فصل: فصل من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.سُؤال:

فَإِن قيل: فقد قرن الله تَعَالَى الزّجر والوعيد بخصلتين: إِحْدَاهمَا: مشاقة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْأُخْرَى: اتِّبَاع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ. فَإِذا أردتم تَحْقِيق الزّجر والوعيد فِي إِحْدَاهمَا إِذا تجردت، كُنْتُم متحكمين على مُقْتَضى الْآيَة. قَالُوا: وَبَيَان ذَلِك أَنه عز اسْمه قَالَ: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}. فَذكر الْأَمريْنِ بِحرف عاطف جَامع، ثمَّ عقبهما بالوعيد.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِسْقَاط مِنْكُم لمقْتَضى الْآيَة، فَإِنَّهُ قد وضح من موجبهما تَأْثِير اتِّفَاق الْمُؤمنِينَ على سَبِيل، فَإِذا حملتم الْآيَة على هَذَا الْمحمل - مَعَ مَا وضح من اعتقادكم أَن إِجْمَاع الْمُؤمنِينَ، لَا حكم لَهُ أصلا - فَينزل ذَلِك منزلَة الْجمع بَين شَيْئَيْنِ فِي الْخطاب، لَا تَأْثِير لأَحَدهمَا بِحَال فِيمَا سبق الْخطاب لَهُ. وَيكون ذَلِك كَمَا لَو قَالَ: من ظلم وَأحسن فَلهُ سوء الْعَاقِبَة، وَمن جَازَ وَتصدق نوله مَا تولى، وَهَذَا يعد من لَغْو الْكَلَام.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن ذكر الْمُؤمنِينَ - مَعَ أَنه لَا أثر لذكرهم - كذكر كل مَذْكُور سواهُم، مِمَّا لَا أثر لَهُم، وَهَذَا تَصْرِيح بإلغاء الْخطاب.
ثمَّ يقوم فِيمَا ذكرتموه مُخَالفَة مِنْكُم لاعتقادكم. وَذَلِكَ أَن مشاقة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَقْتَضِي الْوَعيد لَو تجردت، فَإِذا..... قرن المشاقة بِوَصْف آخر. فَكَمَا يلْزمنَا على قَود كلامكم رِعَايَة الاقتران فِي الْإِجْمَاع بالمشاقة، فيلزمكم من ضَرُورَة هَذَا الْكَلَام رِعَايَة اقتران المشاقة بِمَا قرن لَهَا، وَهَذَا وَاضح فِي إِسْقَاط السُّؤَال.
فَإِن قَالُوا: تحمل الْآيَة على سَبِيل يتَّفق فِيهِ مشاقة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قُلْنَا: هَذَا إِعَادَة مِنْكُم للسؤال الأول بِعِبَارَة أُخْرَى.
على أَنا نقُول: ثَبت من فحوى الْخطاب ضَرُورَة، أَن الْمَقْصُود تَعْظِيم أَمر الْمُؤمنِينَ وتوبيخ مخالفيهم. وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل هَذَا الْمَعْنى، فَإِن الْيَهُود لَو اتَّخذت سَبِيلا فِي فعل من أفعالها وَقَول من أقوالها، ومخالفتهم تجر الْمُخَالف الى مشاقة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يسوغ إِظْهَار مَا يَقْتَضِي الْمُخَالفَة، فَلَا معنى لتخصيص الْمُؤمنِينَ بِالذكر، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.سُؤال:

فَإِن قَالُوا: إِن خصصتم الْمُؤمنِينَ بالموجودين فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فيلزمكم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِأَهْل عصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَإِن حملتم الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم، فيلزمكم أَن تَقولُوا: إِن ذَلِك مَحْمُول على كل مُؤمن سَيكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. فَلَا يتَبَيَّن الْإِجْمَاع إِلَّا بعد انْقِضَاء الدُّنْيَا.
قُلْنَا: كل مَا ذكرتموه مفض لإِسْقَاط مُوجب الْآيَة، وحيد مِنْكُم عَن المُرَاد بهَا. فَإنَّا نعلم قطعا، إِنَّه لَيْسَ المُرَاد تَوْقِيف المخاطبين فِي امْتِثَال مُوجب الْخطاب إِلَى قيام السَّاعَة. وَمن حمل الْآيَة على هَذَا الْمحمل، فنعلم بضرورة الْعقل بِحَيْثُ لَا نستجيز الريب فِيهِ أَنه حمل الْآيَة على غير مَا أُرِيد بهَا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن من قَالَ لغيره: "اتبع سَبِيل الصَّالِحين "، فَلَيْسَ يُرِيد بذلك من سَيكون من الصَّالِحين الى يَوْم الْقِيَامَة!
على أَنا نقُول: لَو حملنَا الْآيَة على أهل عصر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَإِنَّهُم الَّذين كَانُوا منعوتين بِحَقِيقَة الْإِيمَان عِنْد وُرُود الْخطاب - فتقوم الْحجَّة بِإِثْبَات إِجْمَاعهم حجَّة قَاطِعَة. وَالْمَقْصُود إِثْبَات الِاسْتِدْلَال فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع، إِمَّا خُصُوصا وَإِمَّا عُمُوما.
فَهَذِهِ جمل من الأسئلة ترشدك الى امتثالها، ويهون عَلَيْك وَجه الِانْفِصَال عَن كل محَال من سُؤال.

.عود على ذكر أَدِلَّة ثُبُوت الْإِجْمَاع:

وَرُبمَا يسْتَدلّ مُثبت الْإِجْمَاع بآي من كتاب الله تَعَالَى:
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا}.
وَقَوله تَعَالَى: {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر}.
وَقَوله تَعَالَى: {وَمِمَّنْ خلقنَا أمة يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ}.

.طَريقَة أُخْرَى فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع:

وَهِي الِاسْتِدْلَال بِالْمَعْنَى المتظافر فِي الْأَلْفَاظ الَّتِي نقلهَا الثِّقَات عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
مِنْهَا: مَا يرويهِ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ وَعبد الله بن مَسْعُود وَغَيرهمَا من كبراء الصَّحَابَة الَّذين لَا يُحصونَ كَثْرَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تَجْتَمِع أمتِي على خطأ» وَفِي بَعْضهَا: «لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضلال»، وَفِي بَعْضهَا: «لم يكن الله ليجمع أمتِي على الضَّلَالَة، وَسَأَلت الله عز وَجل لَا يجمع أمتِي على الضَّلَالَة، فَأَعْطَانِيهَا». وَفِي بَعْضهَا: «من سره أَن يدْخل الْجنَّة فليلزم الْجَمَاعَة».
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي على الْحق ظَاهِرين، لَا يضرهم خلاف من خالفهم»، وَفِي بَعْضهَا: «من فَارق الْجَمَاعَة قيد شبر فقد خلع ربقة الْإِسْلَام من عُنُقه» إِلَى غير ذَلِك من الْأَلْفَاظ الَّتِي يطول تعدادها.
وَالْأولَى أَن نقُول: قد علمنَا قطعا انتشار احتجاج السّلف، فِي الْحَث على مُوَافقَة الْأمة واتباعها والزجر على مخالفتها، بِهَذِهِ الْأَخْبَار الَّتِي ذَكرنَاهَا، وَمَا أبدع مبدع فِي الْعَصْر الخالية بِدعَة إِلَّا وبخه عُلَمَاء عصره على ترك الِاتِّبَاع وإيثار الابتداع، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بالألفاظ الَّتِي قدمناها، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَقد تحقق ذَلِك فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ، وَلم يظْهر أحد قبل النظام مطعنا فِي الْأَحَادِيث.
فلولا أَنهم علمُوا قطعا صدق الروَاة، لوَجَبَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن يَبْدُو - وَلَو شرذمة - فِي الْأَخْبَار ضربا من المطاعن.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، أَن هَذِه الْأَخْبَار لَو كَانَت سَبِيلهَا الْآحَاد - وَهِي لَا توجب الْقطع - لذكر بعض من سبق: أَن الِاحْتِجَاج بالآحاد لَا يسوغ، فَلَمَّا لم يظْهر ذَلِك مِنْهُم، علمنَا قطعا اعْتِقَادهم صدق الروَاة فِيمَا نقلوه.

.دفع شُبْهَة أَن أحدا قبل النظام أنكر الْإِجْمَاع:

فَإِن قَالَ قَائِل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه مَبْنِيّ على دَعْوَى، لَا توافقون عَلَيْهَا، وَهُوَ أَن أحدا قبل النظام لم يُنكر الْإِجْمَاع، وَلم يقْدَح فِي الْأَخْبَار الَّتِي نقلتموها.
فَلم قُلْتُمْ ذَلِك؟ وَمَا يؤمنكم أَن ذَلِك كَانَ، وَلم ينْقل {أَو نقل وَلم يَصح عنْدكُمْ؟
قُلْنَا: نَعْرِف ذَلِك بقضية الْعَادة وَوُجُوب استمرارها فِي حكم الْمَعْقُول. فَإِن تَجْوِيز خلف الْإِجْمَاع وَترك اتِّبَاع الْأمة مِمَّا يعظم خطره، إِذْ على الْإِجْمَاع ابتنى مُعظم أصُول الشَّرِيعَة، فَلَو خَالف فِيهِ مُخَالف، لنقل خِلَافه فِي هَذَا الْأَمر الْعَظِيم والخطب الجسيم. فَإِن مَا هَذَا سَبيله، لَا يجوز خفاؤه فِي طَرِيق النَّقْل.
وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على قَول من يَقُول من أهل الزيغ: إِن الْقُرْآن عورض فِيمَا سبق من الْأَعْصَار، وَلم تنقل معارضته نقل صِحَة} فَنَقُول: لَو كَانَ ذَلِك - مَعَ توفر دواعي الْكَفَرَة فِي التَّسَبُّب إِلَى هدم الدّين وتتبع حججه الباهرة وبيناته الزاهرة - لنقل ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة.
هَذَا، والنظام - مَعَ خموله وَقلة خطره فِي النُّفُوس، وَكَونه معدودا فِي أحزاب الْفُسَّاق - لما أظهر الْخلاف فِي الْإِجْمَاع، اشْتهر عَنهُ، وَتَقْرِير مَا ذَكرْنَاهُ فِي اسْتِقْرَار الْعَادة، سهل.
فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، إِن سلم لكم، فَهُوَ بِنَاء مِنْكُم على حكم الْعَادة الثَّابِتَة فِي الْحَال، فَمَا يؤمنكم أَن عادات من قبلكُمْ لم تكن مشابهة لعاداتنا!؟
قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لجحد الضَّرُورَة، فَإنَّا كَمَا نعلم اسْتِمْرَار الْعَادَات فِي زمننا، فنعلم ذَلِك فِي زمن من قبلنَا ضَرُورَة، وَهَذَا كَمَا أَنا لما علمنَا بمجرى الْعَادة، أَن أهل التَّوَاتُر لَا يخبرون عَن مُشَاهدَة، وهم كاذبون، فَهَذَا مِمَّا اسْتَوَت عَلَيْهِ الْأَعْصَار، وَكَذَلِكَ نعلم ضَرُورَة أَن الطَّعَام وَالشرَاب كَانَا يشبعان ويرويان من قبلنَا، على اطراد الْعَادة، فَلَو سَاغَ تنفيض الْعَادة، لأفضى بذلك إِلَى ضروب من الجهالات.
فَإِن قيل: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، لَو ثَبت لكم، لَكَانَ اسْتِدْلَالا مِنْكُم فِي إِثْبَات الْإِجْمَاع بِنَفس الْإِجْمَاع، وَهَذَا من أهم الأسئلة، فَتَأَمّله.
قَالُوا: فَأكْثر مَا فِي الْبَاب أَن نسلم لكم اتِّفَاق من قبل النظام على مَا ادعيتموه، فَمن أَيْن لكم أَن اتِّفَاقهم يدل على تَصْدِيق الروَاة قطعا؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم وَإِن اتَّفقُوا على مَا ادعيتموه، فهم كَانُوا مخطئين فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ!؟
قُلْنَا: لم نستدل عَلَيْكُم من الْوَجْه الَّذِي ظننتموه، وَإِنَّمَا استدللنا عَلَيْكُم بقضية الْعَادة الَّتِي ينتسب جاحدها الى رفض الضَّرُورَة، فَقُلْنَا: لَو كَانَ فِيمَا تمسك بِهِ من قبل النظام ريب - كَمَا ادعيتموه - لوَجَبَ فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن يظْهر ذَلِك عَن أحد، فَإِنَّهُ يبعد فِي قَضِيَّة الْعَادة أَن يخفي الشَّيْء الظَّاهِر على أهل الْإِجْمَاع مَعَ شدَّة فحصهم واعتنائهم بتمييز الْحق عَن الْبَاطِل. فَهَذَا مِمَّا لَا يسوغ فِي الْعَادَات، وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل الْإِجْمَاع الَّذِي ظننتموه.
وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة تقرر عندنَا أَن الْقُرْآن لم يُعَارض، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي صدر الدّلَالَة، فَلَمَّا لم يظْهر من أحد طعن فِي الحَدِيث، فَمَا ذَاك إِلَّا لثُبُوت الصدْق فِيهِ قطعا.
فَإِن قيل: فَمَا يؤمنكم أَن الَّذين قبل النظام اعتقدوا صِحَة الْإِجْمَاع، وَلَكِن لَا عَن الحَدِيث الَّذِي تمسكتم بِهِ، فَمن أَيْن لكم أَنهم اعتقدوا مَا اعتقدوه عَمَّا نقلتموه؟
قُلْنَا: قد بَينا ظُهُور التَّمَسُّك بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار ووضوحه عَن الانتشار وَلَو لم يكن الْخَبَر مَقْطُوعًا لَهُ، لقَالَ بعض أهل الْأَعْصَار: إِنَّه لَا يتَمَسَّك فِيمَا يطْلب فِيهِ الْقطع بِمَا لَا يَقْتَضِي الْقطع، فَلَمَّا لم يبد هَذَا الضَّرْب من النكير فِي الْعَصْر الخاليه، دلّ على مَا قُلْنَاهُ دلَالَة ظَاهِرَة.

.ذكر أسئلة الْقَوْم فِي تَأْوِيل الْأَحَادِيث وصرفها عَن ظواهرها:

فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَعْنى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة» أَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يجمعها على الضَّلَالَة إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته وعدله عَن ذَلِك، فَهَذَا هُوَ المُرَاد بالْخبر، وَأما الْعباد لَو اجْتَمعُوا بِأَنْفسِهِم على الضَّلَالَة فَلَا استنكار فِيهِ، وبنوا هَذَا السُّؤَال على جحد الْقدر.
فَنَقُول: إِنَّمَا يسْتَقرّ هَذَا السُّؤَال لَو ثَبت لكم مَا تهذون بِهِ فِي التَّعْدِيل والتجوير، وهيهات! فَرد أَسبَاب أَهْون من إثْبَاته.
على أَنا نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه، لم يكن لتخصيص الْأمة فَائِدَة. فَإِن مَا ذكرتموه يَتَقَرَّر فِي الْوَاحِد تقرره فِي الْأمة، إِذْ لَا يسوغ فِي حكمته - تَعَالَى عَن قَوْلهم - أَن يضل وَاحِدًا، كَمَا لَا يسوغ أَن يضل السّريَّة، وَكَذَلِكَ فَلَا اخْتِصَاص لهَذِهِ الْأمة فِي مُقْتَضى أصلكم، فَتبين بطلَان مَا قلتموه.
على أَنا نقُول: قد أوضحنا بِمَا قدمنَا، أَن الَّذين سبقوا كَانُوا يحرصون على الِاتِّبَاع، ويزجرون عَن الابتداع، ويأمرون بموافقة أهل الْإِجْمَاع، ويوبخون مخالفيهم بالأخبار المنطوية على اقْتِضَاء الِاتِّبَاع، فَلَو كَانَ معنى الْأَحَادِيث مَا ذكرتموه، لما خفى ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة على الَّذين سبقُونَا.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بالضلال الْكفْر وَالْخُرُوج عَن الدّين، وَبَين أَن أمته لَا يخرجُون عَن الدّين جملَة، ويبقون عَلَيْهِ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَمن أَيْن لكم وجوب اتباعهم فِي أَحْكَام الشَّرَائِع وآحاد الْمسَائِل، إِذا اتَّفقُوا على أَحْكَامهَا؟
وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: الضلال لَا يُنبئ إِلَّا عَمَّا قُلْنَاهُ، وَالْخَطَأ فِي أَحْكَام الْفُرُوع لَا يُسمى ضلالا.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه:
أَحدهَا: إِن من أصل النظام، أَنه يجوز أَن تَجْتَمِع الْأمة على ضلال، فَإِنَّهُ لايسوغ التَّمَسُّك بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات، كَمَا لَا يسوغه فِي الشرعيات. فَهَذَا تحكم مِنْهُم لَا يُوَافق مَذْهَبهم.
على أَنا نقُول: كل حيد عَن السّنَن المرسوم عقلا وسمعا، سمي ضلالا على الْحَقِيقَة. وَمِنْه سمي الضال عَن الطَّرِيق ضَالًّا، واللفظة ضَالَّة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فِي قصَّة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ: {فعلتها إِذا وَأَنا من الضَّالّين}، وَلم يرد من الْكَافرين، إِنَّمَا أَرَادَ من المخطئين.
ثمَّ نقُول: قد ورد فِي بعض الْأَلْفَاظ مُشْتَمِلًا على الْخَطَأ، فلئن اسْتمرّ فِي الضلال مَا قلتموه، فَلَا يسْتَمر فِي الْخَطَأ.
على أَنا أوضحنا: أَن من قبلنَا استدلوا بِهِ فِي وجوب الِاتِّبَاع عُمُوما، وَلم يخصصوه بضروب من الْأَشْيَاء، بِمَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار، وَلم يُؤثر عَنْهُم تَخْصِيص التحريض على الِاتِّبَاع بِحكم دون حكم.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أمرنَا بِاتِّبَاع الْأمة، فِيمَا وَافَقت فِيهِ نَص كتاب؟
قُلْنَا: هَذَا تَخْصِيص مِنْكُم للْعُمُوم، وَمن يَقُول بِهِ، يصدكم عَن ذَلِك من غير إِقَامَة الدّلَالَة.
على أَنا نقُول: الْعلم من مُقْتَضى الْأَخْبَار: وجوب الِاتِّبَاع فِيمَا يُؤثر فِيهِ الْإِجْمَاع، ويقتضيه الْإِجْمَاع، فَإِذا فرضتم الْكَلَام فِي مَسْأَلَة فِيهَا نَص، فَلَا أثر للْإِجْمَاع إِذا، بل النَّص يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي إثارة الحكم، ثمَّ كل مَا ذكرتموه تحكم مِنْكُم، فَإنَّا نعلم أَن من قبلنَا، لم يخصص التحريض على الِاتِّبَاع والتمسك فِي تَحْقِيقه بالأخبار بمورد نَص، بل عمموا ذَلِك. فَلَو صَحَّ مَا قَالُوهُ، لأبداه أهل الْعَصْر السَّابِقَة وأظهروه.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم: إِنَّه أَرَادَ بالأمة من سَيكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ فَلَا يسْتَقرّ الْإِجْمَاع إِذا إِلَّا بانتهاء الدُّنْيَا.
قُلْنَا: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد الْأَخْبَار، وَوجه من تمسك قبلنَا بهَا، فَإنَّا نعلم أَن الَّذين سبقُونَا، تمسكوا بهَا فِي الْأَمر بالاتباع، وَلَو كَانَ مَعْنَاهُ مَا قلتموه، لما تحقق استفادة الِاتِّبَاع مِنْهَا بِحَال، فَتبين أَن مَا ذَكرُوهُ تعنت مِنْهُم، وحيد عَن المُرَاد بالأخبار.
وَلَهُم أسولة سوى مَا ذَكرْنَاهُ ويسهل التفصي عَنْهَا.

.ذكر ضرب آخر من مطاعنهم فِي الْأَخْبَار الَّتِي ذكروها:

فَإِن قَالُوا: لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا قلتموه، فَنحْن نقابله بِمَا يُضعفهُ ويوهنه من كتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فمما اعتصموا بِهِ: الظَّوَاهِر الدَّالَّة فِي كتاب الله تَعَالَى على النَّهْي عَن المزاجر وضروب التحذير فِيهِ، وأموا إِلَى كل آيَة فِيهَا وزجر، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الربوا} وَقَوله تَعَالَى: {إِن الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَال اليتمى ظلما} وَغَيرهَا من مرادع الْقُرْآن.
قَالُوا: وَقد ثَبت أَن كَافَّة الْأمة مخاطبون بذلك، منهيون عَنهُ فَلَو كَانَ لَا يتَصَوَّر من جَمِيعهم الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، لما تعلق الْخطاب بهم! فَإِن الْخطاب يتَعَلَّق بِمن يتَصَوَّر مِنْهُ مُخَالفَته وموافقته.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تحكم مِنْكُم، فَمن أَيْن لكم أَن من شَرط توجه الْخطاب تصور الْمُخَالفَة من المخاطبين؟ فَهَذَا مِمَّا ننازعكم فِيهِ أَشد الْمُنَازعَة.
هَذَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَجَّهت عَلَيْهِ مناه تجب عصمته فِيهَا مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}.
وَقَوله تَعَالَى: {فاستقم كَمَا أمرت}
وَقَوله تَعَالَى: {وَلَا تتبع أهواءهم}.
وَقَالَ تَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلَام: {إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين} إِلَى غير ذَلِك مِمَّا توجه على الْأَنْبِيَاء، صلوَات الله عَلَيْهِم من ضروب المزاجر، مَعَ وجوب عصمتهم عَنْهَا.
وَرُبمَا يستدلون بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: «لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا، يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض»، وَرُبمَا استروحوا إِلَى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تقوم السَّاعَة إِلَّا على شرار النَّاس» وَقَول: «بَدَأَ الْإِسْلَام غَرِيبا، وَسَيَعُودُ غَرِيبا»، وَلَا مستروح لَهُم فِي شَيْء مِمَّا ذَكرُوهُ من الْآحَاد، الَّتِي لَا تكَاد تبلغ مبلغ الاستفاضة، لَا فِي اللَّفْظ وَلَا فِي الْمَعْنى.
فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا»، فَلم يرد بِهِ جَمِيعهم، و إِنَّمَا أَرَادَ طَائِفَة مِنْهُم لَا بأعيانهم، ويقوى ذَلِك على نفي الْعُمُوم.
على أَنا نقُول للنظام: أَلَسْت قلت فِي تَأْوِيل الْأَخْبَار الَّتِي تمسكنا بهَا أَن الْمَعْنى بهَا فِي أَن الْأمة لَا تَجْتَمِع على كفر وضلالة؟ فَمَا وَجه احتجاجك الْآن بِهَذَا الْخَبَر؟
وَإِن كَانَ الِاحْتِجَاج من الإمامية، فَيُقَال لَهُم: أَلَيْسَ من أصلكم أَن قَول الإِمَام الْمَعْصُوم حجَّة قَاطِعَة؟ وَهُوَ مِمَّن تجب عصمته! فَبِمَ تنكرون أَنه دَاخل تَحت هَذِه المزاجر الَّتِي تمسكتم بهَا؟ فَإِن زَعَمُوا أَن لَا يدْخل تحتهَا، وَهُوَ مُسْتَثْنى مَخْصُوص عَن النَّاس، فَيَنْبَغِي أَن لَا ينكروا منا التَّخْصِيص أَيْضا.
وَرُبمَا يسْتَدلّ منكروا الْإِجْمَاع، بِمَا قدمنَا من دَعْوَى اسْتِحَالَة الْإِجْمَاع، ووجوه اسْتِحَالَة النَّقْل عَن الْأمة وَإِن تصور إِجْمَاعهم، وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك بِمَا فِيهِ بَلَاغ.
فَإِن قَالُوا: مَا من أحد من أهل الْإِجْمَاع إِلَّا وَهُوَ بصدد الزلل، فَمَا بالهم إِذا اجْتَمعُوا خَرجُوا عَن هَذَا الْجَوَاز؟
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: مَا ذكرتموه يبطل عَلَيْكُم بِنَقْل أهل التَّوَاتُر الْأَخْبَار عَن المشاهدات، فَإِنَّهُ ثَبت صدقهم ضَرُورَة - والنظام لَا يُنكر ذَلِك - وكل وَاحِد مَوْصُوف بِأَنَّهُ لَو انْفَرد بِالنَّقْلِ جَازَ عَلَيْهِ.
ثمَّ نقُول: خبرونا، هَل فِي مقدورات الرب تَعَالَى أَن يعْصم الْأمة إِذا اتّفقت، مَعَ أَن حيدها عَن الْحق من قبيل المقدورات؟
فَإِن قَالُوا: ذَلِك فِي الْمَقْدُور.
قُلْنَا: فَلَا نستنكره إِذا دلّت عَلَيْهِ الدّلَالَة.

.فصل: فِي أَن الْإِجْمَاع إِذا ثَبت فَيجب اتِّبَاعه:

فَإِن قَالَ قَائِل: إِن سلم لكم مَا ادعيتموه من أَن مَا اجْتمعت عَلَيْهِ الْأمة صَوَاب حق، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه يجب اتباعهم؟ وَرب صَوَاب يصدر، وَلَا يجب اتِّبَاع صَاحبه فِيهِ؟
قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِم: إِن كل مُجْتَهد مُصِيب ثمَّ لَا يجب اتِّبَاع كلهم، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِر، يُصِيب فِي اسْتِبَاحَة الرُّخص، وَلَا يتبعهُ الْمُقِيم، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يكثر عده.
قُلْنَا: كل مَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة على إِثْبَات الْإِجْمَاع، فَهُوَ مَبْنِيّ على وجوب الِاتِّبَاع.
وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} فصريح فِي الْأَمر بالاتباع، كَمَا قدمْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْأَخْبَار الَّتِي اعتصمنا بهَا. فَلم نقل إِن الْأمة يجب اتباعها لكَون مَا اجْتمعت عَلَيْهِ حَقًا، ليلزمنا مَا قلتموه.
ثمَّ نقُول: إِذا ثَبت إِجْمَاع الْأمة لَا يكون إِلَّا على صَوَاب، فمما اجْتمعت عَلَيْهِ، وجوب الِاتِّبَاع عِنْد تَقْدِير الِاجْتِمَاع، فَإِن النَّاس حزبان:
مِنْهُم من يُنكر الْإِجْمَاع، وَيَزْعُم أَن مَا أجمع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، يجوز أَن يكون خطأ، وَمِنْهُم من يقطع بِكَوْنِهِ صَوَابا.
وَلَا قَائِل بِأَنَّهُ صَوَاب غير متتبع فالمصير إِلَى تثبيت الصَّوَاب، مَعَ القَوْل بِنَفْي وجوب الِاتِّبَاع، إِحْدَاث قَول ثَالِث، مفض إِلَى خرق الْإِجْمَاع فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.القَوْل فِي أَوْصَاف المجمعين وَذكر من يعد خِلَافه، وَمن لَا يعد خِلَافه:

اعْلَم، وفقك الله، أَن الِاعْتِبَار فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْأمة، حَتَّى لَو قَدرنَا من وَاحِد من الْعَوام، اخْتِلَاف مَا عَلَيْهِ الْعلمَاء، لم يكترث بِخِلَافِهِ، وَهَذَا ثَابت اتِّفَاقًا وإطباقا. إِذْ لَو قُلْنَا: إِن خلاف الْعَوام يقْدَح فِي الْإِجْمَاع - مَعَ أَنهم لَا يَقُولُونَ مَا يَقُولُونَ إِلَّا عَن جهل وحدس، وَلَا يصدرون أَقْوَالهم عَن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة - أفْضى هَذَا الى اعْتِبَار خلاف من يعلم أَنه قَالَ مَا قَالَه عَن غير أصل وَدَلِيل، على أَن الْأمة أَجمعت علماؤها وعوامها أَن خلاف الْعَوام لَا مُعْتَبر بِهِ، وَقد مر على هَذَا الْإِجْمَاع عصر، فَثَبت بِمَا قُلْنَاهُ أَلا مُعْتَبر بِخِلَاف الْعَوام.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا أجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم من الْأَحْكَام، فَهَل تطلقون القَوْل، بِأَن الْأمة مجمعة عَلَيْهِ، أَو مَا قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: من الْأَحْكَام، مَا يحصل فِيهِ اتِّفَاق الْخَاص وَالْعَام، نَحْو وجوب الصَّلَوَات وَوُجُوب أصل الزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج وَغَيرهَا من أصُول الشَّرِيعَة، فَمَا هَذَا وَجهه، فيطلق القَوْل، بِأَن الْأمة أَجمعت عَلَيْهِ.
وَأما مَا أجمع عَلَيْهِ الْعلمَاء من أَحْكَام الْفُرُوع الَّتِي تشذ عَن الْعَوام، فقد اخْتلف أصحابنَا فِي ذَلِك:
فَقَالَ بَعضهم: الْعَوام مدخولون فِي حكم الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَنهم وَإِن لم يعرفوا تَفْصِيل الْأَحْكَام، فقد عرفُوا على الْجُمْلَة، أَن مَا أجمع عَلَيْهِ عُلَمَاء الْأمة فِي تفاصيل الْأَحْكَام، فَهُوَ حق مَقْطُوع بِهِ، فَهَذَا وَجه مساهمة مِنْهُم فِي الْإِجْمَاع، وَإِن لم يعلمُوا مواقعه على التَّفْصِيل.
وَمن أصحابنَا من زعم أَنهم لَا يكونُونَ مساهمين فِي الْإِجْمَاع، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يتَحَقَّق الْإِجْمَاع فِي التفاصيل بعد الْعلم بهَا، فَإِذا لم يَكُونُوا عَالمين بهَا. فَلَا يتَحَقَّق كَونهم من أهل الْإِجْمَاع فِيهَا.
وَاعْلَم أَن هَذَا اخْتِلَاف يهون أمره، ويؤول إِلَى عبارَة مُحصنَة، وَالْجُمْلَة فِيهِ أَنا إِذا أدرجنا الْعَوام فِي حكم الْإِجْمَاع، فنطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، وَإِن لم ندرجهم فِي حكم الْإِجْمَاع، أَو بدر من بعض طوائف الْعَوام خلاف فَلَا يُطلق القَوْل بِإِجْمَاع الْأمة، فَإِن الْعَوام مُعظم الْأمة وكثرها، بل نقُول: أجمع عُلَمَاء الْأمة.
فَإِن قيل: هَل تجوزن أَن يجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم من الْأَحْكَام من غير دَلِيل؟
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز بل نحيله، وَذَلِكَ أَن الْأمة أَجمعت على أَنه لَا يجوز إِثْبَات حكم فِيهِ من غير دَلِيل، فَلَو جَوَّزنَا إِجْمَاعهم من غير دَلِيل خطئَ إِجْمَاعًا.

.فصل: هَل الِاعْتِبَار فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع بجملة الْعلمَاء أم يخْتَص ببعضهم؟:

إِذا ثَبت بِمَا قدمْنَاهُ، أَن الْعبْرَة فِي الْإِجْمَاع بعلماء الْأمة، وهم الَّذين يقْدَح خلافهم، وَيمْنَع من انْعِقَاد الْإِجْمَاع.
فَلَو قَالَ قَائِل: أفتعتبرون جملَة الْعلمَاء فِيمَا ذكرتموه، أَو تخصصونه بطَائفَة مِنْهُم؟
قُلْنَا: قد اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك:
فَذهب شرذمة مِنْهُم فِي جمع من الْفُقَهَاء إِلَى أَن أهل الْإِجْمَاع فِي أَحْكَام الشَّرْع، هم الَّذين تصدوا للْفَتْوَى، واستجمعوا شرائطها.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْعبْرَة فِي الْفُقَهَاء، المنفردين بِحِفْظ مسَائِل الْفُرُوع.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي يَصح فِي ذَلِك عندنَا: أَن من لم ينْتَصب للْفَتْوَى، و لم يتَصَدَّى لجمع مسَائِل الْفُرُوع - وَلَكِن لما كَانَ من الْعَالمين بأصول الديانَات، وأصول الْفِقْه، وَكَانَ يعلم مواقع الْأَدِلَّة وموجبها، وَوجه إفضائها إِلَى الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، وطرق الاستنباط، ووجوه التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة، وَتَقْدِيم بَعْضهَا عِنْد التباس الْحَال، فَهُوَ من أهل الْإِجْمَاع، وَيعْتَبر خِلَافه ووفاقه.
وَالدَّلِيل على ذَلِك: أَنا قد ثبتنا الْإِجْمَاع بقوله عز أُسَمِّهِ: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ} وبالأخبار الَّتِي نقلناها وَلَيْسَ فِي قَضِيَّة مَا أَقَمْنَا من الْأَدِلَّة، تَخْصِيص أهل الْفَتْوَى. أَو تَخْصِيص حفظه الْفُرُوع، وَلَوْلَا قيام الْإِجْمَاع، لأدرجنا الْعَوام فِي حكم الْإِجْمَاع، وَلَكِن لما ثَبت بِدلَالَة الْإِجْمَاع أَنه لَا مُعْتَبر بِخِلَاف الْعَوام، لم نعتبرهم، وَبَقِي الْعلمَاء من غير تَخْصِيص فِي حكم الْإِجْمَاع.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَن أهل الْإِجْمَاع، هم الَّذين سهل عَلَيْهِم مدرك المشكلات، وَيتَصَوَّر مِنْهُم التَّوَصُّل إِلَيْهَا على يسر، وَأهل الْأُصُول بِهَذِهِ المثابة، فَإِنَّهُم إِذا علمُوا طرق الِاجْتِهَاد وَوجه التَّمَسُّك بأصول الشَّرِيعَة، فَلَا يعجزهم إِذا عنت حَادِثَة، أَن يعرفوا وُجُوه الْمذَاهب فِيهَا فِي أدنى مَا يقدر .
ثمَّ تكون معرفتهم بطرق الِاجْتِهَاد فَوق معرفَة الْفُقَهَاء غير المحظوظين بالأصول، ومنزلة الْأُصُولِيِّينَ فِي ذَلِك منزلَة فَقِيه، تشذ عَلَيْهِ مَسْأَلَة، فيطالعها ويتتبعها ويردها إِلَى حفظه.
فَثَبت لما قُلْنَاهُ: أَن أَرْبَاب الْأُصُول مِمَّن يستضاء بآرائهم فِي طرق الِاجْتِهَاد وتوصلهم إِلَى أَحْكَام الْفُرُوع، مَعَ ذهابهم عَن بعض الْفُرُوع الحفظية، أقرب من توصل الْفُقَهَاء، مَعَ ذهابهم عَن أسرار الْأُصُول وحقائق الِاجْتِهَاد.
وَمن أوضح مَا يدل على ذَلِك، أَنا نعلم أَن الصَّحَابَة، كَانُوا يعتبرون خلاف من لم يشْهد مِنْهُ فِي الصَّحَابَة تعيد للْفَتْوَى، نَحْو الزبير وَطَلْحَة وَغَيرهمَا من عُلَمَاء الصَّحَابَة الَّذين لم يشْهد عَنْهُم الانتصاب للْفَتْوَى، كَمَا اشْتهر عَن الْخُلَفَاء ومعاذ وَابْن مَسْعُود وَغَيرهم، ثمَّ كَانُوا يعتبرون خلاف من عداهم.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك، إِيقَاع عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَطَلْحَة وسعدا فِي الشورى ورتب الْإِمَامَة الْعُظْمَى، فوضح بذلك مَا قُلْنَاهُ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يسوغ لأرباب الْأُصُول إِذا قَالَ الْفُقَهَاء قولا، أَن يقلدوهم فِيمَا قَالُوهُ، من غير تفحص وَتَحْقِيق؟
قُلْنَا: لَو فعلوا ذَلِك مَعَ الْقُدْرَة على الفحص على طَرِيق الِاجْتِهَاد، لم يَكُونُوا معذورين، بل عَلَيْهِم بذل كنه المجهود، ويستقصى القَوْل فِي ذَلِك عِنْد ذكرنَا التَّقْلِيد، وتجويز اتِّبَاع الْعَالم الْعَالم، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه:

اعْلَم، وفقك الله، أَن من أَجمعت الْأمة على تكفيره وانسلاله عَن الدّين، فَلَا مُعْتَبر بِخِلَافِهِ ووفاقه.
فَأَما الَّذين اقْتَضَت الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تكفيرهم بِمَا اعتقدوه وأبدعوه، وَرُبمَا لَا يدْرك وَجه تكفيرهم إِلَّا المميزون بِعلم الْأُصُول - فَإِن التَّكْفِير مِمَّا يدق النّظر فِيهِ - فَمَا حكمهم؟ وَهل يعْتد بخلافهم ووفاقهم؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من تَقْتَضِي الْأَدِلَّة تكفيره، فَلَا يكترث بِخِلَافِهِ ووفاقه أصلا، فَإِنَّهُ قد وضح بالأدلة خُرُوجه عَن الدّين، فلحق بالكفار الْمُجَاهدين بالْكفْر، وَهَذَا ثَبت إِجْمَاعًا، فَإِن الْأمة مجمعة، على أَن من ثَبت كفره، لَا يعْتد بِخِلَافِهِ فِي الْمسَائِل الْحكمِيَّة .
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا اعتبرتم فِي التَّكْفِير الْإِجْمَاع؟ حَتَّى لَا تكفرُوا إِلَّا من أَجمعت الْأمة على تكفيره.
قُلْنَا: الْكَلَام فِي التَّكْفِير يطول تتبعه، وَهُوَ مِمَّا يستقصى فِي الديانَات.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك: أَن من وضح عِنْده كفر قوم بِالدّلَالَةِ الْعَقْلِيَّة، فَلَا تحْتَاج الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة إِلَى الاعتضاد بِالْإِجْمَاع.
فَإِن قَالَ قَائِل: فمعظم الْفُقَهَاء الَّذين لم يحيطوا بالأصول، لَا يكفرون الَّذين يكفرهم المتكلمون، فَهَل تَقولُونَ: إِن الَّذين لم يحيطوا علما بتكفيرهم مخاطبون مكلفون بالاعتقاد بخلافهم، وَالَّذين علمُوا من الْمُتَكَلِّمين وَجه تكفيرهم، فَلَا يعتدون بخلافهم؟
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: ذكرنَا فِي بعض مصنفاتنا أَنا لَو قُلْنَا بذلك، لم يبعد حَتَّى نقُول: من أحَاط علما بِمَا يَقْتَضِي تَكْفِير قوم، فَهُوَ يقطع أَنه لَا يعْتد بخلافهم وَمن ذهب عَنهُ مدرك ذَلِك من عُلَمَاء الْأمة، فَهُوَ مُخَاطب بالاعتداد بخلافهم، وَهَذَا كَمَا أَن من بلغه النَّاسِخ، فَهُوَ مُخَاطب بِحكمِهِ، وَمن لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَيجب عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الحكم.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: ثمَّ وضح عندنَا أَن ذَلِك محَال، فَإِن من دلّت الدّلَالَة على وجوب تكفيره، فَلَا يعْتَبر بِخِلَافِهِ فِي جملَة وَلَا تَفْصِيل، وَأما الْفُقَهَاء الَّذين ذهب عَنْهُم مدرك ذَلِك، فَلَا يخاطبون بالاعتداد بخلافهم، وَلَكنهُمْ مخاطبون بِأَن يَجدوا ويجتهدوا فِي مدرك أَوْصَاف من يعْتد خِلَافه ووفاقه، وليعلموا مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير، ليتميز الْمَقْصد فِي ذَلِك، فَإِن هَذَا مَا يقدر عَلَيْهِ ويتوصل إِلَيْهِ، إِذْ لَو لم نقل ذَلِك، لزمنا أَن نقُول: قد ينْعَقد الْإِجْمَاع مَقْطُوعًا بِهِ فِي حق الْمُتَكَلِّمين، وَهُوَ غير مَقْطُوع مُنْعَقد فِي حق الْفُقَهَاء، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، فَإِن الْإِجْمَاع لَا يَتَبَعَّض فِي انْعِقَاده وَلَيْسَ كَذَلِك الَّذِي لم يبلغهُ النَّاسِخ، فَإِنَّهُ غير مقتدر على الْوُصُول إِلَيْهِ، وَالْفُقَهَاء موصوفون بالاقتدار على الْوُصُول إِلَى مُوجب التَّكْفِير، فليجدوا فِيهِ وليحضوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم موصوفون بالاقتدار عَلَيْهِ على قرب، حَتَّى لَا يضْطَر إِلَى تبعيض حكم الْإِجْمَاع، فَيحكم من خص بالأصول بانعقاد الْإِجْمَاع فِي مَسْأَلَة لَعَلَّه بِأَنَّهُ لم يبْق فِيهَا إِلَّا الَّذين تَقْتَضِي دلَالَة الْعقل تكفيرهم. وَيحكم الَّذين لم يتدبروا مَا يَقع بِهِ التَّكْفِير، بِأَن الْإِجْمَاع لم ينْعَقد بعد.
وَكَذَلِكَ من الْمَعْنى أَوجَبْنَا على الْفُقَهَاء تتبع مَا يُوجب التَّكْفِير، حَتَّى لَا يتوقفوا فِي الحكم بانعقاد الْإِجْمَاع فِي أَمْثَال هَذِه الصُّورَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَمَا الَّذِي يُوجب التَّكْفِير؟
قُلْنَا: هَذَا لَا مطمع فِي تَقْرِيره فِي هَذَا الْفَنّ.
فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو صَار صائرون من الَّذين تكفرونهم إِلَى مَذْهَب يُخَالف مَا عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، ثمَّ إِنَّهُم تَابُوا وأنابوا وَرَجَعُوا عَمَّا يُوجب تكفيرهم، وهم مصرون على الْمَذْهَب الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، فَهَل يقْدَح ذَلِك الْآن فِي الْإِجْمَاع؟
قُلْنَا: لَا يقْدَح ذَلِك فِي الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع قد انْعَقَد قبل إنابتهم. فَلَا مُعْتَبر بمذهبهم. وَعَلِيهِ مُوَافقَة مَا عَلَيْهِ الْأمة، وَهَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم على قَوْلنَا إِن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع - على مَا سنوضحه بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل: هَل عدد التَّوَاتُر شَرط فِي المجمعين:

فَإِن قَالَ قَائِل: أَفَرَأَيْتُم لَو غلب الْكفْر - وَالْعِيَاذ بِاللَّه - فِي آخر الزَّمَان كَمَا وعده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يبْق من الْمُؤمنِينَ إِلَّا شرذمة قَليلَة، بِحَيْثُ لَو نقلوا خَبرا فِيمَا شاهدوه، لم يقتض الْعلم الضَّرُورِيّ، إِذْ لم يبلغُوا أقل عدد التَّوَاتُر، فَهَل يتَصَوَّر مِنْهُم الْإِجْمَاع - وَهَذَا وَصفهم؟ وهَل يقطع بِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟
قَالُوا: فَإِن قُلْتُمْ: مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق - وَالْمَسْأَلَة مَفْرُوضَة فِي الصُّورَة الَّتِي ذَكرنَاهَا - أدّى ذَلِك إِلَى محَال، وَهُوَ أَن المجمعين لَو أخبروا عَن أنفسهم بِالْإِيمَان والإيقان، لم يَقع لنا الْعلم بصدقهم فِي أصل الْإِيمَان، لعلمنا بقصورهم عَن مبلغ عدد التَّوَاتُر: فَإِذا كُنَّا نستريب فِي إِيمَانهم، فَكيف نقطع القَوْل بِأَن مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حق؟ وَإِن قُلْتُمْ إِنَّه لَا حكم لاتفاقهم، فقد جوزتم أَن يَخْلُو عصر من الْأَعْصَار عَن أهل الْإِجْمَاع.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ أصحابنَا قَدِيما وحديثا، فَذهب الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَن أهل الْإِيمَان لَا يرجعُونَ إِلَى الْعدَد الَّذِي ذكرتموه، إِذْ قد ثَبت بالأدلة القاطعة وَإِجْمَاع الْأمة أَن أهل هَذِه الْملَّة لَا ينقرضون، إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور. وَقد قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين بِالْحَقِّ، لَا يضرهم خلاف من خالفهم» فعلى هَذَا لَا يجوز أَن يَخْلُو عصر من الْأَعْصَار عَن طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ يبلغون عدد أهل التَّوَاتُر، فَسقط مَا قَالُوهُ على هَذَا الْمَذْهَب.
وَمن أصحابنَا من جوز رُجُوع أهل الْملَّة فِي آخر الزَّمَان إِلَى عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، ثمَّ هَؤُلَاءِ أَجمعُوا على أَنهم - وَإِن رجعُوا الى هَذَا الْعدَد - فَمَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، حجَّة قَاطِعَة عِنْد الله. حَتَّى لَا يَخْلُو الزَّمَان عَن حجَّة قَائِمَة.
وَأما مَا ذَكرُوهُ من أَنهم لَو أخبروا عَن أنفسهم بِالْإِيمَان، لم نعلم حَقِيقَة صدقهم، فَكيف نعلم ثُبُوت مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ مَعَ الاسترابة فِي إِيمَانهم؟
الْجَواب عَن ذَلِك أَن نقُول: إِذا جَوَّزنَا رُجُوع أهل الْملَّة الى الْعدَد الَّذِي وصفتموه، فَإِنَّمَا يكون ذَلِك فِي آخر الزَّمَان، عِنْد ظُهُور أَشْرَاط السَّاعَة وبدو آيَات قِيَامهَا، فَلَا يبعد حِينَئِذٍ - وَقد ظَهرت الْآيَات و بدا انخراق الْعَادَات - أَن يخرق الله الْعَادة فِي أَمر التَّوَاتُر، حَتَّى إِذا أخبروا عَن أنفسهم، أَو عَن غَيرهَا من المشاهدات: أوجب ذَلِك الصِّحَّة فِيمَا نقلوه، على خلاف الْعَادة أَيْضا.
وَإِن استنكر السَّائِل انخراق الْعَادة، قُلْنَا: فَنحْن إِنَّمَا نجوز مَا قلتموه فِي الْوَقْت الَّذِي تنخرق فِيهِ الْعَادَات بِالْآيَاتِ، نَحْو خُرُوج الدَّجَّال ودابة الأَرْض وَمَا أشبههما.
فَهَذَا مَا يجب تَحْصِيله فِي هَذَا الْبَاب.

.فصل: هَل الْإِجْمَاع حجَّة فِي الاعتقادات، كالشرعيات؟:

فَإِن قيل: فَإِذا حكمتم بِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة، فَهَل تقبلونها فِي كل مَوضِع؟ وَهل تقيمون الْحجَّة بِالْإِجْمَاع فِي الديانَات وأصول الاعتقادات، كَمَا أقمتم ذَلِك فِي الشرعيات؟ فصلوا قَوْلكُم فِي ذَلِك.
قُلْنَا: مَا يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول: كل مَا لَا يتَصَوَّر ثُبُوت الْإِجْمَاع وَالْعلم بِصِحَّتِهِ، إِلَّا مَعَ تقدم الْعلم بِهِ، فانعقاد الْإِجْمَاع لَا يكون حجَّة فِيهِ.
وَذَلِكَ نَحْو معرفَة الصَّانِع، وَثُبُوت صِفَاته الَّتِي تدل عَلَيْهَا الْأفعال، وَكَذَلِكَ ثُبُوت النبوات، فَهَذَا الْقَبِيل، مَا لَا يكون انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِيهِ حجَّة، وَذَلِكَ أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت إِلَّا سمعا، وَلَا دَلِيل فِي الْعقل عَلَيْهِ، وَلَا تثبت الدّلَالَة السمعية إِلَّا بعد الْعلم بالصانع والنبوات، فَكيف يتَصَوَّر كَون الْإِجْمَاع حجَّة فِي هَذِه الْأُصُول، مَعَ الْعلم بِأَن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر أَن يعلم إِلَّا بعد تقدم هَذِه المعارف؟
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنه لَا يسوغ الِاحْتِجَاج بِكِتَاب الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأُصُول إِذْ لَا نعلم صِحَة الْكتاب، إِلَّا بعد تقدم الْعلم بهَا.

.القَوْل فِي إِجْمَاع كل عصر وتبيين بطلَان اخْتِصَاص حكم الْإِجْمَاع فِي عصر دون عصر:

اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ الدهماء من الْعلمَاء الْقَائِلين بِالْإِجْمَاع: أَن الْإِجْمَاع لَا يخْتَص بِأَهْل الصَّدْر الأول، وَلَكِن لَو اجْتمع التابعون على حكم، لقامت الْحجَّة بإجماعهم، كَمَا تقوم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَهَكَذَا كل عصر بعدهمْ.
وَذهب دَاوُد وَمن تبعه من أهل الظَّاهِر، إِلَى أَن الْإِجْمَاع الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة، يخْتَص بالصحابة، فَلَا إِجْمَاع بعدهمْ.
وَالدَّلِيل على فَسَاد مَا قَالُوهُ أَن نقُول: الْإِجْمَاع لَا يثبت عقلا أصلا، وَإِنَّمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ السّمع، وكل مَا دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَهُوَ بِعَيْنِه دَال على إِجْمَاع غَيرهم.
وكل مَا رام بِهِ الْخصم قدحا فِي إِجْمَاع بعض أهل الْأَعْصَار فَذَلِك يتداعى إِلَى إِجْمَاع الصَّحَابَة.
وإيضاح ذَلِك: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، قَوْله تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}. وَهَذَا اسْم لَا يخْتَص بالصدر الأول، بل يتَحَقَّق فِيمَن بعدهمْ تحَققه فيهم.
فَإِن قَالُوا: فَهَذِهِ الْآيَات من أوضح الْحجَج وأثبتها على اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بهم وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي زمانهم، فَانْطَلق عَلَيْهِم اسْم الْمُؤمنِينَ على التحقق، إِذْ كَانُوا يَوْمئِذٍ موجودين، وَمن عداهم وسواهم لم يَكُونُوا موجودين يَوْمئِذٍ، ليسموا مُؤمنين، فَمن هَذَا الْوَجْه لزم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بهم.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه ظن مِنْكُم، وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ الْمَقْصد من سِيَاق الْآيَة مَا وَقع لكم، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهَا تَعْظِيم رُتْبَة الْمُؤمنِينَ من غير تَخْصِيص بِزَمَان.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو صَحَّ مَا قلتموه، للزمكم مِنْهُ شَيْئَانِ:
أَحدهمَا: أَن تَقولُوا: إِذا اسْتشْهد بعض الصَّحَابَة بعد نزُول الْآيَة، لم ينْعَقد الْإِجْمَاع بالباقين، فَإِنَّهُم بعض الْمُؤمنِينَ، فيلزمكم على هَذَا أَن تَقولُوا: إِذا اسْتشْهد قوم من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، ثمَّ عنت حَادِثَة أَجمعُوا على حكمهَا، فَلَا حجَّة فِي إِجْمَاعهم! وَمِمَّا يلزمكم على مَا قلتموه من تَخْصِيص الْمُؤمنِينَ بالذين كَانُوا مُؤمنين عِنْد نزُول الْآيَة، أَن تَقولُوا لمن أسلم بعد نزُول هَذِه الْآيَة، وعاصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأدْركَ زَمَانه، وَبلغ أعظم المبالغ فِي الدّين، وَاسْتَجْمَعَ شَرَائِط الْمُجْتَهدين، فَيَنْبَغِي أَن لَا يكون من أهل الْإِجْمَاع. لِأَنَّهُ لم يكن منعوتا بِالْإِيمَان عِنْد نزُول الْآيَة، فَلَمَّا اسْتَحَالَ ذَلِك، تبين أَنه لَيْسَ الْمَقْصد من الْآيَة مَا ذهبتم إِلَيْهِ، وَعلمنَا أَن الْمَقْصد من الْآيَة، كل الْمُؤمنِينَ فِي كل الْأَعْصَار.
وَمن تدبر ظَاهر الْآيَة حق التدبر علم على اضطرار على أَنه لَيْسَ الْمَقْصُود بهَا مَا قَالُوهُ، كَمَا نعلم أَن النَّص على النَّهْي عَن التأفيف، مُؤذن بِالنَّهْي عَمَّا فَوْقه من ضروب التعنيف.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ: مَا روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم خلاف من خالفهم». وكل مَا قدمْنَاهُ من الْأَخْبَار الدَّالَّة، فَلَا تتخصص بعصر دون عصر.
فَإِن اعتل أهل الظَّاهِر بطرق:
مِنْهَا أَن قَالُوا: الصَّحَابَة هم الَّذين عاصروا صَاحب الشَّرِيعَة، وشاهدوا مسْقط الْوَحْي، فهم الأَصْل، دون غَيرهم.
وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن نقُول: هَذَا اجتزاء مِنْكُم بِالدَّعْوَى. فَلم قُلْتُمْ، وَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟ وَمَا لكم اقْتصر على الدَّعْوَى فِيهِ؟
ثمَّ نقُول: فَالَّذِينَ شاهدوا قوما، تقوم بهم الْحجَّة فَيَنْبَغِي أَن تنزل مشاهدتهم إيَّاهُم منزلَة مُشَاهدَة الصَّحَابَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومعاصرتهم إِيَّاه، فَإِن كلا الْفَرِيقَيْنِ أدْرك من تقوم بِهِ الْحجَّة.
وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْآثَار:
نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «إِن أصحابي كَالنُّجُومِ».
وَنَحْو قَوْله: «خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يفشو الْكَذِب، فَيحلف الرجل وَلم يسْتَحْلف» الحَدِيث.
قَالُوا: فَهَذَا يدل على الميز بَين الْأَعْصَار.
قُلْنَا: لَا مستروح لكم فِيمَا قلتموه، وَذَلِكَ أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن أصحابي كَالنُّجُومِ» لم يرد بِهِ التَّعْرِيض إِلَى حكم الْإِجْمَاع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنه قَالَ فِي تَمام الحَدِيث: «بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» على أَن أَكثر مَا فِيهِ أَنه تمسك بِمَفْهُوم الْخطاب، وَقد قدمنَا، من أصلنَا: بطلَان القَوْل بِدَلِيل الْخطاب.
وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «خير النَّاس قَرْني» فَهُوَ من أوضح الْأَدِلَّة عَلَيْكُم، وَذَلِكَ أَنه تتبع ذكر الصَّحَابَة بِذكر التَّابِعين، فَقولُوا: إِنَّهُم يحلونَ مَحل الصَّحَابَة عِنْد عدمهم.
ثمَّ نقُول لَيْسَ الْمَقْصد من الْخَبَر، التَّعَرُّض لإِثْبَات الْإِجْمَاع ونفيه، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود مِنْهُ، تَبْيِين تفاضل أهل الْأَعْصَار فِي حسن الْعَمَل والمحافظة على الطَّاعَات. وَلِلْقَوْمِ شبه تداني مَا قُلْنَاهُ يسهل مأخذها.