فصل: القَوْل فِي يخصص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي تَخْصِيص الْعَام بِالشُّرُوطِ:

اعْلَم ان الشُّرُوط تَنْقَسِم إِلَى عَقْلِي وَغَيره، فَأَما الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة فَكل مَا لَا يَصح ثَبت مشروطه دوه، وَلَا يجب بحصوله، فَهُوَ شَرط فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْو الْحَيَاة لما كَانَت شرطا فِي الْعُلُوم والإرادات وَنَحْوهَا لم يَصح ثُبُوتهَا دون الْحَيَاة وَإِذا حصلت الْحَيَاة لم يُوجب حُصُولهَا وجود الْعلم والإرادات، وَبِذَلِك تتَمَيَّز الْعِلَل عَن الشُّرُوط فَإِن الْعِلَل توجب معلولاتها حكما لَا يَتَقَرَّر دون الشُّرُوط وَالشّرط يَصح ثُبُوته دون الْمَشْرُوط.
ثمَّ اعْلَم أَن كل مَا كَانَ شرطا بِحكم عَقْلِي فَإِنَّهُ يكون شرطا لنَفسِهِ، وَلَا يجوز تَقْدِير نَفسه إِلَّا كَذَلِك، كَمَا إِن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة تدل لأنفسها لَا عَن تواضع وَوضع وَاضع فَلم يَتَقَرَّر أَنْفسهَا إِلَّا دَالَّة، وَالْكَلَام فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة يستقصى فِي الديانَات.
فَأَما الشَّرَائِط الَّتِي لَيست بعقلية فتنقسم إِلَى شَرط شَرْعِي غير مُسْتَند إِلَى نطق وَإِلَى شَرط مُصَرح بِهِ نطقي، فَأَما الشَّرْعِيّ فَكل مَا اقْتضى الشَّرْع توقف حكم شَرْعِي عَلَيْهِ كَمَا توقفت صِحَة الصَّلَاة على الطَّهَارَة وَالْإِيمَان، وَالْقَوْل فِي هَذَا الْقَبِيل من الشَّرَائِط يداني القَوْل فِي الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة، فَإِن الشَّرْع يَقْتَضِي أَن لَا يَصح الْمَشْرُوط دون الشَّرْط، وَثُبُوت الشَّرْط بِمُجَرَّدِهِ لَا يتَضَمَّن تثبيت الْمَشْرُوط إِذْ لَا يتَحَقَّق مصل على الصِّحَّة فِي الرَّفَاهِيَة إِلَّا وَهُوَ متطهر، ويتقرر متطهر غير مصل.
وتتباين الشَّرَائِط الشَّرْعِيَّة والشرائط الْعَقْلِيَّة فِي أَنَّهَا لَا تنتصب شَرَائِط لأنفسها وذواتها، وَلم هِيَ عَلَيْهَا من صِفَات أجناسها.
وَإِنَّمَا تصير شَرَائِط بِنصب صَاحب الشَّرِيعَة، وَيجوز فِي الْعقل تَقْدِير انْتِفَاء الشَّرَائِط وقلب الْمَشْرُوط شرطا، وَالشّرط مَشْرُوطًا، وَأما الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة فَلَا يجوز تَقْدِير انقلابها عَمَّا هِيَ عَلَيْهَا من كَونهَا مَشْرُوطًا فَهَذِهِ هِيَ الشَّرَائِط الشَّرْعِيَّة.
وَأما الشَّرَائِط النطقية فَهُوَ كل لفظ ينبىء عَن تعلق شَيْء بِشَيْء على معنى، وَلَا يَصح الْمَشْرُوط دون الْوَصْف الْمَنْصُوب شرطا، ثمَّ هُوَ بعد ذَلِك صِيغ مُخْتَلفَة فِي مجاري الْعَادَات.
وَهِي تَنْقَسِم إِلَى نُصُوص غير مُحْتَملَة، وَإِلَى ظواهر قد تحْتَمل على الْمجَاز والشرائط النطقية مثل قَول الْقَائِل: لَا أقوم اليك حَتَّى تقوم، وَإِن قُمْت قُمْت، وَإِن جئتي جئْتُك، وَلنْ أجيئك حَتَّى تَجِيء.
ثمَّ قد تثبت نطقا للشَّيْء الْوَاحِد شُرُوط فَيُقَال: إِذا مطرَت السَّمَاء وَقَامَ زيد جئْتُك، وَهَذِه الشُّرُوط تنزل منزلَة الِاسْتِثْنَاء فِي تَخْصِيص اللَّفْظ الَّذِي كَانَ يعم لَو قدر مُجَردا عَنهُ، إِذْ لَا فرق بَين ان يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِن لم يَكُونُوا معاهدين، وَبَين أَن يَقُول: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا المعاهدين.
ثمَّ اعْلَم أَن مَا نصب شرطا إِمَّا شرعا وَإِمَّا نطقا وَلم يثبت فِيهِ إِلَّا كَونه شرطا فَذَلِك ينبىء عَن توقف الْمَشْرُوط عَلَيْهِ، وَلَا يَقْتَضِي ذَلِك وجود الْمَشْرُوط لَا محَالة إِذا وجد الشَّرْط إِلَيْهِم وَأَن يُصَرح فِي اللَّفْظ بذلك، وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا جعل انْقِطَاع الْحيض شرطا فِي استحلال الوطىء دلّ ذَلِك على أَن حل الوطىء لَا يثبت من غير انْقِطَاع، وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْحل يثبت لَا محَالة عِنْد الِانْقِطَاع، وَقد ذهب من لَا تَحْقِيق لَهُ إِلَى انه إِذا ثَبت كَون الشَّيْء شرطا شرعا فَنَفْس كَونه شرطا يَقْتَضِي أَن يثبت الحكم بِثُبُوتِهِ وينتفي بانتفائه، وَهَذَا سَاقِط من القَوْل، وَشبه الْمَشْرُوط بالعلل الْعَقْلِيَّة، وَالشّرط الشَّرْعِيّ لَا يزِيد على الْعقلِيّ، ثمَّ لَا يَقْتَضِي الشَّرْط الْعقلِيّ ثُبُوت مَشْرُوطَة لَا محَالة .
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الحكم قد ثَبت بجملة من الشَّرَائِط، وَذَلِكَ نَحْو الصَّلَاة يشْتَرط فِي صِحَّتهَا طَهَارَة الْحَدث والخبث وَستر الْعَوْرَة وَالْإِيمَان وَيُسمى كل وَاحِد من ذَلِك شرطا، وَإِن كَانَ لَو وجد وَحده مَا اقْتضى صِحَة الصَّلَاة فَدلَّ ذَلِك على أَن كَون الشَّيْء مَشْرُوطًا لَا يَقْتَضِي حُصُول مشروطه عِنْد حُصُوله، غير أَنا إِذا قُلْنَا فِي تضاعيف الْكَلَام: إِن اللَّفْظ إِذا دلّ على وجود الْمَشْرُوط عِنْد وجود مَا علق بِهِ فَيتبع ظَاهر اللَّفْظ، وَهُوَ نَحْو أَن يَقُول إِن جئتني جئْتُك فَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوت مَجِيء الْمَشْرُوط عِنْد ثُبُوت شَرطه، فَافْهَم ذَلِك، وتتبع بصيغ الْأَلْفَاظ، وَلَو ورد اللَّفْظ بِأَن وطىء الْحَائِض لَا يحل مَا دَامَت حَائِضًا، فَلَا يفهم من ذَلِك حلّه إِذا انْقَطَعت حَيْضَتهَا، فَإِنَّهُ لم يُصَرح بذلك، وَلَا يتضمنه أَيْضا كَونه شرطا.

.فصل:

اعْلَم أَن مَا جعل مَشْرُوطًا وَقَضِيَّة الْكَلَام، فَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِيهِ إِذا كَانَ متوقع الْكَوْن من قرب الْوُجُود فِي الِاسْتِقْبَال، وَلَا يتَحَقَّق ثُبُوته إِثْبَات شَرط متوقع فِي الِاسْتِقْبَال فَلَا يحسن مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا بالْأَمْس حَتَّى يقوم عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا يسْتَند إِلَى مَاض، وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي قِيَامه الْكَائِن فِي الْحَال، وإيضاح ذَلِك بالمثال، أَن تَقول لَا أضْرب زيدا حَتَّى يقوم عَمْرو، إِنَّمَا أردْت نفي الضَّرْب فِي الِاسْتِقْبَال، وَلَا يحسن مِنْك أَن تَقول: لَا أضْرب زيدا بالْأَمْس حَتَّى يقوم عَمْرو، فَإِن الشَّرْط المتوقع لَا يسْتَند إِلَى مَاض وَكَذَلِكَ لَا يحسن من الْقَائِم فِي قِيَامه أَن يَقُول: لَا أقوم حَتَّى يقوم زيد، وَهُوَ قَائِم فِي حَال صُدُور القَوْل مِنْهُ، وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن مَا جعل مَشْرُوطًا لَا يتَحَقَّق ثُبُوته إِلَّا مَعَ شَرطه، فَإِذا علق على مَا انْقَضى مَشْرُوط سَيكون فقد أحَال، فَإِن مَا مضى كَانَ عَارِيا عَن الشَّرْط فَكيف يحسن الْجمع بَين ذَلِك وَبَين نِسْبَة الشَّرْط إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنى الْكَائِن فِي الْحَال كَيفَ يجوز أَن يشْتَرط فِيهِ مَا سَيكون، وَلَو كَانَ شرطا فِيهِ لقارنه. فَهَذَا فِي الْمَشْرُوط.
فَأَما الشَّرْط فقد زعم قوم أَنه لَا يجوز أَن يكون شرطا إِلَّا بعد أَن يكون متوقعا فِي الِاسْتِقْبَال كَمَا لَا يكون الْمَشْرُوط إِلَّا مُسْتَقْبلا.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَهَذَا فِيهِ نظر، فقد يَقع الشَّرْط كَائِنا فِي الْحَال وَذَلِكَ أَنه يحسن مِنْك أَن تَقول: إِن كَانَ زيد الْيَوْم رَاكِبًا قُمْت غَدا فيوافق وجود الشَّرْط لفظك ويتقدم على الْمَشْرُوط.
وأغلب الشُّرُوط تقع مُسْتَقْبلَة كالمشروط وَقد تقع مُقَارنَة اللَّفْظ مُتَقَدّمَة على الْمَشْرُوط كَمَا صورنا فِي قَوْله: إِن كَانَ زيد السَّاعَة قَائِما قُمْت غَدا وَلَكِن فِي هَذَا الْقسم شَرط وَهُوَ أَن يكون فِي الْكَلَام إنباء عَن إِضَافَة إِلَى انطواء عَاقِبَة أَو عدم علم إِمَّا فِي الْمُخَاطب وَإِمَّا فِي الْمُخَاطب وَإِن لم يكن كَذَلِك كَانَ تَحْقِيقا، وَلم يكن شرطا. وَبَيَان ذَلِك أَن زيدا لَو كَانَ قَائِما بِمحضر من خَالِد، وَبكر، فَقَالَ خَالِد لبكر: إِن كَانَ زيد قَائِما فسأقوم غَدا فَهَذَا لَا يُسمى شرطا بل هُوَ تَحْقِيق، فَكَأَنَّهُ يَقُول: فَكَمَا تحقق لَك قِيَامه فسيتحقق لَك قيامي.
وَأما إِذا كَانَ قيام زيد مغيبا عَن الْمُخَاطب مجوزا فِي حَقه أَو فِي حق الْمُخَاطب فَيجوز أَن يكون ذَلِك شرطا.

.فصل:

الشَّرَائِط الْعَقْلِيَّة والشرعية والنطقية لَا تخْتَص بِوُجُود، فقد يكون الْعَدَم شرطا لحكم لحكم عقلا وَشرعا ونطقا، ويتبين ذَلِك فِي الْعقل أَنا كَمَا نشترط فِي وجود السوَاد وجود مَحَله فَكَذَلِك نشترط عدم ضِدّه لتصور قِيَامه بِالْمحل، وتصوير ذَلِك فِي الشرعيات والنطقيات مِمَّا لَا ينْحَصر لكثرته وَهُوَ كَمَا أَنا نشترط عدم الْقُدْرَة فِي اسْتِعْمَال المَاء فِي جَوَاز التَّيَمُّم، وَعدم الْقُدْرَة على الرَّقَبَة فِي الْمصير إِلَى الصَّوْم، إِلَى غير ذَلِك.

.فصل:

اعْلَم أَن الشَّرْط قد يكون زمانيا، رب وَقد يكون مكانيا، وَقد يكون فعلا، وَقد يكون وَصفا ونعتا، وَقد يكون دَاخِلا تَحت مَقْدُور الْمُخَاطب، وَقد يكون خَارِجا عَن مقدوره.
وَبَيَان ذَلِك بالأمثلة:
فَأَما الشَّرْط بِالزَّمَانِ فنحو قَوْله تَعَالَى: {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس}، فقد جعل دلوك الشَّمْس شرطا فِي إِقَامَة الصَّلَاة.
وَأما الشَّرْط الْمُتَعَلّق بِالْمَكَانِ فنحو قَول الْقَائِل: إِذا رَأَيْت فلَانا بالعراق فَأكْرمه، وَنَحْو شَرط الْمَسْجِد فِي صِحَة الِاعْتِكَاف.
وَأما كَون الصُّوف شرطا فنحو قَوْله تَعَالَى: {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر}.
وَقد يكون الْوَصْف فِي الْمُخَاطب، وَقد يكون فِي غَيره، نَحْو قَوْلك: اشرب المَاء إِن كَانَ عذبا، وتجنبه إِن كَانَ أجاجا.
وَقد يكون الشَّرْط مُتَعَلقا بِغَيْر الْمُكَلف خَارِجا عَن مقدوره وَهُوَ نَحْو شرطنا فِي وجوب الْجُمُعَة حُضُور أَرْبَعِينَ فِي أَوْصَاف مضبوطة وحضورهم لَا يتَعَلَّق باقتدار كل مُكَلّف.

.فصل:

اعْلَم أَن كل مَا ثَبت شرطا فِي كَون الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ لَا يدل بِنَفسِهِ على إجزائه، وَكَذَلِكَ الشَّرْط فِيهِ لَا ينبىء عَن الْإِجْزَاء فِيهِ أَيْضا، وَهَذَا مِمَّا قدمْنَاهُ.

.فصل:

اعْلَم أَن الْخطاب إِذا اشْتَمَل على جمل تستقل كل وَاحِدَة مِنْهَا لَو قدرت مُفْردَة وَقد نيطت وَاحِدَة مِنْهَا بِشَرْط فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك تعلق الشَّرْط بِالْكُلِّ وَكَذَلِكَ إِذا تَتَابَعَت أَلْفَاظ عَامَّة ثمَّ ثَبت التَّخْصِيص فِي بَعْضهَا فَلَا يُوجب تَخْصِيصه تَخْصِيص مَا عداهُ إِذا اسْتَقَلت كل جملَة بِنَفسِهَا، وَكَذَلِكَ قد يتوالى أَمْرَانِ، وَأَحَدهمَا عِنْد الْقَائِلين بِالْوُجُوب مَحْمُول على حَقِيقَته فِي اقْتِضَاء الْإِيجَاب، وَالثَّانِي مَصْرُوف عَن حَقِيقَته، وأمثلة ذَلِك.
فَأَما إِذا قُلْنَا أَن بعض الْخطاب قد يخْتَص مَعَ تَعْمِيم بعضه فَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلثة قُرُوء} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وبعولتهن أَحَق بردهن فِي ذَلِك}.
فالمطلقات فِي صدر الْآيَة تعم الباينات والرجعيات. وَقَوله: {وبعولتهن أَحَق بردهن} مُخْتَصّ بالرجعيات وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ وَقد فرضتم لَهُنَّ فَرِيضَة فَنصف مَا فرشتم} فَهَذَا يعم الصَّغَائِر والكبائر والمحجورات والمطلقات، ثمَّ قَالَ فِي آخر الْآيَة: {إِلَّا أَن يعفون}، فاختص ذَلِك بالمطلقات العاقلات.
وَأما تتَابع الْأَوَامِر فِي سِيَاق من الْكَلَام مَعَ اخْتِلَاف الْمَقَاصِد فنحو قَوْله تَعَالَى: {كلوا منثمره إِذا أثمر وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده}
فَقَوله تَعَالَى:: {كلوا من ثمره} على الْإِبَاحَة أَو النّدب دون الْإِيجَاب، وَقَوله تَعَالَى: {وءاتوا حَقه يَوْم حَصَاده} مَحْمُول على الْوُجُوب، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم فيهم خيرا واءتوهم}.
فَمن زعم من الْفُقَهَاء أَن الإيتاء وَاجِب حمل قَوْله: {فكاتبوهم}. على النّدب وَقَوله: {وءاتوهم} على الْإِيجَاب، وَكَذَلِكَ قَوْله: {فطلقوهن لعدتهن وأحصوا وَالْعدة} وتكثر نَظَائِر ذَلِك فِي السّنة، مِنْهَا: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَلا فزوروها وَلَا تَقولُوا هجرا» وَمِنْهَا: قَوْله: «انتبذوا فِي الظروف وَاجْتَنبُوا كل مُسكر» وتكثر نَظَائِر ذَلِك.

.باب ذكر جمل مَا يخصص بِهِ مَعَ تَبْيِين أقسامها:

اعْلَم أَن مَا يَقع بِهِ تَخْصِيص الْأَلْفَاظ الْعَامَّة على مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ يَنْقَسِم إِلَى أَدِلَّة يقطع بهَا، وتفضي إِلَى الْعلم، وَإِلَى مَالا تُفْضِي إِلَى الْقطع، وَلَا يُفْضِي إِلَى الْعلم.
فَأَما الَّذِي يُفْضِي إِلَى الْقطع فَمِنْهُ أَدِلَّة الْعقل، وَمِنْه النُّصُوص الْمَقْطُوع بهَا الَّتِي لَا تقبل التَّأْوِيل وَالصرْف عَن مقتضاها وفحواها، لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا، وَمِنْهَا الْإِجْمَاع.
وَأما الإمارات المنصوبة على اقْتِضَاء الْأفعال دون الْعُلُوم فَهِيَ كأخبار الْآحَاد الَّتِي مِنْهَا الْأَقْوَال.
وَمِنْهَا أفعال الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقَائِمَة مقَام الْأَقْوَال، على مَا سنفصل القَوْل فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا: المقاييس مَعَ اخْتِلَاف رتبها.
وَمِنْهَا: آثَار الصَّحَابَة على مَذْهَب من يَرَاهَا حجَّة.
وَنحن نتكلم أَولا فِي الْأَدِلَّة القاطعة، ثمَّ ننعطف على الإمارات الدَّالَّة على الْأفعال دون الْعُلُوم ونبدأ بِدلَالَة الْعقل.
فَاعْلَم أَن الْعقل مِمَّا يخصص بِهِ الْعُمُوم وَالْمعْنَى بقولنَا أَنه يخصص بِهِ الْعُمُوم، أَن الصِّيغَة الْعَامَّة فِي مَذَاهِب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِذا وَردت وَاقْتضى الْعُقَلَاء امْتنَاع تعميمها فنعلم من جِهَة الْعقل أَن المُرَاد خُصُوص فِيمَا لَا يحيله الْعقل، فَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بالتخصيص، وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن الْعقل صلَة للصيغة نازلة منزلَة الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بالْكلَام، وَلَكِن المُرَاد بِهِ مَا قدمْنَاهُ من أَنا نعلم بِالْعقلِ أَن مُطلق الصِّيغَة لم يرد تعميمها.
وَقد أنكر بعض النَّاس تَخْصِيص الْعُمُوم بِدلَالَة الْعقل وَلَو ورد ذَلِك الِاخْتِلَاف إِلَى التَّحْصِيل آل الِاخْتِلَاف إِلَى التناقش فِي عبارَة لَا طائل تحتهَا.
وَالْأولَى فِي مفاتحة من يخالفك أَن تستدل بأتي من الْكتاب منطوية على صِيغ الْعُمُوم، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الله خلق كل شَيْء}، وَقَوله: {أَن الله على كل شَيْء قدير}. فَظَاهر الشَّيْء ينْطَلق على الْقَدِيم والحادث، ثمَّ عرفنَا بِدلَالَة الْعقل أَن الْقُدْرَة لَا تتَعَلَّق بِذَاتِهِ وَإِن كَانَ شَيْئا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَات كل شَيْء رزقا}. عرفنَا بقضية الْعُقُول فِي مجاري الْعَادَات أَن ثَمَرَات جملَة الاشياء لَا تجبى إِلَيْهَا. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} فَظَاهر اسْم النَّاس مَحْمُول على الْعُقَلَاء والمجانين، وَعلمنَا بِالْعقلِ حمله على الْعُقَلَاء دون المجانين إِلَى غير ذَلِك من ظواهر الْكتاب وَالسّنة فَلَيْسَ فِيهَا صلات من حَيْثُ اللَّفْظ تحملهَا على بعض مسمياتها، وَلَكنَّا عرفنَا بقضية الْعقل فِي معتصمنا هَذَا أَن المُرَاد بهَا خُصُوص، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده.
وأمثال ذَلِك متقرر فِيمَا يتفاوض بِهِ أهل اللُّغَات فَإِن من قَالَ: رَأَيْت النَّاس عرفنَا بقضية الْعُقُول أَنه يَسْتَحِيل أَن يرى هُوَ جملَة النَّاس فِي مجاري الْعَادَات، فنعلم أَنه مَا أَرَادَ كلهم.
َإِن قيل: فَكيف تكون دلَالَة الْعقل مخصصة وَهِي قد تسبق على الْعُمُوم الْوَارِد، وَمن شَرط الْمُخَصّص أَن يكون مُتَّصِلا بالْكلَام الْمُخَصّص إِمَّا مُتَأَخِّرًا عَنهُ، وَإِمَّا مُتَقَدما عَلَيْهِ على الِاتِّصَال كالاستثناء.
فَيُقَال لَهُم: تصور الْمَسْأَلَة يغنيكم عَن هَذَا التَّأْوِيل، فَإنَّا قدمنَا أَنا لَا نعني بالتخصيص بِدلَالَة الْعقل كَون الْعقل صلَة للْكَلَام فَيلْزم ذَلِك مَا ألزمتموه، وَإِنَّمَا نعني بذلك أَنا نعلم بقضية الْعقل أَن المُرَاد بالصيغة خُصُوص.
فَإِن قيل: فَنحْن نقُول بذلك، وَلَا نسمي ذَلِك تَخْصِيصًا.
قُلْنَا: فالمقصد الِاتِّفَاق فِي الْمعَانِي وَلَا معنى للمناقشة فِي الْعبارَة فَإِن قيل: إِنَّمَا يخصص من اللَّفْظ مَا يُمكن دُخُوله تَحْتَهُ وَالَّذِي يحيله الْعقل يَسْتَحِيل دُخُوله تَحت اللَّفْظ ليقدر تخصصه فِيهِ.
قيل لَهُم: هَذَا من النمط الَّذِي قدرتموه، وَهَذَا اعْتِرَاف مِنْكُم بِالْمَقْصُودِ فَإِن محصول كلامنا يؤول إِلَى أَنا نعلم عقلا أَن الصِّيغَة غير عَامَّة، فقولكم مَا يحيله الْعقل لَا يدْخل تحتاللفظ تَأْكِيد مِنْكُم لمرامنا، فَإِن مقصدنا أَن نبين أَنه تبين فِي الْعقل أَن الصِّيغَة غير عَامَّة، وَلَيْسَ يقْصد أَن يثبت عُمُوما أَولا ثمَّ يعقبه باستخراج بعض المسميات من قَضِيَّة اللَّفْظ، لَا فَإِنَّهُ لَو ثَبت ذَلِك كَانَ ذَلِك نسخا وَلم يكن تَخْصِيصًا فَإِن التَّخْصِيص تَبْيِين المُرَاد بِاللَّفْظِ، لَا رَفعه بعد ثُبُوته، فَتبين الْمَقْصُود، ووضح أَن قصارى الْكَلَام يعود إِلَى عبارَة تنَازع فِيهَا.

.فصل:

إِذا وَردت صِيغَة يعم مثلهَا عِنْد أَهلهَا وَلَكِن أَجمعت الْأمة على أَنَّهَا لاتجري على شمولها فالإجماع مُخَصص لَهَا وَالْمعْنَى بِكَوْنِهِ مُخَصّصا أَنا نتبين بِهِ المُرَاد، من الصِّيغَة كَمَا قَررنَا فِي دلَالَة الْعقل، ولسنا نعني بذلك نصف الْإِجْمَاع صلَة فِي اللَّفْظ، وَقد خَالف فِي ذَلِك من خَالف فِي دلَالَة الْعقل.

.فصل:

اعْلَم، وفقك الله، أَن التَّخْصِيص إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الصِّيَغ الدَّالَّة على الْكَلَام الْقَائِم بِالنَّفسِ، فَأَما الْكَلَام الْحَقِيقِيّ الْقَائِم بِالنَّفسِ فَلَا يتَصَوَّر التَّخْصِيص فِيهِ فَإِنَّهُ وصف ثَبت لنَفسِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ من وَصفه وَلَا يسوغ تَقْدِير وَصفه وجنسه، فَإِذا قَامَ بِالنَّفسِ كَلَام مُتَعَلق بالمسميات عُمُوما فَلَا يتَصَوَّر تخصيصها فَإِن تخصيصها قلب جِنْسهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَام الْخَاص الْقَائِم بِالنَّفسِ لَا يتَصَوَّر تعميمه فَإِنَّهُ فِيهِ قلب جنسه، وَهَذَا كَمَا لَا يتَصَوَّر قلب الْإِرَادَة علما وَالْعلم حَرَكَة، إِلَى غير ذَلِك من الْأَجْنَاس.
فَيخرج لَك من هَذِه الْجُمْلَة أَن الْخُصُوص بعد تخيل الْعُمُوم وتوقعه إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الصِّيَغ وَهِي الْعبارَات دون حَقِيقَة الْكَلَام.
وَيَتَرَتَّب على هَذِه الْجُمْلَة أَن كَلَام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَسْتَحِيل تَخْصِيص عَامَّة وتعميم خَاصَّة، فَإِن كَلَامه معنى قائ بِنَفسِهِ متصفا بالاتحاد مُتَعَلق بمتعلقاته، يجل ويتقدس عَن التَّغْيِير والتبديل، وَهَذَا وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بالديانات فَلَا يَد أَن تحيط علما بِهِ.
فَهَذِهِ جملَة مقنعة فِي التَّخْصِيص بِدلَالَة الْعقل وَالْإِجْمَاع، وَأما النُّصُوص فَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهَا فِي أَبْوَاب الْبَيَان إِن شَاءَ الله.

.القَوْل فِي تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب وَالسّنة الْمَقْطُوع بهَا باخبار الْآحَاد:

اعْلَم وفقك الله أَن هَذَا بَاب عظم اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ فَذهب ذاهبون إِلَى نفي أَخْبَار الْآحَاد جملَة، فَلَا تفِيد مكالمتهم فِي الْبَاب قبل إِثْبَات أَخْبَار الآحادعليهم وَسَيَأْتِي فِي ذَلِك أَبْوَاب مقنعة إِن شَاءَ الله.
وَأما الْقَائِلُونَ بِقبُول أَخْبَار الْآحَاد الصائرون إِلَى أَنَّهَا توجب الْعَمَل افْتَرَقُوا فرقا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعُمُوم يخصص بأخبار الْآحَاد وَزعم هَؤُلَاءِ: أَن الْأَدِلَّة قد دلّت عَلَيْهِ.
وَقد ذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَا يجوز تَخْصِيص الْعُمُوم بأخبار الْآحَاد وَقَالَ هَؤُلَاءِ قد دلّت الدّلَالَة على منع التَّخْصِيص بأخبار الْآحَاد.
وَذَهَبت طَائِفَة مِنْهُم عِيسَى بن أبان إِلَى أَن الْعُمُوم إِن دخله التَّخْصِيص بطرِيق يقطع بِهِ جَازَ تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَإِن لم يدْخلهُ التَّخْصِيص أصلا فَلَا يجوز افْتِتَاح تَخْصِيصه بِخَبَر الْوَاحِد وَهَذَا مَبْنِيّ على أصل لَهُ قد قدمْنَاهُ، وَهُوَ أَن الْعُمُوم إِذا خص بعضه صَار مُجملا فِي بَقِيَّة المسميات، لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بِهِ فِيهَا، فَيجْعَل الْخَبَر على التَّحْقِيق مثبتا حكما ابْتِدَاء، وَلَيْسَ سَبيله سَبِيل التَّخْصِيص إِذا حققته، فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاسْتِدْلَال بِاللَّفْظِ الْمُجْمل فِي عُمُوم وَلَا خُصُوص قبل وُرُود الْخَبَر وَبعده، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه يجوز أَن يتعبد بتخصيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد، وَيجوز أَن يتعبد بالتمسك بِالْعُمُومِ وَترك خبر الْوَاحِد، وَكِلَاهُمَا جَائِز عقلا، وَلم تدل دلَالَة على أحد الْقسمَيْنِ.
وَمَا اخْتَارَهُ القَاضِي - رَضِي الله عَنهُ - مَعَ تَقْرِير القَوْل بِالْعُمُومِ أَن الْخَبَر الْمَنْقُول بطرِيق لَا يُوجب الْقطع مَعَ الْعُمُوم الثَّابِت أَصله بطرِيق يُوجب الْقطع إِذا اجْتَمَعنَا ولوقدرنا التَّمَسُّك بالْخبر لزم تَخْصِيص صِيغَة الْعُمُوم، وَلَو قَدرنَا إِجْرَاء الصِّيغَة على ظَاهرهَا فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم لزم ترك الْخَبَر فَإِذا تقابلا فيتعارضان فِي الْقدر الَّذِي يَخْتَلِفَانِ فِيهِ وَلَا يتَمَسَّك بِوَاحِد مِنْهُمَا ويتمسك بالصيغة الْعَامَّة فِي بَقِيَّة المسميات الَّتِي لم يَتَنَاوَلهَا الْخَبَر الْخَاص فَينزل الْخَبَر مَعَ الْعُمُوم فِيمَا يخْتَلف فِيهِ ظاهرهما منزلَة خبرين مختلفي الظَّاهِر نقلا مطلقين.
وعول فِيمَا صَار إِلَيْهِ على أَن القَوْل: إِذا قَررنَا القَوْل بِالْعُمُومِ فَلَا يمكننا ادِّعَاء الْقطع فِيهَا، فَإِنَّهَا عرضة التَّأْوِيل وَجوز مَعَ القَوْل بالشمول أَن المُرَاد بِهِ الْخُصُوص وَقد اقترنت بِهِ قرينَة اقْتَضَت تَخْصِيصًا، بيد أَنا كلفنا أَن نعمل بقضية الشُّمُول.
وَكَذَلِكَ أصل نقل خبر الْوَاحِد مِمَّا لَا يثبت قطعا فَإِن نقلته غير معصومين عَن الزلل، وَلَكنَّا كلفنا الْعَمَل بِهِ على مَا نُقِيم الدّلَالَة عَلَيْهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فقد سَاوَى الْخَبَر ظَاهر الْعُمُوم فِي أَن وَاحِدًا مِنْهُمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْعلم الْمَقْطُوع بِهِ وَلَيْسَ أَحدهمَا بالتمسك بِهِ أولى بِهِ من الآخر فَلَزِمَ الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
وأوثق مَا اعْتصمَ بِهِ أَن قَالَ: إِذا أبطلنا شُبْهَة المتمسكين بظاهرالعموم التاركين للْخَبَر، وأبطلنا شُبْهَة المتمسكين بالْخبر الصائرين إِلَى ترك ظَاهر الْعُمُوم فَلَا يبْقى بعد بطلَان شُبْهَة الطَّائِفَتَيْنِ إِلَّا التَّعَارُض.
شُبْهَة الْقَائِلين بِأَن التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى إِذا ثَبت اصله مَقْطُوعًا بِهِ: فَإِن قَالُوا: أصل عُمُوم الْكتاب ثَبت قطعا، وَأما خبر الْوَاحِد فَلم يثبت قطعا والتمسك بِمَا ثَبت أَصله قطعا أولى.
فَالْجَوَاب على ذَلِك من أوجه: أَحدهَا: أَن نقُول: لَو كَانَ على مَا قلتموه لزمكم على منع التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد لَو قدر مُجَردا عَن مُعَارضَة عُمُوم.
ثمَّ نقُول: لَو كُنَّا نتشبث بالْخبر إِلَى رفع أصل الْعُمُوم لَكَانَ مَا ذكرتموه يتَحَقَّق، وَنحن لَا نصير إِلَى ذَلِك اصلا، فَإِن القَوْل بِهِ ذهَاب إِلَى النّسخ، وَقد ثَبت أَن مَا ثَبت قطعا لَا ينْسَخ بِمَا لم يثبت قطعا فَإِنَّمَا يؤول الْكَلَام إِلَى اقْتِضَاء الشُّمُول، وَكَون اللَّفْظ مقتضيا للشمول لَيْسَ بثبات قطعان وَمَا هُوَ ثَابت قطعا، لَا يرفض بِخَبَر الْوَاحِد فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَتبين أَن اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم مِمَّا لَا يقطع بِهِ وَلكنه يَقْتَضِي الْعَمَل، وَكَذَلِكَ خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم وَيُوجب لعمل.
فَإِن قيل: فَنحْن نعلم أَن اللَّفْظ الْعَام يَقْتَضِي الْعَمَل بِالْعُمُومِ؟
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ نعلم أَن خبر الْوَاحِد مَعَ كَونه مشكوكا فِي أَصله يَقْتَضِي الْعَمَل كَمَا تَقْتَضِي شَهَادَة الشُّهُود على القَاضِي إبرام الحكم مَعَ انه لَا يستيقن صدقهم.
فَإِن قيل: إِنَّمَا يجب الْعَمَل بالْخبر إِذا لم يُعَارض عُمُوما.
قُلْنَا: وَإِنَّمَا يجب الْعَمَل بِالْعُمُومِ إِذا لم يُعَارض خَبرا فتصادم الْقَوْلَانِ.
شُبْهَة أُخْرَى للمتمسكين بِالْعُمُومِ، فَإِن قَالُوا: لَو جَازَ تَخْصِيص الْعُمُوم بِخَبَر الْوَاحِد جَازَ نسخ النُّصُوص بأخبار الْآحَاد.
قُلْنَا: هَذِه دَعْوَى، فَلم زعمتم ذَلِك وَمَا الْجَامِع بَين الْأَصْلَيْنِ؟
ثمَّ نقُول: نسخ حكم النَّص بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا يستبعد عقلا، حَتَّى قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَو كلفنا صَاحب الشَّرِيعَة الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد قطعا وَلَكِن قَامَت الْإِجْمَاع على منع نسخ النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا بأخبارالآحاد وَمَا انْقَطع إِجْمَاع مثله فِي منع التَّخْصِيص.
ثمَّ يُقَال: النّسخ: رفع الحكم الثَّابِت قطعا، والتخصيص سَبيله سَبِيل الْبَيَان إِذا نقصد بالتخصيص تَبْيِين أَن المُرَاد بالصيغة الإختصاص بِبَعْض المسميات. فَلم يسغْ اعْتِبَار أَحدهمَا بِالثَّانِي. فَهَذَا مَا عولت إِلَيْهِ الفئة.
فَأَما من قطع القَوْل بتخصيص الْعُمُوم بالْخبر الْخَاص فقد اسْتدلَّ بَان الْعُمُوم عرضة للتأويل، واللفظة المنقولة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاصَّة لَا تقبل التَّأْوِيل فالتمسك بهَا وتنزيل الْمُحْتَمل عَن قضيتها تها أولى وَأَحْرَى.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: مَا قررتمونا من الِاحْتِمَال فِي اقْتِضَاء اللَّفْظ للْعُمُوم يَتَقَرَّر مثله فِي اصل نَقله الْآحَاد، فَإنَّا كَمَا لَا نقطع باقتضاء الْعُمُوم، فَكَذَلِك لَا نقطع بِثُبُوت أصل الْخَبَر، فالاحتمال فِي أحدهم كالاحتمال فِي الثَّانِي، وَلَو قدر كل وَاحِد مِنْهُمَا مُجَردا لزم التَّمَسُّك بِهِ، فَإِذا تقاومت الْبَيِّنَة لزم الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض الطوائف الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ بقصص فِي زمَان أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَضي عَنْهُم، وَلَا بُد من ذكرهَا ومعارضتها بأمثالها. حَتَّى تتقاوم طرق التَّمَسُّك بهَا.
فَإِن قَالَ المتمسكون بِالْعُمُومِ: قد رُوِيَ أَن فَاطِمَة - رَضِي الله عَنْهَا - بنت قيس رَوَت أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَجْعَل للمبتوتة نَفَقَة وَلَا سُكْنى، فَقَالَ عمر بن الْخطاب - رَضِي الله عَنهُ -: لَا نَدع كتاب رَبنَا بقول امْرَأَة لَعَلَّهَا وهمت، أونسيت وتلا قَوْله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} وَوجه التَّمَسُّك بِهَذِهِ الْقِصَّة أَن عمر رَضِي الله عَنهُ رأى التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ أولى من قبُول الْخَبَر الَّذِي روته فَاطِمَة.
قيل: قد قابلكم مخالفكم بقصص ترك أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعُمُوم فِيهَا بالأخبار.
مِنْهَا: أَنهم تركُوا ظَاهر قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحرمَات بِمَا روى أَبُو هُرَيْرَة فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وَأحل لكم مَا وَرَاء ذَلِك}، فَاقْتضى ذَلِك تَحْلِيل سوى الْمَذْكُورَات فِي آيَة الْمُحرمَات، وروى أَبُو هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا وَلَا على خَالَتهَا».
وخصوا عُمُوم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أولدكم} مَعَ أَوْلَادكُم مَعَ تنَاوله للْقَاتِل من الْأَوْلَاد، بِمَا رَوَاهُ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَيْسَ للْقَاتِل من الْمِيرَاث شَيْء».
وَكَذَلِكَ خصصوا ظَاهر تَوْرِيث الْأَوْلَاد فِي حق فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا بِمَا رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِنَّا معشر الْأَنْبِيَاء لَا نورث» إِلَى غير ذَلِك.
ثمَّ زعم هَؤُلَاءِ أَن حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس إِنَّمَا ترك لعِلَّة فِي نقلهَا فَلَمَّا استرابوا فِيهَا لم يقبلُوا حَدِيثهَا فتقابلت الدعاوي إِذا، وَتعين بعد ذَلِك الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
وَأما الرَّد على من قَالَ: إِن الْخَبَر يقبل فِي عُمُوم دخله التَّخْصِيص بِدَلِيل قَاطع.
فَيُقَال: هَل تجوزون اسْتِعْمَال الصِّيغَة المحتملة من غير وُرُود خبر فِي بَقِيَّة المسميات على التَّحْقِيق أم لَا تجوزون ذَلِك؟ فَإِن حكمتم بالصيغة بِأَن بالتخصيص تصير مجملة فقد سبق الْكَلَام عَلَيْكُم وَإِن زعمتم أَنَّهَا حَقِيقَة فِي بَقِيَّة المسميات فَوجه الْكَلَام فِي بَقِيَّة المسميات كوجه الْكَلَام فِي كلهَا.

.القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ:

اخْتلف فِي هَذَا الْبَاب، وتميز من هَذَا الْبَاب مَذْهَب نفاة الْعُمُوم، ونفاة الْقيَاس. فَإِن مَضْمُون الْبَاب مترتب على القَوْل بهما عِنْد الِانْفِرَاد، فَمن قَالَ بهما افْتَرَقُوا فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعُمُوم أولى من الْقيَاس وَإِلَيْهِ صَار طَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين وَإِلَيْهِ صَار ابْن مُجَاهِد من أصحابنا، والجبائي وَابْنه، من الْمُعْتَزلَة ثمَّ رَجَعَ ابْن الجبائي عَن هَذَا الْمَذْهَب، وَصَارَ الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء من أصحاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأبي حنيفَة إِلَى وجوب تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ جليا كَانَ أَو خفِيا، وَإِلَيْهِ صَار شَيخنَا أَبُو الْحسن رَضِي الله عَنهُ، وَذهب شرذمة من الْفُقَهَاء
إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بالجلي من الْقيَاس دون الْخَفي.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّفْصِيل الَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق فَقَالَ: إِن ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة فَلَا يسوغ تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ.
وكل مَا ذَكرْنَاهُ فِي الأقيسة الشَّرْعِيَّة، وَأما الْعَقْلِيَّة فَإِنَّهَا قواطع، وَقد سبق الْكَلَام فِي أَدِلَّة الْعقل.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالَّذِي نختاره أَن الْقيَاس إِذا عَارض الْعُمُوم لم يكن أَحدهمَا أولى من الآخر فيتعارضان، وَيجب الِاشْتِغَال بِغَيْرِهِمَا من الْأَدِلَّة، وَاسْتدلَّ على مَا صَار بِأَن قَالَ: قد ثَبت أَن اقْتِضَاء الشُّمُول غير مَقْطُوع بِهِ، وَثُبُوت الْقيَاس على التَّعْيِين فِي الصُّورَة الَّتِي يجْتَمع فِيهَا والعموم غيرمقطوع بِهِ، وَلم تثبت دلَالَة عقلية بتسليط أحدهم على الاخر، فَإِن الْعقل يجوز كل وَاحِد مِنْهُمَا وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يُوجب ذَلِك الْمَعْنى فَإِن الْأَدِلَّة القاطعة السمعية مضبوطة فَمِنْهَا النُّصُوص الثَّابِتَة قطعا، وَمِنْهَا الْإِجْمَاع، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة وَاحِد مِنْهُمَا.
ثمَّ أرْدف الدَّلِيل بِأَن قَالَ: أذكر شبه الْمُخْتَلِفين فِي الْبَاب وأتتبعها بِالنَّقْضِ حَتَّى إِذا انتقضت وتقابلت الْأَقْوَال فَلَا يبْقى إِلَّا مَا ارتضيت.
شبه السائرين إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ.
فَإِن استدلوا بِأَن قَالُوا: الْقيَاس إِذا ثَبت فَلَا يَصح نَقله وَلَا التَّجَوُّز بِهِ وَلَا تَخْصِيصه، وَلَيْسَ كالعموم فَإِنَّهُ يقبل التَّخْصِيص والتجوز، وللتوسع مجَال فِي الْأَلْفَاظ الْعَرَبيَّة، فَمَا لَا يقبل ذَلِك أولى بالثبوت.
فَيُقَال لهَؤُلَاء: كل مَا قررتموه من الِاحْتِمَال فِي الْعُمُوم يَتَقَرَّر اضعافه فِي الْقيَاس، فَإنَّا نجوز أَن يكون الْقيَاس الَّذِي تمسك بِهِ الْمُخَصّص غير صَحِيح على الشَّرَائِط، وَرُبمَا لم يستكمل الْمُجْتَهد أَوْصَاف الِاجْتِهَاد، وَرُبمَا قصر فِي الِاجْتِهَاد، عَامِدًا اَوْ مخطئا، وَرُبمَا قصر فِي استنباط وَجه الشّبَه فَلم يلْحق الشَّيْء بمشابهه وَرُبمَا زل فِي الطّرق الَّتِي تثبت بهَا الْعِلَل، فَتبين بذلك تقَابل الجائزات فِي أصل الْقيَاس.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا قَوْلنَا فِي قِيَاس يَصح.
قُلْنَا: فلانتصور فِي المجتهدات قِيَاسا يقطع بِصِحَّتِهِ، ثمَّ إِن صورتم قِيَاسا قَاطعا فصوروا صِيغَة يقطع بعمومها فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، قَالُوا: فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْقِيَاسِ اسْتِعْمَال إبْطَال أَحدهمَا، واستعمالهما أولى وعنوا بذلك أَن الْقيَاس الْمُخَصّص يتسلط على بعض مُقْتَضى الْعُمُوم فَيبقى بَقِيَّة المقتضيات.
فَيُقَال: هَذَا محَال، فَإِن التَّعَارُض إِنَّمَا يتَحَقَّق بَين الْقيَاس وَالْقدر الَّذِي يخصص من الْعُمُوم، فَأَما مَا لَا يتَنَاوَلهُ الْقيَاس من قَضِيَّة الْعُمُوم فَلَا يتَحَقَّق اجْتِمَاع الدَّلِيلَيْنِ فِيهِ.
وَالْمَقْصُود من ذَلِك أَن الْقدر الَّذِي تحقق اجْتِمَاع اللَّفْظ وَالْقِيَاس فِيهِ تركْتُم فِيهِ قَضِيَّة اللَّفْظ، وَالْقدر الَّذِي بَقِي من اللَّفْظ لم يمانعه الْقيَاس فَنزل اللَّفْظ فِي بَاقِي المسميات منزلَة اللَّفْظ الْأُخْرَى فَبَطل ادِّعَاء اسْتِعْمَال الدَّلِيلَيْنِ فِي مَحل الِاجْتِمَاع فِي الدَّلِيلَيْنِ.
شُبْهَة الْقَائِلين بِتَقْدِيم الْعُمُوم على الْقيَاس.
فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل على ذَلِك أَن الْعُمُوم من لفظ صَاحب الشَّرِيعَة يجوز أَن يكون أصلا للمقاييس وَهِي تتفرع عَنهُ وتستنبط مِنْهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت حكم بقضية عُمُوم سَاغَ استنباط علته وإلحاق غَيره بِهِ وَإِذا ثَبت كَون الْعُمُوم اصلا وَالْقِيَاس فرعا لم يستقم ترك الأَصْل بفرعه.
وَهَذَا الَّذِي ذكرتموه بَاطِل من أوجه أقربها أَن نقُول لَيست كل المقاييس مستنبطة من المعلومات وَلَكِن مِنْهَا مَا يستنبط من مواقع الْإِجْمَاع وَمن موارد النُّصُوص، وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن الْقيَاس والعبر فروع للعمومات غير مُسْتَقِيم، وَإِن تصور أَن يكون فرعا لبَعض الْعُمُوم، فَإِن مَا يكون للفظ لم يُقَابله قِيَاس يناقضه وَثَبت عُمُومه وَإِنَّمَا نَحن فِي صِيغَة قابلها قِيَاس.
ثمَّ التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن نقُول: إِذا استنبطنا فِي ذَلِك قِيَاسا من مورد عُمُوم تثبيت عُمُومه، وانتفى تَخْصِيصه فَإِن أردنَا أَن نخصص بِهِ عُمُوما هُوَ عرضة التَّخْصِيص فَهَذَا الْقيَاس لَيْسَ بفرع لهَذَا الْعُمُوم الَّذِي فِيهِ الْكَلَام وَإِنَّمَا فرع لعُمُوم غَيره وَكَونه فرعا لغيره لَا يُوجب كَونه فرعا لَهُ.
فَإِن قيل: فالعمومان مثلان؟
قُلْنَا: هَيْهَات فَإِن الْعُمُوم الَّذِي استنبط الْقيَاس من موارده اسْتَقر عُمُومه وَلم يُعَارضهُ مَا يمْنَع تعميمه وإجراءه على شُمُوله.
فَإِن قيل: أجيزوا النّسخ بِالْقِيَاسِ، قُلْنَا: قد سبق الْجَواب عَن مثل هَذَا السُّؤَال فِي الْمَسْأَلَة الأولى.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم: فَإِن قَالُوا: الأقيسة الشَّرْعِيَّة تستند إِلَى عِلّة غير مَنْطُوق بهَا وَلكنهَا مستنبط تحريا واجتهاداً والعموم مَنْطُوق بِهِ والمنطوق بِهِ أولى.
قيل لَهُم: فَظَاهر مَا قلتموه يبطل عَلَيْكُم بِدلَالَة الْعقل فَإِنَّهَا رُبمَا تكون عشير مَنْطُوق بهَا فِي دلالات الشَّرِيعَة ثمَّ تخصص الصِّيَغ الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم، ثمَّ نقُول من سلط الْقيَاس على التَّخْصِيص لَا يسلم لكم أَن الشُّمُول مَنْطُوق بِهِ فَإِنَّهُ لَو سلم ذَلِك ثمَّ أدّعى رفع مَا هُوَ مَنْطُوق بِهِ كَانَ نَاسِخا وَلكنه يَقُول إِنَّمَا الْمَنْطُوق بِهِ مَا أُرِيد بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا اريد بِاللَّفْظِ الْقدر الَّذِي لم يُعَارضهُ فِيهِ قِيَاس.
فَإِن قَالُوا: أَلَيْسَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ بن جبل: بِمَ تحكم يَا معَاذ؟ قَالَ: بِكِتَاب الله، قَالَ: فَإِن لم تَجِد؟ قَالَ: فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: فان لم تَجِد؟ قَالَ: اجْتهد رَأْيِي فأقره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا قَالَه.
يُقَال لَهُم: هَذِه اللَّفْظَة بِعَينهَا من أَخْبَار الْآحَاد، وَإِن كَانَت قصَّة بعثة معَاذ مِمَّا ثَبت تواترا، ثمَّ نقُول: فيلزمكم أَن لَا تخصصوا عُمُوم الْكتاب بالْخبر الْمَنْقُول عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تواترا فَإِن ظَاهر مَا قَالَه تَقْدِيم الْكتاب على جنس السّنة.
ثمَّ نقُول: لم يذكر فِيمَا ذَكرْنَاهُ حكم الْعقل وَإِن كَانَ ينزل عَلَيْهِ جملَة ذكر المعلومات أولى.
فَأَما وَجه الرَّد على الْفَاصِل بَين خَفِي الأقيسة وجليها، فَإِنَّمَا يسْتَمر بَان نذْكر لَك فِي أَبْوَاب المقاييس مَرَاتِب الأقيسة على أَنا نقُول: قِيَاس الشّبَه يُوجب الْعَمَل مَعَ كَونه مظنونا فِي أَصله، وَكَذَلِكَ الْعُمُوم فَإِذا لم يتَحَقَّق فِي وَاحِد مِنْهُمَا قطع لم يكن أَحدهمَا بالإسقاط بِأولى من الثَّانِي.
فَإِن قَالَ قَائِل: فأقيسة الشّبَه اضعف، والعموم أظهر، كَانَ ذَلِك قَول لَا يتَحَصَّل مِنْهُ طائل عِنْد الرَّد إِلَى التَّحْقِيق فَإِن الْعلم لَا يطْلب من وَاحِد مِنْهُمَا وَالْعَمَل يثبت بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا.
ثمَّ إِن القَاضِي رَضِي الله عَنهُ لما أبطل شبه الْقَوْم على وَجه يرشدك إِلَى إبْطَال كل مَا يوردونه وَجه فِي على نَفسه سؤالا وجده من أهم الأسئلة وَذَلِكَ أَنه قَالَ: إِن قَالَ قَائِل: من صَار إِلَى التَّعَارُض فقد خرق الْإِجْمَاع فَإِن من النَّاس من يقدم الْعُمُوم على الْقيَاس، وَمِنْهُم من يقدم الْقيَاس، فَأَما الْمصير إِلَى التَّعَارُض فَمَا صَار إِلَيْهِ أحد.
ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَنه قَالَ مصيرنا إِلَى التَّعَارُض مصير إِلَى رد الْقيَاس فِي صُورَة التَّعَارُض، ورد الْعُمُوم، وَقد قَالَ برد الْعُمُوم على الْجُمْلَة قَائِلُونَ، وَقَالَ برد الْقيَاس آخَرُونَ، فَإِذا جَمعنَا بَين المذهبين فِي صُورَة التَّنَازُع لَا ننتسب إِلَى الْمُخَالفَة.
فَإِن قيل: فَمن قَالَ بِالرَّدِّ عمم القَوْل فِيهِ، فتخصيص هَذِه الصُّورَة بِالرَّدِّ مِمَّا لم يسْبقُوا إِلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا كَلَام لَا طائل تَحْتَهُ فَإنَّا قد ثبتنا أَن عين مَا قُلْنَاهُ مَنْقُول فِي الْمذَاهب، وَمَا ذكرتموه من التَّخْصِيص لَا يلْزمنَا مِمَّا فِيهِ كلامنا خرق الْإِجْمَاع. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طَائِفَة من الْعلمَاء لَو صَارُوا إِلَى تَحْلِيل فِي صُورَة متباينة،، وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فِيهَا، فَلَو اجْتهد مُجْتَهد فَأخذ بقول المحللين فِي صُورَة، وَبقول المحرمين فِي صُورَة أُخْرَى فَلَا يعد خارقا للْإِجْمَاع، فَإِن خرق الْإِجْمَاع لَا يَتَقَرَّر فِي صُورَتَيْنِ مختلفتين وَهَذَا مِثَال مَا ألزمونا.
وَالْجَوَاب الآخر أَن الَّذين صَارُوا إِلَى رد الْعُمُوم أَو الْقيَاس لَيْسُوا كل الْعلمَاء الَّذين ينْعَقد بهم الْإِجْمَاع، فَإِن فِي النَّاس من نفى المقاييس فَلَا يقوم الْحجَّة إِذا بالذين ردوا الْعُمُوم أَو الْقيَاس عِنْد التَّعَارُض.
فَإِن قيل: قد خالفتم نفاة الْقيَاس أَيْضا.
قُلْنَا: مَا خالفناهم فِي صُورَة التَّنَازُع فَانْدفع السُّؤَال وانجلى الْإِشْكَال.

.القَوْل فِي يخصص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ:

اخْتلف أَولا فِي أَن قَول الصَّحَابِيّ هَل ينْتَصب حجَّة وسنقرر ذَلِك فِي آخر الْكتاب إِن شَاءَ الله عز وَجل.
فَمن لم يَجعله حجَّة وهُوَ مَا نختاره لم يتخصص بِهِ، وَهُوَ كَمَا لَا يتخصص بقول وَاحِد من مجتهدي الْعَصْر.
وَمن رَآهُ حجَّة افْتَرَقُوا فِي ذَلِك فَمنهمْ من صَار إِلَى تَخْصِيص الْعُمُوم بقول الصَّحَابِيّ وَقد ينْسب ذَلِك إِلَى الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله الَّذِي يُقَلّد الصَّحَابِيّ فِيهِ، وَنقل عَنهُ أَنه لَا يخصص بِهِ إِلَّا إِذا انْتَشَر فِي أهل الْعَصْر وَلم ينكروه، وَجعل ذَلِك نَازل منزلَة الْإِجْمَاع وَالَّذِي يَصح أَن ذَلِك لَا يكون إِجْمَاعًا لما سنقرره إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي أَبْوَاب الْإِجْمَاع فَيخرج لَك من مَضْمُون مَا نختاره، أَن قَول الصَّحَابِيّ لَيْسَ بِحجَّة على الْمُجْتَهدين وَلَو انْتَشَر فَلَا يكون إِجْمَاعًا، وَإِن اتّفق الْإِجْمَاع فقد سبق القَوْل فِي تَخْصِيص الْعُمُوم بِالْإِجْمَاع.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَلا قُلْتُمْ بتخصيص الصَّحَابِيّ، فَإِن الظَّن بِهِ أَنه لَا يخصصه إِلَّا بِمَا يُوجب تَخْصِيصه.
قُلْنَا: هَذَا بِعَيْنِه سُؤال من لم يلْزم قبُول قَوْله وَيثبت ابْتِدَاء الْأَحْكَام.
ثمَّ نقُول إِذا كَانَ بصدد الزلل وَقد ثَبت عندنَا أَن من كَانَ هَذَا نَعته فَلَا يحْتَج بقوله: فَكَمَا يجوز ترقب زلته فِي الإنباء عَن أصل الْأَحْكَام فَكَذَلِك فِي الْإِخْبَار عَن التَّخْصِيص والتعميم.