فصل: فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: قدمتم من أصلكم أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد ثمَّ لَا يخفى عَلَيْكُم أَن الْمُحرمَات منقسمة فِي موارد الشَّرِيعَة فَمِنْهَا مَا حكم بفساده، وَمِنْهَا مَا لم يحكم بفساده كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَنَحْوهَا وَقد وضح من أصلكم أَن نفس النَّهْي لَا يدل على فَسَاد، وَلَا على إِجْزَاء فَهَل ينْفَصل الْفَاسِد من الْمُحرمَات من غير الْفَاسِد بِحَدّ فاصل عنْدكُمْ؟
قُلْنَا: أما بَعْدَمَا اعترفتم بِأَن مَا تسْأَلُون عَنهُ لَيْسَ هُوَ من قَضِيَّة النَّهْي وَأما سوالكم آئل إِلَى حد فاصل مضبوط ثَبت بالأدلة السمعية دون ظواهر النَّهْي، فعندنا حد يفصل بَين الْبَابَيْنِ وَهُوَ أَن نقُول: كل مَا ثَبت مَشْرُوطًا من عبَادَة مفترضة أَو مَنْدُوبًا إِلَيْهَا، أَو عقد وَثَبت بِالشَّرْعِ فِيهِ مقترنا بالشرائط وَتبين كَونهَا مَشْرُوطَة فِي ثُبُوت الْأَحْكَام فَإِذا تقدر الشَّيْء على خلاف مورد الشَّرِيعَة وَاخْتلف شريطة من الشَّرَائِط المقترنة بِالشَّرْعِ فَمَا هَذَا سَبيله فَهُوَ فَاسد.
فَأَما مَا تعلق بِهِ حكم من أَحْكَام الشَّرْع وَلم يقْتَرن بِهِ شَرط ثمَّ اتّفق وُقُوعه فِي صُورَة مَنْهِيّا عَنهُ محرما وَلَكِن لم يثبت اختلال شَرط فَمَا هَذَا سَبيله لَا نحكم بفساده.
ويتبين ذَلِك بالأمثلة أَنه ثَبت اشْتِرَاط الطَّهَارَة عَن الْحَدث والخبث فِي الصَّلَاة شرعا، واقترن الْأَمر بذلك نصا، فَإِذا وَقعت الصَّلَاة فِي صورتهَا مَعَ اختلال شَرط من هَذِه الشَّرَائِط عِنْد تَقْدِير ارْتِفَاع الْأَعْذَار وَكَانَ محرما فَهُوَ فَاسد، وعَلى الْقيَاس يجْرِي فِي الْعُقُود وشروطها وَلَا وَجه فِي حصرها، فَأَما إِيقَاع الصَّلَاة فِي تِلْكَ فَلم ينْطَلق بِهِ أصل من أصُول الشَّرِيعَة، فَقُلْنَا وَإِن وَقعت مُحرمَة فَتَقَع موقع الْإِجْزَاء.
فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه تصرف مِنْكُم فِي مُقْتَضى الْأَلْفَاظ أم لَا؟.
قُلْنَا: قد قدمنَا فِي صدر الْفَصْل أَن مُجَرّد الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة تنبئ عَن شَيْء مِمَّا قلتموه، وَلَكِن سبرنا الْمُحرمَات فِي الشَّرِيعَة فَوَجَدنَا الْحَد الَّذِي ذَكرْنَاهُ حاصرا لَهَا.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِيمَن نقل عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي تَحْدِيد الْفَاسِد «وَهُوَ كل فعل محرم يقْصد بِهِ التَّوَصُّل إِلَى اسْتِبَاحَة مَا جعل الشَّرْع أَصله على التَّحْرِيم»؟.
قُلْنَا: لَعَلَّ ذَلِك لَا يَسْتَقِيم على الأَصْل الَّذِي اخترناه وَأول مَا يدْخل عَلَيْهِ العقد فِي وَقت تضييق الصَّلَاة فَإِن المتلفظ بِالْعقدِ تَارِك لتكبيرة التَّحْرِيم، وَنَفس لَفظه بِالْعقدِ ترك التَّكْبِير، وَترك التَّكْبِير محرم، فَهَذَا محرم يتَوَصَّل بِهِ إِلَى اسْتِبَاحَة الْأَمْلَاك، والأبضاع، وأصولها فِي الشَّرِيعَة، على الْحَظْر وَالْأولَى عندنَا مَا قدمْنَاهُ.

.باب الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَمَا يتَّصل بهما من الْوِفَاق وَالْخلاف بَين الْأُصُولِيِّينَ:

اعْلَم، وفّقك الله، أَن ذَلِك يحْتَاج إِلَى مُقَدّمَة قبل الْخَوْض فِي مسَائِل الْعُمُوم وَالْخُصُوص بشرح عِبَارَات متأولة بَين أَرْبَاب الاصول فِي أَبْوَاب أصُول الْعُمُوم وَالْخُصُوص يَسْتَعِين بشرحها المسترشد على ذَلِك المطالب.
فَإِن قيل: فَمَا الْعَام وَحَقِيقَته؟
قيل: الْعَام هُوَ القَوْل الْمُشْتَمل على شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا، وَإِنَّمَا سمي عَاما لتَعَلُّقه بشيئين عُمُوما فَصَاعِدا وَهَذَا اوضح من أَن يحْتَاج إِلَى تَقْرِير فِي أقَضِيَّة اللُّغَة، وَمن هَذَا قيل عمّم فلَان الْجَمَاعَة بِالْبرِّ وَالْعدْل وعمم الْوَالِي الأقاليم بالظلم والجور إِلَى غير ذَلِك. فَإِن قيل: فَمَا الْخَاص؟
قيل: هُوَ القَوْل الْمُخْتَص بِبَعْض المسميات الَّتِي قد شملها مَعَ غَيرهَا اسْم.
فَإِن قيل: فَأول طلبة تتَوَجَّه عَلَيْكُم فِي تقييدكم قَوْلكُم بالْقَوْل فَلم قيدتم حد الْبَابَيْنِ بالْقَوْل؟
قُلْنَا: لِأَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص على المعرض الَّذِي يتفاوض فِيهِ الأصوليون لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي الْأَقْوَال، فَأَما الْأفعال فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا عُمُوم بِحَال، وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من برَّ جمَاعَة بطَائفَة من مَاله فَمَا من أحد مِنْهُم إِلَّا وَقد تخصص بِمَا ناله وَمَا ناله لَا يتعداه وَمَا نَالَ غَيره لَا يتَعَدَّى إِلَيْهِ أَيْضا، فَكل وَاحِد من الَّذين تعلّقت الْأفعال بهم متخصص بِمَا ناله مِنْهَا وَمَا ناله لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره، وَإِذا بدرت أفعال متماثلة من أشخاص فَنَفْس فعل كل وَاحِد مِنْهُم لَا يتَعَدَّى إِلَى الآخر بل كل يخْتَص بِفِعْلِهِ وَإِن تماثلت الْأفعال وَلَكِن تَسْمِيَة الْفِعْل هِيَ قَول ينطوي على الْأفعال ويتحقق فِيهَا الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَأَما أَنْفسهَا فَلَا يتَحَقَّق فِيهَا عُمُوما.
فَإِن قيل: ألستم قُلْتُمْ إِن وصف الْوُجُود يعم المختلفات وَإِن كَانَ الْوُجُود لَا يرجع إِلَى قَول. قُلْنَا: قَوْلنَا فِي الْوُجُود نَحْو قَوْلنَا فِيمَا فَرغْنَا مِنْهُ فَلَا يتَحَقَّق فِي نفس الْوُجُود عُمُوما بِحَال فَإِن وجود كل مَوْجُود ذَاته وَنَفسه، وَنَفسه لَا تتعدى إِلَى أنفس غَيره، وَلَكِن تَسْمِيَة الْوُجُود تعم الموجودات فِي مَعَاني اللُّغَات، ثمَّ كَمَا لَا يتَحَقَّق الْعُمُوم فِي الْأفعال والذوات فَكَذَلِك لَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام.
فَإِذا قَالَ الْقَائِل: حكم الله تَعَالَى فِي قطع السَّارِق عَاما فِي كل سَارِق.
قيل لَهُ: إِن لم ترد بالحكم كَلَام الله تَعَالَى فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ عُمُوم، فَإِن كل سَارِق يخْتَص بِمَا خصص بِهِ من الحكم وَمَا أثبت لَهُ مِنْهُ لم يثبت لغيره بل أثبت لغيره مثله.
وَاعْلَم أَن هَذَا إِنَّمَا يشْتَمل على مَذْهَب من لم يصرف الْأَحْكَام إِلَى كَلَام الرب، وَقد قدمنَا فِي بَاب مُفْرد انصراف الْأَحْكَام إِلَى الْكَلَام وَهَذَا مِمَّا يتَصَوَّر فِيهِ الْعُمُوم وَالْخُصُوص.
وَالْقَاضِي أطلق القَوْل بِأَن الْعُمُوم لَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام، وَهَذَا مَدْخُول عِنْدِي للْأَصْل الَّذِي ذكرته من انصراف الْأَحْكَام إِلَى القَوْل الَّذِي يعم ويخص. وَلَعَلَّه رَضِي الله عَنهُ قَالَ بِمَا قَالَ على مَذْهَب الصائرين إِلَى أَن الْأَحْكَام رَاجعه إِلَى أَوْصَاف الْأَنْفس، فأبدى مَا ابدى على قَضِيَّة مَذْهَب الْقَوْم، وَالله أعلم.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ الْقَائِل يَقُول عَم الْأَمِير الرّعية بِالْعَدْلِ وَعم الْمَطَر الإقليم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا نطلق فِي الْأفعال.
قيل: إِنَّمَا يعنون بذلك أَن اسْم الْعدْل عَم كلهم فَمن ضَرُورَة ذَلِك تحقق الْمُسَمّى فِي حُقُوقهم وَإِن كَانَ لَا يَتَقَرَّر فِيهِ عُمُوم ثمَّ لَا يَأْمَن أَن يكون ذَلِك من التوسعات والتجوزات فعلى الْخصم أَن يثبت أَن ذَلِك حَقِيقَة ليستمر مَقْصُوده.
فَإِن قيل: فلفظه التَّثْنِيَة يجب أَن تكون عُمُوما لاشتمالها على الِاثْنَيْنِ.
قُلْنَا: هَذَا لَا ننكره، فَإِن قيل وَيجب أَن يكون خَاصّا أَيْضا فَإِنَّكُم قُلْتُمْ فِي حَقِيقَة الْخُصُوص إِنَّه القَوْل الْمُخْتَص بِبَعْض المسميات الَّتِي قد شملها مَعَ غَيرهَا اسْم وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الِاثْنَيْنِ من الْجِنْس فَإِن اللَّفْظ مُخْتَصّ بهما دون مَا عداهما فَيلْزم من ذَلِك أَن تكون اللَّفْظَة عَاما خَاصّا.
قُلْنَا: لَا ننكر أَن نقُول: يكون اللَّفْظ عَام من وَجه وخاص من وَجه وَلَكِن لَا يتَصَوَّر أَن يكون عَاما من وَجه خَاصّا من ذَلِك الْوَجْه بِعَيْنِه، فَلَا يجْتَمع فِي ذَلِك الْوَجْه الْوَاحِد اقْتِضَاء خُصُوص وَعُمُوم، فاللفظ إِذا كَانَ عَاما فِي تنَاوله أَكثر من وَاحِد خَاصّا فِي اخْتِصَاصه بالاثنين فَمَا تحقق فِيهِ الْعُمُوم لم يتَحَقَّق فِيهِ الْخُصُوص وَمَا تقرر فِيهِ الْخُصُوص لم يَتَقَرَّر فِيهِ الْعُمُوم .
فَإِن قيل: فقد اشْتهر القَوْل بَين الْفُقَهَاء فِي أَن الْعُمُوم قد يرد وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص وَالْخُصُوص قد يرد وَالْمرَاد بِهِ الْعُمُوم فَمَا قَوْلكُم فِيهِ.
قُلْنَا: مَا كَانَ عَاما يَسْتَحِيل أَن يكون خَاصّا من الْوَجْه الَّذِي هُوَ عَام فِيهِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَاصّا لَا يعم فِي وَجه خصوصه على مَذْهَب من الْمذَاهب فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص. فَإِن الَّذين صَارُوا إِلَى حمل الجموع على أقل الْجمع زَعَمُوا أَنه حَقِيقَة فِيهِ وَلَو حمل على تعديه كَانَ مجَازًا وتوسعا وَقد سلك هَؤُلَاءِ طريقتين إِحْدَاهمَا أَن اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي استغراق الْجِنْس إِذا وَردت وَالْمرَاد بهَا بعض المسميات فَهِيَ مجَاز فِي التَّخْصِيص، حَقِيقَة فِي الْعُمُوم والطريقة الْأُخْرَى أَن صِيغَة الْعُمُوم ان كَانَت مُطلقَة مُجَرّدَة عَمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيص فَتحمل على الِاسْتِيعَاب وَلَا تحمل على غَيره لَا مجَازًا وَلَا حَقِيقَة، وَإِن وَردت مُقَيّدَة بِمَا يَقْتَضِي التَّخْصِيص فَهِيَ مَعَ تقييدها مَوْضُوعَة للتخصيص لَا تسْتَعْمل فِي الْعُمُوم فَيخرج من ذَلِك أَن الْمُسْتَعْمل فِي الْعُمُوم لَا يسْتَعْمل فِي الْخُصُوص وَكَذَلِكَ ضِدّه.
وَأما الَّذين قَالُوا بِالْوَقْفِ فمحصول أصلهم يؤول إِلَى أَن الصِّيغَة الَّتِي نَحن فِي مَعْنَاهَا بعد ذَلِك تصلح للاستيعاب وَتَصِح لبَعض المسميات من غير استغراق وَلَيْسَ فِي قَضِيَّة اللُّغَة لَفظه مُخْتَصَّة للْعُمُوم فَإِذا سلكوا هَذِه الطَّرِيقَة قَالُوا إِنَّمَا يحمل على الْعُمُوم عِنْد الْقَرَائِن وَلَا يحمل مَعهَا على الْخُصُوص، وَيحمل على الْخُصُوص عِنْد قَرَائِن الْخُصُوص وَلَا يحمل مَعهَا على الْعُمُوم فَبَطل على كل الْفرق أَن يكون اللَّفْظ عَاما من الْوَجْه الَّذِي هُوَ خَاص مِنْهُ وَكَذَلِكَ على الضِّدّ من ذَلِك.
وتبيين ذَلِك أَنه لَو سَاغَ اطلاق ذَلِك فَإِنَّمَا يُطلق فِي وَجْهَيْن كالاسم يعم فِي مسميات وَيخْتَص بهَا فَهُوَ فِي تعديه إِلَى مضمونه عَام فِيهِ وَفِي اخْتِصَاصه خَاص فَيرجع الْخُصُوص الى عدم التَّعَرُّض لغير الْمُسَمّى والعموم يرجع إِلَى الشُّمُول فِي الْمُسَمّى فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق.
ثمَّ ترد متعادلة بَين الْفُقَهَاء على أغراض لَهُم فَيَقُولُونَ: فلَان يحصر الْعُمُوم ويعنون بذلك أَنه يعْتَقد حمل الجموع على الْأَقَل وَيَقُولُونَ حصر فلَان عُمُوما، ويعنون بذلك إخْبَاره عَن تَخْصِيصه بِذكرِهِ الدَّلِيل عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَعْنِي بِهِ إنْشَاء التَّخْصِيص إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطلقونه فِي تجاوزهم وَإِذا راموا التَّحْقِيق اعتبروا مَا قدمْنَاهُ من الْأُصُول.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَالَّذِينَ قَالُوا بِالْعُمُومِ وحملوا صِيغَة بِعَينهَا عَلَيْهِ وَتلك الصِّيغَة مَعَ الْقَرَائِن فَهِيَ لَو قدرت مُجَرّدَة معراة، فَمَا بالها ترد على بعض المسميات مَعَ الْقَرَائِن وتعم عِنْد الْإِطْلَاق وفرضوا الْكَلَام فِي قَرَائِن الْأَحْوَال حَتَّى لَا نقُول فِي الْجَواب أَن اللَّفْظَة إِذا كَانَت مُقَيّدَة بقيود الْمقَال فهن فِي اللُّغَة مَعَ قيودها مَوْضُوعَة لإتارة معنى وَهِي عِنْد إِطْلَاقهَا مَوْضُوعَة لإِفَادَة التَّعْمِيم وفرضوا الْكَلَام فِي قَرَائِن الْأَحْوَال فَإِنَّهَا لَا تتَعَلَّق بقضية اللُّغَات ووجهوا مثل هَذَا السُّؤَال على الواقفية وَقَالُوا إِذا كَانَت الصِّيغَة الْوَاحِدَة صَالِحَة عنْدكُمْ للْعُمُوم وَالْخُصُوص جَمِيعًا صَلَاح الْقُرْء للْحيض وَالطُّهْر وَغَيره من الْأَسَامِي الْمُشْتَركَة فبماذا يتخصص قَرَائِن الْأَحْوَال بِأحد المحتملين.
قُلْنَا: لَا وَجه لما قلتموه إِلَّا أَن نقُول يتخصص بِمَعْنى فِي اقْتِضَاء عُمُوم أَو خُصُوص بِقصد الْمُتَكَلّم وإرادته اسْتِعْمَاله على الْوَجْه الَّذِي يرتاده ثمَّ تدل قَرَائِن أَحْوَاله على مُرَاده.
وَذهب من لَا خبْرَة لَهُ بالحقائق من أصحاب الْعُمُوم إِلَى أَن الصِّيغَة مَعَ قَرَائِن الْأَحْوَال تخَالف الصِّيغَة الْمُطلقَة وَهَذَا قَول من لم يعرف حَقِيقَة المثلين والخلافين فَإِن كل من أحَاط بِطرف من ذَلِك علما يتَبَيَّن لَهُ تَسَاوِي الصيغتين فِي الْحَالَتَيْنِ وتماثلهما فِي جملَة الصِّفَات الَّتِي يَقع التَّمَاثُل فِيهَا.

.فصل:

اعْلَم، وفقك الله، أَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص يرجعان إِلَى الْكَلَام ثمَّ الْكَلَام الْحَقِيقِيّ هُوَ الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ، وَهُوَ يعم ويخص والصيغ والعبارات دلالات عَلَيْهَا، وَلَا تسمى بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوص إِلَّا تجوزا. كَمَا أَن الْأَمر وَالنَّهْي يرجعان إِلَى الْمَعْنى الْقَائِم بِالنَّفسِ دون الصِّيَغ.
وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء إِلَى أَن الْعُمُوم وَالْخُصُوص وصفان راجعان إِلَى الْعبارَات والصيغ كَمَا حكينا ذَلِك عَنْهُم فِي الْأَمر.

.فصل:

مُشْتَمل على جمل الْأَلْفَاظ الَّتِي تعم على مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ، مَعَ اخْتلَافهمْ فِي بَعْضهَا فَمن جملَة أَلْفَاظ الْعُمُوم عِنْدهم الجموع الْمُنكرَة والمعرفة، فالمنكرة نَحْو قَوْلك: رجال وأناس وأنبياء ومشركون، والمعرفة نَحْو قَوْلك: الرِّجَال وَالنَّاس ثمَّ قَالُوا مَا دخله الْألف وَاللَّام وَلم تثبت دلَالَة على أَن المُرَاد تَعْرِيف أَقوام مخصوصين معهودين فَتحمل اللَّفْظَة على الِاسْتِغْرَاق عِنْد انْتِفَاء دلَالَة الْخُصُوص والعهود.
أما الجموع الْمُنكرَة فقد صَار الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهَا لَا تحمل على الِاسْتِغْرَاق إِذا لم يتَّصل بهَا نفي، وَذهب الجبائي وَغَيره إِلَى أَن الجموع الْمُنكرَة كالمعرفة فِي استغراق الْجِنْس فَإِنَّهُ يَصح أَن يسْتَثْنى مِنْهَا كَمَا يَصح أَن يسْتَثْنى من الْمعرفَة.
وَمن أَلْفَاظ الْعُمُوم من و مَا إِذا وردتا للْخَبَر وَالْجَزَاء والاستعلام. وَكَذَا مَتى وَأَيْنَ فِي ظرف الْمَكَان وَالزَّمَان، فَإِذا قَالَ قَائِل:
من دخل الدَّار أكرمته. اقْتضى من تعميما، وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ قَائِل: مَا دخل ملكي تَصَدَّقت بِهِ اقْتضى ذَلِك تعميما، وَكَذَلِكَ لَو قَالَ: أكْرم فلَانا مَتى رَأَيْته، اقْتضى ذَلِك تَعْمِيم الْأَزْمِنَة، وَإِذا قَالَ: أهنه أَيْن رَأَيْته، اقْتضى ذَلِك اسْتِيعَاب الْأَمْكِنَة وَمن إِذا ورد مَعَ الْألف وَاللَّام من غير إِرَادَة عهد وشخص مَخْصُوص نَحْو قَوْله تَعَالَى: {إِن الْإِنْسَان لفي خسر} وَقَوله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة} و {الزَّانِيَة وَالزَّانِي} فَمَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَنه لَا يُرَاد بِهِ الِاسْتِيعَاب إِلَّا بِدلَالَة تدل، وَذهب بعض الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَنه يحمل على الْعُمُوم وَمن أَلْفَاظ الْعُمُوم أَيْضا مَا ترد مُؤَكدَة نَحْو قَوْلهم كل النَّاس وسائرهم وأجمعون وأكتعون إِلَى غير ذَلِك. فَهَذِهِ جمل الْأَلْفَاظ لَا يشذ مِنْهَا إِلَّا شذوذ وَسَيَرِدُ فِي معظمها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقد اخْتلف الأصوليون فِيهَا كَمَا أومأنا إِلَيْهِ فَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا تحمل على أقل الْجمع وَهَؤُلَاء هم المعروفون بأصحاب الْخُصُوص.
وَمَال فِي ذَلِك بعض الْمُتَكَلِّمين.
وَقَالَ آخَرُونَ هَذِه الْأَلْفَاظ الْمُطلقَة إِذا لم يقْتَرن بهَا مَا يدل على تخصيصها فَتحمل على استغراق الْجِنْس.
ذهب شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ فِي مُعظم الْمُحَقِّقين من أصحابه إِلَى التَّوَقُّف.
وَحَقِيقَة ذَلِك أَنهم قَالُوا سبرنا اللُّغَة ووضعها فَلم نجد فِي وضع اللُّغَة صِيغَة دَالَّة على الْعُمُوم سَوَاء وَردت مُطلقَة أَو مُقَيّدَة بضروب من التَّأْكِيد.
وَقد ظن بعض من لَا خبْرَة لَهُ بطريقة الْوَقْف أَنا إِذا لم نسلم تنَاول النَّاس الْجِنْس فنسلم إِذا قيد النَّاس بضروب من التَّأْكِيد، مثل قَول الْقَائِل: النَّاس أَجْمَعُونَ عَن آخِرهم صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ لَا يشذ مِنْهُم أحد، إِلَى غير ذَلِك، والمحققون من الواقفية يَقُولُونَ: وَإِن قيدت بِهَذِهِ الْقُيُود فَلَيْسَتْ مَوْضُوعَة للاستغراق فِي اللُّغَة. وَلَكِن قد يعرف عمومها بقرائن الْأَحْوَال المقترنة بالمقال، وَهِي مِمَّا لَا تَنْحَصِر بالعبارة، كَمَا تعرف القرآئن خجل الخجل ووجل الوجل وَإِن كَانَت الْقُرْآن لَا توجب مَعْرفَتهَا وَلَكِن أجْرى الله الْعَادة بِخلق الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْدهَا فَكَذَلِك قد تتَصَوَّر قَرَائِن تقترن بِاللَّفْظِ وَتعلم عِنْدهَا إِرَادَة مُطلق اللَّفْظ فِي خُصُوص أَو عُمُوم، فَلَا تكون معرفَة ذَلِك بِأَصْل اللُّغَة ووضعها.
ثمَّ من حقق من الواقفية طرد هَذَا الْمَذْهَب فِي الْمصير إِلَى الْوَقْف فِي الْأَوَامِر والنواهي والاخبار، لِأَن مَا يدل على إبْطَال القَوْل بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَار يدل ذَلِك على مثله فِي الْأَوَامِر.
وَقد زعم بعض الواقفية أَن الْوَقْف يصير إِلَيْهِ فِي الْأَخْبَار والأسامي دون الْأَوَامِر وتوصلوا بذلك إِلَى الْأَخْبَار المنطوية على الْوَعْد والوعيد فِي الْكتاب وَالسّنة. وَهَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل بَاطِل لَا تَحْقِيق وَرَاءه. وَزعم بعض الواقفية أَن الْخَبَر إِذا انطوى على وَعِيد العصاة من أهل الْملَّة لزم التَّوَقُّف فِيهِ وَلَا يتَوَقَّف فِي غَيره. وَهَذَا وَاضح الْبطلَان أَيْضا. وَمِمَّا يتَمَسَّك بِهِ فِي نصْرَة الْوَقْف مَا يبطل هَذِه التفصيلات.
وَقَالَ الْفَرِيق من أهل الْوَقْف: الْوَقْف فِي الْوَعيد ثَابت دون الْوَعْد وَفصل بَينهمَا بِمَا يَلِيق بالشطح والترهات دون الْحَقَائِق.
وَزعم آخَرُونَ من المنتمين إِلَى الواقفية إِلَى أَن الْأَخْبَار إِذا وَردت ومخرجها مخرج الْعُمُوم على مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ وسمعها السَّامع وَكَانَت وَعدا أَو وعيدا، وَلم يسمع من آي الْكتاب وَسنَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومواقع أَدِلَّة السّمع شَيْئا فَيعلم أَن المُرَاد بهَا الْعُمُوم، وَإِن كَانَت قد سمع قبل اتصالهما بِهِ أَدِلَّة الشَّرْع وَعلم انقسامها للخصوص والعموم فَلَا نعلم حِينَئِذٍ الْعُمُوم فِي الْأَخْبَار الَّتِي اتَّصَلت بِهِ وَاعْلَم أَن هَذِه الفئة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أولى مِنْهُم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الواقفية.
وَالْأولَى بِنَا أَن نقدم شبه الْقَائِلين بِالْعُمُومِ ونعترض عَلَيْهَا ثمَّ نثبت الْوَقْف بأوضح الْأَدِلَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَمن عمدهم فِي الْمَسْأَلَة أَن قَالُوا: الْعُمُوم واستغراق الْجِنْس من الْمعَانِي المعقولة الْجَارِيَة فِي الخواطر عُمُوما كَسَائِر الْمعَانِي وحاجات أهل اللُّغَة ماسة إِلَى التفاهم فِيهَا كَمَا تمس إِلَى التفاهم فِي سَائِر الْمعَانِي الْمُسَمَّاة بالأسامي فَإِذا تحققت حَاجَة أهل اللُّغَة كَمَا وصفناه وَكَانُوا مقتدرين على وضع لفظ الِاسْتِغْرَاق وَلَا يَتَقَرَّر إِلَّا أَن يوصفوه مَعَ مَا قَررنَا من الْأَوْصَاف.
وأوضحوا ذَلِك بَان قَالُوا: الْعَادة مطردَة على أصل لَو قدحنا فِيهِ أفْضى ذَلِك إِلَى انخراقها، وَهُوَ أَن من ظَهرت حَاجته واقتدر على دَفعهَا مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع وانصراف الصوارف وتوفر الدَّوَاعِي فَلَا يعقل فِي الْعَادة أَن لَا تدفع الْحَاجة، وَذَلِكَ كالعاطش الْوَاجِد للْمَاء الْبَارِد مَعَ ارْتِفَاع الْمَوَانِع واندفاع الصوارف فَإِذا توفرت الدَّوَاعِي فيشرب لَا محَالة.
وَالْجَوَاب عَن ذَلِك أَن نقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه اسْتِدْلَال مِنْكُم فِي إِثْبَات اللُّغَات بِغَيْر النَّقْل، واللغات لَا تثبت إِلَّا نقلا، فَأَما طرق الِاسْتِدْلَال وسبل الاعتلال فَلَا يتَوَصَّل بهَا إِلَى تثبيت اللُّغَات أصلا وَأما مَا قَالُوهُ من عُمُوم الْحَاجة وَظُهُور الْمَعْنى فَهُوَ اعتصام مِنْهُم بِمَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَإنَّا نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم مَا اخْتَارُوا وضع اسْم لَهُ على التَّعْيِين مَعَ كل مَا ذكرتموه فَمَا دليلكم؟
فَإِن قَالُوا: هَذَا يُؤَدِّي إِلَى خرق الْعَادَات كَمَا قدروه.
فَالْجَوَاب عَن ذَلِك من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول فَيلْزم على طرد ذَلِك أَن تثبت الْأَخْبَار الَّتِي لم تنقل، إِذا عرفنَا أَن مثل تِلْكَ الْحَادِثَة كَانَت تعم فِي الْعَصْر الخالية وَكَانَت الْحَاجة ماسة إِلَيْهِ، فَيجب أَن تقدر فِي كل مَا هَذَا سَبيله خَبرا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو أثرا عَن أصحابه رَضِي الله عَنْهُم وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا الْكَلَام فِي أصل وضع اللُّغَات، وأصل وَضعهَا غير منبئ عَن الْعَادَات فَإنَّا لَو أردنَا أَن نقدر فِي زَمَاننَا هَذَا اتِّفَاق جملَة أهل الْعَصْر على فعله وَاحِدَة مثل أَن يتَقَدَّر من كلهم الْقيام وَالْقعُود فِي حَالَة وَاحِدَة كَانَ ذَلِك خرقا للْعَادَة، والأسامي الَّتِي اتّفق عَلَيْهَا أهل اللُّغَات ابْتِدَاء كَانَ تواطؤا مِنْهُم على معَان متجددة مَعَ اخْتِلَاف الإرادات وتباين القصود، فَتبين بذلك أَن أصل وضع اللُّغَات إِن قدرت اصْطِلَاحا لَا يُرَاعِي فِيهَا اطراد الْعَادَات، وَإِن قدرت ثَابِتَة توقيفا فَلَا يمْنَع أَن يثبت التَّوْقِيف فِي الْبَعْض دون الْبَعْض، فَأَما مَا عولوا عَلَيْهِ من أطراد الْعَادة فِي نفي الْمُحْتَاج الحلفة عَن نَفسه، فَهَذَا قرع أَبْوَاب قوم آخَرين وهم الْمُعْتَزلَة فِي فَسَاد أصولهم فِي الدَّوَاعِي والصوارف وَأما نَحن لَا نستبعد أَن يكف عَن الشَّرّ مَعَ انْتِفَاء الْمَوَانِع والدوافع. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
ثمَّ نقُول: تنكرون على من يزْعم أَنهم لما عرفُوا أَن هَذِه الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام وَإِن كَانَت مُشْتَركَة فَإِنَّهَا تتَمَيَّز بقرائن الْأَحْوَال وَيَقَع الْعلم بهَا على مَقَاصِد مطلقيها عِنْد الْقَرَائِن على اضطرار اكتفوا بهَا فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: وَهِي أَنهم قَالُوا: إِذا وَردت أَلْفَاظ الجموع فَيصح اسْتثِنَاء الْآحَاد مِنْهَا بِاتِّفَاق أهل اللُّغَة بِشَرْط اسْتِبْقَاء بعض الْجِنْس إِذْ لَا خلاف فِي صِحَة قَول من يَقُول: من دخل دَاري أكرمته إِلَّا من عَصَانِي، وَمن أجرم عاقبته إِلَّا من تَابَ، واقتلوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة والمعاهدين وَمَا من صنف من آحَاد الْجِنْس إِلَّا وَيحسن استثناؤها.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَنه لَا يحسن فِي نظم الْكَلَام أَن نقُول أكْرم الْمُؤمنِينَ إِلَّا الْمُشْركين، واقتل كل سبع إِلَّا الْبَقَرَة، وَإِنَّمَا لم يحسن الِاسْتِثْنَاء فِيمَا أومأنا إِلَيْهِ لِأَن مُطلق اللَّفْظ لَو قدرناه مُجَردا لم ينطو على شَيْء من ذَلِك، فَلم يحسن الِاسْتِثْنَاء لَا جرم.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِنَّمَا يحسن الِاسْتِثْنَاء لصلاح اللَّفْظ لجملة مَا يسْتَثْنى مِنْهُ وَنحن وَإِن نَفينَا اقْتِضَاء الصِّيغَة الَّتِي خَالَفنَا فِيهَا الِاسْتِغْرَاق على التَّعْيِين فِي أصل الْوَضع فلسنا ننكر كَون الصِّيغَة صَالِحَة للاستيعاب وَالْخُصُوص جَمِيعًا صَلَاح الِاسْم الْمُشْتَرك لجمل من المسميات، فالمقصد بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذا قطع الْوَهم والتجويز فِيمَا اسْتثْنى من اللَّفْظ، ليعلم قطعا عدم دُخُوله فِيهِ، ثمَّ نقُول: لَو قَالَ اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا نَفرا، فَمَا من طَائِفَة مِنْهُم وَإِلَّا ينْطَلق اسْم النَّفر عَلَيْهِم، فيلزمكم أَن تَقولُوا: لَا يجوز قتل أحد مِنْهُم لتحَقّق اسْم النَّفر فِي طوائفهم، فَيلْزم من ذَلِك الْكَفّ عَن قلتهم، فَإِن قَالُوا يحمل ذَلِك على بَعضهم.
قُلْنَا: مَا من شخص مِنْهُم إِلَّا وَاسم النَّفر يتَنَاوَلهُ فلئن جَازَ لكم حمله على التَّخْصِيص فَلَا تستبعدوا مثل ذَلِك فِي الِاسْتِثْنَاء من خصمكم، فَمَا من جملَة من الْآحَاد إِلَّا وَيصِح اسْتِثْنَاؤُهُ، ثمَّ لَا يقتضى ذَلِك اندراج الْكَلَام جمعا تَحت اللَّفْظ فِي وضع اللُّغَة وتفاهم أَهلهَا.
ثمَّ نقُول لَهُم: إِذا قَالَ الْقَائِل: كل إِنْسَان معاقب إِلَّا من آمن وَإِلَّا الْمُؤمنِينَ فَيصح الِاسْتِثْنَاء عَن مثل هَذِه اللَّفْظَة مَعَ مصير أَكْثَرَكُم إِلَى انها لَا تعم، وَإِن صَارُوا إِلَى الْعُمُوم بِلَفْظ كل فنفرض عَلَيْهِم القَوْل فِي قَول الْقَائِل: إِن الْإِنْسَان مُرْتَهن بصنيعه إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: يَصح تَأْكِيد الْقَوْم وَالنَّاس بِمَا يَقْتَضِي استغراقا وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول النَّاس كلهم أَجْمَعُونَ إِلَى غير ذَلِك من ضروب التَّأْكِيد، قَالُوا: وَقد قَالَ أهل اللِّسَان: التَّأْكِيد لفق الْمُؤَكّد. ومطابقه، وَمن المستحيل أَن يتَضَمَّن التَّأْكِيد معنى وَلَا ينبىء أصل اللَّفْظ عَنهُ.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اسْتِحَالَة مول الْقَائِل: رَأَيْت زيدا أَجْمَعِينَ، وَحسن قَوْله رَأَيْت النَّاس أَجْمَعِينَ.
وأطنبوا فِي ذَلِك بِمَا الْقَلِيل مغن عَنهُ.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه غَفلَة مِنْكُم عَن مَذْهَب الْخصم فَإنَّا لَا نصير إِلَى أَن هَذِه الْأَلْفَاظ تَتَضَمَّن الِاسْتِغْرَاق وَإِن تَتَابَعَت، فَإِن من أصلنَا أَنه لَيْسَ فِي اللُّغَة صِيغَة لَا مُطلقَة وَلَا مُقَيّدَة تدل من حَيْثُ الْوَضع على الِاسْتِغْرَاق، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
ثمَّ نقُول: اللَّفْظَة الَّتِي فِيهَا الْكَلَام وَإِن لم تكن مَوْضُوعَة للْعُمُوم نصا فَهِيَ صَالِحَة، فَإِذا اقترنت بتوابع وقرائن فتقضي تَخْصِيصًا بِمَعْنى يصلح اللَّفْظ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِك قَول الْقَائِل: زيد أَجْمَعُونَ، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ.
وَقد عكس الواقفية ذَلِك عَلَيْهِم فَقَالَ: لَو كَانَت اللَّفْظَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا فِي إثارة الْعُمُوم لم تكن للتوابع فَائِدَة وَكَانَت أَلْفَاظ شاغرة لَا طائل وَرَاءَهَا. وَالْأولَى لَك الاجتزاء بِمَا قدمْنَاهُ مَعَ أَن تَقْدِير هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مُمكن، فَإِن التَّأْكِيد إِنَّمَا يسْتَعْمل لنفي الريب وَقطع الجائزات وضروب الِاحْتِمَالَات، فَلَو كَانَت الصِّيغَة الفردة منبئة عَن الِاسْتِغْرَاق لم يكن للتَّأْكِيد معنى.
شُبْهَة أُخْرَى: فَإِن قَالُوا: اللَّفْظ الَّذِي فِيهِ الْكَلَام لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون للْعُمُوم كَمَا قُلْنَاهُ، أَو للخصوص وَقد اتفقنا على بُطْلَانه، فَأَما أَن يكون مُشْتَركا كَمَا قلتموه، فَلَو كَانَ كَذَلِك لم يخل إِمَّا أَن يكون على تَخْصِيصه بِأحد الْمَعْنيين دَلِيل أَو لَا يكون عَلَيْهِ دَلِيل، فَإِن لم يكن فِي تَخْصِيص أحد الْمَعْنيين دَلِيل لم يتَصَوَّر أَن يعقل مِنْهُ عُمُوم وخصوص بل الْتحق بالمبهمات وَإِن كَانَ على حمله على أحد الْمَعْنيين دَلِيل لم يخل إِمَّا أَن يكون ذَلِك لفظا أَو قرينَة، فَإِن كَانَ لفظا فقد ثَبت أَن فِي فِي الْأَلْفَاظ مَا يدل على الْعُمُوم، وَمَا من لفظ يقدر اقترانه بِمَا فِيهِ التَّنَازُع إِلَّا وَيُمكن أَن يذكر فِيهِ كل مَا تذكرونه فِي غير الْمُخْتَلف فِيهِ، فَإِن كَانَ ذَلِك لَا يدل فتوابعه كَيفَ تدل؟
قيل لَهُم: قد أطنبتم فِي هذيان لَا تَحْقِيق وَرَاءه، فَأَما مَا ذكرْتُمْ من أَن الدَّال يَنْبَغِي أَن يكون لفظا، فَلَيْسَ كَمَا قلتموه، ولسنا نسلم أَن فِي الْأَلْفَاظ اللُّغَوِيَّة مَا يدل من حَيْثُ الْوَضع على الِاسْتِيعَاب والاستغراق وَإِنَّمَا يسْتَدرك الْعُمُوم وَالْخُصُوص بِمَا يضْطَر إِلَيْهِ السَّامع ابْتِدَاء عِنْد قَرَائِن الْأَحْوَال، وَهِي مِمَّا لَا تنضبط وَلَا سَبِيل إِلَى حصر أجناسها وتمييزها بالنعوت والأوصاف عَن أغيارها وَهَذَا كَمَا أَن خجل الخجل ووجل الوجل وَجبن الجبان وبسالة الباسل تعلم ضَرُورَة عِنْد ثُبُوت الْأَوْصَاف، فَلَو أردنَا نعتها لم نقدر عَلَيْهَا، وَهَذَا كَمَا أَن من خجل لبادرة بدرت مِنْهُ واحمرت لَهَا وجنتاه فَرُبمَا يعلم ضَرُورَة خجله فَلَا يمكننا أَن نسند ذَلِك إِلَى احمراره إِذْ قد يتَصَوَّر كل وصف بِعَيْنِه من غير خجل فقد تكون الْقَرَائِن ضربا من الرموز والإشارات، واختلاجا فِي محاجر الْعَينَيْنِ والحاجبين، وَقد تكون حَاله نَحْو كَون الْمَرْء على الطَّعَام إِذا اقْترن بقوله لغلامه عَليّ بِالْمَاءِ وَقد بَدَت نهمته إِلَى المَاء، فَيعلم ضَرُورَة إِنَّمَا يطْلب مَاء الشّرْب، وَإِن كَانَ اسْم المَاء على مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ يعم الْجِنْس، فَثَبت بذلك أَن الَّذِي يعين الْمَعْنى الْمعِين من اللَّفْظ الْمُحْتَمل قَرَائِن الْأَحْوَال. وَقد يبدر من المتلفظ ضروب من التَّأْكِيد فَيعلم عِنْدهَا ضَرُورَة مُرَاده لَا أَن تِلْكَ الْأَلْفَاظ مَوْضُوعَة فِي اللُّغَة لذَلِك، وَلَكِن إِذا اقترنت بهَا أَحْوَال علم مِنْهَا مَا يعلم.
والتحقق فِي ذَلِك أَن يعلم أَن شَيْئا من هَذِه الْقَرَائِن لَا تدل لأنفسها، وَلَا التَّوَاضُع سَابق عَلَيْهَا، وَلَكِن أجْرى لله الْعَادة بِخلق الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْدهَا، وَهَذَا كَمَا أَن قَول الْقَائِلين: أَي شَيْء يحسن زيد، فَهَذَا يتَرَدَّد بَين الِاسْتِفْهَام، وَبَين ازدراء بزيد على معرض الاستخفاف، وَبَين تَعْظِيم الْأَمر فِيمَا يعنيه، ثمَّ المقصودمن هَذِه اللَّفْظَة رُبمَا يتَعَيَّن بِقَرِينَة حَال لَا يَنْضَبِط بِالْوَصْفِ.
وَأما مَا قَالُوهُ من كَون الْقَرَائِن تَوَابِع وَكَون اللَّفْظ متبوعا فَلَا طائل تَحْتَهُ وَلَا معنى لكَونهَا تَوَابِع وَلَا لكَون اللَّفْظ متبوعا، وَلَكِن يؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن الْمَقْصُود يفهم عِنْد الْقَرَائِن وتسميتها تَوَابِع لَا حَقِيقَة لَهُ.
فان قَالُوا: قد اجْتمعت الْأمة على تَعْمِيم جمل من الْأَلْفَاظ فِي الْكتاب وَالسّنة فَمن أَيْن عرفُوا ذَلِك.
قُلْنَا: أما أهل الْعَصْر الأول فقد عرفُوا التَّعْمِيم بِمَا شاهدوا من الْقَرَائِن، وَالَّذين نقلوا عَنْهُم شاهدوا مِنْهُم مَا شاهدوه هم من مبلغ الْأَلْفَاظ.
فَإِن قيل: فبماذا عرف الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: بقرائن حَال المنبىء إِلَيْهِ.
فَإِن قَالُوا: فبماذا عرف جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام؟
قُلْنَا: لَعَلَّ الله اضطره ابْتِدَاء أَو عِنْد قَرَائِن أبدعها أَو عرفه باللغة الملائكية، وَلَعَلَّ فِي لغتهم صِيغَة الْعُمُوم فِي الْمقَال مجَال، والتمسك بِهَذِهِ الشُّبْهَة خبط.. شُبْهَة أخرى لَهُم يتشبث بهَا من شغر عَن التَّحْقِيق، وَهِي أَنهم قالو: هَل تصفون الرب تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على أَن يدلنا على الْعُمُوم من حَيْثُ اللَّفْظ، فَإِن وصفتموه بذلك وَجب مِنْكُم القَوْل بتصوره، وَإِن لم تصفوه بذلك تعجيز الرب تَعَالَى.
قيل لَهُم: تَعَالَى مقتدر على مَا شَاءَ، وَمَا قلتموه من أَنه هَل يقدر لَو رد إِلَى التَّحْقِيق لم يتَحَصَّل مِنْهُ معنى.
فَإِن الْقُدْرَة تتَعَلَّق بالأحداث والرب تَعَالَى مقتدر على أَن يحدث لنا علما على عقب اللَّفْظ الْمُجَرّد وَهُوَ مقتدر على أَن يصرف دواعي الخلقية إِلَى التَّوَاضُع على اللَّفْظ الْمُجَرّد فِي إِرَادَة الْعُمُوم. وكل هَذَا مِمَّا نقُول، وَلَكِن الْكَلَام فِي اللُّغَة الثَّابِتَة الكائنة، وَهَذَا كَمَا أَنا نصف الرب تَعَالَى بالاقتدار على تثبيت ضروب من اللُّغَات والزيادات فِي لُغَة الْعَرَب، ثمَّ كل مَا هُوَ من قبيل مقتدراته لَا يجوز أَن نقدره كَائِنا.
فَإِن زعمتم أَن اللَّفْظ مَعَ لفظ لَا يدل فِي الْوَضع يَجعله دَالا وَهُوَ غير دَال، فَهَذَا تثبيت اقتدار على الْمحَال.
وَمن عمدهم أَن قَالُوا: نرى أهل اللُّغَة وأرباب الشَّرِيعَة مطبقين على تفاهم الْعُمُوم من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا تنازعنا، وَمَا زَالَت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم تستدل بَعْضًا على بعض فِي الْمسَائِل بالألفاظ الْعَامَّة نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم}، و {لَا تقتلُوا الصَّيْد وَأَنْتُم حرم}، و «لَا وَصِيَّة لوَارث»، «وَلَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا»، «وَمن ألْقى سلاحه فَهُوَ آمن»، إِلَى غير ذَلِك، وَكَذَلِكَ مَا زَالَت الْعَرَب تتفاهم بِنَحْوِ ذَلِك حَتَّى رُوِيَ أَن قَوْله تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي القعدون من الْمُؤمنِينَ} لما نزل شقّ ذَلِك على ابْن أم مَكْتُوم وَكَانَ مكفوفا عَاجِزا عَن النهوض للْجِهَاد وَأبْدى للرسول مَا بِهِ حَتَّى نزل قَوْله تَعَالَى: {غير أولي الضَّرَر}، وَلم يُنكر عَلَيْهِ مَا فهمه من مُطلق اللَّفْظ من الْعُمُوم، وكذل رُوِيَ أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ}.
قَالَ ابْن الزبعري: وَكَانَ خصما جدلا: لأخص من الْيَوْم مُحَمَّدًا فجَاء النَّبِي وَقَالَ لَهُ: أَلَيْسَ عبدت الْمَلَائِكَة وأبن مَرْيَم أفهم حصب جَهَنَّم؟ فَنزل قَوْله تَعَالَى: {ان الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى}، وحاج عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا بكر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي قتل مَا نعي الزَّكَاة، وَاسْتدلَّ فِي منع قِتَالهمْ بِظَاهِر قَوْله: أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله» فَلم يُنكر عَلَيْهِ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ تمسكه بِعُمُوم اللَّفْظ وَلَكِن انْفَصل عَن استدلاله بِقَيْد الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: بِحَقِّهَا، وَقَالَ إِن الزَّكَاة من حَقّهَا.
ومقصدهم من ذَلِك مَا اسْتشْهدُوا بِهِ من الْآثَار وَالْأَخْبَار أَن أَرْبَاب الشَّرَائِع واللغات مَا زَالُوا يتفاهمون من الصِّيَغ الَّتِي فِيهَا كلامنا الْعُمُوم والشمول، وَمَا كَانَ يُنكر بَعضهم على بعض.
فَيُقَال لَهُم: مَا تمسكتم بِهِ بَاطِل من أوجه:
أَحدهَا أَنكُمْ ادعيتم الْإِجْمَاع وأسندتم دعواكم إِلَى أَفْرَاد من الْأَخْبَار، والآحاد لَا تُفْضِي الى الْعلم كَحَدِيث ابْن الزِّبَعْرَى وَنَحْوه وَلَو كَانَ الْإِجْمَاع يثبت بأمثال ذَلِك لعم ادِّعَاء الْإِجْمَاع فِي مُعظم مسَائِل الِاجْتِهَاد، ثمَّ لم تَنقلُوا عَن أحد أَنه تمسك بِمُجَرَّد اللَّفْظ فلعلهم فَهموا مَعَ الْأَلْفَاظ قَرَائِن علمُوا عِنْدهَا إِرَادَة الْعُمُوم.
فَإِن قيل: فَلَو كَانَت تِلْكَ الْقَرَائِن لنقلت. فقد سبق الْكَلَام على مثل هَذَا بِمَا يُغني عَن إِعَادَته.
ثمَّ نقُول: يجوز تَقْدِير الْقَرَائِن فِي بعض مَا استدللتم بِهِ وَلَا ننكر أَيْضا أَن يكون بَعضهم قد اعْتقد الْمصير إِلَى الْعُمُوم كَمَا اعتقدتموه وَذهب بَعضهم إِلَى أَن اللَّفْظ إِذا كَانَ صَالحا للْعُمُوم وَالْخُصُوص فَيجوز أَن يحمل على الْعُمُوم، فَإِذا تصور انقسام قصودهم وإرادتهم فَمنهمْ من يعْتَقد عَن قرينَة وَمِنْهُم من يعْتَقد كَمَا اعتقدتموه وَمِنْهُم من يسْتَدلّ اسْتِدْلَالا فَاسِدا مَعَ تصور تنوع القصود كَمَا قدر عَلَيْكُم، كَيفَ يتَصَوَّر ادِّعَاء الإطباق والاتفاق من أهل الْعَصْر المفترضة على أَن اللَّفْظَة المفردة مَوْضُوعَة للاستغراق، فهيهات لما طلبوه فقد أبعدوا النجعة وَمَا ذَكرْنَاهُ من شبه الْقَوْم تغني عَن ذكر كثير من الترهات، وتشتغل بِذكر التفصي عَمَّا ذَكرْنَاهُ كَمَا ذَكرنَاهَا فِي الِانْفِصَال عَن كل مَا يرد عَلَيْك من قبيلها. فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا دليلكم على الْوَقْف؟
قُلْنَا: كل دلَالَة طردناها فِي تثبيت الْوَقْف فِي صِيغَة الْأَمر فتطرد بِعَينهَا فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص وتعود عَلَيْهَا أسئلتها، وَوجه الِانْفِصَال عَنْهَا.
فَمن عمدنا وَهُوَ مَا صدر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهِ إِثْبَات الْوَقْف فِي كل مسئلة أَن يَقُول فِيهَا بِالْوَقْفِ أَن يَقُول: مدارك الْعُلُوم مضبوطة وَالَّذِي فِيهِ تنازعنا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون من مدارك الْعُقُول اَوْ مدارك اللُّغَات واللغات لَا تثبت عقلا وَإِمَّا أَن يكون من مدارك السّمع وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى تَوَاتر فِي الْأَخْبَار وَغير تَوَاتر واطرد الدَّلِيل فِيهِ على الْمنْهَج الَّذِي سبق.
فَإِن قَالُوا: فكون اللَّفْظَة مُشْتَركَة لُغَة أَيْضا فثبتوا نقل ذَلِك.
التَّوَجُّه عَلَيْكُم الانقسام فِيهِ مَا وجهتموه فِي أصل الْمَسْأَلَة.
فَيُقَال: هَذَا سُؤال من لم يعقل حَقِيقَة الْوَقْف من مَذْهَب الْقَائِلين بِهِ، فلسنا نعني بالاشتراك ثُبُوت اللُّغَات فِي ذَلِك، ولكننا نعني بِهِ أَنا وجدنَا هَذِه الصِّيغَة الَّتِي فِيهَا تنازعنا ترد على موارد، مِنْهَا الْعُمُوم وَمِنْهَا الْخُصُوص فتوقفنا فِي المُرَاد فِيهَا عِنْد الْإِطْلَاق والتجرد عَن الْقَرَائِن، فَهَذَا مَا نعنيه، فَأَما أَن ندعى نقل الِاشْتِرَاك من أهل اللُّغَة كَمَا نقل عَنْهُم الِاشْتِرَاك فِي الْعين والقرء وَغَيرهمَا فَلَا، فَافْهَم ذَلِك كي لَا تزل فِيهِ.
وَمن عمدنا فِي الْمَسْأَلَة حسن الاستفصال بعد صُدُور اللَّفْظَة من مُطلقهَا فَلَو كَانَت منبئة عَن الْعُمُوم مَا حسن الاستفصال فِيهَا.
فَإِن قَالُوا: لسنا نسلم حسن الاستفصال، قطع الْكَلَام عَنْهُم، وَتبين عنادهم، وَإِن سلمُوا وَزَعَمُوا أَن الاستفصال إِنَّمَا يحسن عِنْد بدور الْكَلَام. مِمَّن لَيْسَ بِحَكِيم، فَيُقَال لَهُم وَهَذَا خبط مِنْكُم وَذَلِكَ أَنا نقُول: كلامنا مَعكُمْ فِي وضع اللُّغَة، والاستفصال يَتَرَتَّب عَلَيْهِ، واللغة الْمَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الْعُمُوم فِي حق الْحَكِيم يَقْتَضِيهِ فِي حق السَّفِيه، وَإِن الْعَرَب فِي أصل وَضعهَا مَا خصصت الْأَسَامِي فِي مقتضاتها بِبَعْض المطلقين دون بعض فيستحيل أَن تكون لَفْظَة مُجَرّدَة لِمَعْنى إِذا بدرت من وَاحِد وَهِي بِعَينهَا مَوْضُوعَة للاشتراك إِذا بدرت من غَيره وَقَامَت الدّلَالَة عَلَيْهِم.
وَمن أقوى مَا يسْتَدلّ بِهِ أَن نقُول: تأملنا موارد الْأَلْفَاظ فَوَجَدنَا على الانقسام فِي نظم الْعَرَب ونثرها، وَسَائِر كَلَامهَا، وَكَذَلِكَ وجدنَا أَلْفَاظ صاحبالشريعة منقسمة فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم وَالْخُصُوص، والألفاظ المحمولة على خلاف الشُّمُول تربي وتزيد على الْأَلْفَاظ المحمولة على الشُّمُول، وَقد تتبع الْمُحَقِّقُونَ على أقْصَى جهدهمْ أَلْفَاظ الْكتاب فَلم يَجدوا فِيهَا إِلَّا الفاظا محصورة على الْعُمُوم مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم}، وَمِنْهَا: {وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} وَلَو تكلفت لم يبلغ هَذَا الْقَبِيل من الْأَلْفَاظ عشرا فَقَالَ أَرْبَاب التَّحْقِيق: اللُّغَات إِنَّمَا تثبت بالتوصل إِلَى أصل الْوَضع.
فَإنَّا أَخْطَأنَا ذَلِك فِيمَا يتفاهم مِنْهُ ارباب اللُّغَات، وَإِنَّمَا يعرف تفاهمهم بالْكلَام الْمَأْثُور الْمَنْقُول عَنْهُم فِي مفاوضاتهم ومحاوراتهم، وَقد استد طَرِيق نقل أصل الْوَضع لما قدمْنَاهُ أَولا، فَلم نجد مفزعا إِلَّا طَرِيق المحاورات فَوَجَدنَا مَا فِيهِ كلامنا على الانقسام. فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمُسْتَعْمل من الصِّيَغ على الْخُصُوص مجَاز؟ قيل: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول لكم من أصحاب الْخُصُوص إِن الْمُسْتَعْمل على الشُّمُول مجَاز، فَلَا تفزعون فِي ادِّعَاء الْحَقِيقَة إِلَى أصل الْوَضع وَلَا إِلَى اسْتِعْمَال، فَإِنَّكُم إِن فزعتم إِلَى أصل الْوَضع لم تَجدوا فِي تَحْقِيقه طَرِيقا، وَإِن فزعتم إِلَى الِاسْتِعْمَال وجدْتُم الصِّيَغ الْخَاصَّة فِي الِاسْتِعْمَال أَكثر من الصِّيَغ الْعَامَّة، وَإِن زعتمتم أَن الَّذِي خص مِنْهَا خص بِقَرِينَة، لم تجيبوا عَن تقابلكم بِمثلِهِ، فَيَقُول مَا حمل مِنْهُ على الْعُمُوم حمل بِقَرِينَة، فتتقاوم الْأَقْوَال وتتساقط بَعْضهَا بِبَعْض فَلَا يبْقى عِنْد سُقُوطهَا إِلَّا التَّوَقُّف وَترك قطع القَوْل.
إِن قَالَ قَائِل: فَإِذا لم تَقولُوا بِالْعُمُومِ فَبِمَ تعرفُون امتداد الشَّرْع فِي الْأَزْمَان الْمُسْتَقْبلَة إِذْ السَّبِيل إِلَى معرفَة عُمُوم الْأَزْمَان كالسبيل إِلَى معرفَة عُمُوم المسميات فَإِذا سددتم طرق الْقطع بِالْعُمُومِ لزمكم طرد ذَلِك فِي الْأَزْمَان.
قُلْنَا: الزمتمونا مَا لَا نتحاشى مِنْهُ وَذَلِكَ أَنا لَا نَعْرِف بصيغ الْأَلْفَاظ الشُّمُول فِي الْأَزْمَان وَإِنَّمَا نَعْرِف ذَلِك بطرق التَّوْقِيف المقترنة بالألفاظ وبقرائن الْأَحْوَال وَهِي مِمَّا لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر، ثمَّ نقُول لَهُم: فَلَو كَانَ سَبِيل اسْتِدْرَاك الْعُمُوم فِي الْأَزْمَان كسبيل اسْتِدْرَاك الْعُمُوم فِي المسميات لزمكم معشر الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن تَقولُوا: يجوز تَخْصِيص اللَّفْظ فِي بعض الْأَزْمَان بِالدَّلِيلِ الَّذِي يجوز تَخْصِيص اللَّفْظ بِهِ بِبَعْض المسميات لتجوزوا على قَود ذَلِك حصر الْأَحْكَام الثَّابِتَة فِي بعض الْأَعْصَار بطرق المقاييس، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ. واستقصاء القَوْل فِيهِ يَتَأَتَّى عِنْد احاطة الْعلم وَحَقِيقَته وسنشيع القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْفرق بَين التَّخْصِيص والنسخ فِي ابواب النّسخ.
فَإِن قُلْتُمْ: فَإِذا نفيتم صِيغ الْعُمُوم فَهَل تنفون التَّخْصِيص وَمَعْنَاهُ؟
قُلْنَا: الْوَجْه الَّذِي يَقُول بِهِ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي التَّخْصِيص لَا نقُول بِهِ إِذا نَفينَا الْعُمُوم، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ التَّخْصِيص اسْتِخْرَاج بعض المسميات من قَضِيَّة اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للاستغراق وَلَوْلَا دلَالَة التَّخْصِيص لعمت. وَنحن لَا نصير إِلَى ذَلِك، وَلَكنَّا نقُول: اللَّفْظَة مترددة بَين أقل الْجمع وَمَا زَاد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِظَاهِر فِي التَّخْصِيص بِأَقَلّ الْجمع وَلَا فِي الشُّمُول، فَإِذا دلّت دلَالَة فِي ثُبُوت أحد الْمَعْنيين لم نقل لولاها لثبت غير الْمَعْنى الثَّابِت بهَا.
فَإِن اكْتفى السَّائِل من معنى التَّخْصِيص بِتَعْيِين المُرَاد وتحقيقه من غير أَن يقدر عِنْد عدم الدَّلِيل ظَاهر اللَّفْظ فِي شُمُول أَو خُصُوص، فَهَذَا مِمَّا نقُول بِهِ وسنعقد بَابا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي حَقِيقَة التَّخْصِيص بعد الْفَرَاغ من ابواب الْخُصُوص والعموم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.