فصل: مَسْأَلَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.مَسْأَلَة:

ذكرنَا من أصلنَا أَن لَا نجتزي فِي قبُول رِوَايَة الرَّاوِي بِظُهُور الْإِسْلَام وَعدم الْعلم بِالْفِسْقِ بل نبحث عَن حَاله سرا وعلنا لنعلم أَو يغلب على ظننا اتصافه بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف.
وَذهب بعض الْعلمَاء من أهل الْعرَاق إِلَى الِاكْتِفَاء بِالظَّاهِرِ فِي الرِّوَايَة، نستدل عَلَيْهِم بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُدُود فَنَقُول: ألستم شرطتم الْعَدَالَة فِيهِ وسبيله سَبِيل الْأَخْبَار، فَهَلا شرطتم مثل ذَلِك فِي الروايه؟
فَإِن قيل: قد افترق البابان فَإِن الْأَمر فِي الشَّهَادَة أغْلظ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اعْتِبَار الْعدَد فِيهِ.
قُلْنَا: فَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بِالْعَكْسِ أولى فَإِن الَّذِي لم يشْتَرط فِيهِ الْعدَد لَو لم يُبَالغ فِي تطلب الْعَدَالَة كَانَ ذَلِك نِهَايَة التَّفْرِيط، فَهَذَا بِالِاحْتِيَاطِ أولى، على أَن مَا ذَكرُوهُ يبطل بالمفتي فَإِنَّهُ يشْتَرط ظُهُور عَدَالَته واستجماعه لشرائط الْفَتْوَى مَعَ أَنه لَا يشْتَرط عدد.
وعَلى هَذَا الْوَجْه اسْتدلَّ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بالشهادات من طَرِيق آخر فَقَالَ: إِذا شهِدت طَائِفَة من الشُّهُود على شَهَادَة أُخْرَى فَلَا خلاف بَين الْعلمَاء أَنا نبحث عَن عَدَالَة الْأُصُول وَلَا نكتفي بِشَهَادَة هَؤُلَاءِ الْعُدُول على شَهَادَتهم وَإِن كَانَ ظَاهرا شَهَادَة الْعُدُول تنبىء عَن مَنْهَج الْعُلُوم السمعية فِي الْمسَائِل المجتهدة فَإِنَّمَا الَّذِي يُقَوي ذَلِك شَيْئَانِ اثْنَان أَحدهمَا أَن نقُول: نَحن نعلم أَن أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا كَانُوا يقبلُونَ إِلَّا مِمَّن ظَهرت عَدَالَته ووضحت أَمَانَته وَكَانُوا يتخيرون فِي ذَلِك ويبحثون أَشد الْبَحْث حَتَّى كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ يزِيد على ذَلِك فَيحلف بعض الروَاة.
وَهَذَا فِيهِ نظر أَيْضا، فَإِن آكِد مَا يعتصم بِهِ أَن نقُول: الْعَمَل بأخبار الْآحَاد مِمَّا لَا يسْتَدرك وُجُوبه عقلا وَقد قدمنَا فِي ذَلِك مَا فِيهِ كِفَايَة فَإِذا وضح ذَلِك تبين أَن الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد إِنَّمَا ثَبت بِدلَالَة سمعية قَاطِعَة وَقد قَامَت الْأَدِلَّة القاطعة على وجوب الْعَمَل بِخَبَر الْعدْل المستجمع للأوصاف الَّتِي قدمناها، وَبَقِي تنازعنا فِي الَّذِي لم تظهر عَدَالَته فَإِن أبدوا شَيْئا من أدلتهم وَزَعَمُوا أَنه قَاطع تفصينا عَنهُ بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لقد قبل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهَادَة أَعْرَابِي فِي رُؤْيَة الْهلَال وَهَذَا اكْتِفَاء مِنْهُ بِالظَّاهِرِ.
قيل لَهُم: هَذَا إِثْبَات مِنْكُم لنَوْع من أَخْبَار الْآحَاد بِخَبَر من أَخْبَار الْآحَاد وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ فَإِن طَرِيق إِثْبَات أصل أَدِلَّة الشَّرْع القواطع، على أَنا نقُول وَكَونه أَعْرَابِيًا لَا يمْنَع أَن يكون عدلا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَيْسَ لكم فِي الحَدِيث معتصم فَكَمَا لم ينْقل فِي الْخَبَر عَدَالَته فَكَذَلِك لم ينْقل إِسْلَامه وَقد اتفقنا على اشْتِرَاطه.
فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: لَا مَعْصِيّة قبل الْبلُوغ وَمن بلغ أَوَان حلمه بَرِيئًا فَالْأَصْل بَقَاء هَذِه الْحَالة حَتَّى يرفعها رَافع.
قُلْنَا: هَذَا من أعظم الْكَلَام فَأول مَا يلْزم عَلَيْهِ الشَّهَادَات فِي صُورَة الِاتِّفَاق وَكَذَلِكَ حَال الْمُفْتِي فِي ورعه، ثمَّ نقُول: رُبمَا يبلغ ويقارف أول بُلُوغه مَعْصِيّة فَلم أدعيتم بَرَاءَته عِنْد بُلُوغه؟ ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ينعكس عَلَيْكُم فِيمَا لَا مدفع لَهُ فَإنَّا نقُول: ألستم قُلْتُمْ أَن انْتِفَاء الْمعْصِيَة فِي بَدْء الْأَمر مستيقن ثمَّ إِذا استصحبنا الْحَال لم يدم لنا الْيَقِين فِي ذَلِك، فَكَمَا لَا يَقْتَضِي الِاسْتِصْحَاب دوَام الْيَقِين فَكَذَلِك مَا نَحن فِيهِ، وسنتكلم فِي الِاسْتِصْحَاب بأوضح وَجه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قَالُوا: فَإِن أخبرنَا مخبر عَن نَجَاسَة مَاء أَو طَهَارَته فَلَا يشْتَرط أَن يكون على وصف الْعُدُول، فَالْجَوَاب السديد فِي هَذَا وَأَمْثَاله أَن يُقَال: مَا ثَبت فِيهِ إِجْمَاع قُلْنَا فِيهِ من ظَاهر الْعَدَالَة للاتفاق، وَمَا لم يقم فِيهِ إِجْمَاع لم نعمل بِهِ حَتَّى تكون دلَالَة قَاطِعَة، فَمَا اسْتشْهدُوا بِهِ مِمَّا لايدعى الْإِجْمَاع فِيهِ.
فَإِن قُلْنَا: لَا يشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة لم يبعد، هَذَا مَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ.
وَمِمَّا يشْتَرط فِي الشَّهَادَة والراوي أَن لَا يكون مغفلا، فانه وَإِن استجمع جملَة مَا قدمْنَاهُ من الْأَوْصَاف فَإِذا غلب عَلَيْهِ النسْيَان والغفلة فَلَا نَأْمَن تحريفه كَمَا لَا نَأْمَن اجتراء الْفَاسِق على تعمد الْكَذِب.

.فصل:

قد قدمنَا فِيمَا سبق رِوَايَة الصَّبِي لَا تصح، وَيصِح تحمله، ثمَّ يُؤَدِّي مَا تحمله فِي بُلُوغه وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول أَن التَّحَمُّل لَا يَصح إِلَّا من بَالغ عَاقل وَمَا سَمعه الصَّبِي فِي صباه لم يَصح مِنْهُ رِوَايَته وَهَذَا أقرب من خرق الْإِجْمَاع فانا نعلم أَن ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَابْن عمر والنعمان بن بشير وَغَيرهم رووا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مَا بلغُوا مَا رَوَوْهُ فِي صباهم وَلم يُنكر عَلَيْهِم. فَإِن قَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذين عددتموهم بلغُوا فِي عصر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قُلْنَا: فنعلم قطعا أَنهم لم يقتصروا على رِوَايَة مَا شاهدوه بعد الْبلُوغ وَتَقْدِير هَذَا تكلّف، فَإِنَّهُ بَين إِن شَاءَ الله ثمَّ ابْن عَبَّاس كَانَ ابْن سبع لما توفّي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا بلغ ابْن الزبير حلمه أَيْضا فِي حَيَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.

.باب يجمع القَوْل فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح وَعدد الْمعدل والجارح وَصفَة التَّعْدِيل وَالْجرْح:

اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنا هَل نجتزئ فِي تَعْدِيل الرَّاوِي وتزكيته بمعدل وَاحِد، فَمَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور مِنْهُم أَنا نكتفي بِعدْل وَاحِد وَكَذَلِكَ نكتفي بجارح وَاحِد وَذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَن تَعْدِيل الرَّاوِي لَا يثبت إِلَّا بعدلين.
وَأما تَعْدِيل الشُّهُود فَالْمَشْهُور من الْمذَاهب أَنه لَا يثبت إِلَّا بمزكيين، وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ يُشِير فِي تضاعيف الْكَلَام إِلَى الِاكْتِفَاء بمزك وَاحِد فِي الشُّهُود على مَا نشِير إِلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالدَّلِيل على الِاكْتِفَاء بمعدل وَاحِد فِي الرِّوَايَة مَا قدمنَا من أوضح الْحجَج فِي قبُول خبر الْوَاحِد وَوُجُوب الْعَمَل بِهِ، وأخبار الْمعدل عَن عَدَالَة الرَّاوِي من قبيل الْأَخْبَار فَوَجَبَ الْعَمَل بِمُوجبِه مَعَ اتحاده، وَالدَّلِيل على أَنه أَخْبَار أَنه غير مُتَّصِل بفصل الْقَضَاء وَغير مُرْتَبِط بِالدَّعْوَى وَلَا يشْتَرط فِيهِ لفظ الشَّهَادَة، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك وجوب الِاكْتِفَاء بالمفتي الْوَاحِد لما لم يكن سَبيله سَبِيل الشُّهُود، وَمن مُوجب ذَلِك ارْتكب القَاضِي رَضِي الله عَنهُ اتِّحَاد الْمُزَكي للشُّهُود من حَيْثُ أَن تزكيته لم تجر مجْرى الشَّهَادَات، على أَن قَارنا لَو قرن بَين معدل الشُّهُود ومعدل الروَاة بِأَن الشُّهُود لما اشْترط فيهم الْعدَد جَازَ أَن يشْتَرط فِي معدليهم الْعدَد وَلما لم يشْتَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة لم يشْتَرط فِي تزكيتهم.
فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن التَّزْكِيَة تقبل من الْعَاميّ كَمَا تقبل رِوَايَته؟
قيل: هَذَا فرق وَحَقِيقَته الْجمع فَإنَّا نشترط أَن يكون الرَّاوِي على صفة من يعلم الْمَرْوِيّ وَالْمَنْقُول على وَجه م نَقله، فَلَو تصور أَن يعلم الْعَاميّ صِفَات الْعَدَالَة حَتَّى ينقلها على علم وَضبط لصَحَّ ذَلِك مِنْهُ، فَلَمَّا لم يتَصَوَّر مِنْهُ مَعَ الْخُلُو عَن ضروب من الْعُلُوم الْعلم بِالْعَدَالَةِ لم يَصح مِنْهُ التَّعْدِيل، وَلما صَحَّ مِنْهُ نقل عين مَا سَمعه قبلت رِوَايَته فِيهِ، فَكل مِنْهُمَا يقبل مِنْهُ بالغلبة على الْقلب إِلَى نَقله على الْعلم فالمعاني تتبع دون الصُّور.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا اللَّفْظ الَّذِي إِذا صدر من الْعدْل للشَّاهِد أَو الرَّاوِي يَكْتَفِي بِهِ؟ قُلْنَا: ذهب مَالك رَحمَه الله وَأهل الْمَدِينَة إِلَى أَنا نكتفي بِأَن يَقُول الْمعدل فلَان عدل رَضِي.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله: يَنْبَغِي أَن يَقُول فلَان عدل مَقْبُول القَوْل عَليّ ولي، وَإِن كَانَ شَاهدا قَالَ هُوَ مَقْبُول الشَّهَادَة عَليّ ولي.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالظَّن بهؤلاء الْأَئِمَّة أَنهم مَا قصدُوا حصر التَّعْدِيل فِي عبارَة مَخْصُوصَة وَلَكِن ابتدر كل وَاحِد إِلَى عبارَة وفَاقا تنبىء عَن الْمَقْصُود. والسديد أَن يُقَال: بنبغي أَن يبدر الْمعدل لَفْظَة تَقْتَضِي تَعْدِيل الرَّاوِي وَالشَّاهِد بِحَيْثُ تَنْتفِي عَنهُ الِاحْتِمَالَات والتجويزات.

.فصل:

اعْلَم، أَن صِفَات الْعَدَالَة تخْتَلف فَمِنْهَا مَا يشْتَرك فِي دركها الْعَام الْخَاص وَمِنْهَا: لَا يُحِيط بهَا إِلَّا أولُوا الْعلم..
فَالَّذِي يشْتَرك فِيهَا الْعَام وَالْخَاص فنحو إِقَامَة الْفَرَائِض الظَّاهِرَة وتجنب الْفَوَاحِش الموبقة.
وَالَّذِي يخْتَص بِهِ الْخَواص فَهُوَ نَحْو الْعلم بالضبط والتيقظ ووجوه تَحْصِيل الْعلم.
ثمَّ اعْلَم مَا ذَكرْنَاهُ من التَّعْدِيل والتزكية إِنَّمَا هُوَ فِي حق من يخفى حَاله، وَأما الَّذِي اشْتهر من النَّاس بالديانة وَالْأَمَانَة وَشهِدت لَهُ بِهِ النُّفُوس بِصِفَات الْمَدْح فَلَا حَاجَة فِي تَعْدِيل مثله، واستفاضة الْأَخْبَار على مر الْأَعْصَار أقوى من تَعْدِيل وَاحِد أَو اثْنَيْنِ.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا عدل الْمعدل الرَّاوِي أَو الشَّاهِد فَهَل تشترطون أَن يُفَسر وَجه التَّعْدِيل والنعوت الَّتِي عدله لأَجلهَا؟
قُلْنَا: مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْمعدل أصلا.
وَذهب شرذمة إِلَى اشْتِرَاط الشَّرْح فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف الظَّاهِر فِي الْجرْح فَمَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَن من جرح رَاوِيا وَشَاهدا فَلَا يقبل جرحه حَتَّى يبين سَببه، هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَغَيره من الْأَئِمَّة.
وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن ذَلِك لَا يشْتَرط فِي الْعدْل إِذا عدل وَلَا إِذا جرح.
ثمَّ قسم الْكَلَام على وَجه ينطوي على تَفْصِيل الْمذَاهب وتثبيته فَقَالَ: إِن كَانَ الْمخبر عَن الْعَدَالَة وَالْجرْح مِمَّن يوثق بِهِ فِي علم مَا يجرح بِهِ وَعلم مَا يعدل بِهِ فَيقبل مِنْهُ الْجرْح الْمُطلق وَالتَّعْدِيل الْمُطلق، وَلَا يتجسس كَمَا أَن الْعدْل لَو شهد على بيع أَو نِكَاح أَو مَا شابههما من الْعُقُود والفسوخ وَنَحْوهمَا بِالصِّحَّةِ فَيحكم بِظَاهِر شَهَادَته وَلَا نسائله عَن لفظ العقد وَصفته وَإِن كنت تعلم أَن الِاجْتِهَاد لَهُ أعظم المجال فِي مَوَاضِع الْعُقُود وصحتها وفسادها، وَكَذَلِكَ يقبل مِنْهُ التَّعْدِيل الْمُطلق. وَإِن كَانَ من يخبر عَن الْجرْح وَالتَّعْدِيل غير عَالم بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح فَلَا يقبل مِنْهُ مَا يُطلقهُ وَلَكِن لَو أخبر عَن أَوْصَاف ضَبطهَا من الرَّاوِي وَالشَّاهِد وَكَانَ موثوقا بِهِ قبلناها ثمَّ نَظرنَا فِيهَا فعدلنا أَو جرحنا.
فَإِن فصل فاصل بَين التَّعْدِيل وَالْجرْح أَن الْخلاف يكثر فِي الْجرْح فَلَا نَأْمَن أَن يجرح بِمَا يَعْتَقِدهُ جرحا وَالْقَاضِي لَا يَعْتَقِدهُ كَذَلِك فَلذَلِك استسفرناه.
قُلْنَا: فَهَذَا يبطل بالتعديل فَإِن فِيهِ الِاخْتِلَاف أَيْضا ثمَّ لم يشْتَرط فِيهِ الْكَشْف وَيبْطل بِالشَّهَادَةِ على مُطلق الْعُقُود فَإنَّا لَا نشترط فِيهَا الاستكشاف مَعَ علمنَا بِوُقُوع الْخلاف فِيهَا.
فَإِن قَالُوا: السَّبَب الَّذِي يَقع بِهِ الْجرْح لَا يطول ذكره وأوصاف الْعَدَالَة يطول ذكرهَا قُلْنَا: لَيْسَ يطول ذكر أَوْصَاف الْعَدَالَة وَيُمكن حصرها فِي أسطر، ثمَّ الْوَاجِبَات لَا يسْقط بالطول وَالْقصر، فَبَطل مَا قَالُوهُ، فَلَا يظهرون فِي الْجرْح عِلّة إِلَّا وَهِي تنعكس فِي التَّعْدِيل.

.فصل:

الرَّاوِي إِذا عدله معدل يقبل تعديله وجرحه جارح يقبل جرحه لَو قدر مُفردا وَالْجرْح أولى من التَّعْدِيل، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الشَّاهِد إِذا عدل وجرح، وَهَذَا إِجْمَاع الْعلمَاء وَهُوَ أقوى الْحجَج، فاكتف بِهِ، على أَنَّك تعضده فَتَقول الْجرْح ينبىء عَن زِيَادَة خلا عَنْهَا التَّعْدِيل، فَكَأَن الْجَارِح يصدق الْمعدل فِي الْأَوْصَاف الَّتِي أخبر عَنْهَا ويخبر عَن صفة كامنة ذهل عَنْهَا الْمعدل، فَيَقُول صدق الْمعدل بيد أَنه لم يطلع على مَا اطَّلَعت عَلَيْهِ، وَلَو أَرَادَ الْمعدل نفي مَا أثْبته الْجَارِح كَانَ مخبرا عَن نفي والإخبار عَن النَّفْي يضعف وَلذَلِك ردَّتْ الشَّهَادَة على النَّفْي.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيهِ إِذا اتَّحد الْمعدل والجارح أَو اسْتَويَا فِي الْعدَد.
فَأَما إِن كثر عدد المعدلين وَقل عدد الجارحين فقد صَار بعض الْعلمَاء إِلَى ان الْعَدَالَة فِي مثل هَذِه الصُّورَة أولى وَهَذَا غير سديد فَإِن كل وَاحِد من الْجرْح وَالتَّعْدِيل يسْتَقلّ بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا فَالزِّيَادَة لَا تَقْتَضِي تَغْيِير ذَلِك، وَالَّذِي يُوضحهُ أَن عشرَة من الْعُدُول لَو شهدُوا على ثُبُوت دين وَشهد عَدْلَانِ على إِبْرَاء مُسْتَحقَّة عَنهُ فتقضي بِالْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُمَا أخبرا عَمَّا أخبر الشُّهُود عَنهُ وانفردا بِزِيَادَة علم وَهَذَا شَأْن الْجَارِح مَعَ المعدلين على مَا قدمْنَاهُ.

.فصل:

الْعدْل الثِّقَة إِذا روى عَن إِنْسَان خَبرا فروايته لَا تكون تعديلا مِنْهُ للَّذي روى عَنهُ، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَذهب بعض من لَا يحصل علم هَذَا الْبَاب إِلَى أَن الرِّوَايَة عَنهُ تَعْدِيل وَهَذَا بَاطِل من وَجْهَيْن، أَحدهمَا أَنا نرى الْأَئِمَّة يروون الضَّعِيف من الْأَخْبَار كَمَا يروون الصَّحِيح مِنْهَا لأغراض لَهُم فِي علم الصَّنْعَة، فَلَا سَبِيل إِلَى الِاسْتِدْلَال بروايتهم على تَعْدِيل الَّذين رووا عَنْهُم. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْعدْل قد يروي عَمَّن لم يعرفهُ بعدالة وَلَا جرح فيصمت عَن وَصفه بهما جَمِيعًا فَمن هَذَا الْوَجْه بَطل الِاسْتِدْلَال بروايته، اللَّهُمَّ أَن يَقُول الْعدْل اعلموا أَنِّي لَا أروي إِلَّا عَن موثوق بِهِ فَإِذا صدر مِنْهُ مثل هَذَا القَوْل فَتكون رِوَايَته تعديلا.

.فصل:

إِذا روى الرَّاوِي خَبرا وَعمل بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يجوز أَنه عمل بِدلَالَة أُخْرَى من خبر أَو قِيَاس أَو غَيرهمَا، وَوَافَقَ عمله مُوجب الْخَبَر الَّذِي رَوَاهُ، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَلَا يكون عمله بِهِ تعديلا، وَإِن تحقق عندنَا أما بقوله وَإِمَّا بقرائن الْأَحْوَال أَنه لم يعْمل إِلَّا بالْخبر الَّذِي رَوَاهُ فَيكون عمله بِهِ تعديلا لَا محَالة وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان عمله بِهِ لَا يكون تعديلا.
وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: إِذا تحقق عندنَا كَون الْمعدل عدلا موثوقا بِهِ فِي دينه وأمانته، وتقرر مَعَ ذَلِك علمه بِمَا يَقع بِهِ التَّعْدِيل وَالْجرْح، فَإِذا استجمعت هَذِه الْأَوْصَاف فالظن بِظَاهِر فعله مَعَ اعتقادنا فِيهِ اجْتِنَاب الزلل وَالْخَطَأ على تعمد فينبىء ظَاهر فعله عَن التَّعْدِيل كَمَا ينبى قَوْله عَن ذَلِك وَلَو سَاغَ حمل فعله على غير وَجه الصِّحَّة سَاغَ ذَلِك فِي قَوْله.
فَإِن قيل: فيلزمكم على اطراد ذَلِك أَن تَقولُوا إِذا روى الْعدْل عَن إِنْسَان وَترك الْعَمَل بِمَا رَوَاهُ فَيكون ذَلِك جرحا مِنْهُ، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِن تحقق تَركه الْعَمَل للْخَبَر مَعَ ارْتِفَاع الدوافع والموانع وتقرر عندنَا تَركه مُوجب الْخَبَر على انه لَو كَانَ ثَابتا للَزِمَ الْعَمَل بِهِ فَيكون ذَلِك جرحا نازلا منزلَة القَوْل وَإِن كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مِمَّا سوغ تَركه وَلم يتَبَيَّن قَصده إِلَى مُخَالفَة الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك جرحا حِينَئِذٍ، وَنَظِيره مَا لَو عمل بِمَا يُوَافق مُوجب الْخَبَر وجوزنا أَن يكون عمله بِمُقْتَضى غير الْخَبَر فَلَا يكون ذَلِك تعديلا.
فَإِن قيل: فيلزمكم أَن تَقولُوا أَن القَاضِي إِذا حكم بِشَهَادَة الشُّهُود فَيكون ذَلِك حكما مِنْهُ بِعَدَالَتِهِمْ حَتَّى لَا يبْقى لقاض آخر فيهم اجْتِهَاد.
قُلْنَا: القَوْل فِي ذَلِك على تَفْصِيل، فَإِن عول القَاضِي على المزكى وَلم يعدل الشُّهُود بِنَفسِهِ فَلَا يكون إبرامه الحكم تعديلا مِنْهُ بل يكون اتبَاعا على قَول المزكى، وَإِن صدر مِمَّا القَاضِي مِمَّا يدل على أَنه عدل الشُّهُود بِأَن تولى بِنَفسِهِ الْبَحْث عَنْهُم ثمَّ تبين فِي مقَالَة أَو حَالَة قصدا لتعديل فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ، حَتَّى قَالَ المخلصون بِعلم هَذَا الْبَاب: لَو فرض القَاضِي تَنْفِيذ حُكُومَة مُشْتَمِلَة على الشَّهَادَة إِلَى من رشح لتزكية الشُّهُود فنفذها بِشَهَادَتِهِم، فَيكون ذَلِك تعديلا مِنْهُ إيَّاهُم، فَإِنَّهُ منتصب لتعديل الشُّهُود، فَيحمل إبرامه الحكم على التَّعْدِيل، فَافْهَم.

.فصل:

اعْلَم أَن مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أصحابنَا أَن الروَاة من أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار معدلون بِنَصّ الْكتاب وهم مقرون على الْعَدَالَة إِلَى ان يتَحَقَّق قطعا مَا يقْدَح فِي وَاحِد مِنْهُم.
فَإِن قيل: فَأَي آيَة تعنون اشتمالها على تعديلهم؟
قُلْنَا: هِيَ أَكثر من وَاحِدَة فَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مُخَاطبَة الصَّحَابَة {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس}.
وَمِنْهَا: قَوْله تَعَالَى فِي مخاطبتهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس} وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي أهل بيعَة الرضْوَان: {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة}
وَمِنْهَا: الْآيَات الْمُشْتَملَة على حسن الثَّنَاء على الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار مِنْهُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه من الْكتاب وَالسّنة، ثمَّ لَا تَظنن أَنه مندرج تَحت هَذِه هـ الْجُمْلَة كل من لَقِي رَسُول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِنَّمَا ذَلِك فِي صُحْبَة الَّذين امتثلوا أمره وبذلوا عَلَيْهِ الْأَمْوَال والمهج وهم المعرفون الْمُسلمُونَ.
وَقد اضْطَرَبَتْ الْمُعْتَزلَة اضطرابا عَظِيما، فَذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى تفسيق عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَجُمْلَة الَّذين قَاتلُوا الفئة العادلة وَمِنْهُم من يَقُول لَو اجْتمع عَليّ وَطَلْحَة فِي شَهَادَة لم تقبل شَهَادَتهمَا وَهَذَا يبْنى على أصُول تقررت فِي الْإِمَامَة.

.فصل:

من كَانَ من أهل الْقبْلَة وَلَكِن بدر مِنْهُ فسق، بِاتِّفَاق الْأمة يَقْتَضِي رد شَهَادَته، وَإِن أقدم عَلَيْهِ متأولا ظَانّا أَنه مستحل غير مَحْظُور وَكَذَلِكَ من كفر من أهل الْقبْلَة وَصدر مِنْهُ مَا يُوجب تفكيره فَهُوَ مَرْدُود الشَّهَادَة وَإِن كَانَ من المتأولين المنتمين إِلَى أهل الْقبْلَة وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى ان من بدر مِنْهُ الْفسق وَهُوَ متأول ظان أَنه مُبَاح فَذَلِك لَا يُوجب رد شَهَادَته إِذا كَانَ مشهرا بِالصّدقِ وتوقي الْخلف، وَذَلِكَ نَحْو قتل الْخَوَارِج النَّاس واستحلالهم الْأَمْوَال والدماء على اعْتِقَاد الْإِبَاحَة مَعَ استشهادهم بتوقي الْخلف ومصيرهم إِلَى أَنه كفر.
وَالْمُخْتَار عندنَا رد شَهَادَتهم لكفرهم وَمَا يبدر مِنْهُم من فسقهم وَإِن اعتقدوه حسنا، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتِّفَاق الْأمة على أَن تأويلهم وظنهم وحسابهم لَا يعذرهم فِيمَا يبدر مِنْهُم وَلَكِن اعْتِقَاد الْحسن فِيمَا أجمع الْمُسلمُونَ على قبحه إِذا انْضَمَّ إِلَى الْقَبِيح كَانَا قبيحين منضمين لَا يقدر انْفِصَال أَحدهمَا من الآخر إِجْمَاعًا واتفاقا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكفْر وتأويله وَلَو سَاغَ أَن يعْذر المأولون سَاغَ أَن يعْذر أهل الْملَل وَتقبل شَهَادَة من يشْتَهر مِنْهُم بِالصّدقِ كالرهبان وَغَيرهم.
َإِن قيل: من اسْتحْسنَ مَا يبدر مِنْهُ مِمَّا أقدم عَلَيْهِ قَاصِدا إِلَى الْفسق هُوَ متأول.
قيل لَهُم: فَكَذَلِك القَوْل فِي الْكَفَرَة ومنكري الشَّرِيعَة فَإِنَّهُم مَا اقدموا على مَا اقدموا عَلَيْهِ إِلَّا واعتقادهم أَنه الْحق وَالصَّوَاب وَمَا عداهُ ضلال ثمَّ انتصب ذَلِك شَيْئا مفضيا إِلَى قبُول الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة فَلَا يعذرُونَ فِي الْفَاسِق المتأول وَالْكفَّار شَيْئا إِلَّا انعكس عَلَيْهِم فِي أهل الْملَل.
وَالَّذِي نرتضي لَك التعويل عَلَيْهِ أَن تعد الْكَافِر الْأَصْلِيّ نقضا لما يتمسكون بِهِ، فَإِن رمت احتجاجا قلت: قد ثَبت رد شَهَادَة الْكفَّار وَالَّذِي نَحن فِيهِ كَافِر، وَثَبت رد شَهَادَة الْفَاسِق، وَالَّذِي نَحن فِيهِ فَاسق، وَإِنَّمَا قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع فِي قبُول أَخْبَار الثِّقَات فَلَا يقبل خبر غَيرهم إِلَّا بِدلَالَة تدل، فَإِن الْأَمر بأخبار الْآحَاد لاتضبط عقلا.
وَمِمَّا عول عَلَيْهِ من يقبل أَخْبَار هَذَا الصِّنْف - وَالشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ من المائلين إِلَى ذَلِك - إِجْمَاع الصَّحَابَة على قبُول أَخْبَار الْفَاسِقين بالتأويل فَإِن الَّذين فسقوا بمحاصرة عُثْمَان وَقَتله من الْمَذْكُورين والمشاهير وارادوا ذَلِك حَقًا لم ترد شَهَادَتهم وروايتهم، وَكَذَلِكَ الْخَوَارِج مَا زَالُوا يتلقون ويروون وَتقبل روايتهم.
فَيُقَال: دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك مِمَّا لَا يكَاد يسْتَمر من أوجه، أَحدهَا: أَنه إِن صَحَّ قبُول رِوَايَة بَعضهم فَلم يتَحَقَّق ذَلِك من كَافَّة الصَّحَابَة حَتَّى يدعى إِجْمَاعهم فِي قبُول خبر من هَذَا وَصفه، وَالْأُخْرَى أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يعْتَقد اسْتِحْبَاب عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما جرى عَلَيْهِ، وَهَذَا بَين فِي كَلَامهم نظما ونثرا فَلم يثبت الْإِجْمَاع على فسقهم فِيمَا صدر مِنْهُم، ثمَّ الِاتِّفَاق على قبُول خبرهم. فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع من كل وَجه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن عمار بن يَاسر وعدي بن حَاتِم وسودان بن حمْرَان وَالْأَشْتَر وَغَيره من المصرحين بالاعتزاء إِلَى قتل عُثْمَان واعتقاد كَون ذَلِك صَوَابا فَسقط دَعْوَى الْإِجْمَاع وَاسْتمرّ مَا قدمْنَاهُ.

.فصل:

اعْلَم أَن الشَّاهِد يُخَالف الرَّاوِي فِي جمل من الْأَوْصَاف تشْتَرط فِي الشَّاهِد وَلَا تشْتَرط فِي الرَّاوِي. فَمن ذَلِك الْحُرِّيَّة فَإِنَّهَا غير مَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة وَالْعَبْد الموثوق بِهِ كَالْحرِّ، وَمن ذَلِك الْأُنُوثَة فَإِنَّهَا تمنع قبُول الشَّهَادَة فِي بعض الْمَوَاضِع وَلَا تمنع قبُول الرِّوَايَة فِي شَيْء من الْأَحْكَام، وَمِنْهَا الْعَدَاوَة وَأَسْبَاب التهم فِي الْخَيْر وَالدَّفْع فانها تَتَضَمَّن رد الشَّهَادَة على تَفْصِيل، وَشَيْء من ذَلِك لَا يمْنَع رد الْخَبَر، فَتقبل رِوَايَة الْعَدو على عدوه، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن الرِّوَايَة لَا تخصه بل الرَّاوِي يساهمه فِيهِ، واكتف بِالْإِجْمَاع فِي ذَلِك، ودع عَنْك التَّمَسُّك بالتلويحات.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الرَّاوِي الْمَجْهُول؟
قُلْنَا: إِن جهلت عَدَالَته فَلَا تقبل رِوَايَته وَإِن علمت عَدَالَته قبلت رِوَايَته وَلَا يضر أَن يكون مَجْهُول النّسَب فَإِن الْمعول على الْعَدَالَة مَعَ مَا ذَكرْنَاهُ مَعهَا من الْأَوْصَاف.

.فصل:

من سمع كتابا وَتحقّق عِنْده سَمَاعه وَلَكِن أشكل عَلَيْهِ عين مَا سمع مِنْهُ فَلَا تحل لَهُ رِوَايَته حَتَّى يعلم على قطع من بلغه. وَذهب بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا علم سَماع الْكتاب من ثِقَة فَلهُ رِوَايَته إِذا كَانَ حَافِظًا وضابطا وَقد أومى الشَّافِعِي رَحمَه الله إِلَيْهِ فِي الرسَالَة، وَهَذَا لَا يَصح، فَإِن الرِّوَايَة لَا تستقل إِلَّا بالمروي عَنهُ، فَإِذا لم يعرف عَنهُ لم تخل، إِمَّا أَن يطبق رِوَايَته وَلَا يسندها إِلَى مَرْوِيّ عَنهُ وَإِمَّا أَن يسندها إِلَى شخص بِعَيْنِه، فَإِذا لم يسندها إِلَى شخص فقد أرسل، وَلَا حجَّة فِي الْمَرَاسِيل على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَإِن اسنده إِلَى شخص بِعَيْنِه مَعَ الاسترابة فقد أقدم على رِوَايَة مَا يستريب فِيهِ وَهَذَا من أعظم التهم فِي التساهل فِي الرِّوَايَة، وَلَو جَازَ ذَلِك جَازَ فِي أصل الرِّوَايَة مَعَ التشكيك فِيهِ حَتَّى يروي خَبرا مَعَ تشككه فِي أَنه هَل سَمعه أم لَا. فَإِذا لم يجز ذَلِك لم يجز إِسْنَاده إِلَى شخص مَعَ التشكيك وَإِن استيقن اصل السماع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا من أصل الشَّافِعِي أَن من تحمل شَهَادَة استيقن تحملهَا، وأشكل عَلَيْهِ عين من تحمل الشَّهَادَة عَنهُ فَلَا يجوز لَهُ إِقَامَة الشَّهَادَة على من يغلب على ظَنّه أَن الْمَشْهُود عَلَيْهِ هُوَ.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِيهِ إِذا تشكك فِي حَدِيث من جملَة الْأَحَادِيث والتبس عَلَيْهِ شَيْخه.
قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِك حَتَّى يتَذَكَّر على قطع سَمَاعه وَلَيْسَ لَهُ الِاعْتِمَاد على مُجَرّد الْخط، وعَلى هَذَا الْقيَاس نجري فِي الشَّهَادَة.
فَإِن قيل: فَهَلا جوزتم للراوي ابْتِدَاء أَن يروي عَمَّن غلب على ظَنّه السماع فِيهِ، كَمَا جوزتم الْعَمَل بِخَبَرِهِ وَإِن كَانَ ذَلِك آحادا لغَلَبَة الظَّن فَإِنَّمَا لَا يستيقن صدقه.
قُلْنَا: هَذَا لِأَن يعرض لما يُؤَدِّي إِلَى خرق الْإِجْمَاع، فَإنَّا نعلم أَن من سبق فِي عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَا كَانُوا يستجيزون النَّقْل على غَلَبَة الظَّن بل إِنَّمَا كَانُوا يرَوْنَ مَا يقطعون بِهِ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرَّاوِي إِذا قَالَ: غلب على ظَنِّي سَمَاعه وَكَانُوا لَا يقطعون بذلك وَلَا يقدرونه خَبرا، يُوضحهُ اتِّفَاق الْأمة على أَن من أَرَادَ أَن يشْهد على إِقْرَار بِغَلَبَة الظَّن من غير أَن يستيقن صدوره من شخص معِين فَلَا يجد إِلَى ذَلِك طَرِيقا، وَلذَلِك مَا رووا شَهَادَة العميان على الأقارير وَإِن كَانَ مِمَّن تحقق مِنْهُم غلبات الظنون.
فَإِن قَالَ قَائِل: ألستم جوزتم للَّذي شَاهد الشَّيْء فِي يَد غَيره بُرْهَة وَهُوَ يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْملاك أَن يشْهد لَهُ بِالْملكِ.
قُلْنَا: هَذَا موقع اخْتِلَاف الْفُقَهَاء فَمنهمْ من لايجوزه فَإِن جوزناه فَنَقُول على قَضيته: لَو نقل الشَّاهِد مَا علمه من ثُبُوت الْيَد فِي زمن ممتد لَكَانَ للْقَاضِي أَن يحكم بِالْملكِ لأَجله، فَهَذِهِ جملَة كَافِيَة فِيمَا ذَكرْنَاهُ.

.باب يجمع فصولا فِي كَيْفيَّة السماع، وَلَفظ الرِّوَايَة، وَوجه الِاخْتِلَاف وتبيين الْأَصَح:

اعْلَم أَن أقوى الطّرق فِي النَّقْل أَن يسمعك شيخك الحَدِيث فَتحدث عَنهُ مَا سمعته شفاها، ثمَّ الَّذِي يَلِيهِ أَن تقرا عَلَيْهِ وَهُوَ صَامت، ثمَّ إِذا تنجزت قراءتك فيقررك عَلَيْك تَصْرِيحًا وَيَقُول: كَمَا قَرَأت، أوتقول لَهُ أَنْت: كَمَا قَرَأت؟ فَيَقُول: نعم.
ثمَّ أجَاز مُعظم الْمُحدثين أَن تطلق فَتَقول أَخْبرنِي فلَان وَإِن كَانَ ساكتا إِذا قررك، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَأولى عندنَا غير ذَلِك، فَإِن التقى من الشَّيْخ يَنْقَسِم طَرِيقه فَرُبمَا يكون بِأَن يسمعك من قِرَاءَة نَفسه، وَرُبمَا يقررك على قراءتك، فَإِذا أطلقت الْأَخْبَار والتبس النوعان، فَالَّذِي تَقْتَضِيه النزاهة فِي الرِّوَايَة وتوقي الْإِبْهَام أَن تميز فَتَقول: أَخْبرنِي قِرَاءَة عَلَيْهِ، أَو قَرَأت عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِت فقررني.
فَإِن قيل: فَإِذا لم يبدر مِنْهُ تَقْرِير لفظ فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: مَا اخْتَار مُعظم أهل الحَدِيث أَن سُكُوته مَعَ سَلامَة الْأَحْوَال نَازل منزلَة صَرِيحَة بالتقرير وعنينا بسلامة الْحَال أَن يَنْتَفِي عَنْهَا إلجاء اَوْ إِكْرَاه أَو غَفلَة مُقَارنَة للسكوت، فَإِذا انْتَفَت هَذِه الْمَوَانِع وأمثالها فالسكت يكْتَفى بِهِ، فَإِن الَّذِي ينْقل عَنهُ إِذا كَانَ ثِقَة وَعلم أَن الَّذِي يقْرَأ عَلَيْهِ لَا بُد أَن يُؤثر عَنهُ، وَهُوَ مُخْتَار مقتدر على رد مَا يقْرَأ عَلَيْهِ، فَلَو سكت غير مُقَرر كَانَ ذَلِك مُؤذنًا بِفِسْقِهِ فالطريق الَّذِي يَقْتَضِي حمل لَفظه على الصدْق - وَهُوَ الثِّقَة وَالْعَدَالَة - فَذَلِك بِعَيْنِه يَقْتَضِي تنزل سكته منزلَة تَقْرِيره.
وَقد ذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَنه لَا بُد من التَّصْرِيح بالتقرير، وَفِيمَا ذَكرْنَاهُ أوضح الرَّد عَلَيْهِم.

.فصل:

اعْلَم أَن الشَّيْخ إِذا أجَاز أَن يرْوى عَنهُ حَدِيثا بِعَيْنِه أَو كتابا بِعَيْنِه وَقَالَ أجزت لَك أَن تحدث عني بِمَا فِي هَذَا الْكتاب، فَتجوز الرِّوَايَة على هَذَا الْوَجْه، وَرُبمَا تعتضد الْإِجَازَة بالمناولة، وَهُوَ أَن يُجِيز الشَّيْخ رِوَايَة كتاب ويناول الْكتاب من أجَاز لَهُ رِوَايَته، وَلَيْسَت المناولة من الشَّرَائِط بل هُوَ مُؤَكد، ثمَّ لَا يَنْبَغِي للناقل أَن يُطلق فَيَقُول: حَدثنِي فلَان، فَإِن فِيهِ إيهاما وتدليسا وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يفصح بِالْإِجَازَةِ، ويتوقى اللّبْس. وَقد أَجمعُوا على جَوَاز النَّقْل على هَذَا الْوَجْه، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع أَنه إِذا صرح بِالْإِجَازَةِ فقد نقل مَا سمع من غير استرابة، وَمن نقل مَا لَا يستريب فِيهِ وَلَا منع من الإنباء عَنهُ فَلَا شكّ فِي جَوَاز إخْبَاره.
فَإِن قَالَ قَائِل: قد ثبتمْ جَوَاز النَّقْل على وَجه الْإِجَازَة، فَهَل تَقولُونَ إِنَّه يجب الْعَمَل بِهِ كَمَا يجب الْعَمَل بِالَّذِي سَمعه الرَّاوِي؟
قُلْنَا: هَذَا موقع الأختلاف فَذهب أهل الظَّاهِر وَمن تَابعهمْ من الْمُتَأَخِّرين إِلَى أَنه لَا يجب الْعَمَل بِهِ، وَيجْرِي مجْرى الْمُرْسل من الْأَخْبَار وَالَّذِي صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْعلمَاء أَنه يجب الْعَمَل بِهِ، وَهُوَ الَّذِي نختاره وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نقُول: لَا خلاف أَنا لَا نشترط سَماع الحَدِيث من لفظ الشَّيْخ، فَإِنَّهُ لَو أقرّ عَلَيْهِ وَقع الاجتزاء بِهِ، فَدلَّ أَنا إِنَّمَا نشترط أَن يصدر من الشَّيْخ عَلامَة دَالَّة على أَن الَّذِي ينْقل مِمَّا يَصح عِنْده، وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق بِالسُّكُوتِ، ويتحقق بِأَن يَقُول: انقل عني هَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ صَحِيح عِنْدِي.
فَإِن قيل: فَنحْن لَا نكتفي بِالسُّكُوتِ، بل نشترط أَن يُقرر الشَّيْخ للقارئ كَمَا قَرَأت.
قُلْنَا: قد سبق الرَّد منا عَلَيْكُم فِي ذَلِك، على أَن تَقْرِيره إِيَّاه لَيْسَ هُوَ نطق مِنْهُ بِنَفس الْخَبَر وَإِنَّمَا هُوَ لفظ دَال على أَن مَا قرئَ عَلَيْهِ صَحِيح عِنْده، وَهَذَا يتَحَقَّق فِي الْإِجَازَة لَا محَالة .
فَإِن قيل: الْإِجَازَة تنزل منزلَة الْمُرْسل من الْأَخْبَار.
قُلْنَا: هَذَا تحكم مِنْكُم، فَلم قُلْتُمْ ذَلِك، وَلَو جَازَ تَنْزِيله هَذِه الْمنزلَة جَازَ تَنْزِيل الْقِرَاءَة مَعَ سكُوت الشَّيْخ منزلَة الْمُرْسل، سنشبع القَوْل فِي الْمَرَاسِيل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل:

إِذا نقل الْمعدل عَن الْعدْل حَدِيثا، ثمَّ أَن الْمَرْوِيّ عَنهُ أنكر الْخَبَر، فَهَل تصح رِوَايَة النَّاقِل عَنهُ؟
قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِنْكَاره إِمَّا أَن يكون إِنْكَار مستريب وَإِمَّا أَن يكون إِنْكَار مصمم، فَإِن كَانَ إِنْكَار مستريب مثل أَن يَقُول الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ: لست أذكر مَا رويته، وَأَنا مشكك فِيهِ، فَهَذَا لَا يُوجب رد الرِّوَايَة عِنْد مُعظم أهل الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي نختاره فَأَما إِذا صمم على تَكْذِيب النَّاقِل فَقَالَ: مَا سَمِعت مني أصلا، فَلَا يعْمل بِهَذَا الحَدِيث، ويتوقف فِيهِ، فَإِنَّهُ تعَارض فِيهِ قطع الْمَنْقُول عَنهُ بِالنَّفْيِ وَقطع النَّاقِل بِالنَّقْلِ، وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى من الثَّانِي.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا جعلتم النَّاقِل أولى فَإِنَّهُ تثبيت زِيَادَة؟
قُلْنَا: فَإِن كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَفِي مُقَابلَته أصل آخر، وَهُوَ أَن القَوْل قَول الْمَنْقُول عَنهُ، فَإِنَّهُ الأَصْل وَمِنْه النَّقْل، فَلَمَّا تعَارض الأصلان أعرضنا عَن الحَدِيث.
فَإِن قيل: فَهَلا يكون تَكْذِيب الشَّيْخ للناقل جرحا مِنْهُ لَهُ؟
قُلْنَا: لَا فَإِنَّهُ لَو جَازَ ذَلِك جَازَ أَن يُقَال: تَكْذِيب النَّاقِل شَيْخه فِي إِنْكَاره يكون جرحا لَهُ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل اليه، فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا لم يُصَرح بِالْجرْحِ، بل يجوز أَن يقدر فِي قَول كل وَاحِد مَا لَا يَقْتَضِي الْجرْح، وَهُوَ ان يَقُول الشَّيْخ: أقطع بِأَنَّهُ لم يسمعهُ مني، وَلكنه لَعَلَّه غلط فَظن أَنه سمع، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الطّرف الآخر، فَهَذَا مَا نختاره، وَهُوَ مَذْهَب الْعلمَاء، وَزعم الْكَرْخِي وَمن تَابعه من متأخري أصحاب أبي حنيفَة رَحمَه الله أَنه لَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا تشكك فِيهِ الشَّيْخ وَلذَلِك لم يجوزوا الِاحْتِجَاج بِخَبَر الزُّهْرِيّ مُسْندًا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «أَيّمَا امْرَأَة نكحت بِغَيْر إِذن وَليهَا فنكاحها بَاطِل» لن ذَلِك ذكر لِلزهْرِيِّ رَحمَه الله وَلم يذكرهُ وَكَذَلِكَ ردوا خبر سُهَيْل بن ابي صَالح فِي الشَّاهِد وَالْيَمِين لِأَنَّهُ عرض عَلَيْهِ فَلم يذكرهُ وَرُبمَا كَانَ يَقُول: حَدثنِي بن ربيعَة عني.
وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ أَن نقُول: من نقل الحَدِيث وَهُوَ موثوق بِهِ وَلم يُصَرح شَيْخه بإنكاره فَلَيْسَ من شَرط اسْتِدَامَة الرِّوَايَة وَالنَّقْل دوَام الْعلم. فَإِن الْمَنْقُول عَنهُ لَو جن أَو مَاتَ أَو صَار مغفلا فَلَا تَنْقَطِع الرِّوَايَة عَنهُ إِذا تحملهَا الرَّاوِي بسلامة الْحَال، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتِّفَاق الكافة على أَن الْمَنْقُول عَنهُ لَو شكّ بعد زمَان فِي لفظ من الحَدِيث أَو إِعْرَاب فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك رد الرِّوَايَة، وَكَذَلِكَ إِذا نسي أصل الْخَبَر.
فَإِن قَالُوا: تردده فِي الحَدِيث يوهنه ويضعفه، فَإِنَّهُ يبعد أَن يروي حَدِيثا ويدوم لَهُ السَّلامَة عَن الْآفَات والعاهات ثمَّ ينساه فِي مجاري الْعَادَات.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ بَاطِل، فَإِن الْإِنْسَان قد ينسى فِي اطراد الْعَادة أَكثر من ذَلِك، وَمن ادّعى على الْعَادة أَن الشَّيْخ الَّذِي نقل مائَة ألف حَدِيث لَا يجوز فِي الْعَادة أَن ينسى مِنْهَا وَاحِدًا فقد قرب من خرق الْعَادَات، وادعاء المحالات، كَيفَ وَقد ينسى الْإِنْسَان قصَّة من الْقَصَص يعْذر اقتصاؤهاايام فِي فَكيف الظَّن بِحَدِيث لفظ بِهِ فِي سَاعَة.
فَإِن قَالُوا: إِذا نسي الرَّاوِي الحَدِيث فَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ، فَكيف يجب على الْغَيْر الْعَمَل بِالْحَدِيثِ الْمَنْقُول عَنهُ وَلَا يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِهِ وَهُوَ الأَصْل.
قُلْنَا: هَذَا تلبيس مِنْكُم فانا نوجب عَلَيْهِ الْعَمَل كَمَا نوجب على غَيره مهما حدث عَنهُ عدل ثِقَة، وَهَكَذَا كَانَ يَأْخُذ سُهَيْل بن أبي صَالح بِمَا يرويهِ ربيعَة عَنهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.القَوْل فِي حكم الْعدْل إِذا انْفَرد بِنَقْل زِيَادَة لم يساعده عَلَيْهَا غَيره:

مَا صَار إِلَيْهِ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء وَأهل الحَدِيث أَن الزِّيَادَة من الثِّقَة مَقْبُولَة، وَإِن انْفَرد بهَا من بَين نقلة شَيْخه وَرُوَاته.
وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَنَّهَا لَا تقبل وَإِلَيْهِ مَال مُعظم أصحاب أبي حنيفَة رَحمَه الله.
وَالَّذين قَالُوا بِقبُول الزِّيَادَة افْتَرَقُوا فرقا:
فَمنهمْ من قَالَ: إِنَّمَا تقبل الزِّيَادَة إِذا رجعت إِلَى لَفْظَة أَو حَالَة لَا تَقْتَضِي حكما زَائِدا. وَمِنْهُم من عكس ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا نقبلها إِذا اقْتَضَت فَائِدَة جَدِيدَة، فَأَما إِذا كَانَت شاغرة عَن اقْتِضَاء فَائِدَة فَلَا نقبل.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن من روى خَبرا مرّة ثمَّ نَقله أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَلَا تقبل زِيَادَته إِذا سمع ذَلِك الحَدِيث مِنْهُ دون الزِّيَادَة مرّة، فَأَما إِذا استبدل الْعدْل بِنَقْل الزِّيَادَة وَإِن لم ينقلها غَيره فَيقبل مِنْهُ.
وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا قبُول الزِّيَادَة من الثِّقَة فِي كل هَذِه الْأَحْوَال من غير فصل.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ اتفاقالكافة على أَن وَاحِدًا من أصحاب الشَّيْخ الْمَنْقُول عَنهُ لَو انْفَرد بِرِوَايَة خبر تَامّ لم يساعده عَلَيْهِ سَائِر النقلَة فَيقبل مِنْهُ فَإِذا قبل مِنْهُ خبر انْفَرد بِهِ لكَونه ثِقَة مَأْمُونا فَكَذَلِك الزِّيَادَة، فَإِن المراعي فِي اصل الْخَبَر وزيادته ثِقَة الرَّاوِي، وَهُوَ فِي الأَصْل كَهُوَ فِي الزِّيَادَة.
فَإِن قيل: الْفرق بَين الخ خبر وَالزِّيَادَة أَنه غير مُمْتَنع أَن يسمع الْوَاحِد الحَدِيث وَحده من شَيْخه أَو من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيمْتَنع أَن يحضر جمَاعَة وَيذكر لَهُم شيخهم خَبرا فيشذ عَن جَمِيعهم زِيَادَة ويستقل بهَا وَاحِد.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه، أَحدهَا: أَنه لَا يبعد أَن يُعِيد الشَّيْخ أوالنبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث الْوَاحِد مرَارًا أَو يزِيد فِيهِ مرّة زِيَادَة، وَيكون ذَلِك بمشهد الَّذِي انْفَرد بنقلها دون غَيره، وَكَذَلِكَ فَلَا يبعد أَن يحضر طَائِفَة مَجْلِسا فيخص وَاحِدًا مِنْهُم بِنَقْل زِيَادَة والاتفاق عثوره عَلَيْهَا واشتغال البَاقِينَ عَنْهَا، وَيكثر تصور ذَلِك فِي الْعَادَات.
وَالَّذِي يُوضح مَا قُلْنَاهُ أَن نقُول: الثِّقَة يقطع بِسَمَاع الزِّيَادَة الَّتِي نقلهَا، وَغَيره من الثِّقَات لَا يكذبونه فِي ذَلِك.
بل يَقُولُونَ: لم يبلغنَا. فَإِذا لم يكذبوه وَهُوَ قَاطع بنقله فَلَا شكّ أَن الْأَخْذ بِمَا قطع بِهِ الثِّقَة أولى من الْأَخْذ بِمَا يشكك فِيهِ آخَرُونَ، فَإِذا أحكمت ذَلِك هان عَلَيْك إبْطَال التفصيلات الَّتِي ذَكرنَاهَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا روى الرَّاوِي حَدِيثا فجوده، ثمَّ رَوَاهُ مرّة أُخْرَى وَزَاد فِيهِ فَهَذَا يُوجب اتهامه فِي مجاري االعادات.
قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى مُجَرّدَة ويسبب إِلَى المطاعن فِي الثِّقَات من غير تَحْقِيق، وَذَلِكَ أَن الْعدْل قد يروي الحَدِيث وَهُوَ جَاهِل عَن الزِّيَادَة، ثمَّ يتذكرها ويرويها، كَذَلِك لَيْسَ عَلَيْهِ أَن ينْقل جملَة الْقِصَّة فَرُبمَا نقل بَعْضهَا لِأَن الْحَاجة مست إِلَيْهِ فَلَمَّا تحققت الْحَاجة إِلَى الْبَقِيَّة نقلهَا.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن من ثبتَتْ عَدَالَته وامتحنت أَمَانَته فَمَا يبدر مِنْهُ مَا يقْدَح فِي الْعَدَالَة تَحْقِيقا لَا يحكم بالقدح بِسَبَبِهِ وَمَا أمكن حمله على مَا لَا يُنَافِي الْعَدَالَة، وَظهر وَجه قبُوله.
وَهَذَا الأَصْل هُوَ الْعُمْدَة فِي نفي المطاعن عَن الصَّحَابَة، فَإِنَّهُ قد تقررت لنا عدالتهم، وكل مَا يوردونه من المطاعن فيهم، أَو فِي بَعضهم لَيْسَ يتحد وَجهه فِي اقْتِضَاء الطعْن فَكَانَ اسْتِصْحَاب الأَصْل أولى من رفضه بِمَا تقَابل فِيهِ الْجَوَاز.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز للراوي أَن يروي بعض الحَدِيث، وَيتْرك بعضه فَلَا يرويهِ، ثمَّ يرويهِ بعد حِين؟
قُلْنَا: تَفْصِيل القَوْل فِيهِ عندنَا أَن مَا تَركه إِن كَانَ من تَمام مَا نَقله بِأَن يكون مُشْتَمِلًا على مَا هُوَ شَرط فِي مَضْمُون مَا وَرَاءه، فَلَا يجوز لَهُ ترك رِوَايَته اصلا، فَإِن الَّذِي رَوَاهُ لَا يسْتَقلّ دونه، وتمس الْحَاجة إِلَيْهِ، فينسب إِلَى الْإِخْلَال، أَو نقص الْمَنْقُول فِي هَذَا الْحَال.
فَأَما إِذا لم يكن مَا تَركه شَرط مَا قدمه، وَلم يكن مِنْهُ تسبب، بل اسْتَقل كل وَاحِد من الْكَلَامَيْنِ بِنَفسِهِ، فَلهُ رِوَايَة الْبَعْض والإضراب عَن الْبَعْض.
وَهَذَا كَمَا يشْتَمل الْخَبَر الْوَاحِد على بَيَان الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَلَا تعلق لأَحَدهمَا بِالْآخرِ. وَذهب بعض أهل الحَدِيث إِلَى أَن التَّبْعِيض لَا يجوز فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا.
وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَازه فِي الْحَالَتَيْنِ.
فَأَما وَجه الرَّد على من لم يجزه فِي الْحَالَتَيْنِ فَهُوَ أَن نقُول: إِذا اسْتَقل كل كَلَام بِنَفسِهِ وَلم يتَعَلَّق تَمام أَحدهمَا بِالثَّانِي، فينزلان منزله خبرين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن تفرق الْمجَالِس لَا يُغير حكم النَّقْل، فَلَا فرق بَين أَن يسمع الرَّاوِي أحكاما فِي مجْلِس وَاحِد سردا أَو بَين أَن يسْمعهَا نكرات ودفعات، وَهَذَا وَاضح.
وَأما وَجه الرَّد على من جوز فِي الْحَالَتَيْنِ التَّبْعِيض وَهُوَ أَن نقُول إِذا كَانَ الْمَنْقُول يفْتَقر فِي تَمَامه إِلَى بَيَان مَا سكت عَنهُ وَلم يَنْقُلهُ فَهَذَا إخلال بَين، وَأَقل مَا فِيهِ أَن يتسلط المجتهدون على اسْتِدْرَاك بَقِيَّة الْأَحْكَام بالمقاييس، فَرُبمَا يُخَالف مجاريها مَا لم يَنْقُلهُ ويقتصرون على رُوَاة من غير شَرط صِحَّته فَيَقَع ذَلِك مِنْهُم بَاطِلا.