فصل: القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْفِعْل قبل دُخُول وقته وَذكر الْخلاف فِيهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي حكم النّسخ بعد انْقِضَاء وَقت الْفِعْل وَوجه الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم: لَا يَسْتَحِيل على أصلنَا أَن يتَعَلَّق الْخطاب بالمكلف فِي حكم وَلَا يتَّفق لَهُ الْإِقْدَام على الِامْتِثَال فَينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ووجوبه، وَلَيْسَ الْمَعْنى بنسخه عَنهُ مَعَ مُضِيّ وَقت إِمْكَان أَدَائِهِ أَن ينْسَخ عَنهُ إِيقَاعه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، أَو يُؤمر بإيقاع تَركه فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَإِن ذَلِك من المستحيلات.
وَالَّذِي نَحن فِيهِ الْآن منع تَكْلِيف الْمحَال، فَأَما الْأَمر بترك الْفِعْل فِي الِاسْتِقْبَال، وَنسخ وُجُوبه فشائع.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نستبعد أَن يُؤمر بترك عين الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي ي الزَّمَان الأول لَو قدر وجوده وَإِن كَانَ التّرْك فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَقد أنْكرت الْمُعْتَزلَة ذَلِك أَشد الْإِنْكَار فَقَالُوا يَسْتَحِيل تَقْدِير وُقُوع ترك الْفِعْل فِي الزَّمَان الْمُسْتَقْبل فَإِن زمَان الْفِعْل إِذا انْقَضى فقد انْقَضى زمَان تَركه أَيْضا وَإِذ لم يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان الْفِعْل الَّذِي كَانَ يَقع فِي الزَّمَان الأول فَكَذَلِك لَا يتَصَوَّر وُقُوع تَركه فِي الِاسْتِقْبَال فَإِن التّرْك إِنَّمَا يتَصَوَّر بَدَلا من الْفِعْل.
وَاعْلَم أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لَا يَتَّضِح إِلَّا بعد الْإِيمَاء إِلَى مُقَدّمَة، فَمن اصل أهل الْحق أَن مَا وجد من أفعال الْعباد وَعدم، فيتصور إِعَادَته بِعَيْنِه، وَهُوَ من مَقْدُور الله تَعَالَى، وكما يتَصَوَّر إِعَادَة عين الْفِعْل فَكَذَلِك يتَصَوَّر إِعَادَة الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَلَا يبعد إِذا أَن يصدر من الْمُكَلف فعل مكتسب لَهُ، ويعدم فعله وَقدرته، ثمَّ يعيدهما الله تَعَالَى فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان.
وَأنْكرت الْمُعْتَزلَة فِي اصول الديانَات إِعَادَة أفعال الْعباد، فعلى هَذَا القَوْل على قَضِيَّة اصلنا إِذا يتَصَوَّر فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان عود الْأفعال فَلَا يبعد عود تَركهَا أَو تصور تَركهَا، فَخرج من ذَلِك أَنه يجوز أَن يُؤمر بِعَين الْفِعْل الْمَاضِي على إِعَادَته وَيجوز أَن يُؤمر بِعَين ترك الْفِعْل الْمَاضِي على تَقْدِير الْإِعَادَة.
وَقد ذهب بعض أصحابنَا إِلَى مُوَافقَة الْمُعْتَزلَة اغْتِرَارًا مِنْهُم بتمويهاتهم ومصيرا مِنْهُم إِن الْفِعْل بعد مَا مضى وقته لَا يتَحَقَّق هُوَ وَلَا تَركه فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان. وَلَا نظن بهؤلاء مُوَافقَة الْمُعْتَزلَة فِي فَاسد أصلهم، فالطريق أَن نقرر لَهُم أَن الْمُعْتَزلَة بنت أَصْلهَا على منع الاعادة فِي مُعظم الْأَعْرَاض، وَيقدر لَهُم منع الْإِعَادَة، وَلم يصف الرب تَعَالَى بالإقتدار عَلَيْهَا، فيلزمهم من ذَلِك نفي الْإِعَادَة فِي جملَة أَجنَاس الْحَوَادِث وذَلِك تسبب إِلَى منع ابْتِدَاء الْخلق فَإِن إِنْكَاره الْإِعَادَة يُفْضِي إِلَى إِنْكَار أصل الْأَحْدَاث فَإِذا قَررنَا للفقهاء من أصحابنَا هَذَا من أصحاب الْمُعْتَزلَة فيرغبون عَن موافقتهم لَا محَالة.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن أُعِيد الْفِعْل فِي الثَّانِي مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ فَبِمَ يعرف المكتسب أَن مَا أعَاد عين فعله، وَكَيف يتَحَقَّق التَّكْلِيف بِهِ على التَّعْيِين والتخصيص؟
قُلْنَا يتَصَوَّر ذَلِك من وَجْهَيْن: أَحدهمَا أَن يُعلمهُ الله ضَرُورَة أَنه عين فعله الْمُقْتَضى، وَقد عَاد.
وَالثَّانِي أَن يُخبرهُ من تجب عصمته بَان مَا يُوجد مِنْهُ إِذا أقدم على امْتِثَال فَهُوَ عين فعله.

.القَوْل فِي جَوَاز نسخ الْفِعْل قبل دُخُول وقته وَذكر الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم: هَذَا الْبَاب مِمَّا ظهر فِيهِ اخْتِلَاف الْأُصُولِيِّينَ فَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُعظم من الْمُحَقِّقين من أصحابنَا تَجْوِيز النّسخ قبل دُخُول وَقت الْفِعْل وجوزوا ايضا ثُبُوت النّسخ قبل انْقِضَاء وَقت الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ.
وَالْأولَى بِنَا تَصْوِير مَضْمُون الْبَاب أَولا، ثمَّ نرتب ذكر الْمذَاهب عَلَيْهِ فلمضمون الْبَاب ثَلَاث صور، وَاحِد مِنْهَا مُتَّفق عَلَيْهِ وَاثْنَانِ مُخْتَلف فيهمَا.
فَأَما الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَهُوَ أَنه إِذا انْقَضى على الْمُكَلف وَقت إِمْكَان الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ وأقدم فِيهِ على الِامْتِثَال أَو لم يقدم عَلَيْهِ فَيجوز أَن ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل فِي مُسْتَقْبل الزَّمَان وَالْحَالة هَذِه، وَيكون ذَلِك النّسخ على التَّحْقِيق وَاقعا قبل الْفِعْل، فَإِن الَّذِي مضى لَا يقدر نسخه على تَقْدِير ارْتِفَاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي، فَكل نسخ إِذا قبل الْفِعْل أَو لَا يتَحَقَّق النّسخ فِي عين الْفِعْل الْمَاضِي مَعَ تَقْدِيره لإيقاع التّرْك فِي الزَّمَان الْمَاضِي وَإِنَّمَا يتَصَوَّر النّسخ فِي الْفِعْل الْمَاضِي على تَقْدِير الْإِعَادَة كَمَا قدمْنَاهُ.
فَأَما الصورتان اللَّتَان فيهمَا الِاخْتِلَاف فأحدهما أَن نقُول إِذا قَالَ الرب جلت قدرته إِذا زَالَت الشَّمْس فصلوا، ثمَّ يَقُول قبل زَوَال الشَّمْس: قد نسخت عَنْكُم مَا أوجبت عَلَيْكُم، ويتصل النّسخ بالمخاطبين قبل الزَّوَال أَيْضا، فَهَذَا مِمَّا يجوز على مَذْهَب أهل الْحق ومنعته الْمُعْتَزلَة بأسرها وَكَذَلِكَ إِذا أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فعلا على الْعباد لَا يَسعهُ إِلَّا وَقت ممتد فانقضى وَقت الْفِعْل الَّذِي يسع الْعِبَادَة الْمَأْمُور بهَا، فنسخ الله وجوب تِلْكَ الْعِبَادَة عَن عبَادَة قبل مُضِيّ وَقت الْفِعْل بعد تَكْلِيفه، فَهَذَا مِمَّا يجوز أَيْضا وأطبقت الْمُعْتَزلَة على إِنْكَاره، فَهَذَا وَجه تَصْوِير الْخلاف.
ثمَّ اخْتلف أصحابنَا فِي وَجه تَصْوِير النّسخ، وَذَلِكَ السُّؤَال يُوَجه عَلَيْهِم، فَقيل لَهُم إِذا أَمر الله تَعَالَى بِشَيْء، ثمَّ نهى عَنهُ قبل تحقق وَقت يُمكن إِيقَاع الْفِعْل فِيهِ فقد صَار عين الْمَأْمُور مَنْهِيّا من غير تغاير بَينهمَا، ويستحيل ان يكون الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُورا بِهِ مَنْهِيّا عَنهُ من وَجه وَاحِد.
وَاخْتلف من لم يعظم حَظه بالأصول، فَقَالَ بَعضهم قد وَقع النَّهْي على خلاف الْوَجْه الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْأَمر، وَإِنَّمَا المستبعد تعلق الْأَمر وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد على الْوَجْه وأوضحوا ذَلِك بِأَن قَالُوا إِذا أَمر الله سُبْحَانَهُ العَبْد بِفعل فَإِنَّمَا يُوَجه عَلَيْهِ التَّكْلِيف بِشَرْط بَقَاء الْأَمر عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أوجبت عَلَيْك الْفِعْل بِشَرْط أَن يبْقى الْأَمر مُتَّصِلا بك وَبقيت مَأْمُورا، فَإِذا نَهَاهُ فقد زَالَ عَنهُ تعلق الْأَمر، وَتعلق النَّهْي بِهِ على وَجه يُوَافق شَرط تعلق الْأَمر، فَلَا يضاده، وَلَا تنَاقض فِي تَصْوِير تعلق الْأَمر وَالنَّهْي جَمِيعًا على هَذَا الْوَجْه وَرجع محصول هَذَا القَوْل أَنه فِي كَونه مَأْمُورا شَرط عَلَيْهِ دوَام اتِّصَال الْأَمر بِهِ.
وَقد أَشَارَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى طريقتين: إِحْدَاهمَا إِن قَالَ: لَا حَاجَة بِنَا إِلَى تَصْوِير هَذَا الشَّرْط وَلَكنَّا نفصح بِالْمَقْصُودِ فَنَقُول: تعلق الْأَمر على اقْتِضَاء الْإِيجَاب بالشَّيْء الْوَاحِد، ثمَّ ارْتَفع الْوُجُوب فِي عينه فَتعلق النَّهْي بِهِ من غير حَاجَة إِلَى فرض شَرط وَتَقْدِير مَشْرُوط، وَمن صَار إِلَى غير ذَلِك فقد ذهل عَن الْمَذْهَب وَجبن عَن حَقِيقَته، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن مَا ذكره الْقَائِل الأول غير مُسْتَقِيم فَإِنَّهُ قَالَ تعلق الْأَمر بِهِ مَشْرُوط بِبَقَاء اتِّصَال الْأَمر بِهِ، وَهَذَا لَا يتَحَقَّق لَهُ وَذَلِكَ إِنَّه لَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا إِلَّا باتصال الْأَمر بِهِ فَلَا معنى لقَوْل الْقَائِل إِنَّه إِنَّمَا يكون مَأْمُورا مَا دَامَ الْأَمر مُتَّصِلا بِهِ، وَلَا فَائِدَة فِي جعل ذَلِك شرطا، فَإِن كَونه مَأْمُورا عين اتِّصَال الْأَمر بِهِ، فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الْقَائِل هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مَأْمُورا وَبَين ان يَقُول هُوَ فِي كَونه مَأْمُورا مَشْرُوطًا باتصال الْأَمر بِهِ.
فَهَذَا إِذا من قبيل شَرط الشَّيْء فِي نَفسه وَهُوَ محَال غير مَعْقُول.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه إِنَّمَا يجوز أَن يقدر الشَّيْء شرطا فِي الشرعيات إِذا تقدر وُقُوع الْمَشْرُوط دون الشَّرْط، وَذَلِكَ نَحْو الطَّهَارَة، فَلَمَّا شرطت فِي الصَّلَاة تصور تَقْدِير وُقُوع الصَّلَاة فِي صورتهَا من غير طَهَارَة وَلَا يتَصَوَّر كَونه مَأْمُورا من غير اتِّصَال الْأَمر بِهِ فَلَا وَجه لتقدير الِاتِّصَال شرطا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك إِنَّه لما لم يتَصَوَّر وُقُوع الِاكْتِسَاب من العَبْد إِلَّا ان يكون قَادِرًا لم يسع لَا جرم وَأَن يُقَال للْعَبد اكْتسب الْفِعْل بِشَرْط أَن تكون قَادِرًا أَو بِشَرْط أَن تكون مَوْجُودا أَو بِشَرْط أَن يُوجد فعلك فِي مَحل قدرتك، فَكل ذَلِك من لَغْو الْكَلَام، فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وُقُوع الْكسْب إِلَّا على هَذَا الْوَجْه.
ثمَّ قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَإِن لم يكن من تَقْدِير شَرط بُد دَفعهَا للسؤال فَالْأولى أَن نقُول: كَانَ الرب تَعَالَى قَالَ: افْعَل الْفِعْل الْفُلَانِيّ تقربا مِنْك إِلَيّ مَا دَامَ الْأَمر مُتَّصِلا بك، فَإِذا نهيتك عَنهُ فَلَا تَفْعَلهُ تقربا إِلَيّ وَلَا تقربا إِلَى غَيْرِي، ليتبين للْعَبد أَنه عِنْد النَّهْي مَنْهِيّ عَن قصد التَّقَرُّب بِمَا أَمر بِهِ أَولا إِلَى الله، وَهُوَ مَنْهِيّ عَن اصل فعله أَيْضا من غير قصد التَّقَرُّب فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب.
وَالدَّلِيل على مَا صرنا إِلَيْهِ مَا قدمْنَاهُ فِي أصل النّسخ من نفي طرق الاستحالة وتبيين ثُبُوت الجوازعند انْتِفَاء الأسئلة على مَا سبق طرد الدّلَالَة.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن فِي تَقْدِير النّسخ على الْوَجْه الَّذِي قلتموه أعظم الاستحالة وَذَلِكَ انه إِذا أَمر بامر ثمَّ نهى عَنهُ قبل تصور التَّمَكُّن من فعله وَقبل تصورعين فعله، وَهُوَ مفضي إِلَى عين البداء، فَكَأَنَّهُ أوجب شَيْئا فَبَدَا لَهُ فَرفع وُجُوبه تَعَالَى الله عَن كل نقص وَهَذَا مِمَّا يعظمون الظنة فِيهِ، وينسبونه لأَجله إِلَى تَجْوِيز البداء على الله. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه اقْتِصَار مِنْكُم على مُجَرّد الدَّعْوَى، وَقد أوضحنا اندفاع القَوْل بالبداء وَهَا نَحن نريده إيضاحا، فَنَقُول: البداء إِمَّا أَن يرجع إِلَى اسْتِدْرَاك علم، أَو إِلَى تبدل إِرَادَة، فَأَما تجدّد الْعلم فاستدراكه فَإِنَّمَا يلْزم إِن لَو كَانَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير عَالم بِمَا سينسخ مَا أوجبه فَأَما إِذا أوجب وَصفه بِكَوْنِهِ عَالما بِمَا سَيكون فَلَا يلْزم من قبيل الْعلم البداء وَلَا يلْزم أَيْضا من قبيل الْإِرَادَة، لما أوضحنا أَولا من عدم تعلق الشَّرَائِع بالإرادة، وَلما قَرَّرْنَاهُ فِي الديانَات من جَوَاز الْأَمر بِمَا لَيْسَ بِمُرَاد لله وَجَوَاز تعلق النَّهْي بِمَا هُوَ مُرَاد لله، فقد بَطل ادِّعَاء البداء من كل وَجه.
فَإِن قَالُوا: إِذا أوجب الله سُبْحَانَهُ شَيْئا مَعَ علمه بِأَنَّهُ سينهي عَن عين مَا أوجبه قبل إِمْكَان فعله، فَهَذَا مِمَّا لَا يتَصَوَّر فِي الْمَعْقُول، وَكَأَنَّهُ أوجب عين مَا علم إِنَّه لَا يجب.
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه يبطل من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنا نقُول: إِذا أوجب الله شَيْئا فقد ثَبت وُجُوبه فَإِذا رفع وُجُوبه بالنسخ فقد ارْتَفع وُجُوبه، وَثَبت أَنه أوجب وَاجِبا ثمَّ رفع وُجُوبه، وَهَذَا مَا لَا اسْتِحَالَة فِيهِ بِوَجْه، ثمَّ نقُول النّسخ حَيْثُ سننق وَعَلِيهِ هَكَذَا يَقع أَن يُحَقّق فَإِنَّهُ رفع للْحكم بعد ثُبُوته فيتقرر فِيمَا ذكرتموه.
فَإِن قَالُوا لَا يتَحَقَّق بالنسخ رفع ثَابت وَلَكِن يتَبَيَّن بِهِ انْقِطَاع مُدَّة الْوُجُوب فقد قدمنَا عَلَيْهِم فِي ذَلِك أوضح الرَّد وَبينا أَن هَذَا إِنْكَار مِنْهُم لأصل النّسخ وَفصل النّسخ عَن الْمَنْسُوخ وَقطع لأَحَدهمَا عَن الثَّانِي.
فان قَالُوا: لَو كَانَ فِي إِيجَابه مصلحَة فَلَا يجوز رفع الْمصلحَة قبل تقررها قيل: هَذَا لِأَنَّهُ خوض مِنْكُم فِي فَاسد أصلكم وَنحن لَا نراعي فِي مَوَانِع الشَّرِيعَة الْمصَالح، على أَنا نقُول رُبمَا تكون الْمصلحَة فِي أَن يُوجب الله تَعَالَى الشَّيْء على الْمُكَلف ليعتقد وُجُوبه والعزم على امتثاله، ثمَّ يعلم أَن مصْلحَته بَان ينْسَخ عَنهُ الْفِعْل ويثاب على الْعَزْم فَإِنَّهُ لَو دَامَ عَلَيْهِ التَّكْلِيف لعصى وأثم واستوجب النَّار، فَبَطل كل مَا ادعوهُ من وُجُوه الإحالة.
وَمِمَّا يُقَوي التَّمَسُّك بِهِ قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ وَابْنه الذَّبِيح لما امْرَهْ بذَبْحه ثمَّ نسخ عَنهُ قبل اتِّفَاق الذّبْح، فَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا أسلما وتله للجبين، ونديناه أَن بإبراهيم، قد صدقت الرُّؤْيَا}
فَهَذَا هُوَ النّسخ بِعَيْنِه قبل إِمْكَان الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ.
وَلَهُم على الْآيَة أسئلة مِنْهَا أَن قَالُوا: مَا أمره الله تَعَالَى: الذّبْح بِعَيْنِه وَمَا أَرَادَ مِنْهُ ذَلِك وَإِنَّمَا أَرَادَ اختباره وابتلاء سره وامتحان صدقه .
وَهَذَا بهت عَظِيم وَقرب من هدم الْأُصُول فِي العقائد فَإنَّا نقُول:
ابتلاء السِّرّ وامتحانه لَا يتحق من الْعَالم بالسر وأخفى.
ثمَّ هَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ مُخَالفَة مِنْهُم لموجب الْآيَة ايضا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي المر بِالذبْحِ وَقَول الذَّبِيح يَقْتَضِي الاستسلام لما قَالَ: {ستجدني إِن شَاءَ الله من الصابرين}
ون المستحيل أَن يعْتَقد الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ فِي الْأَمر غير مَا أُرِيد بِهِ، ثمَّ فداؤه بِالذبْحِ الْعَظِيم من أدل الدَّلِيل على أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ.
فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بالعزم على الذّبْح، واعتقاد وُجُوبه، وَلم يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح، قُلْنَا: من المستحيل أَن يُؤمر الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ بِالْجَهْلِ، واعتقاد الشَّيْء على غير مَا هُوَ بِهِ جهل، وَإِن كَانَ مَأْمُورا باعتقاد الشَّيْء على مَا هُوَ بِهِ، فَهُوَ علم مِنْهُ إِذا بِوُجُوب الذّبْح، ويستحيل الْعلم بِوُجُوبِهِ مَعَ أَنه فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى غير وَاجِب، ثمَّ كل مَا ذَكرْنَاهُ من الْقَرَائِن تبطل مَا قَالُوهُ من التَّأْوِيل.
فَإِن قَالُوا: لم يكن قد اتَّصل بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر على الْحَقِيقَة وَإِنَّمَا كَانَ رُؤْيا ومناما مُجَردا.
قُلْنَا: فَهَذَا الْآن إزراء على الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم وتنقيص لرتبهم فَإِن أهل التَّأْوِيل أَجمعُوا على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يعْتَقد كَونه مَأْمُورا بِالذبْحِ، وَمن المستحيل فِي حَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يعْتَقد كَونه مَأْمُورا فِي هَذِه الْحَالة الْعَظِيمَة وتل ابْنه للجبين على هَذَا الِاعْتِقَاد ويعتقد الابْن حَقِيقَة الْأَمر حَتَّى يَقُول: {يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر ستجدني}.
وَمَعَ ذَلِك كُله كَانَا جَمِيعًا مخطئين فِي اعْتِقَاد كَونهمَا مأمورين وَقد استدركتهم من مُوجب الْقِصَّة مَا لم يفهمهُ الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَهَذَا هُوَ البهت الْعَظِيم، لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ الرب يبين فِي الْقُرْآن أَنه لم يكن مَأْمُورا فَلَمَّا أنزل على نبيه مَا دلّ نصا على كَون الذّبْح مَأْمُورا بِهِ ثمَّ لم يقرنه بِمَا بَين أَن الْأَمر بِخِلَاف مَا اعتقده الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام دلّ ذَلِك على بطلَان مَا قلتموه، ثمَّ الْفِدَاء بِالذبْحِ مَعَ قَوْله: {إِن هَذَا لَهو البلؤا الْمُبين}، يُوضح مَا قلتموه.
فَإِن قَالُوا: كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ وَلَكِن كَانَ مَمْنُوعًا عَنهُ وَكَانَ قد خلق الله بَين شفرة السكين وأوداج إِسْمَاعِيل صفحة من حَدِيد أَو نُحَاس.
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل سِيمَا على أصلكم فَإِن من أعظم المحالات عنْدكُمْ تَكْلِيف مَا لَا يطيقه الْمُكَلف، وَمَا ذكرتموه تَصْرِيح بذلك، فَإِنَّكُم زعمتم أَنه كَانَ مَأْمُورا بِالذبْحِ مَمْنُوعًا عَنهُ، وَلَو جَازَ ذَلِك لجَاز أَمر الْمُقَيد المكبل بِالْمَشْيِ والترداد مَعَ الْمَانِع الَّذِي بِهِ.
فَإِن قَالُوا كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بإضجاعه وَشد يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ رِبَاطًا وتله للجبين وَلم يكن مَأْمُورا بِنَفس الذّبْح بل كَانَ مَأْمُورا بمقدماته.
قُلْنَا: هَذَا خلاف قَوْله: {إِلَى أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك}
فَإِن مَا ذكرتموه م مُقَدمَات الذّبْح لَا يُسمى ذبحا، على أَن الْخَلِيل صلوَات الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ مُعْتَقدًا وجوب الذّبْح وَكَذَا ابْنه، وَإِلَّا فَلَو علمنَا أَن الْمَأْمُور بِهِ مَا ذكرتموه كَانَ لأمر سهل المرام، وَكَانَ الصُّورَة الَّتِي ذكرتموها من قبيل الْعَبَث واللعب وَمَا عظم الِابْتِلَاء فِيهِ، كَمَا قَالَ: {إِن هَذَا لَهو البلؤا الْمُبين}
ثمَّ افتداؤه بِالذبْحِ يبطل مَا قلتموه بطلانا صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَو كَانَ أقدم على مَا أَمر بِهِ لم يكن فِي افتدائه معنى، وَقد يعم الْمَأْمُور بِهِ، فَتبين أَن مَا قَالُوهُ تعسف واجتراء على إبْطَال ظَاهر الْآيَة.
فَإِن قَالُوا فِي الْآيَة مَا يدل على ذَلِك فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {صدقت الرُّؤْيَا}، فَدلَّ أَنه امتثل مَا أَمر بِهِ.
قُلْنَا: التَّصْدِيق من أفعال الْقُلُوب وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ الأفعال الظَّاهِرَة فَمَعْنَى قَوْله: {قد صدقت الرُّؤْيَا}، أَي: قد آمَنت بِوُجُوبِهَا فِيمَا يعظم خطره فَهَذِهِ حَقِيقَة التَّصْدِيق لَا مَا يخيل إِلَيْكُم.
فَإِن قَالُوا: كَانَ الْخَلِيل يمر السكين وَهِي تفرى وتقطع وَلَا تقطع جُزْء إِلَّا ويلتحم مَا يَلِيهِ فَمَا فرغ تَمام الذّبْح حَتَّى تمّ الالتحام.
قيل لَهُم: هَذَا جهل مِنْكُم عَظِيم فَإِنَّهُ لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لَكَانَ ذَلِك من أعظم الْآيَات وأوضح الْبَينَات، وَكَانَ أول مَا ينْقل فِي حجج إِبْرَاهِيم وآياته كَمَا نقلهم سَائِر آيَاته فَلَمَّا لم ينْقل بَطل مَا قلتموه على أَن الْآيَة نَص فِي إِنَّه لما تله للجبين وهم بذَبْحه نسخ عَنهُ الْأَمر فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {وتله للجبين}.
ثمَّ قَالَ: {وندين}، ثمَّ نقُول لَو كَانَ الْأَمر على مَا ذكرتموه لما استقام الافتداء بِالذبْحِ مَعَ تَحْقِيق الذّبْح، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، وَصحت الْآيَة عَلَيْهِم نصا.

.القَوْل فِي حكم الزِّيَادَة على النَّص، وَذكر الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم - وفقك الله - أَن ارباب الْأُصُول نقلوا عَن أهل الْعرَاق مُطلقًا أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ، وَلم يفضلوا القَوْل فِي ذَلِك حق التَّفْصِيل، وَهَا نَحن نذْكر تَفْصِيل الْمذَاهب، ونوضح الصَّحِيح من الْمذَاهب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
اعْلَم أَن الزِّيَادَة إِذا لم يكن لَهَا تعلق بِالنَّصِّ السَّابِق بِوَجْه فَلَا يكون نسخا إِجْمَاعًا وَذَلِكَ نَحْو أَن يثبت فِي الشَّرِيعَة إِيجَاب الصَّلَاة ثمَّ يثبت بعد ذَلِك وجوب الصَّوْم فلاخلاف أَن ثَبت الصَّوْم لَا يتَضَمَّن نسخا لحكم الصَّلَاة، فَإِن هَذِه زِيَادَة فِي الشَّرِيعَة وَلَا تعلق لَهَا بِالصَّلَاةِ، وَلَا يعد زِيَادَة فِي الصَّلَاة وَحكمهَا، فَبَطل بذلك إِطْلَاق الْحِكَايَة فِي أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ، فَأَما إِذا كَانَت الزِّيَادَة مُتَعَلقَة فيتضمن تثبيت زِيَادَة فِي الحكم الْمَنْصُوص على وَجه التَّعَلُّق بِهِ والاختصاص فقد أطلق أصحاب أبي حنيفَة القَوْل فِي امثال هَذِه الصُّورَتَيْنِ أَن الزِّيَادَة على النَّص نسخ حَتَّى قَالُوا: إِثْبَات التَّغْرِيب سنة فِي حد الزِّنَا زِيَادَة فِي حكم الْحَد الثَّابِت فِي قَوْله: {فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة}.
ثمَّ أطلق أصحابنَا القَوْل بِأَن الزِّيَادَة على النَّص لَا تكون نسخا اصلا من غير تَفْصِيل.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَالصَّحِيح فِي ذَلِك أَن نقُول إِن تَضَمَّنت الزِّيَادَة رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ فَهُوَ نسخ لما تَضَمَّنت رَفعه، وَإِن لم تَتَضَمَّن رفع حكم فِي الْمَزِيد عَلَيْهِ لَا يعد نسخا وتبيين ذَلِك بالمثال أَنه لما ثَبت أَن الصَّلَاة فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام كَانَت رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ الظّهْر تُقَام رَكْعَتَيْنِ ثمَّ زيد عَلَيْهِمَا أخريان فَصَارَت أَرْبعا فَهَذَا يتَضَمَّن نسخا وَذَلِكَ أَنه تضمن رفعا للْحكم وَذَلِكَ أَن مَا ثَبت فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام اقْتضى صِحَة الرَّكْعَتَيْنِ المفردتين وكونهما عبَادَة تَامَّة ثمَّ اقْتَضَت الزِّيَادَة رفع ذَلِك الحكم وَهُوَ جَوَاز الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك ر رفعا لهَذَا، وَقد أنكر مُعظم الْفُقَهَاء من أصحاب الشَّافِعِي وَغَيرهم كَون ذَلِك نسخا.
وَالدَّلِيل على النّسخ أَن حَقِيقَة النّسخ رفع الحكم الثَّابِت على الْحَد الَّذِي شرطناه فِي حَقِيقَة النّسخ، وَهَذَا معنى مُتَحَقق فِي الصُّورَة الَّتِي استشهدنا بهَا فَإِنَّهُ ثَبت بِمَا سبق جَوَاز الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِك رفعا لهَذَا الحكم وصحتها عِنْد الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا، ثمَّ ثَبت أَنه لَو اقْتصر الْمُكَلف عَلَيْهِمَا كَانَ بَاطِلا وَلم تكن عبَادَة، فقد تضمن ذَلِك صَرِيحًا رفع حكم ثَابت، وَلَو لم يكن ذَلِك نسخا لما تصور النّسخ أصلا.
وَاعْلَم أَن الْمَقْصُود من هَذِه المسالة لَا يتهذب إِلَّا بالْكلَام فِي أَمْثِلَة مِنْهَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي الصَّلَاة وأوضحنا فِيهِ وَجه الصَّوَاب.
فَإِن قَالَ قَائِل لَو كَانَت الزِّيَادَة على الرَّكْعَتَيْنِ نسخا لَكَانَ لَا يَأْتِي الْمُكَلف بهما وَمَعْلُوم أَنه يَأْتِي بالركعتين وَيضم إِلَيْهِمَا آخريين فَبَطل ادِّعَاء النّسخ.
قُلْنَا: نَحن لم نَدع النّسخ فِي صُورَة الرَّكْعَتَيْنِ، وَلَكنَّا قُلْنَا: إِنَّمَا نسخ جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا وَالْحكم بصحتهما لَو انْفَرد فَإِنَّهُ لَا يجوز إِلَّا أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا وإفرادهما من غير عذر، وَهَذَا بَين لَا كَلَام عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فَيجب على طرد مَا قلتموه أَن تكون الزِّيَادَة فِي الطَّهَارَة بِإِثْبَات التَّرْتِيب وَالنِّيَّة نسخا لمضمون قَوْله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم وَأَيْدِيكُمْ} الْآيَة، فَإِن ذَلِك زِيَادَة على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا غير مُسْتَقِيم من أوجه: مِنْهَا أَن من الْعلمَاء من استنبط النِّيَّة وَالتَّرْتِيب من نفس الْآيَة وَيطول ذكره.
ثمَّ نقو لَيْسَ فِي الْآيَة مَا يدل على صِحَة الطَّهَارَة دون النِّيَّة وَالتَّرْتِيب بل فيهمَا الْأَمر بِالْغسْلِ فِي المغسول وَالْمسح فِي الْمَمْسُوح وَلم يثبت أَن الِاقْتِصَار عَلَيْهِمَا مِمَّا يَقع الِاكْتِفَاء بِهِ وَلَكِن تَضَمَّنت الْآيَة إِثْبَات مَا أنبأت عَنهُ، وأنبأت سَائِر الْأَدِلَّة عَن إِثْبَات غَيرهَا، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن ستر الْعَوْرَة وَمَا عداهُ من شَرَائِط الصَّلَاة لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ فِي الْآيَة وَإِن لم يكن مِنْهَا بُد فِي صِحَة الصَّلَاة، على أَنا نقُول إِنَّمَا يسْتَمر مَا ادعيتم لَو ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على الْغسْل وَالْمسح، وتمهد الحكم فِيهِ، وَلَا يُغير نِيَّة وَلَا تَرْتِيب ثمَّ، وَثَبت وجوب التَّرْتِيب وَالنِّيَّة بعد ذَلِك، فَكَانَ يقدر نسخا، فَإِنَّهُ ثبتَتْ صِحَة الطَّهَارَة دون النِّيَّة، ثمَّ ارْتَفَعت صِحَّتهَا دونهَا فَأَما والخصم يَقُول مَا ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على مَا ذكرتموه اصلا، وَمَا ثبتَتْ الطَّهَارَة فِي ابْتِدَاء ثوبتها إِلَّا وَالنِّيَّة مَشْرُوطَة فِيهَا، فَكيف يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك تَجْوِيز النّسخ.
فَإِن قَالُوا فِيمَا تمثلتم بِهِ أَولا من الصَّلَاة وَالزِّيَادَة فِي ركعتيها تحل هَذَا الْمحل. قُلْنَا: قد ثَبت أَنَّهَا رَكْعَتَانِ أَولا حَتَّى لَو أنكر مُنكر ذَلِك وَقَالَ لم تكن رَكْعَتَيْنِ أَولا فَلَا يَسْتَقِيم مَعَ هَذَا الْإِنْكَار ادِّعَاء النّسخ. فَلَو ناقشنا مناقش وَزعم أَنه لم يثبت الِاقْتِصَار على رَكْعَتَيْنِ قطّ كَمَا نازعناكم، وَقُلْنَا: لم يثبت الِاقْتِصَار على الْغسْل وَالْمسح، لما تصور ادِّعَاء النّسخ، ثمَّ نقُول هَذَا الَّذِي ذكرتموه وألحقتموه بِالزِّيَادَةِ على النَّص هُوَ نُقْصَان من النَّص لَو تأملتموه. وَوجه التَّحْقِيق فِيهِ أَن ظَاهر الْآيَة يدل على صِحَة الطَّهَارَة مَعَ النِّيَّة وَالْقَصْد، وَمن غير نِيَّة وَقصد، فَمن قَالَ: لَا تصح إِلَّا عِنْد الْقَصْد فقد خصص صِحَّتهَا بِحَالَة، فَهَذَا إِذا نُقْصَان لَا شكّ فِيهِ، فَيجب أَن يكون تَخْصِيصًا على مُقْتَضى أصُول الْخصم.
فَإِن قَالُوا فَمَا قَوْلكُم فِيمَا ظَاهره النُّقْصَان هَل تجعلونه نسخا؟
قُلْنَا: إِن ثَبت قطعا عُمُوم الحكم أَولا ثمَّ ثَبت الِاخْتِصَاص مُتَأَخِّرًا عَنهُ فَهُوَ نسخ لَا شكّ فِيهِ فَإِنَّهُ تضمن رفع الحكم فِي مَا ثَبت الْعُمُوم فِيهِ وَإِن لم يثبت الْعُمُوم قطعا وَكَانَ الْخطاب على الِاحْتِمَال وَتبين أَن المُرَاد بهَا خُصُوص فَلَا يكون نسخا حِينَئِذٍ، فالغير إِذا يرفع الحكم بعد ثُبُوته على قطع سَوَاء تحقق ذَلِك فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان.
فَإِن قَالُوا يجب ان يكون الشَّاهِد وَالْيَمِين إِذا قدر ثُبُوته نسخا لقَوْله تَعَالَى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} وَذَلِكَ أَن هَذِه الْآيَة تَضَمَّنت منع الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين. وَالشَّاهِد والمرأتين.
قُلْنَا: لَا نسخ فِي ذَلِك، فَإِن الْآيَة تَتَضَمَّن إِثْبَات الحكم بِالشَّاهِدِ والمرأتين وَلَا تَتَضَمَّن نفي الشَّاهِد وَالْيَمِين، وَلَيْسَ فِي إِثْبَات الشَّاهِد وَالْيَمِين إِخْرَاج الشَّاهِدين عَن حكم الشَّهَادَة وَمَا ادعوهُ من أَن الْآيَة تَضَمَّنت منع الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين فَلَيْسَ كَمَا قَالُوا بل تَضَمَّنت ثُبُوت الحكم عِنْد عدم الشَّاهِدين وَمن يخالفنا فِي المسالة يوافقنا فِي منع القَوْل بِدَلِيل الْخطاب، وَلَا يَسْتَقِيم ادِّعَاء مَا عدا الشَّاهِدين إِلَّا من قبيل الْمَفْهُوم وَدَلِيل الْخطاب، وَهَذَا وَاضح بطلَان مَا ذَكرُوهُ، ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم مَا قلتموه لَو ثَبت أَولا حكم الشَّاهِدين وَمنع مَا عداهما، ثمَّ تَأَخّر عَنْهَا ثُبُوت الشَّاهِد وَالْيَمِين، فَأَما والخصم يَقُول: لَا نسلم تَأْخِير الشَّاهِد وَالْيَمِين بل لَعَلَّه ثَبت مَعَ ثُبُوت الشَّاهِدين فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك النّسخ.
وَمِمَّا يَدعِي النّسخ فِيهِ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَة الظِّهَار: {فَتَحْرِير رَقَبَة}، قَالُوا: فاقتضت الْآيَة إِجْزَاء الرَّقَبَة الْمُطلقَة فَمن صَار إِلَى اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد زَاد على مُطلق الرَّقَبَة، وَالزِّيَادَة على النَّص نسخ فَيُقَال لَهُم هَذَا الَّذِي ذكرتموه من قبيل النُّقْصَان فَإِن الْآيَة على زعمكم اقْتَضَت اجزاء كل رَقَبَة عُمُوما، مُؤمنَة كَانَت أَو كَافِرَة، فَإِذا قيل: لَا تجزي إِلَّا المؤمنة، فَهَذَا تنقيص لمقْتَضى الْخطاب.
فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ إِن ذَلِك نسخ؟
قُلْنَا: لَو ثَبت قطعا أَولا أَن كل رَقَبَة تُجزئ، ثمَّ ثَبت بعد ذَلِك انه لَا تُجزئ إِلَّا رَقَبَة مُؤمنَة، كَانَ ذَلِك نسخا الا شكّ فِيهِ، فَأَما إِذا كَانَت الْآيَة مُحْتَملَة مترددة، وَلم يثبت عُمُوم قطعان فَلَا يكون ذَلِك من قبيل النّسخ، ثمَّ نقُول إِنَّمَا يَسْتَقِيم ادِّعَاء النّسخ لَو سلم لكم خصمكم أَن ثُبُوت الْإِيمَان مُتَأَخّر عَن وجوب الْآيَة، فَأَما وَهُوَ يَقُول مَا ثبتَتْ الرَّقَبَة أصلا إِلَّا وَالْإِيمَان مَشْرُوط فِيهَا، فَلَا يتَحَقَّق مَعَ ذَلِك نسخ. وَمن هَذَا الْقَبِيل ادعاؤهم كَون التَّغْرِيب نسخا فِي حد الزِّنَا فَإِن التَّغْرِيب لَا يتَضَمَّن نفي الْجلد.
فَإِن قيل: فقد ثَبت جَوَاز الِاقْتِصَار على مائَة جلدَة، وتقرر أَنه الْحَد الْكَامِل فَإِذا زيد التَّغْرِيب كَانَ ذَلِك رفعا للْحكم السَّابِق الثَّابِت.
قُلْنَا: لَيْسَ فِي الْآيَة إِلَّا إِثْبَات الْجلد فَأَما الْمصير إِلَى جَوَاز الِاقْتِصَار عَلَيْهِ فَهُوَ دَعْوَى لَا يسوغ إِثْبَاتهَا إِلَّا بَان تدعوا أتخنصيص الْجلد بِالذكر يدل على نفي مَا عداهُ، وَهَذَا من قبيل مَفْهُوم الْخطاب وَقد اتفقنا على ترك القَوْل بِهِ.
فَإِن قَالُوا: افرأيتم لَو ثَبت نفي وجوب مَا عدا الْجلد ثمَّ ثَبت التَّغْرِيب.
قُلْنَا: لَو كَانَ كَمَا قلتموه لَكَانَ ثُبُوت التَّغْرِيب نسخا لنفي وجوب مَا زَاد على الْجلد، لَو تقرر انْتِفَاء مَا سواهُ على مَا ادعيتموه.
فَخرج لَك من كلامنا فِي هَذِه الْأَمْثِلَة أَنه مهما تصور فِي زِيَادَة أَو نُقْصَان يُوصل إِلَى رفع حكم ثَابت تحقق ثُبُوته فَهُوَ مَنْسُوخ، وَإِن لم يتَحَقَّق رفع حكم فَلَيْسَ بنسخ وَلَا وَجه فِي ادِّعَاء النّسخ مَعَ احْتِمَال غَيره.
وَقد أدرجنا فِي خلل الْكَلَام شبه الْقَوْم والتفصي عها وَلَا فَائِدَة فِي إِعَادَتهَا.
فَإِن قَالُوا: الزِّيَادَة على النَّص لَا تثبت بأخبار الاحاد وَالْقِيَاس فتتضمن نسخا وَلَو أَنَّهَا لَا تَتَضَمَّن نسخا لجَاز إِثْبَاتهَا بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس. \ قُلْنَا إِن كَانَ مَا قلتموه فِي صُورَة نوافقكم فِيهِ على تضمن الزِّيَادَة للنسخ فَالْأَمْر على مَا قلتموه، وَإِن كَانَ فِي صُورَة نوافقكم فِيهَا على ثُبُوت النّسخ، فَيجوز ثُبُوت الزِّيَادَة بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس، فبكم حَاجَة إِلَى أَن تثبتوا الزِّيَادَة نسخا، ثمَّ ترتبوا على ذَلِك مَا قلتموه من أَنه إِذا ثَبت كَونهَا نسخا فَلَا تثبت بِخَبَر الْوَاحِد وَالْقِيَاس.
ثمَّ نقُول إِذا قُلْتُمْ إِنَّمَا نَعْرِف امْتنَاع كَونه نسخا بامتناع ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد، وَإِنَّمَا عرفنَا امْتنَاع ثُبُوته بِخَبَر الْوَاحِد لَكَانَ نسخا لِلْقُرْآنِ فقد علقتم كل وَاحِد مِنْهُمَا. وَهَذَا وَاضح عِنْد التَّأَمُّل.
ثمَّ قد نَاقض أصحاب أبي حنيفَة فِي مسَائِل جمة، واثبتوا فِيهَا الزِّيَادَة على النَّص بطرِيق لَا يثبت النّسخ، وَذَلِكَ مثل قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ لذِي الْقُرْبَى..} فَأطلق ذَا الْقُرْبَى.
وَشرط أَبُو حنيفَة الْحَاجة فِي ذِي الْقُرْبَى فَكَانَ ذَلِك على قَوْلهم زِيَادَة على النَّص، كَمَا أَن اشْتِرَاط الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة زِيَادَة على قَوْله: {فَتَحْرِير رَقَبَة} وَلَو تتبعت ذَلِك لوجدت مِنْهُ الْكثير.

.باب ذكر مَا يَقع بِهِ النّسخ وَالْقَوْل فِي مواقع الْوِفَاق وَالْخلاف:

اعْلَم، وفقك الله، إِن الْقَائِلين بالنسخ أَجمعُوا على جَوَاز نسخ الحكم الثَّابِت بِالْقُرْآنِ بِآيَة من الْقُرْآن، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَعَ الْإِجْمَاع مَا قدمْنَاهُ فِي إِثْبَات أصل النّسخ، وكل دلَالَة دلّت على إِثْبَات أصل النّسخ تدل فِي هَذِه الصُّورَة.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نخصص ذَلِك بِلَفْظ دون لفظ فَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام مُصَرحًا بِهِ فِي الْكتاب جَازَ نسخه وَإِذا ثَبت حكم من الْأَحْكَام بفحوى الْخطاب فَيجوز نسخه مَعَ الأَصْل الَّذِي يَقْتَضِيهِ وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل حكم يُسْتَفَاد ثُبُوته بِالْقُرْآنِ نصا أَو فحوى أَو بِدَلِيل الْخطاب على مَذْهَب من يَقُول بِهِ فَيجوز نسخه بعد تَقْدِير ثُبُوته.
وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ السّنة بِالسنةِ مَعَ تساويهما فِي اقْتِضَاء الْعلم أَو الْخُرُوج عَن ذَلِك حَتَّى لَو ثَبت الحكم بِسنة متواترة تثبت قطعا فَيجوز نسخهَا بِالسنةِ المستفيضة مثلهَا، وَالدَّلِيل على ذَلِك كالدليل على نسخ الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ.
وَمِمَّا أَجمعُوا عَلَيْهِ نسخ خبر الْوَاحِد بِمثلِهِ فَهَذِهِ صور الْوِفَاق.

.مَسْأَلَة:

اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز ذَلِك عقلا وسمعا إِلَيْهِ صَار مُعظم الْمُتَكَلِّمين وَابْن سُرَيج من أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فِي أَنه هَل ورد فِي مواقع الشَّرِيعَة نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ؟ فَالْأَصَحّ القَوْل بورود ذَلِك، وَذهب ابْن سُرَيج إِلَى أَن ذَلِك جَائِز وَلَكِن لم يرد بِهِ الشَّرْع وَلَيْسَ فِي الشَّرْع مَنعه مِنْهُ.
وَذهب كثير من الْفُقَهَاء مِنْهُم الشَّافِعِي وَغَيره أَنه لَا يجوز نسخ الْقُرْآن، بِالسنةِ ثمَّ اخْتلفُوا بِالسنةِ هَؤُلَاءِ فَمنهمْ من قَالَ إِنَّمَا امْتنع نسخ الْقرَان بِالسنةِ عقلا وَمِنْه من قَالَ يجوز ذَلِك عقلا وَإِنَّمَا امْتنع بأدلة السّمع، قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا هُوَ الظَّن بالشافعي مَعَ علو رتبته فِي هَذَا الْفَنّ.
وَالدَّلِيل على جَوَاز نسخ الْقرَان بِالسنةِ كل مَا قدمْنَاهُ فِي الدَّلِيل فِي اصل النّسخ فَإِنَّهُ يدل على تَجْوِيز النّسخ فِي الْمُخْتَلف فِيهِ وَالَّذِي يجب التعويل عَلَيْهِ أَن نقُول قد ثَبت عندنَا قطعا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحكم بِحكم من تِلْقَاء نَفسه فِيهِ بِرَأْيهِ، وَإِنَّمَا يَقُول مَا يَقُول عَنهُ ربه وَحيا وإلهاما، وَمن جوز الِاجْتِهَاد على الرُّسُل فَإِنَّمَا يؤديهم اجتهادهم إِلَى الْعلم بِأَمْر الله بِلَا استرابة، بِخِلَاف اجتهادنا فِي المجتهدات، فَخرج من ذَلِك أَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ عَن ربه، وَأَن الْأَمر على الْحَقِيقَة لله سُبْحَانَهُ، فَإِذا ثَبت حكم بِآيَة تتلى من كتاب الله تَعَالَى، ثمَّ أخبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بارتفاع ذَلِك الحكم، فَإِنَّمَا يخبر عَن الله، كَمَا أَن الْعبارَات عَن الْقُرْآن تنبيىء عَن كَلَام الله تَعَالَى فيؤول محصول الْكَلَام إِلَى أَن ذَلِك نسخ حكم ثَبت بِكَلَام الله غير ان توصلنا إِلَى معرفَة كَلَام الله تَعَالَى فِي أحد الْحكمَيْنِ متلو بِهِ وتوصلنا إِلَيْهِ فِي النَّاسِخ بِلَفْظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَذِهِ دلَالَة قَاطِعَة.
شُبْهَة المانعين بنسخ الْقرَان بِالسنةِ عقلا.
مِمَّا استروحوا إِلَيْهِ أَن قَالُوا لَو نسخ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكما ثَابتا بالقران أفْضى ذَلِك إِلَى أَن ينْسب إِلَى الافتراء وتبديل كَلَام الله تَعَالَى، وَهَذَا يفضى إِلَى مَا يجب تَنْزِيه الرُّسُل عَنهُ.
وَهَذَا كَلَام رَكِيك جدا وَذَلِكَ أَن من قَامَت عِنْده الدّلَالَة من معْجزَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على وجوب عصمته عَن الْخلف فِيمَا يبلغهُ فَلَا يتَحَقَّق من هَذَا المعتقد نسبته إِلَى الْخلف والافتراء، وَمن كَانَ مشككا فِي صدقه فينسبه إِلَى الافتراء فِي نفس مَا يَنْقُلهُ من كَلَام الله تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْت مفتر}
فَإِن قَالُوا: الاسترابة بِهِ فِي نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ اكثر.
قُلْنَا: هَذَا لَا محصول لَهُ وَلَا معنى للتمسك بالتزايد فِي الريب بعد تحقق اصله، ثمَّ نقُول: لَا يجب عندنَا فِي قَضِيَّة التَّكْلِيف أَن يتوقى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَسْبَاب الَّتِي تورث الريب للزائغين فِي مجاري الْعَادة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك انه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصص الْإِمَامَة ثمَّ هله حَتَّى أفْضى ذَلِك أعظم ريب فِي قُلُوب أهل الزيغ، وَتَوَلَّى قبض الصَّدقَات وَولى فِي ذَلِك السعاة إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يطول تعداده.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَو جَوَّزنَا نسخ الْقرَان بِالسنةِ لَكَانَ ذَلِك رفعا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمعجزته ومحال أَن ينتسب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى رفع مَا يدل على صدقه. وَهَذَا بَاطِل من أوجه: أظهرها مَا قدمْنَاهُ من أَنا إِذا بحثنا عَن هَذِه المسالة فنعلم أَن النّسخ إِنَّمَا وَقع بِكَلَام الله تَعَالَى، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مبلغ، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك سقط مَا قَالُوهُ وَتبين أَن كَلَام الله تَعَالَى نسخ كَلَامه، ثمَّ نقُول إِنَّمَا الإعجاز فِي نظم الْقُرْآن لَا فِي الحكم الثَّابِت فجوزوا أَن ينْسَخ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم الْآيَة مَعَ بَقَاء تلاوتها.
فَإِن قَالُوا فَلَا أحد يفصل بَين نسخ حكم الْقُرْآن وَبَين نسخ تِلَاوَته، فَمن جوز النّسخ بِالسنةِ جوز ذَلِك فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن من النَّاس من يفصل بَينهمَا، وَقَالَ يجوز نسخ حكم الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا يجوز تِلَاوَة الْقُرْآن بِالسنةِ وَهَذَا لَيْسَ بمرضي عندنَا فَإِن تِلَاوَة الْقُرْآن من الْأَحْكَام أَيْضا كَمَا قدمْنَاهُ فعلى هَذَا نقُول: قصدنا بتفصل القَوْل عَلَيْكُم ليتبين بطلَان استدلالكم صَرِيحًا فِي صُورَة من صور الْخلاف. وعَلى أَنا نقُول: الْآيَة الْوَاحِدَة إِذا قصرت فَلَا يَقع بهَا الإعجاز، فجوزوا نسخهَا بِالسنةِ مَا لم يبلغ الْمَنْسُوخ حدا يَقع بِهِ الإعجاز، وَلَا قَائِل بذلك مِنْكُم، على أَنا نقُول إِذا دلّ الْقُرْآن على صدق الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَو قدر بعد اسْتِمْرَار الْأَدِلَّة ارْتِفَاع الْقُلُوب والألسن فَلَا يقْدَح ذَلِك فِي النُّبُوَّة بعد مَا ثبتَتْ، وَهَذَا كَمَا أَنا نقطع الْآن بِصدق مُوسَى وَعِيسَى وَغَيرهمَا من الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم للمعجزات الَّتِي أظهرها الله على أَيْديهم، وَإِن كُنَّا نعلم أَن شَيْئا مِنْهَا غير مُتَحَقق مِنْهَا وجود الان.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا أَن قَالُوا: لَيْسَ من الْأَصْلَح تَجْوِيز نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ، وَلَا يرد فِي الشَّرِيعَة إِلَّا مَا هُوَ الْأَصْلَح.
قُلْنَا: هَذَا بِنَاء مِنْكُم على أصل فَاسد لَا تساعدون عَلَيْهِ، فَإنَّا لانراعي فِي اصل الشَّرِيعَة الصّلاح والأصلح، غير أَنا لَا نسلم مَا قلتموه، وَإِن سلمنَا لكم جدلا برعاية الصّلاح، وأنى لكم إِثْبَات ذَلِك. فَهَذَا كَلَام من أحَال النّسخ عقلا.
فَأَما من أحَال النّسخ سمعا فقد اسْتدلَّ بآي من كتاب الله تَعَالَى، مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {قَالَ الَّذين لَا يرجون لقاءنا أئت بقرءان غيرهذا أَو بدله قل مَا يكون لي ي أَن أبدله من تلقائ نَفسِي إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ}.
قَالُوا: وَهَذَا نَص فِي إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ينْسَخ الْقُرْآن، فَإِن النّسخ من أعظم وُجُوه التَّنْزِيل.
قيل لَهُم: هَذِه الْآيَة بِأَن تكون دَلِيلا عَلَيْكُم أولى فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أَنه لَا ينْسَخ الْقرَان من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا مُتبع الْوَحْي، فَدلَّ ذَلِك على غير مَا تعتقده نفيا وإثباتا، فَإنَّا نقُول لَا يَقُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِثْبَات الشَّرَائِع شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه، وَإِنَّمَا يَقُول مَا يَقُول عَن الله مبلغا مَا ثَبت من أوَامِر لَدَيْهِ وَحيا، فَبَطل استراواحهم إِلَى هَذِه الْآيَة.
وَمِمَّا يستدلوا بِهِ قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ من ءآية أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا}.
قَالُوا: ويقوى الدَّلِيل عَلَيْكُم من هَذِه الْآيَة إِذا قُلْتُمْ إِن النّسخ وَإِن صدر عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ على الْحَقِيقَة بِكَلَام الله، فَكَلَامه النَّاسِخ عنْدكُمْ، وَحكم كَلَامه الْمَنْسُوخ، وَالْآيَة دلّت على أَن الرب تَعَالَى لَا ينْسَخ آيَة من الْقُرْآن، إِلَّا أَتَى بِمِثْلِهَا، وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي صُورَة الْخلاف، فَإِن لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يكون مثل الْقُرْآن، الْجَواب عَن ذَلِك ان نقُول: معنى قَوْله تَعَالَى: {مَا ننسخ من ءاية أَو ننسها} مَا ننسخ من حكم آيَة، لما قدرناه من أَن النّسخ إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْأَحْكَام دون نفس الْقُرْآن، وَكَأن الرب تَعَالَى قَالَ: مَا ننسخ من حكم آيَة إلانأت بِحكم خير مِنْهُ للمكلفين، أَو مثله فِي الصّلاح والإفضاء إِلَى الثَّوَاب، وَهَذَا إِذا حققته كَفاك مُؤنَة الْقَوْم.

.فصل:

قد ذكرنَا جَوَاز نسخ الْقرَان بِالسنةِ ثمَّ ذكرنَا أَن الْأَصَح وُرُود ذَلِك، وَقَالَ ابْن سُرَيج يَصح ذَلِك عقلا، وَلَا يمْنَع شَيْء مِنْهُ سمعا وَلَكِن لم يتَّفق وُقُوعه.
فَيُقَال لَهُ إِذا وَافَقت فِي جَوَاز ذَلِك عقلا وسمعا وَأورد عَلَيْك مَا ظَاهره نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فَيَنْبَغِي أَن لَا تحمله على الْوُجُوه الْبَعِيدَة، وتجري على ظَاهره من غير تَأْوِيل وتحريف على الظَّاهِر وَقد ورد ذَلِك فِي أَحْكَام.
مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن الله أعْطى كل ذِي حق حَقه فَلَا وَصِيَّة لوَارث» فنسخ بلك حكم الْوَصِيَّة ووجوبها للأقربين فِي قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت} الْآيَة.
وَلَيْسَ فِي الْقرَان نَص صَرِيح يَقْتَضِي نس الْوَصِيَّة للأقربين وَيكثر نَظَائِر ذَلِك.

.مَسْأَلَة:

يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء ويحكى عَن الشَّافِعِي رَحمَه الله فِيهِ قَولَانِ فِي أَحدهمَا بموافقة الْجُمْهُور وَجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ فِي الثَّانِي لَا يجوز ذَلِك.
وَالدَّلِيل على جَوَازه النُّكْتَة الَّتِي عولنا عَلَيْهَا فِي الْمَسْأَلَة الأولى، حَيْثُ قُلْنَا: إِن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا ينبىء عَن كَلَام الله تَعَالَى، وَلَا يَقُول من تِلْقَاء نَفسه شَيْئا، فيؤل النَّاسِخ والمنسوخ جَمِيعًا إِلَى كَلَام الله تَعَالَى كَمَا أوضحناه فِي الْمَسْأَلَة الأولى ثمَّ نقُول إِذا سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة فَلَا خلاف بَين الْأمة فِي جَوَاز وُرُود نَص من الْقُرْآن على خِلَافه وَهَذَا هُوَ النّسخ الصَّرِيح.
فَإِن قَالَ قَائِل: إِذا ورد نَص هَذِه صفته يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا السّنة الأولى.
فَنَقُول هَذَا مَا لَا طائل تَحْتَهُ، فَإِن النَّص إِذا ورد على مُخَالفَة السّنة الْمَاضِيَة فَلَا تخلون إِمَّا أَن ن تَقولُوا يبْقى حكم السّنة إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى ينْسَخ بهَا السّنة الأولى، وَإِمَّا أَن تَقولُوا لَا يبْقى حكم السّنة مَعَ وُرُود النَّص.
فَإِن قُلْتُمْ بِهَذَا الْقسم الْأَخير فقد صرحتم بنسخ السّنة بِالْقُرْآنِ، وَلَا معنى مَعَ ذَلِك لتقدير سنة أُخْرَى تنسخ السّنة.
وَإِن زعمتم أَن حكم السّنة الأولى يبْقى بعد وُرُود النَّص إِلَى أَن يسن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سنة أُخْرَى على ابْتِدَاء أَو استئخار، فَهَذَا محَال مفض إِلَى جَوَاز ثُبُوت حكمين متناقضين، وَيُؤَدِّي إِلَى نفي النَّص من الْقُرْآن، وكل ذَلِك محَال.
فَإِن قيل: فَهَل ورد فِي الشَّرِيعَة نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ. قيل: اجل، قد ثَبت ذَلِك فِي أَحْكَام جمة، مِنْهَا: أَمر الْقبْلَة فَإِن التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس إِنَّمَا ثَبت بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلذَا لم يثبت فِي الْقُرْآن لذَلِك ذكر، ثمَّ نسخ ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام}
وَمن ذَلِك ايضا عهد الْحُدَيْبِيَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَرط للْكفَّار أَن يرد عَلَيْهِم من يَأْتِيهِ مِنْهُم، وَعم القَوْل فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء، ثمَّ ورد النَّص فِي منع النِّسَاء، قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَا ترجعوهن إِلَى الْكفَّار}.
ثمَّ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغرم لِأَزْوَاج المهارجات مهورهن، وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد ثَبت لَهُم رد النِّسَاء فَلَمَّا امْتنع ذَلِك بِنَصّ الْكتاب عوضهم عَنْهُن بمهورهن.