراج موتاهم بالشمع الموقد، وإظهار شعائرهم بكنائسهم، وأن يفرج عن أسارى الروم بمصر.
وفيها عزل زين الدين علي بن يوسف بن بندار عن القضاء، في حادي عشر جمادى الأولى، بمحيي الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن هبة الله بن عصرون.

.سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة:

وأهلت سنة اثنتين وتسعين: ففي أولها: وصل الملك الأفضل إلى دمشق، وتفرقت العساكر إلى بلادها، ولزم الأفضل الزهد، وأقبل على العبادة، وصارت أمور الدولة بأسرها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثر، فاختلت به الأحوال غاية الاختلال، وكثر شاكوه. وضبط العادل أمور مملكة مصر، وغير الإقطاعات، ووفر الارتفاعات وعمال الأعمال، وثمر الأموال، وقرب إلى العزيز الأمير عز الدين أسامة، فصار صاحب سره وحاجبه، والواسطة بينه وبين عمه. واختص الأمير صارم الدين قايماز النجمي بالعادل، وصار صفوته.
وفي يوم السبت ثاني عشر المحرم: رفعت يد ابن أبي عصرون وأيدي نوابه من الحكم، وأمر أن يعتزل في بيته، وأن يخرج عن مصر، فأغلق بابه، وشرع في تجهيز نفسه، وتوسل في إقامته.
وفي سابع عشريه: خلع علي زين الدين علي بن يوسف بن بندار وأعيد إلى القضاء، عوضا عن ابن أبي عصرون.
وفي أول صفر: حبس الملك العزيز ناحية الخربة من المنوفية على زاوية الإمام الشافعي بالجامع العميق بمصر، وفرض تدريسها إلى البهاء بن الجميزي.
وفي صفر وشهر ربيع الأول: كثرت الطرحى من الأموات على الطرقات، وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس، وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه، وأكثرهم يموت جوعا.
وانتهى القمح إلى مائة وثمانين دينارا المائة أردب، والخبز إلى ثلاثة أرطال بدرهم، وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار، وغدوا إلى البحر وترددوا إليه، ليستقوا منه في الجرار، ويبيعوها بثمن درهم الجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم، فيصيحون: من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة، ومن يشتريها منا بكسرة؟. وزاد السعر، وضاق الخناق، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع. وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز ويضرب من ينهب، ويشج رأسه، ويسال دمه، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه، وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب، فإن مراكبه تتواصل وتبيع بشونه.
وورد الخبر في تاسع صفر بأن تابوت الملك الناصر صلاح الدين نقل في يوم عاشوراء، من قلعة دمشق إلى تربة عملت له، فكان يوما مشهودا.
وفي تاسع عشريه: قدم الملك الزاهر داود مجير الدين صاحب البيرة، وسابق الدين عثمان صاحب شيرز، وبهاء الدين بن شداد قاضي حلب، فخرج العادل لتلقيهم ببركة الجب، وقدم العماد الكاتب أيضا. وورد الخبر بأن عربان الغرب هبطوا إلى البحيرة، واشتروا القمح كل ويبة بدينار، وأن بلاد الغرب قد عدمت فيها الأقوات في السنة الخالية، وانقطعت عنها الأمطار السنة الحاضرة، وزاد الجراد بالشام، وعظم خطبه، وكثرت بمصر والقاهرة الأمراض الحادة والحميات المحرقة، وزادت وأفرطت. وغلت الأشربة والسكر وعقاقير العطار، وبيعت بطيخة بأربعة وعشرين درهما، وصار لفروج لا يقدر عليه، وانتهى سعر القمح إلى مائتي دينار كل مائة أردب، وغلظ الأمر في الغلاء، وعدم القوت، وكثر السؤال، وكثرت الموتى بالجوع. وخطف الخبز متى ظهر، وشوهد من يستف التراب، ومن يأكل الزبل.
وازدحم الناس على الطير الذي يرمى من مطابخ السكر. وكثرت الأموات أيضا بالإسكندرية، وتزايد وجود الطرحى بها على الطرقات، وعدمت المواساة، وعظم هلاك الأغنياء والفقراء وانكشاف الأحوال وشوهد من يبحث المزابل القديمة على قشور الترمس، وعلى نقاضات الموائد وكناسات الآدر، ومن يقفل بابه ويموت، ومن عمي من الجوع ويقف على الحوانيت ويقول: أشموني رائحة الخبز. واستخدم رجل في ديوان الزكاة، وكتب خطه بمبلغ اثنين وخمسين ألف دينار، لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي ببهاء الدين قراقوش الشاد في هذا المال، وألا يتصرف فيه، وأن يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها. ووقع لابن ثعلب الشريف الجعفري بخبز مبلغه في السنة ستون ألف دينار، ودفع له كوس وعلم. وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية عليه من لحم وخبز، وإلى أن يتمحل في بعض الأوقات لا كلها، لبعض ما يتبلغ به أهلها من خبز، وكثر ضجيجهم وشكواهم، فلم يسمع.
وفي شهر ربيع الآخر: صرف صارم الدين خطلج الغزي عن شد الأموال بالدواوين، وسلم الشد إلى بهاء الدين قراقوش، مضافا إلى شد الزكوات، فكمل شد المال له.
وفيه كثر الموت، بحيث لم تبق دار إلا وفيها جنازة أو مناحة أو مريض، واشتد الأمر، وغلت العقاقير، وعدم الطبيب، وصار من يوجد من الأطباء لا يخلص إليه من شدة الزحام، وصار أمر الموتى أكئر أشغال الأحياء، وما ينقضي يوم إلا عن عدة جنائز من كل حارة. وعدم من يحفر، وإذا وجد لم يعمق الحفر، فلا يلبث الميت أن تظهر له رائحة وصارت الجبانات لا يستطاع مقالتها، ولا زيارة قبورها، وأخذت الأسعار في الانحلال.
وفي جمادى الأولى: تواترت الأخبار باختلال الحال بدمشق، فوقع العزم على المسير إلى الشام، ووقع الشروع في الإنفاق في الحاشية، فقبضوا شهرا واحدا، وكان قد استحق لهم أربعة عشر شهرا، فإن المادة قصرت عن نفقة ذلك لهم، فأحيل بعضهم على جهات. وامتنع الجاندارية من قبض شهر، وأنهى ذلك إلى العزيز، فكتب إلى خطلبا بإخراجهم إلى المخيم، ومن تقاعد عن الخروج قيده الطواشي قراقوش، واستخدمه في السور، فخرجوا بأنفس غير طيبة، وألسنة بالشكوى معلنة، وكاد المال الذي أنفق في الحاشية قد افترض من الأمراء، وأحيل به على الجوالي لسنة ثلاث وتسعين، وخرج العزيز إلى المخيم، وحرك الأمراء تحريكا قويا، وسير الحجات إلى البلاد تحت الأجناد، فتتابع خروج الناس، ووقع الرحيل من بركة الجب في ثامنه، فرحل السلطان العادل والعزيز، وجميع الأسدية والمماليك. وفشت الأمراض الحادة، فما ينقضي وقت إلا عن عدد كثير من الجنائز. وغلت الأدوية، وبلغ الفروج إلى ثلاثين درهما، والبطيخة إلى مائة درهم. وورد الخبر بأن قوص وأعمالها فيها أمراض فاشية، وأموات لا تتلاحق. وكثر الوباء والموت بالإسكندرية.
وفي آخره: انحلت الأسعار، ونزلت الغلة إلى ثمانين دينارا كل مائة أردب، وأبيع الخبز سبعة أرطال بدرهم. وقل السؤال، وارتفع الموتان، بعد أن جلب من قوص فراريج أبيع كل عشرة فراريج بسبعة دنانير، وهذا لم يسمع بمثله في مصر قبل ذلك. وفيه نودي في القاهرة ومصر بأن الشريف ابن ثعلب مقدم على الحاج، فليتجهز أرباب النيات.
وفي جمادى الآخرة: وقف الحال فيما ينفق في دار السلطان، وفيما يصرف إلى عياله، وفيما يقتات به أولاده، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن، وما يغصب من أربابه، وأفض هذا إلى غلاء أسعار المأكولات، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة. وضمن باب المزر والخمر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت، ولم يقدر أحد على إنكار ذلك، وصار ما يؤخذ من هذا النيحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال.
وفيه وصل العادل والعزيز إلى الداروم وأمر بإخراب حصنها، فقسم على الأمراء والجاندارية فشق على الناس تجريبه، لما كان به من الرفق للمسافرين، وانتهى الملكان إلى دمشق وقد استعد الأفضل للحرب في أول شهر رجب فحاصراها إلى أن ملكاها في العشرين منه، بعد عدة حروب، خان الأفضل فيها أمراءه، فلما أخذ المدينة نزل الأفضل من القلعة إليهما، فاستحيا العادل منه، لأنه هو الذي حمل العزيز على ذلك، ليوطيء لنفسه، كما يأتي. وأمره العادل أن يعود إلى القلعة، فلم يزل بها أربعة أيام، حتى بعث إليه العزيز أيبك فطيس أمير جاندار، وصارم الدين خطلج الأستادار، فأخرجاه عياله وعيال أبيه.
وأنزل الأفضل في مكان، وأوفي ما كان عليه من دين، وما للحواشي من الجوامك فبلغ ذلك نيفا وعشرين ألف دينار، بيع فيها بركه وجماله وبغاله وكتبه ومماليكه وسائر ماله، فلم توف بما عليه، وقسا عليه أخوه وعمه لسوء حظه، ثم بعث إليه عمه العادل يأمره أن يسير إلى صرخد، فلم يجد عنده من يسير بأهله، حتى بعث إليه جمال الدين محاسن عشرة أوصلوه إلى صرخد. وأخذت من الملك الظافر مظفر الدين خضر بصرى وأعطيت للملك العادل، وأمر الظافر أن يسير إلى حلب، فلحق بأخيه الظاهر صاحبها. ويقال إن العادل كان قد قرر مع الملك العزيز وهو بالقاهرة أن الملك العزيز إذا غلب أخاه الأفضل على دمشق وأخذها منه أن يقيم بها ويعود العادل إلى مصر نائبا عن العزيز فلما ملك العزيز دمشق، وأخرجه أخاه الأفضل منها، انكشفت له مستورات مكائد عمه، فندم على ما قرره معه، وبعث إلى أخيه الأفضل سرا يعتذر إليه، ويقول له: لا تنزل عن ملك دمشق. فظن الأفضل هنا من أخيه خديعة، وأعلم عمه العادل به، فقامت قيامته، وعتب على العزيز وأنبه. فأنكر العزيز أن يكون صدر هذا منه، وحنق على أخيه الأفضل، وأخرجه إلى صرخد على قبح صورة. واختفى الوزير ضياء الدين ابن الأثير الجزري خوفا من القتل، ثم لحق بالموصل. واستقر الأمر بدمشق للعزيز في رابع عشر شعبان، فأظهر العدل، وأبطل عدة مكوس، ومنع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار، ثم رحل عنها ليلة التاسع منه يريد القاهرة، واستخلف عمه العادل على دمشق، وسار إلى القدس، فملكها من أبي الهيحاء السمين وسلمها إلى الأمير شمس الدين سنقر الكبير، وسار أبو الهيجاء إلى بغداد. ووصل العزيز إلى القاهرة يوم الخميس رابع شهر رمضان، فصارت دمشق وأعمالها إقطاعا للملك العادل، وليس للعزيز بها سوى الخطبة والسكة فقط.
وفي ثامن عشره: ركب العزيز إلى مقياس مصر وخلقه، ونودي فيه بزيادة ثلاثة أصابع من الذراع السابعة عشرة.
وفي العشرين منه: فتح سد الخليج، فركب العزيز لذلك، وكثر المتفرجون وازدحم الغوغاء، وحملوا العصي وتراجموا بالحجارة، وقلعت أعين، وخطفت مناديل. وكانت العادة جارية بأن يوقر شهر رمضان من اعتصار الخمر، وألا يجهر بشراء العنب والجرار، ولا يحدث نفسه أحد بفسخ الحرمة وهتك الستر.
وفي هذا الشهر: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطاني، واستيفاء رسمه بأيد مستخدميه، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إلى العزيز فصنع به آلات الشرب.
وفيه كثر اجتماع النساء والرجال على الخليج لما فتح وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاصي قبيحة. واستمر جلوس العزيز للمظالم في يومي الاثنين والخميس.
وفي ثاني شوال: كان النوروز، فجرى الأمر فيه على العادة من رش الماء، واستجد فيه التراجم بالبيض والتصافع بالأنطاع. وتوالت زيادة النيل، فأفحش الناس في إظهار المنكرات، ولم ينههم أحد.
وفيه وقفت وجوه المال، وانقطعت جباية الديوان بمصر، وأحيل على الجهات بأضعاف ما فيها، وبقيت وجوه قصرت الأيدي عن استخراجها، وانتمى العاملون إلى من حماهم، فلم يجسر صاحب الديوان على ذكر من بحميهم، فضلا عن أخذ الحق منهم، ورفع يده عن حماية من حماه. وآل الأمر إلى أن صار ما يقام برسم طوارئ السلطان وراتب داره من ضمان الخمر والمزر.
وكانت هذه سنة ما تقدمها أفحش منها، ولا علم أن همة من الهمم القاصرة انحطت إلى مثلها.
وفي رابع عشره: خرج الشريف ابن ثعلب سائرا بالحاج، وخيم على سقاية ريدان وكثر القتل بالقاهرة بأيدي السكارى، وأعلن المنكر بها، فلم تنسلخ ليلة إلا عن جراح وقتل بين المعربدين. وكثر ذلك حتى خطفت الأمتعة والمآكل من الأسواق، نهارا نادرا وليلا راتبا.
واستقرت المظالم للطواشي قراقوش، يجلس فيها بظاهر الدار السلطانية، وحماية الديوان وشد الأموال لفخرالدين جهاركس، مع انقباضه عنها، وأستادارية الدار لصارم الدين خطلج.
وفي تاسع عشره: كسر بحر أبي المنجا، وباشر العزيز كسره، وزاد النيل فيه إصبعا، وهي الإصبع الثامنة عشرة، من ثماني عشرة ذراعا، وهذا الحد يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى.
وفي ثاني عشريه: رحل الحاج، وتجدد ما كان قد درس ذكره ونسي حكمه في مصر، منذ عهد الخليفة الحافظ لدين الله من سنة أربعين وخمسمائة، من الرفايع التي كان القبط يختلقونها، ويتوصلون بها إلى المصادرات، وخراب البيوت، وعمارة الحبوس، وإساءة السمعة عن سلطان الوقت، فأجمع ابن وهيب وكاتب نصراني وغيرهما على أوراق عملت، وانتدب الأسعد بن مماتي والشاد للكشف والرفع إلى فخر الدين جهاركس.
وفي ذي القعدة:كثر وثوب السكارى بمن يلقونه ليلا، وضربهم إياه بالسكاكين، فلا تخلو ليلة من قتيل أو قتيلين، ولم يؤخذ لأحد بثأر، ولا وقع كشف عن مقتول منهم، ولا تمكن والي القاهرة من منعهم. ووجد في الخليج ستة نفر قتلى مربطين، فلم يسأل عنهم، ولا وقع إنكار لأمرهم.
وفي ذي الحجة: عزم العزيز على نقض الأهرام، ونقل حجارتها إلى سور دمياط، فقيل له إن المؤنة تعظم في هدمها، والفائدة تقل من حجرها. فانتقل رأيه من الهرمين إلى الهرم الصغير وهو مبني بالحجارة الصوان فشرع في هدمه.
وفيه سار العزيز إلى الإسكندرية، واستخلف بالقاهرة بهاء الدين قراقوش، وفخر الدين جهاركس.
وتوفي في هذه السنة القاضي الأشرف أبو المكارم الحسن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحباب قاضي الإسكندرية، وولى عوضه الفقيه أبو القاسم شرف الدين عبد الرحمن بن سلامة في سابع عشري شوال. ومولد بن الحباب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وأقام حاكما بالإسكندرية ثمانيا وعشرين سنة. وكان كريم النفس صحيح المودة، وطالت مدته في الحكم بالإسكندرية، من سنة أربع وستين إلى أن مات بها في ثالث جمادى الآخرة.
وفي خامس ذي الحجة: مات القاضي الرشيد ابن سناء الملك. قال القاضي الفاضل فيه: ونعم الصاحب الذي لا تخلفه الأيام، ولا يعرف له نظير من الأقوام: أمانة سمينة، وعقيدة ود متينة، ومحاسن ليست بواحدة، ومساع في نفع المعارف جاهدة. وكان حافظا لكتاب الله، مشتغلا بالعلوم الأدبية، كثير الصدقات، نفعه الله، والأعمال الصالحات، عرفه الله بركاتها.
وفيها حج بالناس الشرفي ابن ثعلب، وخرجت المراكب الحربية من مصر، فظفروا ببطس للفرنج، وفيها أموال فغنموها.
وفيها بنى الأمير فخر الدين جهاركس قيساريته بالقاهرة.
وفيها زلزلت مصر. ومات العلم عبد الله بن علي بن عثمان بن يوسف المخزومي، يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى، ومولده في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقد قرأ علي بن بري، وله شعر.