فصل: باب يجمع اخْتِلَاف النَّاس فِي جَوَاز النّسخ، وَمنعه، وَذكر مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.باب النّسخ:

إِن شَاءَ الله تَعَالَى، قَالُوا: فَلَو خرج الْمَأْمُور بِهِ عَن كَونه مَأْمُورا بِهِ وَصَارَ مَنْهِيّا عَنهُ أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصيرالحسن قبيحا وَلَو قدر الْأَمر على الضِّدّ من ذَلِك أدّى ذَلِك إِلَى أَن يصير الْقَبِيح حسنا إِذا انْقَلب الْمنْهِي عَنهُ مَأْمُورا بِهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي ان يصير المُرَاد مَكْرُوها وَالْمَكْرُوه مرَادا وَالطَّاعَة عصيانا والعصيان طَاعَة، وَهَذَا محَال مفضى إِلَى قلب الْأَجْنَاس، فَإِن الْقبْح وَالْحسن من صِفَات الْأَجْنَاس عِنْدهم، وَتَقْدِير مَا يقلب الْأَجْنَاس محَال، فالنسخ على تَقْدِير رفع الْأَمر إِثْبَات فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى يُؤذن بقلب الْأَجْنَاس أَو البداء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ، وَهَذَا بِعَيْنِه مَذْهَب الْيَهُود الَّذين يُنكرُونَ النّسخ عقلا.
فَإِذا وضح ذَلِك من اصلهم قَالُوا: فالنسخ على التَّحْقِيق لَيْسَ هُوَ رفع لعين مَا ثَبت من الحكم فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلَكِن إِنَّمَا هُوَ تَبْيِين أَن المُرَاد بِالنَّصِّ الأول تثبيت الحكم إِلَى وَقت وُرُود النَّاسِخ، وَأَنه لم يرد بِهِ تثبيت الحكم الأول تثبيت الحكم بِالنَّصِّ على التَّأْبِيد، فِي ابْتِدَاء مورده، فَيكون النّسخ تبيينا لما أُرِيد بِاللَّفْظِ الأول، وَلَا يكون فِي الْحَقِيقَة رَافعا لحكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلذَلِك قيدوا حَدهمْ فَقَالُوا: هُوَ النَّص الدَّال على أَن مثل الحكم الثَّابِت بِالنَّصِّ الْمُتَقَدّم زائل وَلم يَقُولُوا هُوَ الدَّال على زَوَال الحكم الأول، بل قدرُوا الزَّوَال فِي مثل حكمه فِي الْمُسْتَقْبل، مصيرا مِنْهُم إِلَى أَنه غير مَا ثَبت بِالنَّصِّ الأول وَمَا عنوا بالإزالة حَقِيقَتهَا، فَذَاك أَن النّسخ لَا يزِيل حكما ثَابتا عِنْدهم بل عنوا بالزوال انه لم يثبت أصلا مثل هَذَا الحكم فِي الِاسْتِقْبَال.
وتورط بعض الْفُقَهَاء فِي هَذَا الأَصْل لما جعلُوا النّسخ تبيينا نازلا منزلَة تَخْصِيص الْأَزْمَان.
وَنحن نذْكر ر مَا نرتضيه من الْحَد الْآن ثمَّ نومىء إِلَى وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَالْأولى أَن نقُول فِي حد النّسخ وَمَعْنَاهُ: هُوَ الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدّم على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ. وَإِنَّمَا عدلنا عَن لفظ النَّص: فَإِن النَّص فِي تواضع الْأُصُولِيِّينَ هُوَ اللَّفْظ الْمُصَرّح بِهِ من غير تضمن، وَلَا يخْتَص النّسخ بذلك، فَإِنَّهُ قد ثَبت لفحوى الْخطاب وَإِن كَانَ ضمنا فِي الْكَلَام غير مُصَرح، فَهُوَ وَأَمْثَاله ينْدَرج تَحت إِطْلَاق الْخطاب، وَإِن كَانَ يبعد تَسْمِيَته نصا، وَقَيَّدنَا الحكم بالحكم وَلم نخصصه بِالْأَمر فَإِن من النَّاس من يَقُول: هُوَ ارْتِفَاع الْأَمر الأول وَفِيه اختلال فَإِن النّسخ لَا يتخصص بالأوامر والنواهي، وَلَكِن يتَحَقَّق فِي جملَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، حظرها وإباحتها وندبها واستحبابها، فَذكر الحكم أَولا ثمَّ صرحنا فِي الْحَد بِأَن قُلْنَا: هُوَ الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت: فأنبأ ذَلِك صريحاعن اقْتِضَاء النّسخ رفع حكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله واحترزنا بقولنَا: "مَعَ تراخيه" على التقييدات الْمُتَّصِلَة بالْكلَام، نَحْو قَوْله سُبْحَانَهُ: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ} فَلَا نقُول أَن قَوْله: {إِلَى الَّيْلِ} نَاسخ للصيام، بل هُوَ كَلَام وَاحِد مُفِيد وتقييده يُبينهُ، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ رفع حكم بعد ثُبُوته.
وَاعْلَم أَن مَا قيدنَا بِهِ الْحَد من رفع الحكم بعد ثُبُوته يُغْنِيك عَن ذَلِك، فَإِن هَذِه التغييرات لَا تَتَضَمَّن رفعا بعد ثُبُوته، وَلَكِن من حكم النّسخ، أَن يَقع مُتَأَخِّرًا على مَا سَنذكرُهُ من شَرَائِطه إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَذكرنَا ذَلِك فِي الْحَد لهَذَا الْمَعْنى، فَهَذَا هُوَ الْحَد السديد عندنَا.
ثمَّ اعلموا أَن من أصل أهل الْحق أَنهم لَا يستنكرون أَن يثبت الحكم ثمَّ يرْتَفع عين مَا ثَبت وَذَلِكَ أَنا لَا نعلق الشَّرَائِع بالإراده وَلَا نجْعَل الْأَحْكَام من أَوْصَاف الْأَجْنَاس حَتَّى يُؤَدِّي تَقْدِير رفع الحكم الثَّابِت إِلَى قلب المُرَاد مَكْرُوها وَالْحسن قبيحا، وَمن ذَلِك لَا يُفْضِي هَذَا الأَصْل إِلَى تَجْوِيز البداء على مَا سنصف البداء إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَلَو خضت فِي أَحْكَام الإرادات والقبح وَالْحسن لطال عَلَيْك تتبعه، وكنه ترى على شطر الْكَلَام، وَلَكِن الْمَقْصد تنبيهك على الْقَاعِدَة، فَنَقُول لخصومنا نَرَاكُمْ تصرحون بِأَن النّسخ لَيْسَ بِرَفْع الحكم الأول الثَّابِت، وَهَذَا إِنْكَار مِنْكُم لأصل النّسخ، وَذَلِكَ أَنكُمْ إذازعمتم أَن مِمَّا ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى من الْأَحْكَام لَا يجوز تَقْدِير ارتفاعه وزواله وَإِنَّمَا ثَبت بِمَا سميتموه نَاسِخا حكم مُجَدد، وَلَيْسَ هُوَ بنسخ إِذا، وَإِنَّمَا هُوَ تثبيت حكمين فِي وَقْتَيْنِ لَا يُنَافِي أَحدهمَا الثَّانِي وَلَا يناقضه بِحَال، فَلَا فرق بَين إِثْبَات حكمين لَا يتناقضان فِي وَقت وَاحِد، وَبَين إِثْبَات حكمين مُخْتَلفين فِي وَقْتَيْنِ، وَحَيْثُ انه لَا يُنَافِي فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَا يتَضَمَّن وَاحِد من الْحكمَيْنِ رفع الأول، وَلَكِن يتَبَيَّن أَن الأول لم يترفع بعد ثُبُوته، وَالثَّانِي لم يثبت نقيضا لَهُ، وَهَذَا تَصْرِيح بإنكار النّسخ، ثمَّ يُقَال لَهُم لَو كَانَ هَذَا نسخا لَكَانَ خطاب يتَضَمَّن تثبيت حكم مجددنسخا وَإِن لم يتَضَمَّن رفع مَا سبق، إِذْ إِذا اقْتضى تثبيت حكم على ابْتِدَاء.
وَمِمَّا يُوضح تناقضهم فِي حَدهمْ أَنهم قَالُوا: النّسخ هُوَ النَّص الدَّال على سُقُوط مثل الحكم االثابت ب بِالنَّصِّ الأول على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابت.
فَيُقَال لَهُم: هَذَا تنَاقض عَظِيم مِنْكُم، فَإِنَّكُم تَقولُونَ: تَبْيِين أَن المُرَاد بِاللَّفْظِ الأول الْقدر الَّذِي ثَبت، وَلم يرد بِهِ إِلَّا هَذَا الْقدر ابْتِدَاء، فَإِذا كَانَ هَذَا قَوْلكُم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم أَن تَقولُوا: لَوْلَا الثَّانِي لَكَانَ الحكم مستداما، فَإِن عنْدكُمْ أَن الحكم فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان لم ينْدَرج تَحت اللَّفْظ الأول إِرَادَة، فَكيف يسْتَمر أَن تَقولُوا أَنه تثبيت الحكم لَوْلَا وُرُود النّسخ، فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَتبين تصريحهم بِأَن النَّاسِخ لَا يتَعَرَّض للمنسوخ بِوَجْه، وَهُوَ مَعَه حكمان ثابتين فِي وَقْتَيْنِ، هَذَا مَا لَا حِيلَة فِي دَفعه.
وَيُقَال لمن ذهب من الْفُقَهَاء أَن النّسخ هُوَ تَبْيِين الْوَقْت: هَذَا تَصْرِيح مِنْكُم بِمثل مَا صرح بِهِ الْيَهُود والمعتزلة أَن الثَّابِت يَسْتَحِيل رَفعه، وَهَذَا نفي للسنخ، ثمَّ يُقَال إِن كَانَ ذَلِك تَخْصِيصًا، فَهَلا جَازَ النّسخ بِمَا يجوز التَّخْصِيص بِهِ ف فَإِن قَالُوا التَّخْصِيص تَأْوِيل لظَاهِر مُحْتَمل وَأما النَّص الأول فِي بَاب النّسخ فَإِنَّمَا هُوَ نَص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، فَيُقَال لَهُم هَذِه غَفلَة عَظِيمَة فَإِنَّهُ لَو كَانَ لَا يحْتَمل التَّأْوِيل وَكَانَ مستوعبا للأوقات نصا، فَكيف يجوز على بَعْضهَا، فَهَذَا تَكْذِيب للنَّص وَتعرض للتخطئة فِيهِ، وَإِن قدرتم النّسخ تَبينا فقد أخرجتم الأول عَن كَونه نصا، فَهَذَا مَا لَا حِيلَة فِيهِ.

.فصل:

اعْلَم أَن الْكَلَام يَدُور فِي أصُول النّسخ على أَرْبَعَة من الْأَركان:
النَّاسِخ والنسخ والمنسوخ والمنسوخ عَنهُ، فَأَما النَّاسِخ فيطلق على ثَلَاث معَان أظهرها أَن يُرَاد بِهِ الْقَدِيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ النَّاسِخ للشرائع والمثبت لَهَا، فَيُقَال نسخ الرب تَعَالَى شَرِيعَة بشريعة وَقد يُطلق النَّاسِخ على الْخطاب نَفسه، فَيُقَال نسخت آيَة آيَة، وَخبر خَبرا، وَقد يُطلق مجَازًا على المعتقد فَيُقَال: فلَان نسخ الْكتاب بِالسنةِ، مَعْنَاهُ يعْتَقد ذَلِك.
وَالتَّحْقِيق من ذَلِك كُله: أَن النَّاسِخ هُوَ الرب تَعَالَى، والنسخ خطابه المنعوت بالنعت الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي حد النّسخ، فَهَذَا بَيَان النَّاسِخ والنسخ، فَأَما الْمَنْسُوخ: فقد يُطلق على نفس الْآيَة وَالْخَبَر، فَيُقَال: آيَة مَنْسُوخَة، وَخبر مَنْسُوخ، وَالظَّاهِر من مَعْنَاهُ الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ فَيرجع حَقِيقَة الْمَنْسُوخ إِلَى الحكم الْمَرْفُوع بالنسخ الَّذِي سبق تحديده.
فَإِن قيل: فَهَلا قُلْتُمْ: أَن النّسخ يَنْقَسِم، فَإِن نسخ حكم الْآيَة دون تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الحكم، وَإِن نسخت تلاوتها فالمنسوخ هُوَ الْآيَة.
قُلْنَا: ارْتِفَاع الْآيَة فِي عينهَا لَا يتَحَقَّق، وَإِنَّمَا يؤول الِارْتفَاع إِلَى الحكم فِي الْحَالَتَيْنِ، فَإِذا نهينَا عَن تِلَاوَة آيَة بعد أَن كُنَّا مأمورين بتلاوتها فَيكون هَذَا النّسخ حكم عَنَّا وَهُوَ التِّلَاوَة.

.باب يجمع فصولاً مُتَفَرِّقَة يحْتَاج إِلَيْهَا فِي مُقَدمَات النّسخ:

مِنْهَا أَن تعلم أَن الشَّرَائِع على مَذَاهِب أهل الْحق لَا تنبني على الابتناء على مصَالح الْعباد. وَلَا يجب على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استصلاح عباده بهَا، فَيجوز أَن يكون صَلَاحهمْ فِي إِثْبَات فِي معلومه، فينسخه، وَيجوز أَن يكون صَلَاحهمْ فِي النّسخ فيثبته وَلَا ينسخه، يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد، حَتَّى نقُول على طرد ذَلِك لَو رفع التَّكْلِيف عَن كَافَّة الْبَريَّة، حَتَّى لَا يبْقى فيهم مامور وَلَا مَنْهِيّ فِي حكم من الْأَحْكَام، جَازَ ذَلِك عقلا، وَمَا من مَحْظُور إِلَّا وَيجوز تَقْدِير إِبَاحَته وَمَا من مُبَاح إِلَّا وَيجوز تَقْدِير حظره، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْوَاجِبَات والمندوبات إِلَّا مَا يُؤَدِّي تَقْدِير تبديله إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، وَذَلِكَ مثل أَن نقدر وُرُود الْأَمر بِالْجَهْلِ بِهِ، وَنحن نعلم أَنه لَا يتَحَقَّق التَّكْلِيف إِلَّا مَعَ الْعلم بالمكلف، فَمن ضَرُورَة أمره أيانا بِالْجَهْلِ أَن نَكُون عَالمين بِهِ، فَكَأَنَّهُ أمرنَا بِأَن نعلمهُ، وَلَا نعلمهُ، وَهَذَا من المستحيلات.
فَأَما الْقَدَرِيَّة فَإِنَّهَا قسمت الْأَحْكَام تقسيما بعد أَن اتّفقت على أَن ارْتِفَاع التَّكْلِيف لَا يجوز، وَاتَّفَقُوا على منع ارْتِفَاع التَّكْلِيف على أَنه يجب على الله تَعَالَى وجوب حكمته أَن يستصلح عباده، وَلم يَخْتَلِفُوا فِي وجوب طلب الصّلاح وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْإِصْلَاح، ثمَّ قَالُوا الْأَحْكَام منقسمة فَمِنْهَا مَا يدْرك وُجُوبه وَحسنه عقلا، وَيدْرك خطره وقبحه عقلا، فَمَا كَانَ هَذَا سَبيله، فَلَا يجوز تَقْدِير النّسخ فِيهِ، حَتَّى قَالُوا الْكفْر وَترك الشُّكْر لما كَانَ مَحْظُورًا عقلا لَا يجوز وُرُود الشَّرْع بإباحته وَكَذَلِكَ الظُّلم والابتلاء والاستعلاء على وَجه الاعتداء وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَنَحْوه من الْفَوَاحِش.
فَأَما مَا لَا يسْتَدرك فِيهِ الْقبْح وَالْحسن على التَّعْيِين نَحْو الصَّلَوَات وأمثالها من الْعِبَادَات فَيجوز تَقْدِير النّسخ فِيهَا.
وَمن الْفُصُول الَّتِي يجب أَن تحيط علما بهَا مَا قدمْنَاهُ فِي صدر الْكتاب من أَن الْقبْح وَالْحسن ليسَا بوصفين رَاجِعين إِلَى ذاتي الْقَبِيح وَالْحسن وَإِنَّمَا يرجعان إِلَى الْأَمر بالثناء على فَاعل أَحدهمَا والذم لفاعل الثَّانِي. وأطبقت الْمُعْتَزلَة على أَن الْحسن وصف لِلْحسنِ وَهُوَ فِي ذَاته وَيدْرك ذَلِك الْوَصْف عقلا وَكَذَلِكَ الْقبْح وصف للقبيح رَاجع إِلَى ذَاته، ثمَّ قَالُوا الْقبْح وَالتَّحْرِيم آئلان إِلَى وصف وَاحِد، وَأما الْحسن وَالْوُجُوب فَلَا يرجعان إِلَى وصف وَاحِد إِذْ قد ثَبت حسن لَيْسَ بِوَاجِب، ومحصول قَوْلهم يتَضَمَّن أَن الْحسن وَالْوُجُوب وصفان راجعان إِلَى ذَات الْوَاجِب.

.فصل:

اعْلَم أَنه لَا بُد أَن يجْتَمع فِي النَّاسِخ والمنسوخ أَوْصَاف ليَصِح وصفهَا بالنسخ والمنسوخ. فأحد الشَّرَائِط أَن يَكُونَا حكمين شرعيين ثابتين بخطابين. فَيخرج عَن ذَلِك أَن مَا يسْتَدرك عقلا فِي أَوْصَاف الْأَجْنَاس من الْأَوْصَاف الْجَائِزَة والواجبة رُبمَا يُسمى أحكاما فِي تواضع الْمُتَكَلِّمين، فَيُقَال من حكم الْجَوَاهِر أَن يتحيز، وَمن حكم الْعرض أَن يقوم بِالْمحل فَلَا يتَحَقَّق النّسخ فِي هَذَا وَأَمْثَاله، وَلذَلِك فلسنا نثبت بِالْعقلِ حكما قبل وُرُود الشَّرَائِع من حظر أَو إِبَاحَة حَتَّى نجْعَل الشَّرِيعَة بِحكم الْعقل، وَكَذَلِكَ اخْتصَّ بالخطا بَين المشتملين على الْحكمَيْنِ الشرعيين وَلأَجل هَذَا الشَّرْط خرج عَن حكم النّسخ سُقُوط التَّكْلِيف عَن الْمَيِّت وَالْمَجْنُون فَإنَّا قد قيدنَا الْكَلَام بالخطابين.
على أَنا سنذكر شرطا آخر يتَضَمَّن إِخْرَاج هَذَا الْقَبِيل عَن حَقِيقَة النّسخ فَنَقُول من شَرط النَّاسِخ أَن يكون مُتَأَخِّرًا عَن الْمَنْسُوخ فَلَا يجوز اقترانه على سَبِيل الِاتِّصَال كَمَا يتَّصل الِاسْتِثْنَاء بالمستثنى عَنهُ، وَلِهَذَا من الْمَعْنى اسْتِحَالَة أَن يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ} من قبيل النَّاسِخ والمنسوخ، حَتَّى يُقَال أثبت الصَّوْم أَولا ثمَّ نسخه عَن اللَّيْل آخرا، أَو يفضيه هَذَا الشَّرْط إِخْرَاج الْمَيِّت عَن كَونه نَاسِخا فَإِن كل حكم فِي الشَّرِيعَة مُقَيّد لفظا أَو إِجْمَاعًا بِبَقَاء التَّكْلِيف فَإِن كَانَ الْأَمر على هَذَا الْوَجْه فَهُوَ مستخرج عَن كل خطاب أَولا، فَلَو كَانَ سَبيله النّسخ لما جَازَ ثُبُوته على سَبِيل الاقتران.
وَمن شَرط النّسخ أَن يكون رفعا لحكم ثَابت على مَا أوضحناه.
ثمَّ اعْلَم أَنه لَا نَاسخ على الْحَقِيقَة إِلَّا الله تَعَالَى، وَلَا يتَحَقَّق نسخ إِلَّا بأوامره ونواهيه وإباحته، وَإِن سميت سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نسخا فَذَلِك على التَّجَوُّز، فَإِنَّهُ مبلغ مؤد عَن ربه وَلَيْسَ ينفى حكما وَلَا يثبت من فَقِيه نَفسه، فيؤل كل نفي وَإِثْبَات إِلَى كَلَام الله تَعَالَى، فَهَذَا مَا نشترط فِي النَّاسِخ والمنسوخ، وَقد انطوى على جَمِيعهَا الْحَد الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
وَقد انْفَرد أَقوام بِاشْتِرَاط أَوْصَاف سوى مَا ذَكرْنَاهُ، وَسَيَأْتِي فِي ذكر مذاهبهم أَبْوَاب، وَهَذَا نَحْو اشتراطهم بِقَضَاء وَقت الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ أَولا حَتَّى لم يجوزوا تَقْدِير النّسخ قبل أَن ينقضى من الْوَقْت مَا يسع الْمَأْمُور بِهِ أَولا، على مَا سنتقصي القَوْل فِي ذَلِك وَأَمْثَاله فِي أَبْوَاب مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء وَبَين النّسخ والتخصيص:

اعْلَم، وفقك الله، وَأحسن إرشادك أَن الْفرق بَين النّسخ والبداء يتَحَقَّق بِأَن نذْكر حقيقتهما فيتميز أَحدهمَا على الثَّانِي، أما حَقِيقَة النّسخ فقد سبقت، وَأما حَقِيقَة البداء وَمَعْنَاهُ فهواستدراك علم مَا كَانَ خفِيا مَعَ جَوَاز تَقْدِير الْعلم بِهِ فَكل من عثر على علم شَيْء ابْتِدَاء وَكَانَ يجوز أَن يُعلمهُ قبل ذَلِك فَيُقَال قد بدا لَهُ، وأصل البداء الظُّهُور بعد الخفاء، وَمِنْه يُقَال بدا عجز فلَان إِذا ظهر وبدا الطّلع إِذا طلع وبدا لكم فلَان شَره، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وبدا لَهُم سيئات مَا كسبوا} وَقَوله تَعَالَى: {يخفون فِي أنفسهم مَا لَا يبدون لَك} وَقد يُسمى النَّدَم بداء أَيْضا والندم من قبيل الإرادات، وَهُوَ التلهف والتأسف، فَهَذَا حَقِيقَة البداء.
فَإِذا ثَبت الحقيقتان، رتبنا عَلَيْهِمَا، وَقُلْنَا لمنكري النّسخ من الْيَهُود والقدرية، فَإِنَّهُم وافقوا الْيَهُود فِي منع رفع الحكم بعد ثُبُوته، إِذا أثبت الله حكما على عباده، ثمَّ رَفعه، فقد زعمتم أَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى البداء فَلَا تخلون فِيمَا قلتموه أَن تَقولُوا: إِنَّه يُؤَدِّي إِلَى أَن يعلم مَا كَانَ خافيا عَلَيْهِ، فَهَذَا محَال، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل عَالما، وَلَا يزَال عَالما بِمَا كَانَ، وَبِمَا يكون، وَبِمَا لَا يكون، لوكان كَيفَ كَانَ يكون، وَلم يثبت الحكم على الْمُكَلّفين إِلَّا وَقد كَانَ عَالما عِنْد إثْبَاته أَنه سينسخه فَبَطل أَن يكون النّسخ مقتضيا اسْتِدْرَاك علم أَو توصلا إِلَى معرفَة مكتتم مستتر، وَإِن عنيتم بالبداء أَنه يصير كَارِهًا لما كَانَ آمرا بِهِ مرِيدا لَهُ، ومريدا لما كَانَ كَارِهًا لَهُ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول أهل الْحق، فَإِن تَكْلِيف الْعِبَادَة لَا يَنْبَنِي على الْإِرَادَة والكراهية، فقد يَأْمر الرب بِمَا لَا يُرِيد وَقد يُنْهِي عَمَّا يُرِيد، وكل الْحَوَادِث مُرَاد لله تَعَالَى مَعَ اخْتِلَاف صفاتها، وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات، فَبَطل الاسترواح إِلَى الْعلم والإرادة.
وَإِنَّمَا عنوا بالبداء أَنه يَجْعَل الْحسن قبيحا والقبيح حسنا والمصلحة مفْسدَة والمفسدة مصلحَة، وَهَذَا مَا لَا تَحْقِيق لَهُ أصلا وَذَلِكَ أَن الْقبْح وَالْحسن لَا يرجعان إِلَى صِفَات الْأفعال على أصُول أهل الْحق كَمَا قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا التقبيح أَمر بالذم والتحسين أَمر بِحسن الثَّنَاء كَمَا قدمْنَاهُ من أصولنا، على أَنا لَو قَدرنَا الْحسن والقبح من أَوْصَاف الْأَجْنَاس، وَكَانَ مِمَّا يسوغ تَقْدِير تَغْيِيره مَا يُوجب البداء، كَمَا لَيْسَ فِي إماتة الله الأخيار وإحيائه الْمَوْتَى وَسَائِر أَحْكَامه المتعاقبة فطْرَة وخلفا مَا يُوجب البداء، فَبَطل ادِّعَاء البداء على أصُول أهل الْحق، وَإِنَّمَا يصور مدرك ذَلِك على قَوَاعِد الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم وافقوا الْيَهُود فِي أصل التَّعْدِيل والتجوير وَبِنَاء التَّكْلِيف على \ الْمصَالح.
فَإِن قَالُوا فَمَا وَجه حسن النّسخ عنْدكُمْ. قُلْنَا إِن طلبتم منا إِيضَاح وَجه فِي الْمصلحَة الْمُتَعَلّقَة بالنسخ فقد رمتم منا فرعا لَا نقُول بِأَصْلِهِ، فَإنَّا نجوز أَن لَا تكون لِلْعِبَادَةِ مصلحَة فِي إِثْبَات الشَّرَائِع ونسخها، على أَن النّسخ وَالْإِثْبَات، والتحسين والتقبيح، والايجاب وَالتَّحْرِيم، كلهَا يؤول إِلَى كَلَام الرب تَعَالَى، وَكَلَامه مَوْصُوف بالقدم على أصُول أهل الْحق، وَمَا اتّصف بالقدم اسْتَحَالَ وَصفه بالْحسنِ والقبح من الصِّفَات المعتورة على الْحَوَادِث، على أَنا نقُول: لَو خضنا مَعكُمْ فِي فَاسد أصلكم فِي القَوْل بالصلاح وَوُجُوب تضمن التَّكْلِيف لَهُ، فقد يكون فِي رفع الحكم بعد ثُبُوته أعظم الْمصلحَة للعباد بِأَن يعلم سُبْحَانَهُ أَنه إِذا أَمرهم بِأَمْر ابتدروا إِلَى الْعَزْم وتوطين النَّفس على امتثاله وَلَو بَقِي عَلَيْهِم الحكم لامتنعوا وانفضوا وطغوا واستوجبوا عِقَابه، فيأمرهم ليعزموا على الِامْتِثَال وَلَو أمروا على الْعَزْم ثمَّ ينْسَخ عَنْهُم مَا اثْبتْ عَلَيْهِم من الحكم حَتَّى لَا يستوجبوا نقمته بالامتناع عَن الِامْتِثَال، وَهَذَا وَاضح فِي طلب الْمصلحَة على مُقْتَضى أصولكم مَعَ أَنه تجَاوز منا لأصلنا.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل قد ذكرْتُمْ الْفرق بَين النّسخ والبداء فَمَا الْفرق بَين النّسخ والتخصيص؟ قُلْنَا يتَحَقَّق الْفَصْل بَينهمَا بِذكر حَقِيقَتهَا، وَقد سبق ذكرهمَا جَمِيعًا على أَنا نعيدها لنوصلك إِلَى الْمَقْصُود فِي الْبَاب فَنَقُول النّسخ هُوَ رفع الحكم بعد ثُبُوته على الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي حد النّسخ وَحَقِيقَته، ولسنا نقُول تبين لنا بِالْخِطَابِ الْمُتَأَخر المتضمن نسخا أَنه لم يرد بِالْخِطَابِ أَولا إِلَّا مَا مضى، بل نقُول يتَنَاوَل الْخطاب الأول ثُبُوت الحكم فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان حَقِيقَة وَلَكِن بالنسخ رفع مَا ثَبت حكمه فَأَما التَّخْصِيص فَإِنَّهُ لَا يتَضَمَّن رفع حكم ثَابت فِي مَعْلُوم الله وَلكنه يتَضَمَّن تَبْيِين اخْتِصَاص اللَّفْظ بِبَعْض المسميات.
وَهَذَا لَا يَسْتَقِيم على أصُول الْقَدَرِيَّة، فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ النّسخ تثبيتا فِي الْأَزْمَان كَمَا إِن التَّخْصِيص تَبْيِين فِي الْأَعْيَان، فَهَذِهِ قَاعِدَة الْبَاب.
ثمَّ اعْلَم أَن النّسخ يُفَارق التَّخْصِيص فِي جمل من الْأَوْصَاف. مِنْهَا: أَن من شَرط النّسخ استيخاره عَن الْمَنْصُوص الْمَنْسُوخ، وَلَا يشْتَرط ذَلِك فِي التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ قد يكون مُتَّصِلا، وَقد يكون مُنْفَصِلا وأقواه أَن يكون مُتَّصِلا.
وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص: أَنه يجوز اعتوار النّسخ على الحكم الْوَاحِد فِي الشَّخْص الْوَاحِد، وَلَا يجوز التَّخْصِيص على هَذَا الْوَجْه، فَإِن الْوَاحِد لَا يدْخلهُ التَّخْصِيص فَإِن التَّخْصِيص ينسخه التَّعْمِيم وَلذَا لم يتَحَقَّق عُمُوم لم يتَقَدَّر بعده خُصُوص.
وَمن الْفرق بَينهمَا أَن التَّخْصِيص لَا يَنْفِي التَّمَسُّك بِأَصْل الْمُخَصّص فِي المسميات كَمَا قدمنَا فِي بَاب مُفْرد، وَإِذا ثَبت فِي حكم آيَة فَلَا سَبِيل إِلَى التَّمَسُّك بهَا بعد تحقق النّسخ فِيهَا.
وَيُفَارق النّسخ التَّخْصِيص على أصُول الْقَائِلين بِمَنْع تَأْخِير الْبَيَان، فَإِنَّهُم وَإِن منعُوا تَأْخِير التَّخْصِيص عَن اللَّفْظ الَّذِي صيغته الْعُمُوم، فَلَا يمنعوا تَأْخِير النّسخ عَن الْمَنْسُوخ، بل أوجبوا ذَلِك فِيهِ، وَإِن كَانَ النّسخ عِنْدهم بَيَانا فِي الْأَزْمَان لَا رفعا لحكم ثَابت كَمَا ان التَّخْصِيص بَيَان.
وَمِمَّا يُفَارق النّسخ فِيهِ التَّخْصِيص أَنه إِذا ثَبت الحكم بخطاب مَقْطُوع بِهِ فَلَا يجوز نسخه بخطاب مظنون بِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنا لَا نجوز نسخ حكم الْقرَان بأخبار الْآحَاد وَلَا نجوز نسخ الْخَبَر الْمُتَوَاتر بِخَبَر الْآحَاد على مَا سَيَأْتِي تَفْصِيل القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.باب يجمع اخْتِلَاف النَّاس فِي جَوَاز النّسخ، وَمنعه، وَذكر مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ:

اعْلَم مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُسلمين جَوَاز النّسخ، وَأما الْيَهُود فقد ذهبت إِلَى منع النّسخ وافترقوا فرْقَتَيْن، فَمنهمْ من منع النّسخ عقلا وَذهب إِلَى أَن شَيْئا من الشَّرَائِع لم يدخلهَا نسخ، وَأَن الَّذين قبل مُوسَى من الْأَنْبِيَاء كَانُوا متعبدين بِمثل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَذهب بَعضهم إِلَى جَوَاز النّسخ عقلا وَمنعه سمعا فزعموا أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام أخبر بني إِسْرَائِيل أَن شَرعه لَا يَزُول مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَذَهَبت فِئَة من المنتمين إِلَى الْإِسْلَام إِلَى منع النّسخ هربا من البداء، واعتقادا مِنْهُم أَن النّسخ يُؤَدِّي إِلَيْهِ، ثمَّ زَعَمُوا أَن لَا نسخ فِي شَيْء من الشَّرَائِع.
وَالَّذين جوزوا النّسخ ذهب الْجُمْهُور مِنْهُم إِلَى منع البداء على الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ويحكى عَن الروافض تَجْوِيز البداء على الله سُبْحَانَهُ، وَرُبمَا يأثرون ذَلِك عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ بطرِيق لَا يكَاد يَصح ويروون عَنهُ أَنه قَالَ: لَوْلَا آيَة من كتاب الله تَعَالَى قَوْله: {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت وَعِنْده أم الْكتاب} لأنبأتكم بِمَا يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالُوا: فَمَنعه عَن الْإِخْبَار بالغيوب تجويزه البداء، وَرووا عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَنه قَالَ: مَا بدا لله فِي شَيْء كَمَا بدا لَهُ فِي ذبح إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرووا عَن مُوسَى بن جَعْفَر أَنه قَالَ: "البداء ديننَا وَدين آبَائِنَا الْأَوَّلين". وَلَا شكّ أَن هَذِه الرِّوَايَات عَن عَليّ وَعَن الْأَئِمَّة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ مُخْتَلفَة لَا تكَاد تصح، فَهَذِهِ جملَة الْمذَاهب.
فَأَما وَجه الرَّد على من زعم نفي النّسخ فَهُوَ أَن نقُول لاتخلون إِمَّا أَن تَقولُوا النّسخ مُمْتَنع عقلا أَو تَقولُوا هُوَ مُمْتَنع سمعا جَائِز عقلا، فَإِن صرتم إِلَى امْتِنَاعه عقلا فَيُقَال لَهُم لَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رُتْبَة فِي الْعُقُول فَإِذا انحسمت طرق الاستحالة لم يبْق بعْدهَا إِلَّا الْجَوَاز، فَإِذا أَمر الله تَعَالَى بِشَيْء ثمَّ نهى عَنهُ فَلَا تَخْلُو اسْتِحَالَة ذَلِك إِمَّا أَن يكون للتبديل والتغيير، فَهَذَا محَال، فان من نعت الْمَخْلُوقَات والمبدعات بأسرها أَن تبدل، فَلَو اسْتَحَالَ السنخ لكَونه تبديلا التحقت الْفطْرَة بِأَبْوَاب الاستحالات وَإِن زَعَمُوا أَن ذَلِك مُسْتَحِيل لانقلاب المُرَاد مَكْرُوها والمصلحة مفْسدَة، فقد أوضحنا من أصُول أهل الْحق أَن الشَّرَائِع لَا تتَعَلَّق بقضية الْإِرَادَة وَلَا مُعْتَبر فِيهَا بالمصالح، وَهَذَا مَا لَا مطمع فِي تَقْرِيره هَهُنَا، وَإِن زَعَمُوا أَن النّسخ يَسْتَحِيل لإفضائه إِلَى البداء قسمنا عَلَيْهِم القَوْل فِي البداء كَمَا قدمْنَاهُ فِي الْفرق بَين النّسخ والبداء، وَإِن قَالُوا: فِي تَجْوِيز النّسخ قلب الْأَجْنَاس، فقد أوضحنا بطلَان ذَلِك بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة فَلَا يبْقى بعد ذَلِك إِلَّا القَوْل بِالْجَوَازِ.
وَإِن قَالُوا إِن النّسخ جَائِز عقلا مُمْتَنع سمعا وذهبوا فِي ذَلِك إِلَى إِخْبَار مُوسَى بني إِسْرَائِيل بتأبيد شَرِيعَته، فَهَذَا كذب صراح مِنْهُم، وَأول مَا يقابلون بِهِ أَن يدعى عَلَيْهِم مثل ذَلِك فِي تأبد شَرِيعَة من قبل مُوسَى، ثمَّ نقُول لَو صَحَّ مَا قلتموه لَكَانَ صدقا قطعا حَقًا لوُجُوب عصمَة الْأَنْبِيَاء عَن الْخلف، ثمَّ يمْنَع ظُهُور المعجزات على يَدي من يَدعِي نسخ شَرِيعَة مُوسَى، وَقد وضحت معجزات نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالطرق الَّتِي وضحت معجزات مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، فَلَو كَانَ مَا قلتموه صَحِيحا لما ثبتَتْ المعجزات مصدقة لمن يَدعِي خِلَافه، أَو نقُول هَذَا شَيْء أحدثه فِيكُم بعض الجهلة وَقد قيل إِن أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه الله، {ويأبى الله إِلَّا أَن يتم نوره وَلَو كره الْكَافِرُونَ} فَنَقُول لَو كَانَ مَا ذكرتموه صَحِيحا لَكَانَ أولى الاعصار والأوقات بِإِظْهَار ذَلِك فِي عصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد كَانَت الْيَهُود بوقته يحاجونه ويجادلونه، وَمَا قَالَ قَائِل مِنْهُم مَا قلتموه وَلَو كَانَ صَحِيحا لَكَانَ أولى مقالاتهم ذَلِك بل كَانُوا يُنكرُونَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويزعمون أَنه لَيْسَ هُوَ النَّبِي الْمَبْعُوث عِنْدهم فِي التوارة، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
وَأما الْكَلَام على مجوزي البداء فَيتَعَلَّق بأصول الديانَات، وعَلى أَنا نقسم الْكَلَام عَلَيْهِم فَنَقُول مَا الَّذِي عنيتم بالبداء؟ اسْتِدْرَاك الرب تَعَالَى علما لم يكن منعوتا بِهِ؟ فقد وصفتموه بالحوادث، والرب يجل عَن قبُول الْحَوَادِث، وَلَو قبلهَا لم يَنْفَكّ مِنْهَا، وَمَا لَا يَنْفَكّ عَنْهَا لم يسبقها، وَمَا لَا يسبقها حَادث مثلهَا، فَإِن طَرِيق الِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْعَالم اعتوار الْحَوَادِث عَلَيْهَا، وَفِي الْمصير إِلَى تَجْوِيز الْحَوَادِث على الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - تَعَالَى الله علوا كَبِيرا - مصير إِلَى حُدُوثه أَو إِلَى سد بَاب التَّوَصُّل إِلَى حدث الْعَالم.
وَأما من قَالَ من الإسلاميين بِمَنْع النّسخ فَلَقَد أبدى عَظِيمَة لَا يشْعر بغيتها، ونكلم على الْمنْهَج الَّذِي كلمنا الْيَهُود، ونبين لَهُ كَون النَّاسِخ من الجائزات، وَإِن قَالُوا: هُوَ جَائِز عقلا مُمْتَنع شرعا، سئلوا عَن الدَّلِيل الدَّال على منع النّسخ سمعا فَلَا يَجدونَ فِي ذَلِك معتصما، على أَنا نقُول لَهُم،: فِيمَا قلتموه جحدا وسلفا فَإِنَّهُم مَا زَالُوا فِي الصَّدْر الأول وَبعده من الْأَعْصَار يعتنون بِذكر النَّاسِخ ولمنسوخ، ويذكرون تفاصيلهما وَمن جحد ذَلِك من قَول الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فقد تسبب إِلَى جحد التَّوَاتُر والاستفاضات، فَمَا زَالُوا يعلمُونَ أَن التَّرَبُّص فِي حق المتوفي عَنْهَا زَوجهَا سنة، مسنوخا بالتربص أَرْبَعَة اشهر وَعشرا وَكَانُوا يذكرُونَ الْآيَتَيْنِ والمنسوخ، وَكَذَلِكَ مَا زَالُوا يتفاوضون بنسخ فرض تَقْدِيم الصَّدَقَة على مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ نسخ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس، وَكَذَلِكَ نسخ تَحْلِيل الْخمر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تتبعه.
على أَنا نقُول: أَجمعت الْأمة على أَن دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وملته لَيْسَ هِيَ مِلَّة مُوسَى وَعِيسَى صلوَات الله عَلَيْهِم، وَأَن مِلَّته تَضَمَّنت نسخا لما قبلهَا من الْملَل، فَمن جوز هَذَا الْإِجْمَاع فَلَا يبْقى لَهُ عصمَة يعتصم بهَا فِي تثبيت ظُهُور رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَظُهُور معجزاته بطرق التَّوَاتُر، على أَن فِي كتاب الله تَعَالَى آيَات دَالَّة على أَن النّسخ، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا بدلنا آيَة مَكَان آيَة وَالله أعلم بِمَا ينزل} وَقَوله تَعَالَى: {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات أحلّت لَهُم} وَقَوله تَعَالَى: {مَا ننسخ من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أومثلها} وَقد بَطل ادعاؤهم امْتنَاع النّسخ شرعا، وَلَهُم على هَذِه الْآيَات أسئلة وتمويهات يسهل مدركها على انه لَيْسَ لَهُم معتصم يتمسكون بِهِ فِي منع النّسخ شرعا.

.القَوْل فِي جَوَاز دُخُول النّسخ فِي الْأَخْبَار، وَوجه الْخلاف:

اعْلَم، وفقك الله، ان هَذَا بَاب يعظم خطره فِي أصُول النّسخ وَنحن الْآن ننبهك على اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ، ونبين الصَّحِيح مِنْهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا جوزتم أَن مَا أَمر الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ يُنْهِي عَن عين مَا أَمر بِهِ، وَيكون الْمنْهِي الْمُتَأَخر نَاسِخا لوُجُوب الْأَمر الْمُتَقَدّم بأفضاله فَهَل تجوزون أَن يخبر الرب سُبْحَانَهُ من الغايات نصا، ثمَّ يخبر بعده أَن الْأَمر لَيْسَ كَذَلِك وَأَن مَا أخْبرت عَن وُقُوعه لَا يَقع وَمَا أخْبرت عَن عدم وُقُوعه يَقع.
قُلْنَا: قد بَينا أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم بعد ثُبُوته وأوضحنا أَن من الإسلاميين من يصير إِلَى أَن النّسخ تبين انْقِطَاع مُدَّة الْعِبَادَة وَهُوَ نَازل منزلَة التَّخْصِيص الْمُبين لاخْتِصَاص اللَّفْظ بِبَعْض المسميات، فَإِن مَا ثَبت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَلَا يرْتَفع، وَلَا ينْسَخ، وَلَكِن يبين النَّاسِخ أَنه كَانَ المُرَاد بهَا سبق ثُبُوت الحكم إِلَى هَذَا الْوَقْت.
وللاختلاف فِي هَذِه الْقَاعِدَة ينشأ خلاف فِي جَوَاز نسخ الْأَخْبَار، فَذهب كل من صَار إِلَى أَن النّسخ تَبْيِين، وَلَيْسَ بِرَفْع حَقِيقِيّ لِثَابِت إِلَى جَوَاز النّسخ فِي الْأَخْبَار على هَذَا التَّأْوِيل فَقَالُوا: إِذا أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَن ثُبُوت شَرِيعَة فَيجوز أَن يخبر بعْدهَا فَيَقُول: أردْت ثُبُوتهَا بإخباري الأول إِلَى هَذَا الْوَقْت وَلم أرد أَولا إِلَّا ذَلِك بنسأ وَلَا يُفْضِي إِلَى تَجْوِيز خلف وَوُقُوع خبر بِخِلَاف مخبر.
وَأما نَحن إِذا صرنا إِلَى أَن النّسخ رفع لِثَابِت حَقِيقِيّ وَأَن التَّبْيِين لَيْسَ بنسخ أصلا فننكر على هَذِه الْقَاعِدَة نسخ الْأَخْبَار، ثمَّ نقُول: فِي تجويزه على قِيَاس الْقَاعِدَة تَجْوِيز الْخلف - تَعَالَى الله مِنْهُ - فَإِنَّهُ كَانَ أَحدهمَا خلفا لأصحابه، وَهَذَا مِمَّا يدْرك ببديهة الْعقل، فَإِذا جَوَّزنَا حَقِيقَة النّسخ فِي الْأَوَامِر والنواهي لم يؤد إِلَى ذَلِك، فَإِن الْأَمر والنواهي لَا يدخلهَا الصدْق ولكذب، اوإنما يَتَّصِف بهما الْأَخْبَار.
أَلَيْسَ من أصلكم أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخبر عَن كل مخبر بِكَلَامِهِ الْقَدِيم كَمَا أَنه عَالم بِكُل مَعْلُوم؟ فَإِذا قيل: أجل! قَالُوا وَإِذا وَجب شَيْء بِأَمْر من الْأَوَامِر تأبيدا فوجوبه على هَذَا الْوَجْه مخبر عَنهُ، وَيجب أَن يكون الْبَارِي تَعَالَى مخبرا عَنهُ، وَالْأَمر إِن لم يكن خَبرا من الرب سُبْحَانَهُ فَهُوَ دَلِيل على خَبره، فَيجب على طرد ذَلِك أَن يكون سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخبرا عَن وجوب الْعِبَادَات أبدا ثمَّ إِذا نسخهَا فَيكون مخبرا عَن سُقُوط وُجُوبهَا، وَهَذَانِ الخبران متناقضان.
وَهَذَا من اعظم تخييلات الْيَهُود، وَمن نفى النّسخ.
فَأَما من صَار إِلَى أَن النّسخ سَبيله وَلَا يرْتَفع بِهِ ثَابت فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى فَدفع هَذَا السُّؤَال سهل المرام عِنْده، فيطرد التَّبْيِين فِي الْأَخْبَار، كَمَا يطرده فِي الْأَحْكَام، فَلَا يتَصَوَّر عِنْده إِذا أَن ينْسَخ نصا لَا يحْتَمل التَّأْوِيل، فَإِنَّهُ إِذا نزل النّسخ منزلَة الْبَيَان كالتخصيص لم يَجْعَل الْمَنْسُوخ نصا مقتضيا استغراق مُسْتَقْبل الزَّمَان، بِحَيْثُ يقبل التَّأْوِيل، وَهَذَا على الْحَقِيقَة إِنْكَار للنسخ، وَذَلِكَ أَن الَّذِي ثَبت بالناسخ مُنْفَصِل عَن الْمَنْسُوخ فِي مُقْتَضَاهُ، وَلَا يتَعَرَّض لَهُ بِوَجْه، وَلَو جَازَ تَسْمِيَة ذَلِك نسخا مَعَ أَن كل وَاحِد حكم على الِابْتِدَاء وَلَا يتَضَمَّن أَحدهمَا رفع الثَّانِي وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك لَو قدر التَّصْرِيح أَولا لما تصور بِهِ تَحْقِيق نسخ على هَذِه الْقَاعِدَة، فَإِذا تبين بِهِ المُرَاد آخرا، بعد أَن كَانَ مكتتما مستترا عَنَّا، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك قلبه عَن حَقِيقَته، وَإِنَّمَا يتَبَيَّن إِجْزَاء من مُقْتَضى الْخطاب يخلفه بِمَا لَو تبين أَولا، وَهَذَا أحد من الْجَهَالَة لَا يُنكره ذوتحقيق.
فَإِن قيل: فَمَا وَجه دفعكم لسؤال الْقَوْم؟
قُلْنَا: فِي وجوب كَون الْكَلَام الْقَدِيم خَبرا عَن كل مخبر كَلَام يطول ويغمض الْخَوْض فِيهِ، على أَنا نؤثر مَا قَالُوهُ، ونختاره، وَالسُّؤَال مَعَه مَدْفُوع، وَالْحَمْد لله، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا أخبر الرب سُبْحَانَهُ عَن وجوب وَاجِب، ومعاقبة على تَركه، فَيكون خَبره مَشْرُوطًا بَان لَا ننسخ، فَكَأَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول: الْعِبَادَة الموصوفة وَاجِبَة عَلَيْكُم وَأَنْتُم معاقبون على تَركهَا إِلَّا ان أنسخها عَنْكُم فَلَا يُؤَدِّي إِذا قدر النّسخ إِلَى خلاف فِي الْخَبَرَيْنِ، وَهَذَا أبين، كَمَا أَن الْقَائِل إِذا قَالَ: لست أَتكَلّم إِذا كنت رَاكِبًا، فَإِذا تكلم فِي غير حَال الرّكُوب لم يكن ذَلِك خلفا مِنْهُ، فَإِن خَبره الأول مَشْرُوط بِشَرْط وَهَذَا وَاضح لاخفاء بِهِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقد رووا الْخَبَر عَن الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، وَإِذا علم الرب سُبْحَانَهُ أَن شَرِيعَته سينسخها وَيرْفَع وُجُوبهَا فَمَا وَجه الْأَخْبَار بِنَصّ النّسخ قبل ثُبُوته، قُلْنَا: وَجه التَّقْدِير فِيهِ أَن يَقُول أَنْتُم متعبدون يَا معشر الْمُكَلّفين بِهَذِهِ الشَّرِيعَة معاقبون على تَركهَا وَهِي وَاجِبَة عَلَيْكُم إِلَى أَن أرفع عَنْكُم وُجُوبهَا وسأرفع وُجُوبهَا عَنْكُم.
وَلَو جَازَ اتِّصَال النَّاس بالمنسوخ لجَاز ذكرهمَا مَعًا على التَّفْصِيل، فوضح الْحق من غير احْتِيَاج إِلَى رفع أصل النّسخ وحقيقتة فِي حمله على الْبَيَان.

.القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل، وَفِي جَوَاز نسخهَا بِمَا هُوَ أشق مِنْهَا:

اعْلَم ان مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق جَوَاز نسخ الْعِبَادَة لَا إِلَى بدل وَقد منع الْمُعْتَزلَة ذَلِك وَالْمَسْأَلَة بِأَصْل قدمْنَاهُ وَهُوَ أَنا نجوز ارْتِفَاع التَّكْلِيف عَن المخاطبين جملَة، فَلِأَن يجوز ارْتِفَاع عبَادَة بِعَينهَا لَا إِلَى بدل أولى.
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يتَصَوَّر ذَلِك وَلَو وَجَبت عبَادَة فَمن ضَرُورَة نسخ وُجُوبهَا إِبَاحَة تَركهَا وَالْإِبَاحَة حكم من الْأَحْكَام وهوب بدل من الحكم الثَّابِت أَولا، وَهُوَ الْوُجُوب.
قُلْنَا: من مَذْهَب من يخالفنا إِن الْعِبَادَة لَا تنسخ إِلَّا بِعبَادة وَلَا يجوزون نسخهَا بِإِبَاحَة، على أَن مَا طالبتموه بِهِ يتَصَوَّر بِأَن يَقُول الرب: نسخت عَنْكُم الْعِبَادَة، وَعَاد الْأَمر إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قبل وُرُود الشَّرَائِع، فَهَذَا مِمَّا يعقل وَلَا يُنكر.
وَإِن استروحوا فِي منع ذَلِك بقوله: {مَا ننسخ من ءاية أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا}.
قَالُوا: فهاذا تَصْرِيح بِإِثْبَات التبديل.
قُلْنَا: هَذَا إِخْبَار على أَن النّسخ يَقع على هَذَا الْوَجْه وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على أَنه لَا يجوز وُقُوع النّسخ على غير هَذَا الْوَجْه وَهَذَا وَاضح عِنْد التَّأَمُّل، أَو نقُول قَوْله: {مَا ننسخ من آيَة} يحمل على بعض الْأَحْكَام دون بعض، ويقوى ذَلِك على منع صِيغَة الْعُمُوم.

.فصل:

يجوز نسخ الْعِبَادَة بِعبَادة أشق مِنْهَا وَقد أنكر ذَلِك شرذمة من الْمُعْتَزلَة وكل مَا يدل على اصل النّسخ فَهُوَ دَال على ذَلِك وَلَيْسَ لَهُم فِي الْمَسْأَلَة عصمَة يتمسكون بهَا إِلَّا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ من الْمصَالح فَيَقُولُونَ لَيْسَ من مصَالح الْعباد تَعْظِيم الْمَشَقَّة عَلَيْهِم، بل الْأَصْلَح لِعِبَادِهِ فِي بعض الزَّمَان تَكْلِيف الأشق، على أَن مَا قَالُوهُ يتَوَجَّه عَلَيْكُم فِي بَدْء الشَّرِيعَة فَيُقَال لَهُم: كَانَ يجوز ان يقدر أخف مِنْهَا فَمَا بالها وَقعت شاقة. وَرُبمَا يستدلون بظواهر من الْكتاب، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يرد بكم الْعسر}.
فَيُقَال ورد هَذَا فِي مُخَاطبَة المرضى من الْمُسلمين لما خفف الصّيام عَنْهُم، على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ يُرِيد الله بكم مَا ستنالون من الْيُسْر فِي العقبى وَلَا يُرِيد مُجَردا عتابكم فِي الدُّنْيَا. وعَلى هَذَا الْوَجْه يستدلون بظواهر وَوجه الْجَواب مَا قدمنَا.
وَمِنْهُم من يَقُول: يجوز النّسخ بالأشق عقلا وَيمْتَنع سمعا لهَذِهِ الْآيَات.
ثمَّ نقُول: وَكم من حكم ينْسَخ بأشق مِنْهُ، وَهَذَا كَمَا أَن الصُّلْح عَن الْكفَّار نسخ بمقاتلتهم وبذل المهج وَالْأَمْوَال فِي مجاهدتهم، وَجَوَاز ترك الصَّوْم من غير عذر بِشَرْط الْفِدْيَة، وَنسخ حليل الختمر، وَهَذَا شَأْن كل تَحْرِيم يعقب تحليلا فَبَطل مَا قَالُوهُ عقلا وسمعا.

.القَوْل فِي نسخ حكم الْآيَة وتلاوتها، وَوجه الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم أَنه يجوز أَن تشْتَمل الاية على ثُبُوت حكم من الْأَحْكَام وَيُوجب الله تَعَالَى علينا تلاوتها ثمَّ ينْسَخ الله عَنَّا حكمهَا وَوُجُوب تلاوتها وَيجوز أَن ينْسَخ عَنَّا حكم الْآيَة ويديم علينا وجوب تلاوتها، وَهَذَا مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْمُحَقِّقين. وَذهب بعض النَّاس إِلَى انه لَا يجوز نسخ تِلَاوَة الْآيَة مَعَ بَقَاء حكمهَا، وَذهب الْآخرُونَ على الْعَكْس من ذَلِك فَقَالُوا لَا يجوز نسخ حكم الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها.
وَالدّلَالَة الَّتِي قررناها من نفي الاستحالة وَإِثْبَات الْجَوَاز يطرد على الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا، وَالْجُمْلَة فِي مَضْمُون الْبَاب أَن تِلَاوَة الْآيَة وَمَا يطوي عَلَيْهِ الْآيَة حكمان متباينان يجوز فِي الْعقل تَقْدِير أَحدهمَا مَعَ انْتِفَاء الثَّانِي، فَمن هَذَا الْوَجْه لم يبعد النّسخ فيهمَا أَو فِي أَحدهمَا.
فَإِن قَالَ من منع نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة: الاية وَردت دَالَّة على الحكم وَمن المستحيل أَن تبقى الدّلَالَة ويرتفع مدلولها. وَهَذَا لَا تَحْقِيق لَهُ، وَذَلِكَ أَن الْآيَة إِنَّمَا نصبت دلَالَة بِشَرْط أَن لَا ينْسَخ حكمهَا فإذانسخ حكمهَا فقد خرجت عَن أَن تكون دلَالَة فَإِنَّهَا مادلت على الحكم دلَالَة العقليات على مدلولها.
فَإِن قَالَ من أحَال نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم: إِذا ثَبت الحكم بمورد الْآيَة فَيَنْبَغِي أَن لَا يَنْتَفِي بِوُقُوع تلاوتها، كَمَا أَن الحكم إِذا علق بعلة ثَبت بثبوتها وانتفى بنفيها، فَيُقَال: هَذَا سَاقِط من وَجْهَيْن أَحدهمَا: إِن وجوب تِلَاوَة الْآيَة لم يكن دَلِيلا على ثُبُوت الحكم وَإِنَّمَا الدَّلِيل على ثُبُوته مَضْمُون الْآيَة وَوُجُوب تلاوتها حكم يغاير مَضْمُون الْآيَة، على أَنا نقُول: لَا يبعد أَن يثبت حكم عَقْلِي وتدل عَلَيْهِ دلَالَة عقلية ثمَّ ترْتَفع الْأَدِلَّة وَلَا يرْتَفع مدلولها. فَإِذا جَازَ فِي الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تَقْدِير الِارْتفَاع مَعَ وجود ثُبُوت الْمَدْلُول، فَلِأَن يجوز ذَلِك مَعَ الْأَدِلَّة السمعية أولى.
وَبَيَان ذَلِك أَن الْعَالم دَال على صانعه، فَلَو قَدرنَا عدمهَا لم تقتض ذَلِك انْتِفَاء مدلولها.
ثمَّ نقُول لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا: قد اشْتَمَل الْقُرْآن، على مَا يُخَالف مذهبكم فَأَما نسخ الحكم مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة فمتحقق فِي آي من كتاب الله، مِنْهَا أَن النّسخ فِي حق المطيق بَين الصّيام والفدية مَعَ بَقَاء التِّلَاوَة فِي قَوْله تَعَالَى: {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة}
وَكَذَلِكَ نسخ الْوَصِيَّة للأقربين مَعَ ثُبُوت التِّلَاوَة فِي آيَة الْوَصِيَّة، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين}.
وَكَذَلِكَ نسخ الله تَعَالَى تَحْرِيم الْمُبَاشرَة فِي ليَالِي الصّيام مَعَ ثُبُوت تِلَاوَة الْآيَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث إِلَى نِسَائِكُم..} الْآيَة بِمَا فِيهَا.
وَهَكَذَا نسخ تربص المتوفي عَنْهَا زَوجهَا مَعَ ثُبُوت الْآيَة الدَّالَّة على ذَلِك وَيكثر نَظَائِر ذَلِك فِي الْقُرْآن.
فَأَما نسخ التِّلَاوَة مَعَ بَقَاء الحكم فكثير أَيْضا، مِنْهَا: الرَّجْم كَمَا قَالَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لَوْلَا أَن يُقَال زَاد عمر فِي كتاب الله تَعَالَى لأثبتها على حَاشِيَة الْمُصحف، وَهِي {الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ}.