فصل: القَوْل فِي صِفَات الروَاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

قد ذكرنَا وُجُوه الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار، وَنحن نشِير آنِفا إِلَى الطّرق الَّتِي يعلم بهَا كذب الْأَخْبَار.
فَاعْلَم أَن الطّرق الَّتِي أومينا إِلَيْهَا فِي الصدْق لَو تصورت على الضِّدّ لدلت على الْكَذِب، فَكَمَا دلّ تَصْدِيق الرب الْمخبر على صدقه فَكَذَلِك تَصْدِيق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتصديق الْأمة فَكَذَلِك تَكْذِيب الله الْمخبر وَتَكْذيب رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِجْمَاع الْأمة على كَونه كذبا يدل على ثُبُوت صفة الْكَذِب، وكما تدل الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة على صدق الْخَبَر فقد تدل على الْكَذِب فَمن أخبر عَن قدم الْعَالم دلّت دلالات حدوثها على كذبه.
وَمن الدلالات على الْكَذِب: أَن يخبر الْمَرْء عَن مُشَاهدَة فيكذبه فِي خَبره عدد لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة اتِّفَاق كذبهمْ عَن غير تواطىء وَسبب جَامع حَامِل مَحل الْكَذِب، وَلَو كَانَ قد تحقق شَيْء من هَذِه الْأَسْبَاب لظهر، فَإِذا لم يظْهر عرفنَا صدقهم فِي تكذيبهم وَكذب من كذبوه.
وَمن الْأَدِلَّة على كذب الْمخبر: أَن يعلم من أخبر عَن أَمر لَو كَانَ على مَا أخبرهُ لشاع وذاع وتواترت نقلته، وَمَا اسْتَقل بنقله الْآحَاد والأفراد، وَهَذَا بَين فِي اسْتِمْرَار الْعَادة واطرادها، فَإنَّا نعلم أَن من أخبر عَن قتل خَليفَة على مَلأ من النَّاس فَمثل ذَلِك مَا يتواتر نَقله وَكَذَلِكَ لَو تقدرت فتْنَة صد لأَجلهَا الحجيج عَن الْمَنَاسِك فَمثل ذَلِك مَا يشيع فَإِذا نَقله الاحاد وَلم ينْقل تَوَاتر علم كذب النقلَة قطعا.
وبهذه الطَّرِيقَة نرد على من قَالَ: إِن الْقُرْآن قوبل وَلم ينْقل، فَإِنَّهُ لَو صَحَّ ذَلِك مَعَ توفر دواعي العندة الْكَفَرَة على الْقدح فِي الْإِسْلَام لَا نبث وانتشر فِي النَّاس ولتواتر نَقله وإظهاره واللهج بِذكرِهِ ونشره، وبمثل هَذِه الطَّرِيقَة نرد على من زعم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَص على إِمَامَة عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي مَلأ من أصحابه، فَإِن مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم لَا يغْفل عَن نَقله أهل التَّوَاتُر، فَلَمَّا لم ينْقل يَوْم السَّقِيفَة وَالْأَيْدِي ممتدة إِلَى بيعَة الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَلم يذكر فِي زمن عمر وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُمَا دلّ ذَلِك على أَنه لم يكن، إِذْ لَو يقدر كَونه لأفضى إِلَى انخراق الْعَادة.
فَإِن قيل: فقد نقل الْآحَاد أَشْيَاء يجب أَن تشتهر وَلم يقطع بكذبهم، مِنْهُ صفة حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قرانه وإفراده، وَقد كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهر أصحابه وَمَا نقل ذَلِك تواترا، وَكَذَلِكَ نقل نِكَاحه مَيْمُونَة آحَاد وَإِن كَانَ ذَلِك على مَلأ، وَنقل انْشِقَاق الْقَمَر آحادا مَعَ عظم شَأْنه وَوُجُوب شيوعه فِي اسْتِمْرَار الْعَادة الَّتِي ادعيتموها.
وَكَذَلِكَ لم ينْقل النَّصَارَى تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أمه فِي المهد صَبيا، وَإِن كَانَ من الْآيَات الْعَظِيمَة، وَلم ينْقل سَائِر آيَات رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا نقل الْقُرْآن،، وَكَذَلِكَ اخْتلف النقلَة فِي دُخُوله مَكَّة عنْوَة أَو صلحا مَعَ أَن ذَلِك يَتَّضِح فِي الْعَادة.
فَيُقَال لَهُم: لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه مَا يقْدَح فِي الأَصْل الَّذِي اصلناه، فَإِن قرَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفراده فَلَيْسَ مِمَّا يظْهر للخاص وَالْعَام فَإِن الْقرَان لَا يتَمَيَّز عَن الْإِفْرَاد إِلَّا فِي حق من أحَاط علما باوفر حَظّ من الْفِقْه ثمَّ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يجب عَلَيْهِ أَن يظْهر مَا يخْتَص بِهِ بل كَانَ يظْهر مَا فِيهِ تَعْلِيم الكافة، وَالْقرَان فِي التَّحْقِيق يؤول إِلَى عِنْد ذِي نِيَّة وَكَانَ مُخْتَصًّا بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلذَلِك لم يظهره إِظْهَارًا ينْقل تواترا.
وَأما نِكَاح مَيْمُونَة فَكَذَلِك فَإِنَّهُ لَيْسَ من الْأُمُور الْعِظَام، وَلم ينْقل أَنه نَكَحَهَا على الْمَلأ، فَلَعَلَّهُ خلا بِبَعْض أصحابه ونكحها على وَجه لَا يشيع.
وَأما انشتقاق الْقَمَر فَلَقَد كَانَ آيَة ليلية، وَمَا كَانَ قد فرط من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من مواضعة الْكَفَرَة ومواعدتهم، بل كَانَ تكلم فِي الْمَسْجِد الْحَرَام شرذمة من الْكفَّار فاقترحوا عَلَيْهِ شقّ الْقَمَر وَلم يكن ذَلِك على مَلأ بل كَانَ ومعظم النَّاس نيام وَإِنَّمَا يدْرك مثل ذَلِك من يراقبه، فَكَأَن النَّاس كَانُوا على انقسام واكثرهم نيام، وَمن كَانَ يتَّفق لَهُ رُؤْيَة ذَلِك من غير تقدم بمعاهدة ومواعدة كَانَ يحمل على تحرّك غيم أَو تخَلّل سَحَابَة شَيْئا من الْقَمَر أَو كَانَ يخيل إِلَيْهِ أَن ذَلِك اتّفق تخيلا لعَارض عرض فِي بَصَره وَمَا كَانَ ذَلِك أَكثر من فلقَة انفصلت ثمَّ عَادَتْ فِي ألطف زمَان.
وَأما دُخُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّة فمما نقل تواترا، وَنقل أَيْضا دُخُوله مَعَ أصحابه معتدين شاكين فِي الأسلحة وَإِنَّمَا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيمَا يؤول إِلَى قَصده الْحَرْب أَو قصد السّلم وَالصُّلْح وَذَلِكَ مِمَّا لَا يظْهر.
وَأما تكليم عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فِي المهد فَلم يكن أَيْضا على الْمَلأ بل كَانَ بَين أظهر شرذمة قَليلَة. فَإِن قيل: مَا تَقولُونَ فِيمَن قَالَ: المعوذتين لم تنقلا نقل سَائِر السُّور؟
قُلْنَا: حاشى لله أَن نقُول ذَلِك، فَإِنَّهُمَا تواترا كَمَا نقل سَائِر السُّور، فقد أكد وَتعرض لِلطَّعْنِ فِي الْقُرْآن، فَثَبت بذلك أَن شَيْئا مِمَّا ذَكرُوهُ لم يكن يقْدَح فِيمَا اسْتَثْنَاهُ، وَتبين فِي قَضِيَّة الْعَادة المستمرة أَن كل أَمر ذِي خطر يَبْدُو على مَلأ لَا يسوغ فِي الْعَادة أَن ينْقل آحَاد وَلَو سَاغَ انخراق الْعَادة لساغ فِي جملَة الْعَادَات وقضاياها، إِذْ الْعلم باستمرار الْعَادة من كَمَال الْعقل.

.فصل:

قد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا طرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار وَهِي الَّتِي لَا تدل على صدقه وَلَا على كذبه دَلِيل فَمَا كَانَ هَكَذَا لم يقطع بصدقه وَلَا بكذبه.
فَإِن قيل: فمثلوا لنا هَذَا النَّوْع.
قُلْنَا: إِنَّمَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْأَخْبَار عَن الجائزات فَإِن الْمخبر عَنهُ لَو كَانَ مستحيلا عرف قطعا كذب الْمخبر، وَلَو كَانَ وَاجِبا عرف صدق الْمخبر، فَإِذا كَانَ جَائِزا يقدر وُقُوعه وَيقدر فَقده وَلم تدل دلَالَة من الطّرق الي ذَكرنَاهَا على الصدْق، وَلم تدل أَيْضا دلَالَة من السبل الَّتِي أومينا على الْكَذِب، والمخبر عَنهُ جَائِز فِي نَفسه، وَلَيْسَ النقلَة أهل التَّوَاتُر، فَإِذا اجْتمعت هَذِه الأصاف لم يمكنا أَن نقطع بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، وَجُمْلَة أَخْبَار الْآحَاد فِي أَحْكَام الشَّرَائِع يحل هَذَا الْمحل.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَن الْخَبَر الَّذِي وصفتموه كذب قطعا.
قُلْنَا: أتعرفون كذبه ضَرُورَة أَو دلَالَة فَإِن ادعيتم معرفَة كذبه ضَرُورَة كُنْتُم مباهتين، على أَنكُمْ تقابلون بِمثل دعواكم على ضدها، وَإِن زعمتم أَنا عرفنَا ذَلِك بِدَلِيل فَمَا دليلكم عَلَيْهِ؟
فَإِن قَالُوا: الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ صدقا لنصب الرب على صدقه دَلِيلا لاتصافه بالاقتدار عَلَيْهِ، فَلَمَّا لم ينصب عَلَيْهِ دَلِيلا قَطعنَا بصدقه، فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا، وَلزِمَ الْمصير إِلَى الْوَقْف، وَترك قطع القَوْل بِأَحَدِهِمَا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِجْمَاع الْأمة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود مَعَ اتِّفَاقهم على اسْتِحَالَة الْقطع بكذبهم، فَإِن من يقطع بكذبهم يَسْتَحِيل إبرام الحكم بِشَهَادَتِهِم فِي مُوجب الشَّرْع، وَمَعَ ذَلِك فَلَا سَبِيل إِلَى الْقطع بِصدق الشُّهُود مَعَ أَنهم لَا يعتصمون.
فَإِن قيل: ألستم وافقتمونا على أَن من ادّعى النُّبُوَّة وَلم تدل على صدقه دلَالَة قَاطِعَة فتقطع بكذبه، فَمَا أنكرتم مثل ذَلِك فِي كل مخبر عَن الرَّسُول؟
قُلْنَا: قبل أَن نجيب عَمَّا ذكرتموه يلزمكم على قوده جحد الضَّرُورَة فَإنَّا نعلم أَن من قطع بِأَن جملَة المخبرين آحَاد عَن الشَّرَائِع وَالديَّان والمعاملات الدائرة كاذبون فقد جحد الضَّرُورَة، فَإنَّا نعلم بضرورة الْعقل أَن فيهم صَادِقين، وَإِن كُنَّا نعلم أَنه لَيْسَ مَعَ كل وَاحِد من المخبرين دلَالَة قَاطِعَة على صدقه، وطرد مَا ذَكرُوهُ يُوجب عَلَيْهِم تَكْذِيب الشُّهُود لعروهم عَن الدلالات الدَّالَّة على الصدْق.
ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا قُلْنَا: فِي المتنبىء مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ ثَبت بالأدلة القاطعة أَنا مكلفون بِمَعْرِِفَة نبوة كل نَبِي يظْهر، مخاطبون بِالْقطعِ على عصمته وطهارته وتنزهه فِي سَرِيرَته وَحسن سيرته فِي نوبَته.
ثمَّ عرفنَا أَن الْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ إِلَّا بِدلَالَة تُفْضِي إِلَيْهِ فَمن ادّعى النُّبُوَّة بِلَا دَلِيل وَمن حكمهَا أَن يعلم فَيعلم قطعا كذبه، فانفصل مَا اسْتشْهدُوا بِهِ عَمَّا نَحن فِيهِ.
فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن من لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه لَا تقوم الْحجَّة بنقله وَإِذا لم تقم الْحجَّة بنقله اسْتَحَالَ تَعْلِيق الْعَمَل بِهِ.
قُلْنَا: هَذَا خلط بَاب بِبَاب، فَإِن مقصدنا من هَذَا الْفَصْل أَن نبين امْتنَاع الْقطع بِالصّدقِ أَو الْكَذِب فِي النَّوْع الَّذِي وصفناه من الْأَخْبَار فَأَما مُوجب الْعَمَل بهَا، وَصِحَّة وُرُود التَّعَبُّد بِوُجُوب الْعَمَل، فمما نستقصيه بعد ذَلِك فِي بَاب مُفْرد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَسَلمُوا لنا ترك الْقطع بِالْكَذِبِ، ثمَّ كلمونا بعد ذَلِك فِي الْعَمَل كَيفَ يجب، وَلَا تنكر إِلَّا وَيجب الْعَمَل بِإِخْبَار مخبر مَعَ امْتنَاع الْقطع بكذبه.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الشَّاهِد الْوَاحِد لَا يقطع بكذبه إِذْ لَو قطع بكذبه لردت شَهَادَته وَإِن شهد بعده غَيره، ثمَّ مَعَ أَنا لَا نقطع بكذبه لَا نحكم بِشَهَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي العبيد الثِّقَات وَغَيرهم من الَّذين لَا تثبت شَهَادَتهم، فَدلَّ أَن الْعَمَل بالأخبار بمعزل عَن الْقطع بالتصديق أَو التَّكْذِيب كَيفَ وَقد يقطع بِصدق الْخَبَر وَلَا يعْمل بِهِ.
فَإِن الْخَبَر الَّذِي نقل عَن صَاحب الشَّرِيعَة تواترا مَقْطُوعًا بِهِ مستيقن الصدْق، فَإِذا ثَبت بِدلَالَة قَاطِعَة نسخ حكمه فَلَا يقلب النّسخ الْخَبَر عَن سمة الصدْق.
فقد تبين أَن الحكم بالتصديق والتكذيب مِمَّا لَا تعلق لَهُ بِوُجُوب الْعَمَل وَنفي وُجُوبه.

.باب فِي الْخَبَر الْوَاحِد وَمَعْنَاهُ وَصِحَّة التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ، وَذكر اخْتِلَاف النَّاس فِيهِ:

اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا نصدر الْبَاب بِهِ معنى خبر الْوَاحِد، فَاعْلَم أَن أَرْبَاب الْأُصُول لَا يعنون بإطلاقهم خبر الْوَاحِد الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الْوَاحِد أَو خبر الْآحَاد فِي الِاصْطِلَاح، وَلَكِن كل خبر عَن خابر مُمكن لَا سَبِيل إِلَى الْقطع بصدقه، وَلَا سَبِيل بكذبه، لَا اضطرارا وَلَا اسْتِدْلَالا، فَهُوَ خبر الْوَاحِد، أَو خبر الْآحَاد فِي اصْطِلَاح أَرْبَاب الْأُصُول، سَوَاء نَقله وَاحِد أَو جمع منحصرون.
وَقد يخبر الْوَاحِد فَيعلم صدقه كالنبي يخبرنا عَن الغائبات فنعلم صدقه قطعا، وَلَا يعد ذَلِك من أَخْبَار الْآحَاد، فَتبين لَك مَقْصُود الْقَوْم فِي الِاصْطِلَاح، والمعاني هِيَ المتبعة دون الْعبارَات.
فَإِذا أحطت علما بذلك فَاعْلَم بعده أَن من النَّاس من زعم أَن الْخَبَر الَّذِي يَنْقُلهُ الثِّقَات عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُوجب الْعلم ثمَّ فصلوا القَوْل فِيهِ فَقَالُوا يُوجب الْعلم الظَّاهِر دون الْعلم الْبَاطِن.
وَذهب مُعظم الروافض وَمن تَبِعَهُمْ من أهل الْمذَاهب إِلَى أَن خبر الْوَاحِد لَا يَقْتَضِي الْعلم وَلَا يُوجب الْعَمَل، ثمَّ افْتَرَقُوا فرقتان فَزعم جُمْهُور الْقَدَرِيَّة وَمن تَابعهمْ من أهل الظَّاهِر كالقاساني وَغَيره أَن التَّعَبُّد بِخَبَر الْوَاحِد محَال عقلا وَزعم بَعضهم أَن وُرُود التَّعَبُّد فِي ذَلِك من جائزات الْعُقُول وَلَكِن لم ترد دلَالَة سمعية صَحِيحَة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد وَزعم الجبائي من الْقَدَرِيَّة أَن التَّعَبُّد لَا يَقع إِلَّا إِذا أخبر اثْنَان عَدْلَانِ ضابطان. وَصَارَ الدهماء من الْعلمَاء وجماهير الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد، ثمَّ قَالُوا قد دلّت الْأَدِلَّة على التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بهَا وافترقوا فِي الْأَدِلَّة، فَزعم بعض من غلا فِي ذَلِك أَن الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة لَا تدل على وجوب، وَإِنَّمَا الْوُجُوب يتلَقَّى من الْأَدِلَّة السمعية فنعلم عِنْدهَا جَوَاز التَّعَبُّد ويتوصل إِلَى وُجُوبه بدلالات السّمع، ثمَّ الْقَائِلُونَ بِخَبَر الْوَاحِد صَارُوا إِلَى أَن الثِّقَة الْوَاحِد يقبل خَبره وَيعْمل بِهِ وَلَا يشْتَرط عدد مَحْصُور فِي الروَاة وَهَذَا مَذْهَب ابْن الجبائي وَأَتْبَاعه.
فَهَذِهِ جمل الْمذَاهب وَهَا نَحن نرد على الْبَاطِل مِنْهَا، ونختار الصَّحِيح، فَالصَّحِيح جَوَاز التَّعَبُّد عقلا وَثُبُوت وُجُوبه بالأدلة السمعية الَّتِي سنذكرها، ثمَّ لَا نصير إِلَى أَن خبر الْوَاحِد مِمَّا يعلم بِهِ صدقه، فَهَذَا مِمَّا ننصره ونذب عَنهُ، ونرد على كل مَذْهَب سواهُ.
فَأَما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يعلم صدقه ظَاهرا فَيُقَال لَهُ: أَنْت لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تَقول أَن من أخبرنَا نقطع بصدقه وَلَا يجوز أَن يغلط وَلَا يزل، أَو يسوغ أَن يتَعَمَّد الْكَذِب، أَو لَا يجوز أَن يكون مَاجِنًا فَاسِقًا بَاطِنا، وزيه زِيّ الْعدْل، فَإِن لم تقرروا هَذِه الْأَوْجه فقد صرفتم عَن الْمَعْقُول، فَإنَّا نعلم قطعا أَن تَجْوِيز مَا ذَكرْنَاهُ لَيْسَ من المستحيلات، فَإِذا لم يكن مستحيلا لم يبْق إِلَّا أَن يكون جَائِزا، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَين الاستحالة وَالْجَوَاز رُتْبَة، وأنى يسوغ الْمصير إِلَى اسْتِحَالَة تَجْوِيز الْكَذِب مَعَ أَنا نعلم ظُهُور كثير من ذَلِك فِي الْعَادَات فكم من شخص ظن عَن أَعلَى رُتْبَة الْعَدَالَة وَصدق القَوْل ثمَّ تبين خبث دَخلته وَفَسَاد سَرِيرَته، فَمَا من أحد يخبر مِمَّن لَا تجب عصمته إِلَّا وَهَذَا وَصفه فِي الْجَوَاز.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك اتِّفَاق الكافة على أَنا لَا نعلم صدق الشُّهُود فِيمَا يشْهدُونَ فِيهِ مَعَ ظَاهر عدالتهم، فَالْخَبَر يحل هَذَا الْمحل.
فَإِذا ثَبت تَجْوِيز الْكَذِب فَكيف يتَحَقَّق مَعَه الْعلم بِالصّدقِ.
فَإِن قيل: فَالَّذِي أطلقتموه وَهُوَ الْعلم الْبَاطِن، وَالَّذِي أطلقناه هُوَ الْعلم الظَّاهِر.
قُلْنَا: هَذَا الْكَلَام خلو عَن التَّحْقِيق فَإِن الْعلم مهما تحقق اسْتَحَالَ أَن يُجَامع الريب سَوَاء كَانَ علما بِظَاهِر أَو بَاطِن، فَإِن الْعلم يتَعَلَّق بالشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، وَلَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الْعلم مَعَ جَوَاز ضِدّه، اللَّهُمَّ، وَأَن يعنوا بِالْعلمِ الظَّاهِر سماعهم الْخَبَر، فَسلم لَهُم ذَلِك فَإِنَّهُ يعلم ضَرُورَة، فَأَما الصدْق فَلَا سَبِيل إِلَى علمه، وَإِن حملُوا الْعلم بِالظَّاهِرِ على غَلَبَة الظَّن فيرتفع الْخلاف فِي الْمَعْنى، فيؤول الْكَلَام إِلَى المناقشة فِي الْعبارَة.
فَإِن قَالُوا يسوغ إِطْلَاق الْعلم فِي مثل هَذِه الْمنزلَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات}، مَعَ أَن نعلم أَنا لَا نتوصل إِلَى الْقطع بالسرائر وَمَا تكنه الْقَرَائِن من الضمائر.
قُلْنَا: الْآن بَعْدَمَا ارْتَفع الْخلاف فِي الْمَعْنى فَلَا نحجزكم من التَّجَوُّز بالعبارات وَالْعرب قد تسْتَعْمل الظَّن م مَوضِع الْعلم، وَقد تضع الْعلم مَوضِع الظَّن والحسبان، وَفِي الْمجَاز متسع، على أَنا نقُول: الْمَعْنى بقوله تَعَالَى: {فَإِن علمتموهن مؤمنات}. أَي فَإِن علمتموهن متلفظات بِالْإِيمَان فَهَذَا مِمَّا نعلم قطعا وَيبقى بعد ذَلِك الْكَلَام فِي تَجْوِيز القَوْل إِيمَانًا وَهُوَ خَارج عَن مسئلتنا، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، مَعَ أَن كل مَا يذكرُونَهُ يبطل عَلَيْهِم بِشَهَادَة الشُّهُود إِذْ لَا خلاف فِيهَا.
وَأما وَجه الردعلى من أنكر جَوَاز وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْوَاحِد فَهُوَ أَن نقُول: الْجَوَاز والاستحالة معلومان بقضية الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة، فَكل مَا انحسمت فِيهِ طرق الاستحالة وَجب الْقطع بِجَوَازِهِ، والتعبد بِخَبَر الْوَاحِد مِمَّا لَا يَسْتَحِيل عقلا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَو أسمعنا عَزِيز كَلَامه، أَو أخبر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ وَقَالَ: اعلموا أَن ربكُم يَقُول لكم. مهما نقل موثوق بِهِ ظَاهرا مَعَ انطواء الْبَاطِن عَنْكُم خَبرا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاعملوا بِمُوجبِه، وَإِن جوزتم كذبه وَغلب على ظنكم صدقه، فاعلموا أَن أَخْبَار من هَذَا وَصفه وغلبه ظنونكم آتٍ فِي إِثْبَات وجوب الْعَمَل عَلَيْكُم، فَمثل هَذَا لَو قدر لم يكن مستحيلا، وَلم يكن كَمَا لَو قدر مُقَدّر تَكْلِيف الْمحَال وَجمع المتضادات إِلَى غير ذَلِك من ضروب المستحيلات.
وَالَّذِي يعضد الْأَدِلَّة بِهِ اتِّفَاق الكافة على ثُبُوت التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بقضية شَهَادَة الشُّهُود فِي الحكومات والخصومات مَعَ الاسترابة فِي الصدْق وَالْكذب، وَكَذَلِكَ أَجمعُوا على صِحَة الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي الْحَوَادِث مَعَ تقَابل الجائزات فِي حَقه، فَكَذَلِك من أخبر عَن نَفسه بِإِيمَان أَو كفر فقد ثَبت التَّعَبُّد بالجري على مُوجب قَوْله مَعَ جَوَاز كذبه، فَتبين التحاق ذَلِك بالجائزات.
وللمخالفين فُصُول يتمسكون بهَا بَين الشَّهَادَات وَالْأَخْبَار، وَنحن نومىء إِلَى معظمها ونبين فَسَادهَا.
فَإِن قَالُوا: لَا يسوغ الاستشهاد بالشهادات وَذَلِكَ أَن التَّعَبُّد بهَا ثَابت بالأدلة، وَلَيْسَ كَذَلِك الْأَخْبَار.
قُلْنَا: لاتضربوا بِإِثْبَات وَلَا تتخبطوا، فان الْمَقْصد من ذَلِك ثبيت الْجَوَاز الْعقلِيّ، فَهَلا جوزتم أَن يثبت على الْأَخْبَار وَالْقَصْد بهَا من الْأَدِلَّة السمعية مَا ثَبت على الشَّهَادَات، وَهَذَا مَا لَا محيص لَهُم عَنهُ، فتدبره، ثمَّ نقُول قد ثَبت أَخْبَار الْآحَاد بالأدلة السمعية القاطعة للمقادير على مَا سنذكرها بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَلَا فصل.
فَإِن قَالُوا: الْفرق بَين الشَّهَادَة وَالْأَخْبَار أَن الشَّهَادَة نازلة منزلَة إِقْرَار الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَلَو أقرّ حكم عَلَيْهِ بِهِ مَعَ ترداد إِقْرَاره م بَين الصدْق وَالْكذب فَنزلت الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار فَينزل الْخَبَر منزلَة إِخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإخبار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم صدقه قطعا، فَكل خبر علم صدقه أقيم مقَام أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَنَقُول: هَذَا الَّذِي ذكرتموه لَا ينجيكم عَمَّا أُرِيد بكم فَإِن مقصدنا تثبيت جَوَاز التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِمَا لم يعلم صدقه، وَمَا ذكرتموه من نزُول الشَّهَادَة منزلَة الْإِقْرَار لَا يغنيكم، فَإِن الْإِقْرَار الَّذِي إِلَيْهِ مستروحكم أقوى الْحجَج عَلَيْكُم، فَإِنَّهُ يحكم بِهِ مَعَ تردد، فَإِذا انْقَلب مَا قدروه انفصالا اسْتِدْلَالا عَلَيْهِم فقد بَطل مَا راموه، على أَن نقُول قد ثبتَتْ الشَّهَادَة فِي مَوضِع لَا يَصح فِيهِ الْإِقْرَار، وَهُوَ الشَّهَادَات على الْأَطْفَال والمجانين وَالْعَبِيد فِي بعض أحكامهم، فاضمحل مَا قَالُوهُ على أَنا نقُول ذكر الشَّهَادَة لَيْسَ من أَرْكَان الدّلَالَة الَّتِي عولنا عَلَيْهَا فَإِن الدّلَالَة مُسْتَقلَّة بِنَفسِهَا دون ذكر الشواهد وَلَو قدرناكم مِمَّا يعين فِي الشَّهَادَات لاطرحت الدّلَالَة عَلَيْكُم فِي الْأَخْبَار والشهادات مَعًا، فَإنَّا بَينا أَن تَقْدِير وُرُود التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ لَيْسَ من المستحيلات الَّتِي لَا يتَصَوَّر التَّوَصُّل إِلَيْهَا.
وَقد ذكرنَا فِيمَا قدمنَا أَن كل مَا يَصح اكتسابه صَحَّ وُرُود التَّكْلِيف بِهِ، وَلَو تتبعنا الْأُصُول الْفَاسِدَة للمعتزلة فِي بِنَاء التَّكْلِيف على مصَالح الْخلق وَطلب اللطف لم يبعد اسْتِمْرَار الدّلَالَة على هَذَا الأَصْل، وَأَنا نقُول: يجوز أَن يعلم الرب تَعَالَى أَنه لَو تعبد عبيده بِالْعَمَلِ بأخبار الْآحَاد لأطاعوا وتحسسوا عَن صِفَات الْعَدَالَة، واستوجبوا بالبحث عَنْهَا الْأجر الجزيل، وَلَو نصب الْأَدِلَّة القاطعة لعلم أَن ذَلِك كَانَ يُؤَدِّي إِلَى الْمفْسدَة، فَلم يسْتَحل مَا قُلْنَاهُ على وَاحِد من الْأُصُولِيِّينَ.
فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ، فَلم يبْق لَهُم معتصم سوى أَن يَقُولُوا فجوزوا وُرُود التَّكْلِيف بِالْعَمَلِ بِخَبَر الْفَاسِق، قُلْنَا: وَهَذَا مَا نقُول بِهِ، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَهُوَ من مجوزات الْعُقُول وَلَكِن وَردت الْأَدِلَّة السمعية بِمَنْع ذَلِك.
وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن خبر الْوَاحِد يجب التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بِهِ عقلا وسمعا فَوَاضِح الْبطلَان، فَإنَّا قدمنَا فِي صدر الْكتاب، وسنشبع فِي إثْبَاته القَوْل باستحالة أَوْصَاف الْوُجُوب إِلَى مدارك الْعُقُول، وَحصر دَرك الْأَحْكَام فِي السمعيات، وَلَيْسَ للْقَوْم عصمَة يعتصمون بهَا مِمَّا يُسَاوِي الْحِكَايَة، فَرَأَيْنَا الإضراب عَن شبههم.
وَأما وَجه الرَّد على من زعم أَن التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ بالْخبر الْوَاحِد من الجائزات عقلا وَلَكِن لم تدل دلَالَة سمعية على ثُبُوت التَّعَبُّد إِذْ دلّت الْأَدِلَّة السمعية على منع التَّعَبُّد فوضح على هَؤُلَاءِ أَن الدّلَالَة السمعية القاطعة فِي التَّعَبُّد بِالْعَمَلِ، ثمَّ ننعطف على شبههم ونتفصى عَنْهَا بعون الله تَعَالَى.
فَمن أوضح الْأَدِلَّة إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعي التَّابِعين إِلَى أَن تبع المخالفون، وَوجه الْإِيضَاح فِي ادِّعَاء الْإِجْمَاع أَن نقُول: رَأَيْت الصَّحَابَة فِي الصَّدْر الأول تلم بهم الْحَوَادِث ومشكلات الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام فَكَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِيهَا أَخْبَارًا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا روى لَهُم تسرعوا إِلَى الْعَمَل بِهِ، فَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَلَا سَبِيل أَيْضا إِلَى حصر الْأَمر فِيهِ، فَإِنَّهُ لَو انحصرت الْأَخْبَار الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا مستفيضة لقارنت الْآحَاد ووهاها ادِّعَاء الْإِجْمَاع، على أَنا نومئ إِلَى قصَص مستفيضة، مِنْهَا: أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أشكل عَلَيْهِ خبر الْجَنِين فاستفتى فِيهِ الْأصحاب مستشيرا لَهُم مسترشدا حَتَّى روى حمل بن مَالك بن النَّابِغَة حَدِيث الْجَنِين فِي قصَّة تطول، وَرجع الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيث الْجدّة وَرجع عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي السُّكْنَى إِلَى حَدِيث فريعة بنت مَالك وَرجع عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِلَى جمل من الْأَحَادِيث بيد أَنه رُبمَا كَانَ يحْتَاط فَيحلف الرَّاوِي إِن استراب فِي رِوَايَته ثمَّ كَانَ يعْمل بِخَبَرِهِ.
وَمن ذَلِك أَن زيد بن ثَابت كَانَ يروي أَن الْحَائِض الناسكة لاتصدر عَن مَكَّة حَتَّى تطهر وتودع الْبَيْت فروت لَهُ أنصارية أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لَهَا فِي الصَّدْر دون وداع وَمن ذَلِك مَا روى أَن مُعَاوِيَة بَاعَ آنِية من فضَّة بِأَكْثَرَ من وَزنهَا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء قد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ مُعَاوِيَة لَا أرى بذلك بَأْسا فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاء من يعذرني من مُعَاوِيَة أخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويخبرني عَن رَأْيه وَالله لَا أساكنه بِأَرْض أبدا.
وَمن الْقَصَص الْمَشْهُورَة مَا لَا تحصى كَثْرَة من مراجعاتهم زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْأُمُور الْبَاطِنَة من الْغسْل، وَنَحْوه، وجاحد رُجُوع الصَّحَابَة إِلَى الْأَخْبَار فِي المشكلات يقرب من جحد التَّوَاتُر.
وَكَذَلِكَ التابعون كَانُوا من أحرص النَّاس على جمع أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْعَمَل بهَا، وَكَانُوا يوبخون الْجَامِع الَّذِي لَا يعْمل بِمَا جمع.
فان قَالُوا لَا سَبِيل إِلَى جحد عَمَلهم على وفْق وَمُوجب الْأَخْبَار فَمن أَيْن لكم أَنهم عمِلُوا بهَا وَمَا أنكرتم على من يَقُول لكم أَنهم عمِلُوا بأدلة غير الْأَخْبَار فَوَافَقت أَعْمَالهم مُوجبَات الْأَخْبَار.
قُلْنَا: هَذَا أَخذ مِنْكُم بيد، وَإِعْطَاء بيد أُخْرَى، فَكَمَا عرفنَا علمهمْ مَا نفيتموه فَكَذَلِك عرفنَا تسرعهم إِلَى الْعَمَل بالأخبار والجري على مُوجبهَا وَترك الآراء بهَا وَالْخُرُوج عَن حيّز اللّبْس إِلَى حيّز التجلي، كَانُوا يطْلبُونَ الْأَخْبَار يتوقفون فِي الْحَوَادِث على رِوَايَتهَا حَتَّى إِذا رويت لَهَا ركنوا إِلَيْهَا وَعمِلُوا بهَا فِيمَا عرفنَا مُوَافقَة أَعْمَالهم فِي الْحَوَادِث لأخبار الْآحَاد استفاضة، فَكَذَلِك عرفنَا بطرِيق الاستفاضة تسرعهم إِلَى الْعَمَل بمقضى الْأَخْبَار، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.
وَالَّذِي يعضد الدّلَالَة أَن نقُول كَانَ أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعرف فِي زَمَانه بالأخبار المستفيضة وَاعْلَم بمواقعها فَإِنَّهُم كَانُوا أهل الْعَصْر وَقد شهدُوا وَغَابَ غَيرهم، وَلَو كَانُوا مَا يعْملُونَ بِهِ من الْأَخْبَار مستفيضة لما تحقق فِي مجاري الْعَادة التصلب لَهَا والبحث عَنْهَا والمناشدة فِيهَا والتربص فِي تَنْفِيذ الْأَحْكَام حَتَّى يروي لَهُم الْوَاحِد خَبرا فيعملون بِهِ.
فان قَالُوا لَئِن ثَبت عَنْهُم ردهَا، فَأول من ردهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لما سلم من اثْنَتَيْنِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أقصرت الصَّلَاة أم نسبت فَلم يعول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله، وَسَأَلَ أَبَا بكر وَعمر، وَصَحَّ أَن أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ رد خبر الْمُغيرَة بن شُعْبَة فِيمَا رَوَاهُ من مِيرَاث الْجدّة ورد عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ خبر عُثْمَان فِيمَا رَوَاهُ من اسْتِئْذَان الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي رد الحكم بن أبي العَاصِي وَكَذَلِكَ رد على خبر ابْن أبي سِنَان الْأَشْجَعِيّ فِي قصَّة بروع بنت واشق ورد عمر حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس ورد أَيْضا أبي مُوسَى لما انْصَرف عَن بَابه ثمَّ رد عَلَيْهِ فَقَالَ معتذرا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الاسْتِئْذَان ثَلَاث فَإِن أذن لكم وَإِلَّا فانصرفوا قَالُوا فقد صَحَّ مِنْهُم رد الْأَحَادِيث.
فَنَقُول لَيْسَ فِي شَيْء مِمَّا ذكرتموه معتصم فَأَما قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ فدليل عَلَيْكُم فَإِنَّهُ قبل فِيهَا خبر أَبَا بكر عمر وَأَنْتُم إِذا أنكرتم ثمَّ خبر الْآحَاد تنكرون خبر الثَّلَاثَة كَمَا تنكرون خبر الْوَاحِد، أما حَدِيث الْأَشْجَعِيّ فَإِنَّمَا رده عَليّ رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ لم يكن عدلا موثوقا بِهِ على شَرَائِط الروَاة، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي تهجينه مَا كنت لأقبل قَول أَعْرَابِي بوال على عَقِبَيْهِ، وأقصى مَا روى عَنهُ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ إِذا اتهمَ بعض الروَاة حلفه على رِوَايَته وَلَيْسَ هَذَا رد مِنْهُ لأخبار الثِّقَات.
وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّهُ من قبيل مَا سبق فَإِن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ مَا رد خَبره بل طلب من شهد لَهُ، وَأما حَدِيث فَاطِمَة بنت قيس فقد اتهمها عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ ولعمرنا كَانَت هِيَ متهمة فَإِنَّهَا نقلت خَبرا يَقْتَضِي نفس السُّكْنَى وَلم تنقل سَببه وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح بذاءة لسانها واستطالتها على أحمائها فنقلت إخْرَاجهَا من مسكن النِّكَاح وَلم تتعرض لنقل الْمُقْتَضى لذَلِك فَتبين بطلَان مَا قَالُوهُ من كل وَجه، على أَن مَا استروحوا من طرق الرَّد لَا تبلغ أَنْت تكون استفاضة وَلكنهَا آحَاد، وَمَا استروحنا إِلَيْهِ ثَبت استفاضة.
وَمن اوضح مَا يسْتَدلّ بِهِ فِي الْمَسْأَلَة مَا ظهر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بعثة الرَّسُول والحكام والولاة والسعاة فِي الأقطار جماعات ووحدانا، كتأميره أَبَا بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي الْمَوْسِم وتوليته عمر رَضِي الله عَنهُ على الصَّدقَات وَبَعثه معَاذًا إِلَى الْيمن، إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى وَلَا يحصر.
وَكَذَلِكَ سعاته، وخارصوه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَأبي عُبَيْدَة وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعَمْرو بن حزم، وَقيس بن عَاصِم، وَمَالك بن نُوَيْرَة، وَغَيرهم، فَهَذَا من أوضح الْأَدِلَّة على أَنه كلف الْمَبْعُوث إِلَيْهِم الْعَمَل بالْخبر الْوَاحِد وتلقيه بِالْقبُولِ وَهَذَا مَا لَا منجا عَنهُ للخصم.
فان قَالُوا: إِن كَانَ يَبْعَثهُم فِي أُمُور سبق من الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إعلامهم إِيَّاهَا واتفاقهم عَلَيْهَا فَمَا كَانُوا ينقلون الْأَحْكَام من الْأَخْبَار.
قُلْنَا: الْآن قد أبديتم صفحة العناد فَإنَّا نعلم قطعا أَن رسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا يخبرون عَن أَحْكَام لَا تتتلقى إلامنهم، وأنى يسوغ مِنْهُم أَن يدعوا أَن سكان إقليم الْيمن جبالها وسهلها كَانُوا قد سبقوا إِلَى معرفَة كل مَا أخْبرهُم معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ، وَكَذَلِكَ وَجه التَّقْرِير عَلَيْهِم فِي الرُّسُل حَتَّى يصل الرُّسُل يخبرون عَمَّا حملُوا، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَى جَحده.
وَقد اسْتدلَّ أصحابنَا بفصلين، أَحدهمَا: قبُول الشَّهَادَات وَالْحكم بهَا مَعَ الاسترابة فِيمَا تشهد بِهِ الشُّهُود، وَقد قدمنَا فِي ذَلِك كلَاما مغنيا.
والفصل الثَّانِي: الْمصير إِلَى قَول الْمُفْتِي فِي المجتهدات فَإِن هَذَا مجمع عَلَيْهِ لم يُنكره السّلف وَالْخلف مَعَ علمنَا بَان الَّذِي يُفْتِي بصدد الزلل.
وَلست أخْتَار لَك التَّمَسُّك بِهَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ ابْتِدَاء، فَإنَّك تكون فِي ذَلِك طاردا وَلَا تستمر دلالتك على سير الْأُصُولِيِّينَ، وقصاراه أَن يَقُول لَك الْخصم: قد ثَبت الشَّهَادَة وَالْفَتْوَى بِدلَالَة قَاطِعَة لم يثبت الْخَبَر بِمِثْلِهَا، فتلجئك الضَّرُورَة إِلَى ذكر الْأَدِلَّة على وجوب الْعَمَل بأخبار الْآحَاد فاكتف بِمَا سبق، وَأعد هذَيْن الْفَصْلَيْنِ لنقض شبه الْمُخَالفين.
فَإِن تمسك من أنكر الْعَمَل باخبار الْآحَاد بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم}. الْآيَة. فقد قدمنَا وَجه الْكَلَام على هَذِه الْآيَة فِيمَا سبق وَإِن استروحوا إِلَى رد الصَّحَابَة أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي نقلهَا الْآحَاد فقد قدمنَا فِيهِ كلَاما شافيا، وَإِن انعطفوا على شُبْهَة من منع التَّمَسُّك بأخبار الْآحَاد عقلا، فقد أوضحنا وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتقصينا كل شُبْهَة لَهُم، على أَن كل مَا يتمسكون يبطل عَلَيْهِم بالشهادات وَالْفَتْوَى.
فَإِن اسْتدلَّ من شَرط الْعدَد فِي الرِّوَايَة بِبَعْض مَا قدمْنَاهُ من الْقَصَص فِي اشْتِرَاط الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم رِوَايَتَيْنِ فِي جمل من الْأَحْكَام، فَأول مَا نفاتح بِهِ هَؤُلَاءِ أَن نقُول لَئِن سَاغَ لكم التَّمَسُّك بِمَا أشرتم إِلَيْهِ فَمَا قَوْلكُم فِيمَا استفاض فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد كَمَا قبلوا خبر الصّديق فِي أَحْكَام، وقبلوا حَدِيث عَائِشَة فِي جمل من أَحْكَام الشَّرَائِع وَرجع عمر رَضِي الله عَنهُ إِلَى مَا روى عَليّ فِي قصَص لَا تحصى وَلَا تحصر، وَرَجَعُوا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ، وعول أهل الْعَصْر على رِوَايَة رَافع بن خديج فِي النَّهْي عَن المخابرة وَهَذَا مِمَّا يطول تتبعه وَكَذَلِكَ بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرادا من رسله كمعاذ وَعمر وَغَيرهمَا وَبعث عليا وَحده إِلَى مَكَّة ليبين لَهُم بَرَاءَة الله من الْمُشْركين، فِي غير ذَلِك.
وَأما الْقَصَص الَّتِي استروحوا إِلَيْهَا فَفِي كل وَاحِد مِنْهَا عذر بَين.
وَأما حَدِيث الْمُغيرَة فِي مِيرَاث الْجدّة فانما توقف الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن الْمُغيرَة لم ينْقل لَفْظَة عَامَّة عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلكنه نقل قَضَاء فجوز الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَن يكون ذَلِك خَاصّا غير عَام فتوقف حَتَّى نقل مُحَمَّد بن مسلمة لَفْظَة عَامَّة، وَأما حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فقد قيل أَن الحكم ادّعى إِذن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأقَام عُثْمَان مقَام الشُّهُود وَكَانَ مفصل حكم، فَاشْتَرَطُوا فِي ذَلِك عددا، على أَن من الصَّحَابَة من كَانَ يرد شَهَادَة الْقَرِيب للقريب، وَكَانَ الحكم قريب عُثْمَان، وَكَانَ رَضِي الله عَنهُ مَشْهُورا بِأَنَّهُ كلف بأقاربه وَأما حَدِيث أبي مُوسَى فِي الاسْتِئْذَان فَإِنَّمَا كَانَ لِأَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ هم بتأديبه، فَلَمَّا روى الْخَبَر كَانَ كالدافع عَن نَفسه، فَاشْترط رِوَايَة غَيره فَبَطل مَا قَالُوهُ، وَقَامَت الْحجَّة عَلَيْهِم بعادات أصحاب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبعثته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَفْرَاد الرُّسُل فِي الأقطار.
ثمَّ نقُول للجبائي: لقد ابتدعت قولا لم تسبق إِلَيْهِ، وَمَا نرَاك إلاتوصلت إِلَى دَرك الْأَخْبَار، وَذَلِكَ أَنَّك قلت إِذا نقل عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا بِدَم، اثْنَتَيْنِ ثمَّ إِذا نقل عَن الناقلين فَلَا بُد فِي كل نقل من ناقلين هَكَذَا إِلَى أَن تَنْتَهِي النّوبَة إِلَيْنَا، وَنحن نعلم أَن هَذَا الْعدَد لَو جمع وَقد توالت الْأَعْصَار وَبلغ النقلَة عشرَة فَصَاعِدا فيبلغون عدد التَّوَاتُر، وَيزِيدُونَ، وَلَو تتبعنا الْأَخْبَار لم نجد فِيهَا على شرطك إِلَّا الْقَلِيل، فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم برد أَخْبَار الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فأوضح بالمذاهب وانتمى إِلَى الروافض وَإِلَى أدمن الْأَخْبَار.

.القَوْل فِي صِفَات الروَاة:

اعْلَم، وفقك الله، أَن الْعلمَاء أَجمعُوا على أَن الْخَبَر لَا يقبل من كل أحد وَاتَّفَقُوا على إِن الَّذين يقبل خبرهم وَيجب الْعَمَل بِهِ يتميزون عَن الَّذين يرد خبرهم بأوصاف، اخْتلفُوا فِي بَعْضهَا، وَاتَّفَقُوا فِي بَعْضهَا، وَنحن نذْكر الْآن مِنْهَا مَا فِيهِ كِفَايَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى، فَأول مَا نبدأ بِهِ أَن نقُول: الشَّرْط ان يحْتَمل الْخَبَر مُمَيّز ضَابِط فَلَو قَرَأت مسامع الصَّبِي الَّذِي لَا يُمَيّز الْأَخْبَار لم يجز لَهُ رِوَايَتهَا إِذا بلغ مبلغ الرِّوَايَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَعَ الِاتِّفَاق أَن الرِّوَايَة فِي التَّحْقِيق إِنَّمَا هُوَ نقل مَا سَمعه، وَلنْ يتَحَقَّق نقل مَا سَمعه إِلَّا بعد أَن يُعلمهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمَجْنُون لَو سمع فِي جُنُونه ثمَّ أَفَاق لم يسع رِوَايَة لَهُ.
فَإِن قيل: أفتشترطون أَن يعلم مَعَاني الْأَخْبَار؟
قُلْنَا: لَا نشترط ذَلِك، كَيفَ وَلَا نشترطه فِي الرِّوَايَة فَإنَّا نصحح رِوَايَة الشي ءمع أَن الرَّاوِي لَا يعلم مَعْنَاهُ فَإِذا لم نشترطه فِي الرِّوَايَة فَكيف نشترطه فِي التَّحَمُّل، فَهَذَا مَا لَا نشترط فِي التَّحَمُّل.
فَأَما مَا عداهُ من الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الأدار أَو الرِّوَايَة فَلَا نشترط فِي التَّحَمُّل، فَلَو تحمل وَهُوَ فَاسق أَو كَافِر ثمَّ استجمع شَرَائِط الروَاة فروى مَا علم هُوَ لصَحَّ ذَلِك فَهَذَا فِي التَّحَمُّل عَنهُ.
فَأَما فِي الرِّوَايَة فَلَا بُد من أَوْصَاف. أَحدهمَا: كَمَال الْعقل، وَهُوَ مُتَّفق عَلَيْهِ وَهُوَ وَاضح بطرِيق الْحجَّاج.
وَمِنْه: الْإِسْلَام، فَإِن الْكَافِر لَا تقبل رِوَايَته لإِجْمَاع الْأمة، وَمِنْهَا: الْبلُوغ، فَإِن الصَّبِي لَا تقبل رِوَايَته للْأَخْبَار، وَقد ادّعى القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، وَهَذَا مَا الفيته فِي كتب الْأُصُول، وَكَانَ الإِمَام رَضِي الله عَنهُ يَحْكِي وَجها بَعيدا فِي صِحَة رِوَايَة الصَّبِي وَلَعَلَّه قد كَانَ أسْقطه، وَالله أعلم، ثمَّ أعتلوا من اشْتِرَاط الْبلُوغ فَقَالُوا: رددنا رِوَايَة الْفَاسِق لقلَّة مبالاته واكتراثه بالديانة وَالْأَمَانَة واجترائه على الْكَبَائِر وَهَذَا الْمَعْنى يتَحَقَّق فِي الصَّبِي إِذا علم بِأَنَّهُ لَا يُكَلف وَلَا يُؤَاخذ بِمَا يبدر مِنْهُ، فَهَذَا أولى بِأَن يجريه على الْكَذِب من الْفسق، فَإِن الْفَاسِق من اجترائه رُبمَا يتداخله فِي الْأَحَايِين الْمُؤَاخَذَة فِي الْعَاقِبَة، وَالصَّبِيّ لَيْسَ كَذَلِك، وَاعْتَلُّوا ايضا بِأَن إِقْرَاره على نَفسه لَا يقبل فَلِأَن لايقبل خَبره فِي حق غَيره أولى وَهَذَا فِيهِ دخل فان العَبْد رُبمَا لَا يقبل إِقْرَاره على نَفسه فِي حكم وَلَو نقل فِيهِ خَبرا عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل مِنْهُ.
وَالَّذِي عول القَاضِي عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْإِجْمَاع، فاعلمه.
وَمن الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فِي الرِّوَايَة: الْعَدَالَة، فَاعْلَم أَن الْفسق مهما ظهر اقْتضى ذَلِك رد الرِّوَايَة إِجْمَاعًا.
ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء بعد ذَلِك فَذهب أصحاب أبي حنيفَة رَحمَه الله إِلَى أَن من ثَبت إِسْلَامه ظَاهرا وَلم نعلم مِنْهُ فسقا فَهُوَ فِي حكم الرِّوَايَة عدل، قَالُوا كَذَلِك فِي الشَّهَادَة على الْأَمْوَال، وَأَجْمعُوا اشْتِرَاط ثُبُوت الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة على الْحُدُود وَمَا يتَعَلَّق بالأبضاع، وسنفرد الْكَلَام عَلَيْهِم بعد الْفَرَاغ من تَفْصِيل الْمذَاهب.
وَمَا اخْتَارَهُ الدهماء من الْعلمَاء الْقَائِلين بأخبار الْآحَاد أَنا لَا نكتفي بِمَا اكتفوه بِهِ وَلَكنَّا نشرط ثُبُوت أَوْصَاف الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة وَالْعلم بهَا أَو غَلَبَة الظَّن.
فَإِن قيل: فَمَا الْعَدَالَة الَّتِي ذكرتموها؟
قيل: قد أَكْثرُوا فِي ذَلِك وَلم يُحَقّق أحد فِي ذَلِك قولا جَامعا مَانِعا، وَأكْثر مَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ: لَيْسَ فِي النَّاس من يمحض الطَّاعَة فَلَا يمزجها بِمَعْصِيَة وَلَا فِي الْمُسلمين من يمحض الْمعْصِيَة فَلَا يمزجها بِطَاعَة، وَلَا سَبِيل إِلَى رد الْكل وَلَا إِلَى قبُول الْكل وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب على الرجل من أمره الطَّاعَة والمروءة قبلت شَهَادَته، وَإِذا كَانَ الْأَغْلَب من أمره الْمعْصِيَة وَخلاف الْمُرُوءَة ردَّتْ شَهَادَته وَرِوَايَته.
قَالَ أَبُو بكر الصَّيْرَفِي فِيمَن قارف كَبِيرَة ردَّتْ شَهَادَته وَمن قارف صَغِيرَة لم ترد شَهَادَته وَلَا رِوَايَته، وتتابع الصَّغَائِر كمقارفة الْكَبَائِر وَقَالَ هُوَ أَيْضا: لَو ثَبت كذب الرَّاوِي لردت شَهَادَته إِذا تَعَمّده، وَإِن كَانَ لَا يعد الْكَذِب فِيهِ من الْكَبَائِر، لِأَنَّهُ قَادِح فِي نفس الْمَقْصُود بالرواية.
وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عبارَة جَامِعَة فِي الْعَدَالَة فَقَالَ: الْعَدَالَة اتِّبَاع أَمر الله على الْجُمْلَة، وَمُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى تضَاد الْعَدَالَة، ثمَّ تثبت الْعَدَالَة فِي شَيْء بِاتِّبَاع أَمر الله فِيهِ، وَلَا يمْنَع من تحَققه ثُبُوت الْمُخَالفَة فِي غَيره.
فَإِن قيل: فَهَذَا ذكر على الْجُمْلَة فَمَا عَدَالَة الرَّاوِي.
قُلْنَا: لَا نشترط تحقق الْعَدَالَة فِيهِ من كل وَجه لما قدمْنَاهُ. وَلَكِن إِجْمَاع القَوْل فِيهِ أَن يُقَال: الْعدْل المشتهر بأَدَاء الْفَرَائِض وامتثال الْأَوَامِر وتوقي المزاجر وَاجْتنَاب مَا مرض الْقُلُوب وَيُورث التهم فِيمَا جلّ وَقل فَيخرج لنا من مَضْمُون ذَلِك عبارَة وحيدة وَهِي أَنا نشترط أَن لَا يقدم الرَّاوِي على مَا إِذا أقدم عَلَيْهِ أورث ذَلِك تُهْمَة ظَاهِرَة فِي رِوَايَته، وَلَا فرق بَين أَن يكون من الصَّغَائِر أَو من الْكَبَائِر.
وَأما الْكَبَائِر فَلَا شكّ أَن الْإِقْدَام عَلَيْهَا يُورث التهم، والصغائر على الانقسام، فَرب صَغِيرَة تورث ذَلِك، فَإنَّك إِذا رَأَيْت الرجل سرق بصلَة أَو باذنجانة أَو مَا أشبههما أَو يطفف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان فِي حَبَّة فَهَذَا لَا يقطع أَن يكون كَبِيرَة وَرُبمَا كُنَّا بمجاري الْعَادَات نعلم أَن من أقدم على مثل ذَلِك فَيُؤَدِّي بقلة نزاهته ورقة أَمَانَته، فاضبط ذَلِك ايأس من ضبط أَوْصَاف محصورة يُقَال أَنَّهَا الْعَدَالَة الْمَشْرُوطَة وَإِنَّمَا عظم الِاجْتِهَاد فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح لخُرُوج صفاتهما عَن الضَّبْط والحصر.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل تشترطون مَعَ مَا ذكرتموه التوقي عَن الْمُبَاحَات القادحات فِي المروءات نَحْو الْجُلُوس على قوارع الطّرق وَالْأكل فِي الاسواق ومصاحبة الْعَوام الأرذال والإكثار من المداعبة.
فَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: من عُلَمَائِنَا من صَار إِلَى أَن ذَلِك يقْدَح فِي الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة.
ثمَّ قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي فِي ذَلِك ان لَا يقطع القَوْل بذلك بل نفوض الْأَمر إِلَى اجْتِهَاد القَاضِي فَرب شخص فِي نِهَايَة التورع والتدين يبدر مثل ذَلِك مِنْهُ فَلَا يتهم وَيعلم أَن قَصده ترك الرِّيَاء وتجنب التَّكَلُّف وَرب شخص يُؤذن صُدُور ذَلِك مِنْهُ بقلة مبالاته، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى ضَبطه وَيخْتَلف باخْتلَاف الْأَوْقَات والاحوال والأشخاص فَلَا وَجه للْقطع فِيهِ وَلَكِن تَفْوِيض الْأَمر فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَاد.