فصل: القَوْل فِيمَن يعْتد بِخِلَافِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: مُخَالفَة التَّابِعِيّ المعاصر للصحابة مُعْتَبرَة:

إِذا ثَبت مُسَاوَاة أهل الْأَعْصَار، فَلَو خالفوا فِي حكمهَا، لم تبعد مخالفتهم.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يعْتَمد بِخِلَاف التَّابِعِيّ، وَقد أجمع من فِي الْعَصْر من الصَّحَابَة، وَهَذَا ظَاهر الْبطلَان.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَيْئَانِ:
أَحدهَا: إِن الْإِجْمَاع لم يثبت عقلا، وَإِنَّمَا يثبت سمعا، وكل سمع دلّ على إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَهُوَ دَال على الَّذين مَعَهم من التَّابِعين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن أحد الْأَدِلَّة عَلَيْهِ، قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}، وَاسم الْمُؤمنِينَ منطلق على الصَّحَابَة، وعَلى من مَعَهم من التَّابِعين. فَإِن حمل الْمُؤمنِينَ على الْجَمِيع، لزم إدخالهم فِي المجمعين. وَإِن سَاغَ حمل الْآيَة على بعض الْمُؤمنِينَ، سَاغَ حملهَا على بعض الصَّحَابَة، وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ.
وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ أَيْضا: أَن طَائِفَة من التَّابِعين انفردوا، بآراء فِي زمن الصَّحَابَة، وبلغوا مبلغ الْمُجْتَهدين، وتصدوا للْفَتْوَى، وَلم يُنكر الصَّحَابَة عَلَيْهِم الاستعداد بِالِاجْتِهَادِ، وَإِظْهَار الْخلاف لآحاد الصَّحَابَة وجماعتهم، وَذَلِكَ نَحْو شُرَيْح القَاضِي، فَإِنَّهُ كَانَ ينْفَرد بمذاهب يُخَالف فِيهَا عليا وَغَيره من الصَّحَابَة، وَكَذَلِكَ عَلْقَمَة من تلاميذ ابْن مَسْعُود، وَهَذَا أَكثر من أَن يُحْصى.
فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قد رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَت فِي أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن، لما خَالف أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت: "فروج يصقع مَعَ الديكة "، وأعظمت لَهُ القَوْل فِي ذَلِك.
قُلْنَا: لَا مُعْتَبر بقول وَاحِد من الصَّحَابَة، فَأكْثر مَا فِي ذَلِك أَن تقدر عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قائلة بِمَا ذكرتموه. أَو نقُول: لَعَلَّهَا قَالَت مَا قَالَت لمُخَالفَة أبي عبد الرَّحْمَن طرق الْحجَّاج، ولفساد مَا آثره وَاخْتَارَهُ، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.

.القَوْل فِيمَن يعْتد بِخِلَافِهِ:

اعْلَم، وفقك الله، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء: أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين فَصَاعِدا، يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، فَلَو اتّفق أهل الْعَصْر فِي حكمه، خلا وَاحِد، فَإِنَّهُ خَالف فِيهِ، فَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ خِلَافه.
وَذهب بعض الْعلمَاء: إِلَى أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين لَا يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَلَا مُعْتَبر لخلافهم هَذَا بعد مَا اتّفق غَيرهم، ويؤثر ذَلِك عَن ابْن جرير.
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي الثَّلَاثَة، وَالَّذِي يَصح عَنهُ، أَن كل عدد لَا يبلغون عدد التَّوَاتُر، فَلَو خالفوا، لم يعْتد بخلافهم.
وَالدَّلِيل على صِحَة مَا صرنا إِلَيْهِ، مَا قدمْنَاهُ من أَن الْإِجْمَاع لَا يثبت بأدلة الْعُقُول، وَإِنَّمَا يثبت سمعا، والأدلة السمعية تَتَضَمَّن قيام الْحجَّة بِإِجْمَاع الْمُؤمنِينَ. فَإِذا خَالف فِي ذَلِك وَاحِد لم يتَحَقَّق اتِّفَاق الْمُؤمنِينَ عُمُوما، وَإِن سَاغَ حمل الْمُؤمنِينَ على الْبَعْض، سَاغَ حملهمْ على نصف أهل الْعَصْر أَو معظمهم، مَعَ مُخَالفَة قوم إيَّاهُم تقوم بهم حجَّة التَّوَاتُر.
فَإِن قَالُوا: فَمن أَدِلَّة الْإِجْمَاع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق».
قُلْنَا: اعلموا أَن آحَاد هَذِه الْأَخْبَار لَا تدل على الْإِجْمَاع، فَإِنَّهَا آحَاد لَا تفضى إِلَى الْقطع، وَإِنَّمَا الدَّال على الْإِجْمَاع، مَجْمُوع الْأَخْبَار، ثمَّ معظمها منبئ عَن استغراق الْمُؤمنِينَ مَعَ انْتِفَاء الِاخْتِصَاص، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي» يَعْنِي عُلَمَاء أمته، دون من عداهم من الِاتِّبَاع والعوام.
وَمن أوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة أَن نقُول: قد انْفَرد ابْن عَبَّاس وَغَيره من أَئِمَّة الصَّحَابَة، بمخالفة الصَّحَابَة. نَحْو انْفِرَاد ابْن عَبَّاس بمذاهب فِي مسَائِل الْفَرَائِض، كالعول وَنَحْوه.
ثمَّ لم يُنكر الصَّحَابَة ذَلِك، وَلم يعدوه خارقا للْإِجْمَاع. وَهَذَا مَا لَا حِيلَة للخصم مَعَه.
فَإِن قَالُوا: قد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مَا انْفَرد بِهِ، نَحْو إنكارهم عَلَيْهِ إحلال الْمُتْعَة وَتَخْصِيص الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ.
قُلْنَا: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ شَيْئا مِمَّا انْفَرد بِهِ لنسبتهم إِيَّاه لخرق الْإِجْمَاع، وَلَكِن حاجوه، وبينوا لَهُ وَجه الْحجَّة فِي تَحْرِيم الْمُتْعَة والربا. فَإِن ابْن عَبَّاس أعظم قدرا من أَن ينتسب إِلَى خرق الْإِجْمَاع مَعَ عظم الْخطر فِيهِ، فَإِنَّهُ رُبمَا يبلغ خطر خرق الْإِجْمَاع مبلغ التَّكْفِير، على مَا سنوضح القَوْل فِي ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
فَإِن قَالُوا: مهما انْفَرد بِالْخِلَافِ الْوَاحِد والأثنان. فَنحْن لَا نقطع بإيمَانهمْ، بل نستريب فِي صِحَة اعْتِقَادهم، وَالَّذين أَجمعُوا سواهُمَا زائدون على أقل أهل عدد التَّوَاتُر، وَنحن نقطع بإيمَانهمْ، فَكيف يقْدَح من نستريب فِي إيمَانه فِي مَذَاهِب جمع نقطع بصدقهم فِي إخبارهم عَن إِيمَانهم؟ وَهل نَحن فِي ذَلِك - لَو قُلْنَا بِهِ - إِلَّا بِمَنْزِلَة من يقْدَح فِي الْخَبَر المستفيض الْمُتَوَاتر لخَبر الْوَاحِد؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا حجَّة فِيهِ من أوجه:
أَحدهَا: أَن الَّذِي وَقع فِيهِ الْخلاف، مِمَّا لَا نقطع فِيهِ بصدقهم مَعَ خلاف من خالفهم، وَإِن كَانَ وَاحِدًا. فثبوت صدقهم على الْقطع فِي إِيمَانهم لَا يُنبئ عَن مثل ذَلِك فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ تحريا واجتهادا، فَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف مصورا فِي مَنْقُول عَن مُشَاهدَة، لَكَانَ الْأَمر على مَا ادعيتموه.
ثمَّ نقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا يَسْتَقِيم. إِذْ لَو اخْتلفت طَائِفَتَانِ من الْأمة، وَبلغ عدد كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مبلغ أهل عدد التَّوَاتُر، فَيصح هَذَا الِاخْتِلَاف. وَإِن كُنَّا نقطع بِإِيمَان كل وَاحِدَة من الطَّائِفَتَيْنِ، فَلَو كَانَ سَبِيل الِاخْتِلَاف فِي مثل ذَلِك متلقى من الْأَخْبَار، لما تصور الِاخْتِلَاف فِي الصُّورَة الَّتِي فَرضنَا الْكَلَام فِيهَا، إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن ينْقل أهل أحد جَانِبي بَغْدَاد شَيْئا عَن مُشَاهدَة، من غير ظُهُور سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، وينقل أهل الْجَانِب الثَّانِي ضد ذَلِك عَن سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَبَطل اعْتِبَار الِاخْتِلَاف فِي مواقع الْإِجْمَاع وَغَيرهَا بِثُبُوت الصدْق عِنْد النَّقْل عَن المحسوسات والمشاهدات.
فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ لَا يعْتَبر حكم الْإِجْمَاع بِثُبُوت الصدْق فِي الْإِخْبَار عَن المشاهدات، أفتجوزون على ذَلِك أَن يجمع الله الْأمة على حكم، وهم لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك بَاطِنا، كَمَا أبدوه ظَاهرا؟
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ، فَإِنَّهُم أخبروا عَن معتقداتهم، ومعتقد الْمَرْء ثَابت عِنْده ضَرُورَة. فَلَا سَبِيل إِلَى أَن ينْقل أهل التَّوَاتُر عَمَّا علموه من أنفسهم ضَرُورَة، وتتفق آراؤهم عَلَيْهِ فِي اطراد الْعَادة من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ.
فَإِن قَالُوا: فاتفاقهم على كَون مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ حَقًا لَيْسَ بإنباء عَن محسوس. بل هُوَ إِسْنَاد مِنْهُم القَوْل إِلَى اجْتِهَاد أَو خبر من أَخْبَار الْآحَاد، فجوزوا أَن يزلوا فِي ذَلِك ويضلوا.
قُلْنَا: لَو رددنا إِلَى الْمَعْقُول لم يستنكر ذَلِك أصلا، وَلَكِن ثَبت بالأدلة القاطعة كَون مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة حجَّة قَاطِعَة، فَلَا يتَحَقَّق ذَلِك مَعَ خلاف وَاحِد، فَصَاعِدا.
فَإِن استدلوا بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: «عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم». فَلم يشْتَرط فِي الِاتِّبَاع اتِّفَاق الكافة، بل اكْتفى بالجماهير والمعظم.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه من أَخْبَار الْآحَاد، وَلَا يحسن التَّمَسُّك بِهِ فِي القطعيات.
فَإِن قَالُوا: ألستم استدللتم بِهِ فِي إِثْبَات أصل الْإِجْمَاع؟
قُلْنَا: مَا استدللنا بِخَبَر وَاحِد، وَلَكِن نقلنا جملَة من الْأَخْبَار، وادعينا استفاضة مَعْنَاهَا، وَإِن لم يستفض كل لَفْظَة على حيالها، فَإِذا أردتم تَحْدِيد لَفْظَة وتخصيصها بالاستدلال، لكنتم معتصمين بالآحاد.
على أَنا نقُول: قد وافقتمونا أَن الْألف فَصَاعِدا. لَو خالفوا فِي حكم مَسْأَلَة، لم يثبت الْإِجْمَاع، وَإِن كَانَ الَّذين اتَّفقُوا الآفا مؤلفة، وَهُوَ السوَاد الْأَعْظَم، وَقَوْلنَا فِي خلاف الْوَاحِد والاثنين كقولكم فِي هَذِه الصُّورَة.
على أَنا نقُول: لَيْسَ الْمَعْنى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم «عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم» التَّعَرُّض للْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف الرَّاجِع إِلَى مسَائِل الْفُرُوع الَّتِي الِاخْتِلَاف فِيهَا رَحْمَة، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك مُلَازمَة جمَاعَة الْأمة، وَترك اقْتِضَاء المبتدعة فِي عقائدها.
وَقد قيل: إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بذلك إِيجَاب اتِّبَاع الشاردين الخارجين عَن طَاعَة الإِمَام، فَبَطل استدلالهم. وَتبين أَن الَّذِي تمسكوا بِهِ عرضة للتأويلات.

.القَوْل فِي اعْتِبَار الانقراض فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ:

اخْتلف الأصوليون فِي أَن أهل الْعَصْر إِذا اجْمَعُوا على حكم حَادِثَة، وَقَطعُوا القَوْل بِهِ، فَهَل تقوم حجَّة الْإِجْمَاع قبل انْقِرَاض المجمعين؟
فَذهب بعض النَّاس إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم إِلَّا عِنْد انْقِرَاض المجمعين وتفانيهم، وَمَا داموا باقين، فيسوغ الْخلاف من بَعضهم، وَمن طَائِفَة يبلغون بعد إِجْمَاعهم مبلغ الْعلمَاء.
وَاخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل يتَصَوَّر من المجمعين أَن ينصرفوا بأجمعهم عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ ويتفقوا على ضِدّه؟ فَمنهمْ من لم يجوز ذَلِك، وَلَكِن جوز أَن يرجع مِنْهُم طَائِفَة، فَأَما رُجُوع الْكل، فَلَا يسوغ.
فَمنهمْ من جوز رُجُوع الْكل، وَهُوَ قِيَاس هَذَا الْمَذْهَب.
وَمِنْهُم من سلك طَريقَة ثَالِثَة، فَقَالَ: إِن شرطُوا عِنْد الْإِجْمَاع جَوَاز الرُّجُوع عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ، جَازَ لَهُم الرُّجُوع، وَإِن لم يكن الْأُخْرَى وأطلقوا الْإِجْمَاع وَلم يشترطوا جَوَاز الرُّجُوع، فَلَا يَصح من كافتهم أَن يرجِعوا، وَهَذَا أَضْعَف الْمذَاهب.
وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم مَا لم ينقرض المجمعون حَتَّى لَو بَقِي وَاحِد مِنْهُم، فَلَا يثبت الْإِجْمَاع.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه إِذا لم يبْق من المجمعين إِلَّا عدد ينقصُونَ عَن أقل عدد التَّوَاتُر، فَلَا يكترث ببقائهم، وَيحكم بانعقاد الْإِجْمَاع.
وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: أَن لَا يشْتَرط فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع الانقراض. وَلَكِن مهما أجمع عُلَمَاء الْأمة على حكم فِي حَادِثَة، فَهُوَ الْحق عِنْد الله قطعا، وَقد قَامَت حجَّة الْإِجْمَاع، وَيحرم الْخلاف، وَلَا يتَصَوَّر مِنْهُم بأجمعهم أَن يرجِعوا عَمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ. إِذْ لَو رجعُوا لكانوا مخالفين للْإِجْمَاع الأول، وَهُوَ ضلال، وَلَا تَجْتَمِع الْأمة على الضَّلَالَة.
وَيتَصَوَّر أَن يُخَالف بَعضهم بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع. وَلَكنَّا نعلم أَنه خطأ وضلال وابتداع بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع، كَمَا نعلم ذَلِك بعد انْقِرَاض المجمعين. وَكَذَلِكَ فَلَا يجوز أَن يجمعوا ويقطعوا بِحكم، ويجوزوا لأَنْفُسِهِمْ الرُّجُوع شرطا مِنْهُم، كَمَا لَا يَصح فيهم أَن يشترطوا الرُّجُوع، ويجوزه لمن بعدهمْ بعد انْعِقَاد إِجْمَاعهم وانقراضهم.
وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن نقُول: الْإِجْمَاع مِمَّا لَا يثبت عقلا كَمَا قدمْنَاهُ وَإِنَّمَا يثبت سمعا. والطرق الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى إِثْبَات الْإِجْمَاع مضبوطة. وَلَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا مَا يتَضَمَّن اشْتِرَاط الانقراض. فَلَو سَاغَ اشْتِرَاطه عَن غير دلَالَة قَاطِعَة من جِهَة السّمع، لساغ تَخْصِيص الْإِجْمَاع، تصورا بِبَعْض مسَائِل الْفُرُوع، حَتَّى يُقَال: إِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِالْإِجْمَاع فِي مسَائِل الْمُعَامَلَات دون مسَائِل الْعِبَادَات! فَلَمَّا لم يكن إِلَى ذَلِك سَبِيل، تبين مَا قُلْنَاهُ.
وإيضاحه: أَن من الْأَدِلَّة على الْإِجْمَاع، الْآيَة الَّتِي قدمنَا ذكرهَا، وَهِي قَوْله تَعَالَى: {وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}. وَهَذَا لَا تَخْصِيص فِيهِ بالانقراض، فِي منظومه وَمَفْهُومه، وَكَذَلِكَ طرق الْأَخْبَار الَّتِي استدللنا بهَا، لَا تنبئ عَن شَيْء فِي ذَلِك.
وَرُبمَا يتمسكون بآي وأخبار، لَيْسَ فِيهَا معتصم، على مَا سَنذكرُهُ فِي شبههم.
وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: المجمعون لَا يتَحَقَّق اتِّفَاقهم بعد انقراضهم. وَإِنَّمَا يتَحَقَّق اتِّفَاقهم بإجماعهم فِي حياتهم. والانقراض يخرجهم عَن اعْتِقَاد الْإِجْمَاع. فَإِذا كَانُوا مصرين ثابتين على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْحَالة أولى بِنِسْبَة الْمذَاهب إِلَيْهِم مِنْهُ إِذا انقرضوا.
فَإِن قَالُوا: أمنا رجوعهم، وَلَيْسَ كَذَلِك مَا داموا أَحيَاء. فَإنَّا لَا نَأْمَن رجوعهم.
قُلْنَا: أما رُجُوع جَمِيعهم، فمأمون، لَا خَفَاء بِهِ، على أصلنَا، وَأما خلاف بَعضهم، فمتصور. مَعَ قَطعنَا بِأَنَّهُ خطأ، فَهَلا سلمتم هَذَا المسلك؟ على أَنه يتَصَوَّر بعد الانقراض مُخَالفَة بعض أهل الْعَصْر الثَّانِي، ثمَّ يتَصَوَّر ذَلِك لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع، فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَمِمَّا نعتصم بِهِ أَن نقُول على من زعم أَن الْإِجْمَاع لَا يسْتَقرّ مَا بَقِي من المجمعين وَاحِد وهَذَا يُؤَدِّي الى خرق إِجْمَاع الْأمة، فَإِن التَّابِعين كَانُوا يستدلون بِإِجْمَاع الصَّحَابَة، وَإِن كَانَ بَقِي مِنْهُم الْعدَد والشرذمة. كَمَا كَانُوا يستدلون بإجماعهم بَعْدَمَا تفانوا، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَمِمَّا نستدل بِهِ أَيْضا، أَن نقُول: قد تَبينا فِيمَا قدمنَا، أَن التَّابِعِيّ إِذا خَالف الصَّحَابَة فِي حكم حَادِثَة وَقعت، فَيقبل خِلَافه، كَمَا يقبل خلاف الصَّحَابِيّ.
فَإِذا ثَبت هَذَا الأَصْل - فَلَو شرطنا الانقراض فِي المجمعين أدّى ذَلِك إِلَى أَن لَا يسْتَقرّ إِجْمَاع أصلا، وَذَلِكَ أَن الصَّحَابَة لَو اتَّفقُوا مثلا على حكم، ثمَّ لم يتفانوا حَتَّى تلاحق بهم جمَاعَة من التَّابِعين وبلغوا مبلغ الْعلمَاء، فقد صَارُوا من أهل الْإِجْمَاع، إِذا فَيجب أَن يشْتَرط انقراضهم مَعَ انْقِرَاض الصَّحَابَة. فَإنَّا لَو قَدرنَا مِنْهُم خلافًا، كَانَ كتقديرنا ذَلِك من بعض الصَّحَابَة، ثمَّ إِذا اشترطنا انْقِرَاض التَّابِعين مَعَ الصَّحَابَة، فَلَا يتَّفق انقراضهم - فِي مجْرى الْعَادة - إِلَّا بعد أَن يلحقهم أَقوام من أهل الْعَصْر الثَّالِث. فتتلاحق الْأَعْصَار وتتداخل، وَلَا يسلم الْإِجْمَاع قطّ، وَذَلِكَ يسبب إِلَى نفي الْإِجْمَاع.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن مَا أَجمعت عَلَيْهِ الْأمة حق! وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق قبل الانقراض.
وَهَذَا فِيهِ نظر.
وللخصم أَن يَقُول: لسنا نوافقكم على مَا ادعيتموه من الْإِجْمَاع. فَإنَّا نقُول: مَا اتّفقت عَلَيْهِ الْأمة لَا تقوم بِهِ الْحجَّة حَتَّى ينقرضوا على اتِّفَاقهم. فَلم ادعيتم الْإِجْمَاع مُطلقًا؟
وَالْأولَى: التعويل على الطَّرِيقَة الأولى، الَّتِي صدرنا الْأَدِلَّة بهَا.

.شُبْهَة الْمُخَالفين:

فمما استدلوا بِهِ، أَن قَالُوا: إِذا اتّفقت آراء أهل الْأَعْصَار على شَيْء اجْتِهَادًا وتحرياً، فَكل مِنْهُم مَا قَالَ، إِلَّا وَهُوَ مُجْتَهد، غير قَاطع بِاجْتِهَادِهِ. فَلَو لم يتَصَوَّر لَهُم الرُّجُوع أصلا، أدّى ذَلِك إِلَى أَن يستد عَلَيْهِم طَرِيق التَّحَرِّي. فَلَزِمَ أَن نقُول: لَو انْفَرد الْمَرْء بِالِاجْتِهَادِ، لم يسغْ لَهُ الرُّجُوع عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَمَعْلُوم أَن مواقع الِاجْتِهَاد لَا تخْتَلف، بِأَن يتَقَدَّر فِيهَا وفَاق أَو لَا يتَقَدَّر.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تعرض مِنْكُم لشُبْهَة نفاة الْإِجْمَاع، وَلَو صَحَّ مَا قلتموه، لزمكم على طرده، أَن تَقولُوا: "لم يسع المجمعين مخالفتهم " فَإِن طرق الِاجْتِهَاد لَا تنضبط وَلَا تَنْحَصِر على الْمُجْتَهدين، وَلَا تخْتَلف مداركها، وَإِن سبق بطرِيق من الِاجْتِهَاد سَابِقُونَ.
فَإِن قَالُوا: لَا يجوز ذَلِك بعد سبق انْعِقَاد الْإِجْمَاع، لقِيَام حجَّته.
قُلْنَا: فاقبلوا منا مثل ذَلِك فِي حَال حَيَاة المجمعين، فَنَقُول: إِذا اجْتهد الْمُجْتَهد، وَلم يُوَافق عَلَيْهِ، فَلهُ فِي طرق الِاجْتِهَاد مساغ ومجال. فَإِن اتّفق عَلَيْهِ اتِّفَاق، فقد انحسم التجويز وَلَا يجد جِهَة للحق. وَهَذَا بَين لَا خَفَاء بِهِ.
وَمِمَّا يُؤثر عَنْهُم، الِاسْتِدْلَال، وَهُوَ من أهم مَا تعرف الْعِنَايَة إِلَيْهِ أَن قَالُوا: لَو لم يشْتَرط الانقراض فِي الْإِجْمَاع، لزمنا أَن نقُول: إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة على قَوْلَيْنِ أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على أَحدهمَا، ورفضوا القَوْل الثَّانِي، فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَصَوَّر ذَلِك مِنْهُم. وَنحن نعلم أَن أهل الْعَصْر قد يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْء أَولا، ثمَّ تتفق آراؤهم على أحد الْمذَاهب.
وَوجه الْإِلْزَام فِي ذَلِك، أَن قَالُوا: مهما اخْتلفُوا أَولا، فقد سوغوا الِاخْتِلَاف، وَأَجْمعُوا على عدم قطع القَوْل. فَيَنْبَغِي أَن لَا يتَصَوَّر بعد ذَلِك قطع القَوْل، إِلَّا على الأَصْل الَّذِي اخترناه، فَإنَّا نقُول: وَإِن سوغوا الْخلاف أَولا اتِّفَاقًا، فَمَا انقرضوا على ذَلِك، لتقوم الْحجَّة بتسويغ الْخلاف، فَأنْتم إِذا لم تشترطوا الانقراض، فَلَا تَجِدُونَ عَن ذَلِك محيصا.
وَاعْلَم أَن من موافقينا من يستحقر هَذَا السُّؤَال، ويعده من أَضْعَف سُؤال الْقَوْم. ويجيب عَنهُ، بِأَن اخْتلَافهمْ لَيْسَ اتِّفَاقًا مِنْهُم على حكم. وَمَا قَالُوهُ من تَصْوِير الْخلاف، لَا معنى لَهُ، فَإِنَّهُ لَا يزِيد تسويغ الْخلاف على تصَوره، وَثُبُوت الْخلاف فِي صُورَة لَيْسَ بِحكم مجمع عَلَيْهِ، ليعد ذَلِك مذهبا مُتَّفقا عَلَيْهِ.
قَالُوا: وسبيل ذَلِك، سَبِيل مَا لَو وَقعت الْحَادِثَة أَولا، فتردد فيهمَا الْعلمَاء كالمستريبين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ آراؤهم. فتصور الريب أَولا، لَا يعد مذهبا.
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، وَلَو سلكنا هَذِه الطَّرِيقَة، لم نجد عَمَّا ألزمونا محيصا. وَذَلِكَ أَن لَهُم أَن يَقُولُوا: مهما اخْتلفُوا الصَّحَابَة، واتفقت مثلا رتب الْمُجْتَهدين مِنْهُم، فقد أَجمعُوا على أَنه يحل للعوام أَن يتبع من شَاءَ مِنْهُم، عِنْد اسْتِوَاء أوصافهم، فَهَذَا اتِّفَاق مِنْهُم على حكم، وَقطع مِنْهُم القَوْل فِيهِ، فَلَو أَجمعُوا على أحد الْقَوْلَيْنِ، وحرموا على الْعَوام تَجْوِيز اتِّبَاع القَوْل الثَّانِي، فَيكون ذَلِك تَحْرِيمًا مِنْهُم لعين مَا أحلوه، وَذَلِكَ مُسْتَحِيل على أصُول من لم يشْتَرط الانقراض فِي الْإِجْمَاع.
فَلَا وَجه إِلَّا أَن نقُول: لَا يتَصَوَّر اتِّفَاق أهل الْعَصْر بعد اخْتلَافهمْ، فَإِن فِي تَجْوِيز ذَلِك تصور اجتماعين متضادين، فَتَأَمّله، تَجدهُ صَحِيحا.
فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم، أَنهم لما اخْتلفُوا وسوغوا للعوام اتِّبَاع أحد الْقَوْلَيْنِ، لَا بِعَيْنِه، أَو التَّخْيِير فِي الِاتِّبَاع عِنْد اسْتِوَاء أَوْصَاف الْمُجْتَهدين، فَهَذَا إِجْمَاع مِنْهُم على شَرط: فكأنهم قَالُوا: لكم الْخيرَة، مَا لم يتَّفق إِجْمَاع الْأمة على أحد الْقَوْلَيْنِ؟
قُلْنَا: هَذَا تَخْلِيط مِنْكُم عَظِيم فِي مسَائِل الْإِجْمَاع، وَلَو سَاغَ تثبيت إِجْمَاع مَشْرُوط بِشَرْط مرقوب، لجَاز ذَلِك فِي كل إِجْمَاع، حَتَّى نقُول: لَو أجمع أهل الْعَصْر على حكم، يجوز رجوعهم عَنهُ، ثمَّ يُقَال عِنْد تصور رجوعهم: إِنَّمَا أَجمعُوا أَولا بِشَرْط أَن لَا يَتَّضِح لَهُم وَجه فِي الِاسْتِدْلَال وَطَرِيق الِاجْتِهَاد. فَلَا وَجه إِلَّا مَا قُلْنَاهُ من منع الِاتِّفَاق بعد الْخلاف.
وسنوضح ذَلِك فِي الْبَاب الَّذِي يَلِي هَذَا الْبَاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ: مَا رُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: "اتّفق رَأْيِي ورأي أبي بكر وَعمر فِي منع بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد. وَإِنِّي أرى أَن يبعن "، فَقيل لَهُ: "رَأْيك فِي الْجَمَاعَة، خير من رَأْيك فِي الْوحدَة".
قَالُوا: فسوغ عَليّ رَضِي الله عَنهُ الْخلاف بعد الْإِجْمَاع.
قُلْنَا: لم ينْقل عَليّ رَضِي الله عَنهُ، إِجْمَاع الصَّحَابَة، وَلكنه نقل مَذْهَب أبي بكر وَعمر، فاتضح سُقُوط استدلالهم.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ: قَوْله تعالي: {وَكَذَلِكَ جعلنكم أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس}، قَالُوا: وَجه الدَّلِيل من ذَلِك، أَنه تَعَالَى أثبت الْأمة شُهَدَاء على غَيرهَا، وَلم يَجْعَلهَا شاهدة على نَفسهَا. فَدلَّ ذَلِك على إِن إِجْمَاع كل عصر حجَّة على أهل الْعَصْر الَّذِي يَلِيهِ، وَلَيْسَ بِحجَّة فِي ذَلِك الْعَصْر بِعَيْنِه.
قُلْنَا: التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْآيَة فِي حكم الْإِجْمَاع، فِيهِ نظر: إِذْ أَرْبَاب التَّأْوِيل متفقون على أَن المُرَاد بِالْآيَةِ، شَهَادَة هَذِه الْأمة على سَائِر الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيكون الرَّسُول عَلَيْكُم شَهِيدا} فَجمع بَين كَونهم شَهِيدا وَبَين كَون الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَهِيدا، وَإِنَّمَا يجْتَمع ذَلِك فِي الْقِيَامَة.
ثمَّ لَيْسَ فِي الْآيَة تعمد كَونهم شُهَدَاء على أنفسهم، إِلَّا على طَرِيق التَّمَسُّك بِدَلِيل الْخطاب.

.القَوْل فِي إِجْمَاع الْعَصْر الثَّانِي بعد اخْتِلَاف أهل الْعَصْر الأول:

إِذا اخْتلف أهل عصر الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ مثلا، ثمَّ انقرضوا، وَصَارَ أهل الْعَصْر الَّذِي يَلِي عصر الْأَوَّلين إِلَى أحد الْقَوْلَيْنِ، ورفضوا القَوْل الثَّانِي، فَهَل يكون ذَلِك إِجْمَاعًا.
اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك:
فَذهب الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا أصلا.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يكون إِجْمَاعًا مَقْطُوعًا بِهِ، حَتَّى لَا يجوز بعد إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على أحد المذهبين، الْمصير إِلَى الْمَذْهَب الثَّانِي.
وَمن صَار إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا، اخْتلفُوا على مذهبين فِي أَنه هَل يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر الثَّانِي، أصل الْإِجْمَاع؟ وَلَا يسوغ اجْتِمَاعهم على خطأ. ورفض أحد الْقَوْلَيْنِ خطأ على معنى التخطئة. فَلَا يسوغ هَذَا الْقَائِل اجْتِمَاعهم عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتفقوا على أَن الْأَخْذ بِأَحَدِهِمَا أولى من غير أَن يرفضوا القَوْل الثَّانِي، فَهَذَا مِمَّا يسوغ ويهون أمره.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يتَصَوَّر من أهل الْعَصْر الثَّانِي، صُورَة الِاتِّفَاق على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ وَتَحْرِيم الْمصير إِلَيْهِ، وَلَكِن لَا يكون اتِّفَاقهم حجَّة. لأَنهم فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف لَيْسُوا كل الْأمة، إِذْ الَّذين انقرضوا من الْمُخَالفين الآخذين بالْقَوْل المرفوض، فِي تَقْدِير الْأَحْيَاء المصرين على مَذْهَبهم. إِذْ الْمذَاهب لَا تبطل بِمَوْت أصحابهَا.
وَلَو كَانَ كَذَلِك، لما كَانَ هَؤُلَاءِ إِلَّا بعض الْأمة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَالْقَاضِي رَضِي الله عَنهُ يمِيل تَارَة إِلَى هَذَا الْمَذْهَب: وَهُوَ تصور الِاتِّفَاق مِنْهُم وَتارَة إِلَى الْمَذْهَب الأول: وَهُوَ أَنه لَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاتِّفَاق.
وَالْمُخْتَار من هَذَا الْبَاب أَن حكم الِاخْتِلَاف لَا يرتفض أصلا.
وَقد تمسك أصحابنَا فِي نصْرَة هَذَا الْمَذْهَب بطريقتين:
أَحدهمَا: أَن الَّذين اخْتلفُوا أَولا، ثمَّ درجوا ومضوا، يقدرُونَ أَحيَاء فَإِن الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت أصحابهَا وَلَا تندرس. إِذْ لَو سَاغَ سُقُوط مَذْهَب بِمَوْت الصائرين إِلَيْهِ للَزِمَ ارْتِفَاع الْإِجْمَاع أَيْضا، حَتَّى يُقَال: إِذا أجمع أهل الْعَصْر الأول، ثمَّ انقرضوا، فقد ارْتَفع حكم إِجْمَاعهم، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
والطريقة الْأُخْرَى: - وَهِي الَّتِي اخْتَار القَاضِي رَضِي الله عَنهُ - أَن أهل الْعَصْر الأول إِذا اخْتلفُوا على مذهبين، وَالْمَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، فقد سوغ كلهم - مَعَ تَسَاوِي صِفَات الْمُجْتَهدين - للعوام الْأَخْذ بقول أَي الْفَرِيقَيْنِ شَاءُوا، وَأَحلُّوا ذَلِك لَهُم اتِّفَاقًا مِنْهُم، فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على أحد الْقَوْلَيْنِ ورفض القَوْل الثَّانِي، لَكَانَ الْإِجْمَاع الثَّانِي قادحا فِي إِجْمَاع الصَّحَابَة، إِذْ قد فرط مِنْهُم الْإِجْمَاع على تَحْلِيل الْأَخْذ بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ، اتّفق للعوام . فَإِن رفض أحد المذهبين، فقد حرم مَا أحلوه. وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
فَإِذا قَالَ قَائِل: بعد تمسكنا بِهَذِهِ الطَّرِيق: فَهَل تجوزون إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ؟
كَانَ الْأَصَح والأقطع للشغب، أَن نقُول: لَا يجوز ذَلِك، وَهَذَا مِمَّا لَا يتَّفق كَمَا يتَّفق أهل الْعَصْر الأول على مَذْهَب وَاحِد، ثمَّ إِجْمَاع أهل الْعَصْر على نقيضه.
وَإِن سلكنا طَرِيق تصور الِاتِّفَاق مِنْهُم، وجعلناهم فِي ذَلِك بعض الْأمة، وَإِن كَانَ لَو حدثت حَادِثَة، لم يقل فِيهَا الْأَولونَ شَيْئا، وَاتَّفَقُوا فِيهَا على حكم، كَانَ ذَلِك حجَّة مَقْطُوعًا بهَا، لأَنهم فِيهَا كل الْأمة، وَلم يسْبقُوا فِيهَا بقول وَمذهب، فيلزمنا أَن نقُول على هَذِه الطَّرِيقَة: إِذا رفضوا أحد الْقَوْلَيْنِ فَيكون ذَلِك تعرضاً مِنْهُم لخرق الْإِجْمَاع، وَلَا يجوز لَهُم ذَلِك أصلا.
وَالَّذِي أوثره لَك، التَّمَسُّك بالطريقة الأولى، وَهُوَ: أَنه لَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاتِّفَاق على أحد الْقَوْلَيْنِ، ورفض القَوْل الثَّانِي.
فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم: أَن أهل الْعَصْر الأول مَا اتَّفقُوا على الحكم، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا، فَلَا سَبِيل إِلَى استنباط وفَاق من خلاف؟
قُلْنَا: قد قَررنَا الْإِجْمَاع، إِذْ قُلْنَا: فِي تَصْوِير الِاخْتِلَاف إِجْمَاعًا على تسويغ الْأَخْذ بِأَيّ الْقَوْلَيْنِ اتّفق فِي حق الْعَوام، مَعَ تَسَاوِي صِفَات الْمُجْتَهدين. وَهَذَا إِجْمَاع لَا خَفَاء بِهِ.
وَاعْلَم أَن ذَلِك يقوى مَعَ القَوْل بتصويب الْمُجْتَهدين، على مَا نعقده.
فَإِن قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم إِنَّمَا أحلُّوا للعوام الْأَخْذ بِأحد الْقَوْلَيْنِ، بِشَرْط أَلا تتضح دلَالَة فِي تعْيين أحد الْقَوْلَيْنِ، وارتفاض الثَّانِي، فَكَأَنَّهُ إِجْمَاع مُعَلّق على شَرط!
قُلْنَا: هَذَا مَا لَا وَجه فِيهِ. و فِيهِ التَّسَبُّب إِلَى الْقدح فِي كل إِجْمَاع. وَذَلِكَ أَنه لَو سَاغَ مَا قَالُوهُ فِي هَذِه الصُّورَة، لساغ فِي كل إِجْمَاع، حَتَّى يُقَال: يجوز أَن يجمع أهل الْعَصْر الأول على قَول، بِشَرْط أَن لَا تعن لأهل الْعَصْر الثَّانِي دلَالَة على خلاف مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ، وَلَو فتحنا هَذَا الْبَاب، لسقطت الثِّقَة بِكُل إِجْمَاع. ولساغ التَّعَرُّض لنفيه، بِمَا يظْهر من الْأَدِلَّة السمعية.
وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد فِي ذَلِك: أَن أهل الْعَصْر الأول، إِذا اخْتلفُوا وَجعلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، ثمَّ انقرضوا، فَلَا يسوغ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة ظُهُور دلَالَة يقطع بهَا فِي الْعَصْر الثَّانِي.
إِذْ لَو كَانَ فِي الْمَسْأَلَة دلَالَة مَقْطُوع بهَا، لما ذهل عَنْهَا أهل الْأَعْصَار الخلية من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَنحن مخاطبون بالبحث عَنْهَا . وَقد أجمع من قَالَ بِحجَّة الْإِجْمَاع أَن ذَلِك لَا يجوز أصلا.
فَإِذا كَانَت الدّلَالَة المقطوعة لَا تتفق فِي الْعَصْر الثَّانِي، فقد سوغ الْأَولونَ الِاخْتِلَاف، وَأَحلُّوا للعوام الْمصير إِلَى كل مَذْهَب، وَلَا يتَصَوَّر مَعَ ذَلِك التَّعَلُّق على شَرط ظُهُور دَلِيل، فَإِن ذَلِك الَّذِي قدرتموه من الدَّلِيل، إِن لم يكن مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يرْتَفع الِاجْتِهَاد بِمثلِهِ، وَإِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، فَلَا يجوز انْقِرَاض أهل الْعَصْر الأول مَعَ الذهول عَنهُ، وَهَذَا وَاضح، غير خافي .
وَرَأَيْت لبَعض المنتمين إِلَى الْأُصُول قولا، خطأ فِي أَرْبَاب الْحَقَائِق، و أزرى عَلَيْهِم بِهِ، ونسبهم إِلَى الذّهاب عَمَّا أدْركهُ. وَهَذَا على التَّحْقِيق غر من الأغرار.
وَذَلِكَ أَنه قَالَ: يجوز انْعِقَاد الْإِجْمَاع على شَرط. قَالَ: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ، أَن الْأمة مجمعة على جَوَاز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ وَهَذَا مَشْرُوط بِالسَّفرِ وإعواز المَاء.
وَيَا عجبا! كَيفَ يحل لغر الانتساب إِلَى الْأُصُول، مَعَ الذهول عَن هَذَا الْقدر الَّذِي يُدْرِكهُ من شدا طرفا من الْعلم، فَلَيْسَ الْمَعْنى بقول الْمُحَقِّقين: إِن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد على شَرط مَا خيل إِلَيْهِ، فَإِنَّهُم إِذا أَجمعُوا على جَوَاز الصَّلَاة بِالتَّيَمُّمِ فِي حَالَة مَخْصُوصَة، فكأنهم أَجمعُوا على حكم فِي حَال مَخْصُوص.
وكل الشَّرِيعَة إِذا تتبعتها، تجدها كَذَلِك، فَإِنَّهُم أَجمعُوا على وجوب الصَّلَاة بِشَرْط دُخُول الْوَقْت والتمكن. وعَلى وجوب الْحَج بِشَرْط الِاسْتِطَاعَة، وعَلى وجوب الزَّكَاة بشرائط يطول تعدادها. وكل ذَلِك يرجع إِلَى إِجْمَاعهم فِي حكم على حَال مَخْصُوص. وَلَا يرجع الشَّرْط إِلَى نفس الْإِجْمَاع أصلا.
وَإِنَّمَا الَّذِي نَحن فِيهِ، تَبْيِين اسْتِحَالَة انْعِقَاد الْإِجْمَاع على حكم، بِشَرْط أَن يرْتَفع أصل الْإِجْمَاع عَن ذَلِك الحكم عُمُوما، بِسَبَب دلَالَة تظهر لغير المجمعين فِي الْعَصْر الأول. وَلَو سَاغَ ذَلِك لساغ فِي كل إِجْمَاع. وَفِيه سُقُوط الثِّقَة بِإِجْمَاع المجمعين.
وعَلى الدّلَالَة الَّتِي طردناها، أسئلة تلِيق بتصويب الْمُجْتَهدين، فَرَأَيْنَا تَأْخِيرهَا إِلَى الْكَلَام فِي مَسْأَلَة التصويب.
وَقد اسْتدلَّ المخالفون فِي الْمَسْأَلَة، بالأدلة الدَّالَّة على أصل الْإِجْمَاع، وَزَعَمُوا أَن كل مَا دلّ على أصل الْإِجْمَاع، دَال على هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَلَكِن فِي ذَلِك طَرِيقَانِ: الأول: أَن يمْنَع تصور إِجْمَاع أهل الْعَصْر الثَّانِي على رفض أحد الْقَوْلَيْنِ، وَيُطَالب الْخصم بتصويره أَولا، وَلَا يقدر على تَصْوِيره فِي عصر من الْأَعْصَار على وَجه لَا يُنَازع فِيهِ.
وَالْوَجْه الآخر فِي الْجَواب، أَن نقُول: كل مَا اعْتصمَ بِهِ من أَدِلَّة الْإِجْمَاع، ينعكس عَلَيْكُم فِي حكم الْعَصْر الأول، إِنَّا صورنا عَلَيْكُم إِجْمَاعهم فِي حَال اخْتلَافهمْ، فلئن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بأدلة الْإِجْمَاع فِي الْعَصْر الثَّانِي، لساغ لنا التَّمَسُّك بالعصر الأول.
وَالْأَخْذ بِالْأولِ أولى من الْأَخْذ بِالثَّانِي.
وَالْوَجْه الثَّالِث من الْجَواب، أَن نقُول: أهل الْعَصْر الثَّانِي بعض الْأمة فِي مَسْأَلَة الِاخْتِلَاف، لما قدمْنَاهُ من أَن الْمذَاهب لَا تسْقط بِمَوْت أصحابهَا. فَنَجْعَل الْمُخَالفين فِي الْمَسْأَلَة بِمَنْزِلَة البَاقِينَ. فليسوا إِذا كل الْأمة من هَذَا الْوَجْه.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ وعدوه من عمدهم: أَن قَالُوا: إِذا اخْتلف أهل عصر فِي أول الزَّمَان، ثمَّ اتَّفقُوا على أحد الْمذَاهب، فاتفاقهم يرفع حكم اخْتلَافهمْ. فَلَو كَانَ فِي الِاخْتِلَاف تضمن إِجْمَاع - كَمَا ادعيتموه - لَكَانَ ذَلِك إجماعين متناقضين، فَلَمَّا لم يكن ذَلِك كَذَلِك - وَالْعصر وَاحِد - فَكَذَلِك إِذا اخْتلف العصران.
وَقد تخبط فِي ذَلِك بعض النَّاس، وسلموه، وَلَا يَتَأَتَّى تَسْلِيمه إِلَّا إِذا اشترطنا فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع انْقِرَاض المجمعين، فَنَقُول: لَا يسْتَقرّ إِجْمَاعهم الأول إِلَّا بِأَن ينقرضوا عَلَيْهِ، وَهَذَا بَاطِل، لَا سَبِيل إِلَى الْمصير إِلَيْهِ.
فَإنَّا قد أوضحنا - بِمَا قدمْنَاهُ - أَن اشْتِرَاط انْقِرَاض المجمعين، لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا اخْتلفُوا أَولا، وَاسْتقر اخْتلَافهمْ، واستبد كل حزب بِمذهب، وَلم يكن ذَلِك ترددا مِنْهُم فِي مهلة الناظرين، فَلَا يجوز أَن يتفقوا على أحد الْمذَاهب، وَإِبْطَال سائرها.
وَمن سلك غير هَذِه الطَّرِيقَة، شوش على بَقِيَّة أصُول الْأَبْوَاب.
فَإِن قيل: فقد وجد فِي الصَّحَابَة إِجْمَاع بعد الِاخْتِلَاف، وَهُوَ نَحْو اخْتلَافهمْ فِي قتال مانعي الزَّكَاة أَولا، ثمَّ أَجمعُوا على رَأْي أبي بكر رَضِي الله عَنْهُم، فِي قِتَالهمْ آخرا.
قُلْنَا: هَذَا لَا يتَّجه، من أوجه:
أَحدهَا: إِن دَعْوَى الْإِجْمَاع فِي ذَلِك لَا تَنْعَقِد مَعَ أَن من الْعلمَاء فِي عصرنا، من منع قتال مانعي الزَّكَاة. فَلَا وَجه لادعاء الْإِجْمَاع، وَالْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا.
وَالْوَجْه الآخر، أَن نقُول: لَعَلَّهُم تشاوروا فِي تردد الناظرين، ثمَّ اسْتَقَرَّتْ آراؤهم. أَو نقُول: لَعَلَّهُم بقوا على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن لم يَجدوا بدا من اتِّبَاع إِمَام الزَّمَان وَخَلِيفَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَهَكَذَا القَوْل فِي كل مَسْأَلَة مُجْتَهد فِيهَا، رأى الإِمَام فِيهَا رَأيا، يتَعَلَّق بمصالح الْعَامَّة، فَيجب على الكافة اتِّبَاعه.
على أَنه لَو قوبل هَؤُلَاءِ، وَقيل لَهُم: لَو اخْتلف عُلَمَاء عصر من الْأَعْصَار على قَوْلَيْنِ، ثمَّ انقرض أحد الفئتين، وَبَقِي الثَّانِي: فَهَل تَقولُونَ: إِن ذَلِك صَار إِجْمَاعًا؟
فَإِن لم يَقُولُوا بذلك - وَلَا مُخَالف فِي الْمَسْأَلَة - فقد نقضوا أصلهم.
وَإِن قَالُوا بِهِ، فقد زادوا فِي الإغراب والإبداع علينا، حَيْثُ قَالُوا: بِمَوْت قوم تصير الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة إِجْمَاع، من غير تجدّد معنى، سوى الْمَوْت فِي فِئَة!

.باب يجمع أصولا مُتَفَرِّقَة فِي أَحْكَام الْإِجْمَاع هَل يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث بعد الْإِجْمَاع على قَوْلَيْنِ:

إِذا أجمع أهل الْعَصْر على قَوْلَيْنِ: فالمصير إِلَى قَول ثَالِث، خرق الْإِجْمَاع، هَذَا مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْعلمَاء.
وَذهب بعض أهل الظَّاهِر إِلَى أَن ذَلِك لَا يكون خرقا للْإِجْمَاع، وَقد يسند ذَلِك إِلَى طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين.
وَالدَّلِيل على بُطْلَانه: أَن عُلَمَاء الْعَصْر إِذا اتَّفقُوا على قَول، فَلَا يسوغ اختراع قَول ثَان فَكَذَلِك إِذا أَجمعُوا على قَوْلَيْنِ. وَالْجَامِع بَينهمَا أَن نفس الْمصير إِلَى القَوْل الْوَاحِد، إِجْمَاع على نفي مَا عداهُ. وَكَذَلِكَ إِذا حصروا الْمذَاهب فِي قَوْلَيْنِ: فقد نفوا مَا عداهما.
وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ، أَن نقُول: لَو اتَّفقُوا على قَوْلَيْنِ، وصرحوا بِنَفْي مَا عداهما: فَلَا يَخْلُو الْخصم فِي هَذِه الْحَالة، من أَن يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث أَو لَا يجوز. فَإِن لم يجوز إِحْدَاث قَول ثَالِث، فَلْيقل بذلك، وَإِن لم يصرحوا بنفيه.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَنهم لَو أَجمعُوا على قَول وَاحِد، فَلَا يجوز اختراع قَول ثَان سَوَاء نقل عَنْهُم نفي مَا عداهُ، أَو لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم.
فَإِن قَالَ الْخصم: يجوز اختراع قَول ثَالِث، مَعَ تصريحهم بنفيه، فَهَذَا تَصْرِيح بخرق الْإِجْمَاع، لَا خَفَاء بِهِ.
وَإِن قَالُوا: يجوز لأهل الْعَصْر الثَّانِي، أَن يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيل لم يتَمَسَّك بِهِ الْأَولونَ وفَاقا - وَلَا يعد ذَلِك خرقا لإجماعهم - فَكَذَلِك وَجب تَجْوِيز قَول ثَالِث، وَإِن لم يقل بِهِ الْأَولونَ.
قُلْنَا: فَقولُوا على طرد ذَلِك، إِنَّه يجوز إِحْدَاث قَول ثَان عِنْد إِجْمَاع الْأَوَّلين على قَول وَاحِد، كَمَا يجوز التَّمَسُّك بِدَلِيل ثَان.
ثمَّ نقُول: طرق الاستنباطات لَا تَنْحَصِر، وَأما الْمذَاهب فَإِنَّهَا منحصرة، وَأَهْلهَا يَنْفِي مَا سواهَا، وَمَا نفى أهل عصر من الْأَعْصَار ضربا من الاستنباط لنصرة مَا صَارُوا إِلَيْهِ، سوى مَا ذَكرُوهُ، حَتَّى لَو قَالُوا: لَا دَلِيل فِي الْمَسْأَلَة سوى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ، وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ، لم يجز التَّمَسُّك بِغَيْرِهِ.
فَإِن قَالُوا: لما اخْتلف أهل الْعَصْر الأول، فقد جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً، فَجَاز لذَلِك اخْتِيَار قَول ثَالِث.
قُلْنَا: إِنَّمَا جعلُوا للِاجْتِهَاد مساغاً فِي الْقَوْلَيْنِ اللَّذين ذكروهما .
فَأَما أَن يجوزوا تعديهما؛ فَلَا . فكأنهم لم يجْعَلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، وَفِي منع الزِّيَادَة على الْقَوْلَيْنِ . وَإِنَّمَا جعلُوا الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا فِي تَرْجِيح أحد الْقَوْلَيْنِ على الثَّانِي.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَن الْأمة إِذا اجتهدت، ثمَّ أطبقت على حكم وَاحِد بعد الِاجْتِهَاد، فَلَا يسوغ إِظْهَار قَول ثَان، وَإِن تبين عندنَا أَنهم قَالُوا مَا قَالُوهُ اجْتِهَادًا، وَلَا نجْعَل خوضهم فِي الِاجْتِهَاد تسويفاً وتجويزاً للأخذ بطرقها المؤدية الى قَول ثَان، سوى مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ. فَبَطل مَا قَالُوهُ.