فصل: القَوْل فِي الصَّحَابِيّ إِذا قدر مَالا يدْرك تَقْدِيره بِالْقِيَاسِ هَل يحمل ذَلِك على أَنه قدره توقيفا؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.القَوْل فِي أَنه هَل يجب تَخْصِيص الْعُمُوم بقول الرَّاوِي أَو بمذهبه؟

أما الْكَلَام فِي التَّخْصِيص بقول الصَّحَابِيّ وهم الروَاة الناقلون فقد سبق وَبينا أَن قَول الصَّحَابِيّ فِي التَّخْصِيص لَا يلْزم قبُوله ويتنزل منزلَة قَوْله فِي سَائِر الْأَحْكَام.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن نقل الصِّيغَة الْعَامَّة وَذكر مَعَ ذَلِك أَنِّي اضطررت إِلَى برأة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم التَّخْصِيص بقرائن الْأَحْوَال فَهَل يقبل ذَلِك مِنْهُ؟
قُلْنَا: أجل، فَإِن هَذَا لَيْسَ من قبيل الإجتهاد، وَإِنَّمَا هُوَ نقل مَا علمه اضطرارا وَنَقله مَقْبُول وفَاقا، فَإِن كَانَ مَا يبْدَأ بِهِ اجتجاجا فَرُبمَا لَا يقبل.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِذا روى الصَّحَابِيّ خَبرا ومذهبه بِخِلَاف ظَاهر عُمُوم اللَّفْظ الَّذِي نَقله، فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟
قُلْنَا: مَسْأَلَتنَا عَن ذَلِك لَغْو مَعَ تصريحنا بِأَنَّهُ لَو خصصه وَصرح بتخصيصه لم يلْزم قبُوله.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن مَذْهَب الرَّاوِي إِذا اقْتضى نفي التَّعْمِيم خصص اللَّفْظ الَّذِي نَقله وَذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن مُجَرّد مذْهبه لَا يُوجب ذَلِك وَلَكِن إِن صدر ذَلِك الْمَذْهَب ومصدره التَّأْوِيل والتخصيص فَيقبل وتخصيصه أولى.
وَأما الَّذِي ارتضيناه فَهُوَ أَن تَخْصِيصه كتخصيص أحد مجتهدي الزَّمَان وَقد دللنا عَلَيْهِ بأوضح طَرِيق.
فَإِن قيل: أَفَرَأَيْتُم لَو أظهر دَلِيلا؟
قُلْنَا: إِن كَانَ قَاطعا فالتخصيص بِهِ لَا بقول الصَّحَابِيّ، وَإِن كَانَ من أَخْبَار الْآحَاد أَو من المقاييس فقد يبْقى القَوْل فِي الْعُمُوم إِذا قابله خبر، أَو قِيَاس، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ فِي ذَلِك لَا أثر لَهُ وَقَوله كَقَوْل غَيره.
فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِذا أطلق الصَّحَابِيّ التَّخْصِيص وَلم يسْندهُ إِلَى قِيَاس وَطَرِيق اجْتِهَاد، فدلالته ثَبت عَنهُ نَص قَاطع؟
قيل: هَذَا محَال وَلَا يسوغ تثبيت النُّصُوص بِمثل هَذَا وَلَيْسَ هَذَا الْقَائِل بأسعدحالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ وَيَقُول لَو قَالَه عَن نَص لنقله، فانحسمت هَذِه الْأَبْوَاب وَوَجَب قصر التَّخْصِيص على الدّلَالَة.

.القَوْل فِي الصَّحَابِيّ إِذا قدر مَالا يدْرك تَقْدِيره بِالْقِيَاسِ هَل يحمل ذَلِك على أَنه قدره توقيفا؟

هَذَا الْبَاب يشْتَمل على فُصُول مُتَفَرِّقَة فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَنحن نجمع جملها فِي فُصُول إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.فصل:

ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ غير مُتَعَلق بالخصوص والعموم مِمَّا شابهت أَدِلَّة الْمَسْأَلَة السَّابِقَة، وَهِي التَّخْصِيص بقول الرَّاوِي، ذكره هَهُنَا.
فَإِذا نقل عَن الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ تَقْدِير فِي حد اَوْ كَفَّارَة أَو نَحْوهَا فقد صَار أصحاب أبي حنيفَة إِلَى أَن نقل ذَلِك يدل على ثُبُوت خبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن الصَّحَابِيّ إِذا نقل عَنهُ التَّقْدِير وَهُوَ مِمَّا لَا يدْرك فِي المقاييس وَلَا نظن بِهِ إبداع الحكم من تِلْقَاء نَفسه من غير دَلِيل فنعلم أَنه مَا قَالَه إِلَّا عَن تَوْقِيف وَذهب بعض أهل الْعرَاق إِلَى أَن ذَلِك القَوْل الصَّادِر إِن صدر من مُجْتَهد فَلَا يمكننا أَن نسنده إِلَى خبر، لجَوَاز أَن يكون قَالَه عَمَّا ظَنّه اجْتِهَادًا صَحِيحا، وَإِن صدر عَمَّن لَيْسَ بمجتهد وَهُوَ موثوق بِهِ فنعلم أَنه مَا قَالَه إِلَّا عَن غبر.
وَالَّذِي يَصح عَن كَافَّة الْمُتَكَلِّمين وَأصحاب الشَّافِعِي أَنا لَا نقدر فِي هَذَا الْمِثَال خَبرا مَا لم ينْقل صَرِيحًا.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه رُبمَا يقدر بِاجْتِهَادِهِ ظَانّا أَن التَّقْدِير بِالِاجْتِهَادِ جَائِزا، وَيجوز أَن لَا يكون مُجْتَهدا ويظن نَفسه مُجْتَهدا أَو يكون مُجْتَهدا فيزل فِي اجْتِهَاده أَو يُقَلّد صحابيا ويعتقد جَوَاز التَّقْلِيد فَإِذا تقابلت هَذِه الجائزات استمال تثبيت خبر استنباطا.
وَأما مَا عولوا عَلَيْهِ فِي صدر كَلَامهم فمبناه على منع الْقيَاس فِي الْمَقَادِير وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِك فانا نستدل إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تثببيت المقاييس فِي المقدرات فِي أَبْوَاب الْقيَاس إِن شَاءَ الله تَعَالَى على أَن نقُول وَإِن سلمنَا فِي منع الْقيَاس فوجوه الْغَلَط لَا تنحسم فِي حق من لَا يعْصم وَلَا سَبِيل إِلَى تَقْدِير الْأَخْبَار مَعَ تقَابل وُجُوه الْإِمْكَان.
فَإِن قيل: فَلَو صدر مثل هَذَا القَوْل عَن صَحَابِيّ ابْتَدَأَ ثمَّ اجمعت الْأمة على تصويبه فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟ هَل تَقولُونَ: إِن إِجْمَاعهم على تصويبه دَال على تثبيت خبر.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَنْقَسِم القَوْل فِيهِ فَإِن أَجمعُوا على تصويبه وَلم يجمعوا على منع دركه بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَاد فَيثبت الحكم قطعا، وَيبقى مَا يسْتَند إِلَيْهِ الْإِجْمَاع على التّرْك، فَيجوز أَن يكون خَبرا، وَيجوز أَن يكون ضربا من الِاجْتِهَاد، وَإِن أَجمعُوا على الحكم وعَلى منع الْقيَاس فِي مثله فيستند لحكم حِينَئِذٍ إِلَى تَوْقِيف، فَإِن أَدِلَّة الشَّرْع الَّتِي يسْتَند الْإِجْمَاع إِلَيْهَا لَا تخرج عَن لَفْظَة شَرْعِي مَعَ مَا يَلِيق بِهِ من مُقْتَضَاهُ أَو عَن مستنبط من ثَابت بِلَفْظ شَرْعِي، فَإِذا ثَبت الْإِجْمَاع انسد إِذا اُحْدُ الْبَابَيْنِ وثَبت الثَّانِي لَا محَالة.

.فصل:

ذهب عِيسَى بن أبان إِلَى أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة فِي الصَّحَابَة إِذا بلغه خبر ثمَّ رَأَيْنَاهُ يعْمل بِخِلَافِهِ فعمله بِخِلَاف الْخَبَر الَّذِي لَا يقبل التَّأْوِيل دَلِيل على أَنه مَنْسُوخ وَاسْتشْهدَ بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ «الْبكر بالبكر جلد مئة وتغريب عَام».
ثمَّ رُوِيَ عَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا أغرب بعد هَذَا أبدا».
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ كفى بِالنَّفْيِ فتْنَة فعملهما مَعَ بُلُوغ الْخَبَر إيَّاهُمَا دَلِيل على نسخه، فَإنَّا لَا نظن بِمن فِي مثل حَالهمَا الانحراف والحيد عَن سنَن الْحق، وَلَا محمل فِي فعلهمَا سوى أَن نقُول عرفا نسخ الحَدِيث فَلم يعملا بِهِ.
وَهَذَا بَاطِل وَقد بَينا فِيمَا قدمنَا منع التَّخْصِيص بِمُجَرَّد قَول الصَّحَابِيّ، والنسخ أرفع مِنْهُ فَإِذا امْتنع التَّخْصِيص فالنسخ بذلك أولى، على أَنا نقُول: فِي الِانْفِصَال عَمَّا خيل إِلَى عِيسَى بن أبان، لَعَلَّه اعْتقد نسخه بِخَبَر مُرْسل نَقله إِلَيْهِ تَابِعِيّ، والمراسيل لَيست بِحجَّة عندنَا، أَو لَعَلَّه اعْتقد تَخْصِيص الْخَبَر بِحَال، أَو شخص، أَو وصف، أَو رِعَايَة مصلحَة متخصصة بِزَمَان، وَالْأَمر على خلاف مَا قدر فَإِنَّهُ بصدد الزلل فَمَعَ إِمْكَان ذَلِك كُله كَيفَ يسوغ ادِّعَاء النّسخ ثمَّ نقُول لَهُم مَا استشهدتم بِهِ من حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ من أوضح الْأَدِلَّة على أَنه لَا نسخ فِيهِ فَإِنَّهُ غرب فِي زَمَانه فَافْتتنَ الْمغرب فَقَالَ بعد ذَلِك: لَا أغرب بعده أبدان فَلَو كَانَ سَبيله سَبِيل النّسخ لما غرب أصلا فَإِن النّسخ لَا يَتَجَدَّد بعد مَا اسْتَأْثر الله نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
إِذا قَالَ الصَّحَابِيّ رَضِي الله عَنهُ: امْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِكَذَا فَهَل يَجْعَل ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَمرتكُم»، أَو كَقَوْلِه: افعلوا؟
اخْتلف أَرْبَاب الْأُصُول فِي ذَلِك فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك فَنزل منزلَة لفظ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا فرق بَين أَن يَقُول الرَّاوِي أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالصَّلَاةِ، وَبَين أَن يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلوا، وَذهب بَعضهم إِلَى أَن النَّاقِل إِن كَانَ من العارفين باللغة فَيجْعَل قَوْله أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كنقله لفظ الْأَمر مِنْهُ وَإِن لم يكن عَالما باللغة فَلَا يَجْعَل كَذَلِك.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَالصَّحِيح عندنَا فِي ذَلِك وَأَمْثَاله أَن نقُول: إِن كَانَ الْمَعْنى الَّذِي نَقله بِحَيْثُ تعتور عَلَيْهِ الْعبارَات المحتملة ويسوغ فِي فحواها ومقتضاها الِاجْتِهَاد فَإِذا نقل على الْوَجْه الَّذِي صورناه فَلَا يَجْعَل نَقله فِي ذَلِك كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي رَوَاهُ بِحَيْثُ لَا تخْتَلف عَلَيْهِ الْعبارَات وَلَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد فَهُوَ كنقل قَوْله.
وإيضاح ذَلِك أَنه إِذا قَالَ أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فالصيغ فِي هَذَا السَّبَب تخْتَلف وللِاجْتِهَاد فِيهَا أعظم المجال فَإِن من النَّاس من توقف فِي الْأَمر، وَمِنْهُم من رَآهُ على الْوُجُوب أَو على النّدب، اَوْ على الْإِبَاحَة، فَلَا نَأْمَن فِي مثل هَذِه الْحَالة أَن يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَى جِهَة أُخْرَى من الْجِهَات، فينقل على قَضِيَّة الِاجْتِهَاد، فَإِذا الْتبس الْحَال كلفنا النَّاقِل أَن ينْقل عين لفظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. بِالشُّفْعَة للْجَار فَنَقُول: الحكم يَنْقَسِم فَرُبمَا يكون فعلا لَا صِيغَة لَهُ، وَرُبمَا يكون لفظا مَخْصُوصًا بِحَال اَوْ شخص، فَلَا يثبت الْعُمُوم بقول الرواي إِلَّا أَن يَقُول: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشُّفْعَة للْجَار.
وَذهب بعض من لَا تَحْقِيق وَرَاءه إِلَى الْفَصْل بَين أَن يَقُول الرَّاوِي: قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للْجَار وَبَين أَن يَقُول: قضى بِأَن الشُّفْعَة للْجَار. وَلَا فصل بَينهمَا عندنَا وَلَو تأملتها ألفيتهما على الِاحْتِمَال.
وَالْجُمْلَة فِيمَا نختاره أَنا لَا نثبت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَبرا من غير نقل وَلَا نثبت فِي خَبره صفة تَقْتَضِي تعميما أَو تَخْصِيصًا من غير نقل.

.فصل:

ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ رمزا، وأحاله على أَبْوَاب الْقيَاس وَهَذَا انه قَالَ: إِذا نقل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكم مُعَلّق على عِلّة لزم تَعْمِيم الحكم مَعَ اطراد الْعلَّة، وَذَلِكَ مثل أَن يرْوى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه رجم ماعزا لِأَنَّهُ زنى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَقد اخْتلف الأصوليون فِي أَن علل صَاحب الشَّرِيعَة هَل يدخلهَا التَّخْصِيص وسنستقصي القَوْل فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَمن الْعِلَل مَا هِيَ خَاصَّة، وَقد حسبتها بعض الْفُقَهَاء عَامَّة، وَذَلِكَ نَحْو مَا رُوِيَ أَن أَعْرَابِيًا وقصته نَاقَته فِي أخاقيق جرذان فَمَاتَ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «كفنوه وَلَا تقربوه طيبا وَلَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يحْشر يَوْم الْقِيَامَة ملبيا» فعمم بعض الْفُقَهَاء ذَلِك فِي كل محرم، وَفِي الْخَبَر مَا يُوجب تَخْصِيصه فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل الحكم بِأَنَّهُ يبْعَث ملبيا وَهَذَا مِمَّا لانعلمه فِي حق كل محرم فَاقْتضى ظَاهر التَّخْصِيص.
وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شُهَدَاء اُحْدُ: زملوهم بكلومهم ودماءهم فَإِنَّهُم يحشرون يَوْم الْقِيَامَة واوداجهم تشخب دَمًا اللَّوْن لون دم، وَالرِّيح ريح الْمسك فَثَبت فيهم هَذَا الحكم وَعلل بِأَنَّهُم يبعثون كَذَلِك، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته فِي غَيرهم من الشُّهَدَاء.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: هَل يجوز التَّخْصِيص بِفعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: كل فعل حل مَحل القَوْل فِي الْبَيَان نزل مَنْزِلَته فِي حكم التَّخْصِيص وسنتقصى القَوْل فِي أفعال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونبين مَا ينزل مِنْهَا منزلَة القَوْل وَمَا لَا يتَعَلَّق فِيهِ فِي قَضِيَّة الشَّرْع. ويتصل بِهَذَا الْفَصْل تَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من رَآهُ على من اقتدر مِنْهُ فَإِنَّهُ ينزل منزلَة القَوْل وفَاقا.
وَإِذا نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شَيْء عُمُوما ثمَّ رأى شخصا مقدما مَا عَلَيْهِ، وَلم يَنْهَهُ دلّ ذَلِك على عدم دُخُوله تَحت النَّهْي وَلَكِن ينزل التَّقْرِير فِي حَقه منزلَة إِبَاحَته بِلَفْظ مُخَصص لَهُ فَلَا نقُول أَن نفس التَّقْرِير يسوغ لغيره الْإِقْدَام على مثله فَإِن التَّقْرِير لَيْسَ لَهُ صِيغَة الْعُمُوم كَمَا لَيْسَ للفظة المختصة بخطاب الْوَاحِد صِيغَة التَّعْمِيم، وسياتيك حكم تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: قَول الله تَعَالَى: {خلق كل شَيْء}، هَل يعد مُخَصّصا إِذا حمل بِدلَالَة الْعقل على غير الْقَدِيم تَعَالَى؟
قُلْنَا: ذهب بعض النَّاس إِلَى أَن ذَلِك لَا يعد من التَّخْصِيص وَإِنَّمَا التَّخْصِيص إِخْرَاج بعض مُقْتَضى اللَّفْظ مَه مَعَ جَوَاز دُخُوله تَحْتَهُ وَهَذَا مَا لَا يتَحَقَّق فِي هَذِه الْآيَة وأمثالها.
وَهَذَا لَيْسَ بسديد، وَالصَّحِيح أَن اللَّفْظَة مخصصة، وَهَذَا الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ فِي تَخْصِيص الْأَلْفَاظ بأدلة الْعُقُول غير أَنا نزيده إيضاحا فَنَقُول: اسْتثِنَاء الْقَدِيم سَائِغ تَقْديرا، وم سَاغَ تَقْدِير استثنائه مُتَّصِلا بالمستثنى مِنْهُ فَإِذا خرج من اللَّفْظ بِدلَالَة كَانَ تَخْصِيصًا، وَبَيَان ذَلِك: أَنه لَو قَالَ تَعَالَى: الله خَالق كل شَيْء إِلَّا ذَاته لَكَانَ الْكَلَام متنظماً، وقصارى هَذَا الْفَصْل تناقش فِي الْعبارَة.

.فصل:

إِذا وَردت لَفْظَة شَرْعِيَّة فَيحْتَمل على قَضِيَّة اللُّغَة وَمُوجب وَضعهَا وَلَا تخْتَلف قضيتها بعادات المخاطبين اطردت أَو تناقضت، وَبَيَان ذَلِك أَنه لَو عَم فِي النَّاس طَعَام وشراب وَكَانُوا لَا يعتادون دون تنَاول غَيرهمَا حَتَّى صَارُوا لَا يتفاهمون من الطَّعَام إلاما يعهدونه فَإِذا ورد نهى مُطلق عَن تنَاول الطَّعَام لم يخصص بِمَا يعتادون تنَاوله، وَكَذَلِكَ لَو اعتادوا ضربا من البيع مَخْصُوصًا فَإِذا ورد النَّهْي عَن البيع مُطلقًا فِي وَقت لم يتخصص بِمَا يتعودنه من البيع، بل يتَنَاوَلهُ هُوَ وَغَيره مِمَّا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم البيع فِي أصل الْوَضع، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن الشَّرَائِع فِي أَنفسهمَا لَا تبتني على عادات الْخلق وَاللَّفْظ الْوَارِد فِي الشَّرْع لَيْسَ يتَقَيَّد بقرائن ذَوي الغايات فَإِن عَادَتهم لَا توجب تَقْيِيد كَلَام صَاحب الشَّرْع.
فَإِن قَالَ قَائِل: أليست الدَّابَّة مَوْضُوعَة فِي أصل اللُّغَة لكل مَا دب ثمَّ لَا يفهم الْعَرَب مِنْهُ إِلَّا بَهِيمَة مَخْصُوصَة.
قُلْنَا: تعودوا إِطْلَاق هَذِه اللَّفْظَة على التّكْرَار على بَهِيمَة مَخْصُوصَة فترتب عَادَتهم، وقرائن أَحْوَالهم بإطلاقاتهم فَاقْتضى ذَلِك حملهَا على مَا يُرِيدُونَ، وَلَفظ صَاحب الشَّرِيعَة غير مقترن بقرائنهم وعاداتهم حَتَّى يعمم عَنهُ مَا يفهم من ألفاظهم المقترنة وَهَذَا كَمَا أَن الْأَمر إِذا بدر من شخص ودلت قرائنه على الْإِلْزَام لم يجب حمل كل صِيغَة مثلهَا على مثل مَعْنَاهَا فَإِنَّهُ لم يُوجد فِي كل الصِّيَغ من الْعَادَات مَا وجد فِيهَا، فأحط علما بذلك.

.فصل: فِي تعَارض العمومين:

اعْلَم، وفقك الله، إِلَى أَن أول مَا نحتاج إِلَى تَقْدِيمه أَن نبين أَن الصيغتين إِذا وردتا، وَدلَالَة الْعقل تَقْتَضِي تَعْمِيم أَحدهمَا وَنفي تَعْمِيم الْأُخْرَى أَو سلب قضيتها فَلَا يعد ذَلِك من تعَارض العمومين بل الَّذِي يُوَافق دلَالَة الْعقل يقر على عُمُومه وَالَّذِي يُخَالف دلَالَة الْعقل يخصص بهَا أَو يحمل على الْمجَاز بهَا، وَمِثَال ذَلِك فِي موارد الشَّرِيعَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالله بِكُل شَيْء عليم}، فَهَذَا ظَاهر ومتقتصد فِي عُمُومه بِدلَالَة الْعقل فَلَو عَارض معَارض ذَلِك لقَوْله تَعَالَى: {قل أتنبئون الله بِمَا لَا يعلم}.
قيل: هَذَا مزال الظَّاهِر بِدلَالَة الْعقل، فيستقل بِدلَالَة الْعقل عَن مُعَارضَة الْعُمُوم الَّذِي وَافق ظَاهره دلَالَة الْعقل، وَكَذَلِكَ قَوْله: {الله خلق كل شَيْء}، لَا يُعَارضهُ: {أحسن الْخَالِقِينَ}، فَإِنَّهُ مزال الظَّاهِر بِدلَالَة الْعقل.
وَالْغَرَض من الْفَصْل الَّذِي عقدناه تَصْوِير صيغتين لَا تَقْتَضِي دلَالَة عقلية إِزَالَة ظَاهر أَحدهمَا، فَإِذا تعَارض ظَاهر لفظين وَلم تقتض دلَالَة قَاطِعَة إِزَالَة أَحدهمَا فالتعارض فِي الظَّاهِر من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن تثبت لَفْظَة ظَاهرهَا الْعُمُوم وتثبت أُخْرَى ظَاهرهَا تَخْصِيص الْعُمُوم، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «فِيمَا سقت السَّمَاء الْعشْر» مَعَ قَوْله لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق صَدَقَة وَكَذَلِكَ قَوْله: «فِي الرقة ربع الْعشْر» مَعَ قَوْله: «وَلَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أواقي من الْوَرق صَدَقَة» ويلتحق بذلك أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا}، مَعَ سَائِر الْأَلْفَاظ المخصصة للسرقة بالاحراز، والنصاب، فَمَا هَذَا سَبيله لَا يتَحَقَّق فيهمَا التَّعَارُض من كل وَجه، وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة المخصصة إِنَّمَا يُخَالف ظَاهرهَا بعض مقتضيات الْعُمُوم وَلَا يتَضَمَّن نفي جملَة مقتضياته، فَيتَحَقَّق التَّعَارُض بَين اللَّفْظَيْنِ فِي قدر التَّخْصِيص فَالْكَلَام فِيهِ نحوما قدمْنَاهُ من التَّعَارُض فِي اقْتِضَاء الْعُمُوم وَالْخَبَر أَو يتَحَقَّق فِي كل وَاحِد مِنْهَا ضروب من الظنون.
فَأَما إِذا ثَبت لفظ الْعُمُوم قطعا وَثَبت لفظ الْخُصُوص أَيْضا قطعا فَظَاهر مَا صَار إِلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ الْمصير إِلَى التَّعَارُض، وَأَن احْتِمَال اللّبْس وَإِن كَانَ لَا يتَحَقَّق فِي اصل اللَّفْظَيْنِ فَيتَحَقَّق فِي تأويلهما فَإِن الْخُصُوص رُبمَا يقبل التَّأْوِيل، وَالْحمل على حَال دون حَال، وَيبقى مَعَ ذَلِك كُله اللّبْس فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، فَيجوز أَن يتَقَدَّم الْخَاص ويعقبه الْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ حَقِيقَة الْعُمُوم فينسخه، وَقد يتَقَدَّر تَأَخّر الْخَاص فَإِذا تقابلت الِاحْتِمَالَات لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى التَّعَارُض.
الْوَجْه الثَّانِي: من التَّعَارُض أَن يتعارض ظَاهر اللَّفْظَيْنِ من كل وَجه وللتأويل مساغ فِي حملهَا على وَجه التَّعَارُض وَذَلِكَ نَحْو حَدِيث عبَادَة ابْن الصَّامِت فِي الربويات وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا تَبِيعُوا الْوَرق بالورق»
الحَدِيث مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة» فَالظَّاهِر من هَذَا اللَّفْظ يَنْفِي جِهَات رَبًّا النَّقْد وَظَاهر حَدِيث عبَادَة يثبت الرِّبَا، وَلَكِن يجوز تَقْدِير حمل اللَّفْظَيْنِ على محملين لَا يتَحَقَّق تنافيهما بِأَن يحمل حَدِيث عبَادَة على اتِّحَاد الْجِنْس، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس على اخْتِلَاف الْجِنْس، وَيجوز أَن لَا يكون كَذَلِك، وَيكون أَحدهمَا نَاسِخا، وَالثَّانِي مَنْسُوخا فَلَا يسوغ الْقطع بنسخ أَحدهمَا للْآخر تعيينا، وَكَذَلِكَ لَا يسوغ الْقطع بالتخصيص وَحمل اللفظفين على التَّبْيِين، فَإِذا تقابلت الِاحْتِمَالَات وَجب القَوْل بتعارضهما والإضراب عَنْهُمَا، والتمسك بِسَائِر أَدِلَّة الشَّرِيعَة سواهُمَا، هَذَا مَا اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، وَقد دلّ عَلَيْهِ فِيمَا سبق، وَمَا صَار إيه مُعظم الْعلمَاء إبْطَال القَوْل بالتعارض، وَوُجُوب الْمصير إِلَى الْجمع بَين اللَّفْظَيْنِ على وَجه يُمكن.
وَالْوَجْه الثَّالِث: من وُجُوه التَّعَارُض ان يتعارض اللفظان نصا، وَلَا نجد إِلَى حملهما على غير التَّعَارُض سَبِيلا، لكل وَاحِد مِنْهُمَا نصا فِي مُقْتَضَاهُ، فَإِذا تَعَارضا على هَذَا الْوَجْه وانسد طَرِيق التَّأْوِيل وَلم يتأرخ وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ بتأريخ يتَوَصَّل بِهِ إِلَى نسخ الْمُتَقَدّم بالمتأخر، وَلم يثبت إِجْمَاع فِي اسْتِعْمَال أحد اللَّفْظَيْنِ، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِوَاحِدَة مِنْهُمَا.
فَإِن قَالَ قَائِل: لم تَذكرُوا فِي اقسام التَّعَارُض أَن ترجح أَحدهمَا على الاخر قُلْنَا: إِنَّمَا غفلنا ذكر ذَلِك لأَنا على عَزِيمَة اسْتِقْصَائِهِ فِي أَبْوَاب التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قيل: فَلَو قَامَت دلَالَة الْإِجْمَاع على أَن الحكم لَا يعدو مُوجب أحد اللَّفْظَيْنِ وَلم يتَرَجَّح أَحدهمَا على الثَّانِي على مَا نوضح دَرَجَات التَّرْجِيح إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَلَا طَرِيق إِلَّا الْمصير إِلَى التَّخْيِير، فَإنَّا نعلم أَنا لم نكلف جمع الضدين وَثَبت بِدلَالَة الْإِجْمَاع تعلق التَّكْلِيف بقضية أحد اللَّفْظَيْنِ فَلَا وَجه فِي الابتدار لَهُ إِلَّا التَّخْيِير.
فَإِن قيل: فَإِذا ورد اللفظان على مَا صورتموه فَهَلا قطعْتُمْ بِأَنَّهُمَا وردا مَعًا كَمَا أَن طَائِفَة لَو عمي مَوْتهمْ فَلم يعلم من سبق وَمن تَأَخّر فنجعلهم كَمَا لَو مَاتُوا مَعًا.
قُلْنَا: لِأَن مَوْتهمْ مَعًا مُتَصَوّر لَا استحاله فِيهِ، وَلَا اسْتِحَالَة فِي الحكم الْمُرَتّب عَلَيْهِ، وَأما تَقْدِير كَون الْخَبَرَيْنِ واردين مَعًا يُفْضِي إِلَى التَّنَاقُض فِي الشَّرْع فَإِن ظَاهر كل وَاحِد مِنْهُمَا يُخَالف ظَاهر الثَّانِي واستحال أَن نقدرهما على وَجه يَسْتَحِيل بقضية التَّكْلِيف.

.فصل: القَوْل فِي الْأَلْفَاظ الْعَامَّة الْوَارِدَة على أسئلة خَاصَّة:

اعْلَم، وفقك الله، أَن أول مَا صدر بِهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ بِهِ الْبَاب تَهْذِيب اللَّفْظ فِي الانباء عَن مَقْصُود الْبَاب فَإِن من الخائضين فِيهِ من يترجم الْبَاب فَيَقُول: إِذا ورد الْخطاب الْعَام ظَاهره عِنْد سَبَب خَاص، وَهَذَا فِيهِ دخل، فَالْأَحْسَن أَن نقُول: إِذا ورد على سَبَب خَاص، والفصل بَين قَوْلك: "عِنْد سَبَب" و "على سَبَب" بَين فِي فحوى الْكَلَام، فَإنَّك إِذا قلت: "على سَبَب" انبأ ذَلِك على تعلق اللَّفْظ بِهِ، وَإِذا قلت: "عِنْد سَبَب " لم ينْسب ذَلِك على التَّعْلِيق.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنَّك إِذا قلت: ضربت العَبْد على قِيَامه، وأكرمته على كَلَامه، فَإنَّك قلت: ضَربته لأجل قِيَامه وأكرمته لأجل كَلَامه، وَإِذا قلت: ضَربته عِنْد قِيَامه لم ينبىء ذَلِك عَن تعلق الضَّرْب بِالْقيامِ.
فَإِذا ورد اللَّفْظ على سَبَب خَاص، وَورد الْجَواب على سُؤال خَاص فَإِن كَانَ اللَّفْظ خَاصّا فِي لَفْظَة لَو قدر مُجَردا فَلَا ريب فِي خصوصه، وَإِن كَانَ اللَّفْظ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ فِي اقْتِضَاء الْخُصُوص، وَالسُّؤَال الَّذِي اللَّفْظ جَوَاب عَنهُ خَاص فَلَا يَخْلُو من أَمريْن إِمَّا أَن يكون الْجَواب مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَو قدر مُفردا عَن السُّؤَال وَإِمَّا أَن لَا يكون، فَإِن لم يكن مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ لَو جرد عَن السُّؤَال فَيحمل على قَضِيَّة السُّؤَال فِي الْخُصُوص وفَاقا وَمِثَال ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {فَهَل وجدْتُم مَا وعد ربكُم حَقًا قَالُوا نعم}. فَالْجَوَاب الصَّادِر مِنْهُم لَو قدر مُفردا لم يثر معنى، فَنزل على مُقْتَضى السُّؤَال عَاما كَانَ أَو خَاصّا وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مَاء الْبَحْر فَقَالَ: «هُوَ الطّهُور مَاءَهُ» فَهَذَا مَا لَا يسْتَقلّ لَو جرد على السُّؤَال فَإِن قَوْله: «هُوَ الطّهُور» كياية محملة، فَقُلْنَا: هَذِه اللَّفْظَة تَقْتَضِي الْجَواب عَن مَاء الْبَحْر المسؤول عَنهُ دون الْمِيَاه الَّتِي لَيست مياه الْبَحْر، وَكَذَلِكَ لما سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الرطب بِالتَّمْرِ فَقَالَ: «أينقص الرطب إِذا يبس؟ فَقيل لَهُ: نعم، فَقَالَ: فَلَا إِذا» فَلَمَّا لم يكن هَذَا الْجَواب مُسْتقِلّا لَو جرد حمل لَهُ على قَضِيَّة السُّؤَال.
فَأَما الْجَواب الْعَام المستقل بِنَفسِهِ لَو قدر مُجَردا فَهُوَ نَحْو جَوَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السَّائِل عَن بِئْر بضَاعَة حَيْثُ قَالَ: «خلق الله المَاء طهُورا» الحَدِيث فَمَا هَذَا وَصفه مِمَّا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ يَنْقَسِم ثَلَاثَة اقسام، فَمِنْهُ مَا لَا تَقْتَضِي صيغته المفردة الزِّيَادَة على مَضْمُون السُّؤَال وَذَلِكَ مثل أَن سَأَلَ السَّائِل عَن جملَة الْمِيَاه فَيَقُول الْمُجيب: خلق الله المَاء طهُورا فَمَا هَذَا نَعته لَا اخْتِلَاف فِيهِ.
وَالضَّرْب الثَّانِي أَن تقصر صِيغَة الْجَواب عَن مَضْمُون السُّؤَال لَو قدر مُفردا عَنهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن يسْأَل سَائل عَن أَحْكَام الْمِيَاه فَيَقُول فِي جَوَابه: مَاء الْبَحْر طهُور. فَيخْتَص الْجَواب بِمَا ينبىء عَنهُ وَلَا يعم بِعُمُوم السُّؤَال وفَاقا.
فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل يجوز أَن يصدر مثل ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قُلْنَا: إِن علم أَن الْحَاجة إِنَّمَا تمس إِلَى بَيَان مَا خصصه بِالذكر فيسوغ ذَلِك، وَإِن علم أَن الْحَاجة عَامَّة فِي جملَة الْمِيَاه فَلَا يُؤَخر الْبَيَان عَن وَقت الْحَاجة وسنستقصي القَوْل فِيهِ فِي ابواب الْبَيَان إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالْمَقْصُود بِالْبَابِ الْكَلَام فِي جَوَاب مُسْتَقل بِنَفسِهِ عَام الصِّيغَة لَو قدرت مُفْردَة على السُّؤَال، وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْعبْرَة بِعُمُوم اللَّفْظ دون خُصُوص السُّؤَال، وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن اللَّفْظَة محمل على الْخُصُوص، وَالَّذِي اقْتَضَاهُ السُّؤَال. وَقد نقل المذهبان جَمِيعًا عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: وَإِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ فَالصَّحِيح عندنَا التَّمَسُّك بِعُمُوم اللَّفْظ دون خُصُوص السُّؤَال.
وَمِمَّا يجب أَن تحيط علما بِهِ أَن تعلم أَنا إِنَّمَا نقصد بالْكلَام مَا لم نعلم خصوصه اضطراراً لقرائن الْأَحْوَال.
فَإِن علم بهَا إِرَادَة مُطلق الْجَواب بِخُصُوص فَهُوَ على مَا علم، وَذَلِكَ نَحْو أَن تَقول لمخاطبك: كلم زيدا أَو: كل الطَّعَام، فَيَقُول فِي جوابك: وَالله لَا تَكَلَّمت وَلَا أكلت، فَرُبمَا يعلم بِقَرِينَة الْحَال أَنه لَا يُرِيد نفي الْأكل جملَة، وَلَا نفي الْكَلَام جملَة، وَإِنَّمَا يُرِيد نفي مَا سَأَلته.
ومسئلتنا لَيست بمفروضة فِي امْتِثَال ذَلِك، وَلَكِن إِذا فقدت الْقَرَائِن، وَنقل إِلَيْنَا سُؤال خَاص، وَجَوَابه لَفْظَة الْعُمُوم، فَحمل الْجَواب على الْعُمُوم أولى، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْجَواب مُسْتَقل بِنَفسِهِ يسوغ تَقْدِير الِابْتِدَاء فِيهِ من غير تَقْدِيم سُؤال وكل لَفْظَة هَذِه صفتهَا فَلَا يسوغ ادِّعَاء تخصيصها إِلَّا بِدلَالَة، وَلَيْسَ فِيمَا نَحن فِيهِ دلَالَة عقل تَقْتَضِي قصر الْجَواب على السُّؤَال، وَلَا دلَالَة سمعية يقطع بهَا، فَإِنَّهُ إِذا ثَبت عقلا وَشرعا جَوَاز تَبْيِين السُّؤَال وَالزِّيَادَة، فَإِذا استدت طرق الْأَدِلَّة فِي التَّخْصِيص واللفظة فِي نَفسهَا مَوْضُوعَة لاقْتِضَاء الشُّمُول فقد ثَبت بِاتِّفَاق الْقَائِلين بِالْعُمُومِ أَن الصِّيغَة الْمَوْضُوعَة لَهُ تعمم مَا لم تمنع مِنْهُ دلَالَة.
فَإِن تمسك الْخصم بقصر الْجَواب فِي بعض موارده على السُّؤَال فَلَا يستتب لَهُ ذَلِك إِلَّا بعد أَن يُقيم الدّلَالَة على أَنه إِنَّمَا خصص لخُصُوص بَيِّنَة، على أَنا نقابل الصُّور الَّتِي يتمسكون بهَا بمعظم ظواهر الْقُرْآن مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {الَّذين يظهرون مِنْكُم}، فَإِنَّهُ عَام مَعَ وُرُوده فِي حق امْرَأَة على الْخُصُوص، وَقَوله تَعَالَى: {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات}، نزل فِي شَأْن أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ معمم. وَآيَة اللّعان نزلت فِي شَأْن هِلَال بن أُميَّة من عمومها، وَقَوله:
{وَالسَّارِق والسارقة} نَازل فِي قصَّة سَرقَة المحجن وَهُوَ معمم فِي الَّذين يستوجبون الْقطع بِالسَّرقَةِ، ومعظم الْأَحْكَام لَو تتبعناها نزلت فِي أَسبَاب خَاصَّة واشخاص مُعينين، وَكَانَ الْمَقْصد تَبْيِين الْأَحْكَام فِيهَا وَفِي أغيارها فَلَو تمسكوا بأمثلة قابلناهم بِمَا ذَكرْنَاهُ فتسلم لنا الدّلَالَة.
ثمَّ الدّلَالَة تعتضد بنكتة أَوْمَأ إِلَيْهَا القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، وَهِي أَنه قَالَ: قد وافقتنا الْخُصُوم على أَن الْجَواب الَّذِي فِيهِ اختلافنا لَو عدى عَن السُّؤَال أَو عمم بِدلَالَة، لم يكن ذَلِك مقتضيا إِلَى حمل الْجَواب على الْمجَاز، فَلَو كَانَ الْجَواب مَعَ السُّؤَال الْخَاص مقتضيا خُصُوصا لَكَانَ فِي تَعْمِيم حمله على الْمجَاز، وَقد أَوْمَأ إِلَى طرق من الْأَدِلَّة تنطوي عَلَيْهَا الطَّرِيقَة الَّتِي ذَكرنَاهَا.
شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ اللَّفْظ الْخَارِج مخرج الْجَواب عَن السُّؤَال الْخَاص عَاما فِي مَحل السُّؤَال وَغَيره لساغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال مِنْهُ كَمَا لَو كَانَ اللَّفْظ مُطلقًا فَلَمَّا أجمعنا على أَنه لَا يسوغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال دلّ أَن الْجَواب مُخْتَصّ بِهِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا لم يسغْ إِخْرَاج مَحل السُّؤَال لكَون كَلَام الْمُجيب جَوَابا عَنهُ، وَهَذَا ثَابت اضطرارا، ويستحيل كَون الْكَلَام جَوَابا عَن كلا مُهِمّ مَعَ أَنه لَا يتَضَمَّن التَّعْلِيق بِهِ، وَاللَّفْظ الْمُطلق لَا تعلق لَهُ بِسَبَب، فَافْتَرقَا من هَذَا الْوَجْه، وَلزِمَ تَعْمِيم الْمُطلق الْمُجَرّد مَعَ تجوز تَخْصِيصه فِي الْآحَاد، وَيلْزم تَعْمِيم الْجَواب مَعَ نفي التَّخْصِيص فِي مَحل السُّؤَال، فافتراقهما من هَذَا الْوَجْه لَا يُوجب افتراقهما فِي الْعُمُوم وَالْخُصُوص.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنه لَو صرح الْمُجيب بتعميم جَوَابه فِي غير المسؤول عَنهُ كَانَ عَاما وفَاقا، مَعَ أَنه يسوغ تَخْصِيص مَحل السُّؤَال، ويتبين ذَلِك بالمثال أَن السَّائِل لَو سَأَلَ عَن مَاء بِئْر بضَاعَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «الْمِيَاه كلهَا - مَا سَأَلت عَنهُ، وَمَا لم تسئل عَنهُ – طهُور» فَمحل السُّؤَال لَا يتخصص مَعَ عُمُوم اللَّفْظ.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْجَواب لَا يتخصص بالسؤال لم تنكرون فِي نقل السُّؤَال لم يكن فِي نقل السُّؤَال فَائِدَة فَلَمَّا نعت النقلَة وجدوا فِي نقل الأسئلة كَمَا اجتهدوا فِي نقل أَلْفَاظ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دلّ ذَلِك على تَخْصِيص الْأَجْوِبَة بالأسئلة، إِذْ لَا فَائِدَة فِي نقلهَا سوى ذَلِك. قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ لَا فَائِدَة فِي نقل الْأَسْبَاب سوى مَا ذكرتموه؟ فَإِن قَالُوا: إِنَّا لَا نَعْرِف غير مَا ذَكرْنَاهُ.
قُلْنَا: فَعدم معرفتكم لَا ينْتَصب دَلِيلا، فَلَا تَجِدُونَ عَن هَذِه الْمُطَالبَة مهربا ثمَّ لَو اتستعنا فِي الْكَلَام قُلْنَا راموا بنقلها نقل مَا شهدوه على وَجهه، وَهَذَا كَمَا أَنهم نقلوا الْأَمَاكِن الَّتِي قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا مَا قَالَ، ونقلوا الأزمان أَيْضا مَعَ الْعلم بِأَن الْأَحْكَام لم تتَعَلَّق بالأماكن وَلَا بالأزمان، ثمَّ نقُول: كثير من المنقولات مِمَّا يعرف نقلهَا فَإِنَّهُ لَا يتَعَلَّق بهَا حكم، كالمراسيل عِنْد من يَنْفِي التَّمَسُّك بهَا، وَالْأَخْبَار السقيمة، وَغَيرهَا، ثمَّ نقُول: فَائِدَة نقل السُّؤَال لَا يخصص مُجمل السُّؤَال فَإِن اللَّفْظَة لَو نقلت مُطلقَة رُبمَا كَانَ يخصص مَحل السُّؤَال وَلَا يسوغ تَخْصِيصه، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَا فَائِدَة فِي تَأْخِير تثبيت هَذَا الحكم إِلَى سُؤال السَّائِل إِلَّا حصر الحكم فِيهِ وَعَلِيهِ، إِذْ لَو كَانَ لَا ينْحَصر الحكم على السُّؤَال لَكَانَ يتَبَيَّن قبله. قيل لَهُم: هَذَا تحكم مِنْكُم فَلم قُلْتُمْ؟
وَتوجه عَلَيْهِم من الطّلبَة مَا ذَكرْنَاهُ فِي الَّتِي قبل هَذِه، ثمَّ نقُول: هَذَا يبْنى على أصُول الْمُعْتَزلَة فِي تَعْلِيل موارد الشَّرِيعَة بِمَا يهذون لَهُ من الحكم، وَنحن لَا نقُول بِشَيْء مِنْهَا، وَلَا نعلل موارد الشَّرْع مَا تقدم مِنْهَا وَمَا تَأَخّر.
وَلَو قَالَ قَائِل: لم اخْتصَّ شرع مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بآخر الزَّمَان أَبينَا تَعْلِيل ذَلِك، على أَنا نقُول لخصومنا لَو قَدرنَا مساعدتكم جدلا فِيمَا ذكرتموه فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الحكم إِنَّمَا لم يبين قبل السُّؤَال للطف علمه الله، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى علم أَنه لَو بَين من غير سُؤال عصى المكلفون وابوا، وَلَو بَين عِنْد سُؤال أَسْوَأ، وَهَذَا مِمَّا لَا نستبعد تَقْدِيره فِي الْعُلُوم فَبَطل مَا قَالُوهُ على كل اصل، على أَنا نقُول مَا ذكرتموه يبطل بِآيَة الظِّهَار وَاللّعان وَالْقَذْف وَالسَّرِقَة فَإِنَّهَا عَامَّة لم ترد إلآ عِنْد الْأَسْبَاب الْخَاصَّة.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم فَإِن قَالُوا قَضِيَّة اللُّغَة توجب خُرُوج الْجَواب على حسب السُّؤَال فَكَمَا ترَوْنَ تعلق بعض الْكَلَام بِبَعْضِه فَكَذَلِك ترَوْنَ تعلق الْجَواب بالسؤال.
قيل لَهُم: إِن عنيتم بالتعلق أَن الْجَواب يتَضَمَّن السُّؤَال فلعمرنا هَكَذَا نقُول، وَإِن عنيتم أَن قَضِيَّة الْخطاب توجب على الْمُجيب أَن يقْتَصر على جَوَابه وَلَا يزِيد على مَحل سُؤَاله فَهَذِهِ دَعْوَى، فعلى الْمُجيب بَيَان السُّؤَال وَلَا حرج فِي الزِّيَادَة.
فَإِن قيل: فالقدر الَّذِي لَا يتَعَلَّق بالسؤال لَا يكون جَوَابا عَنهُ.
قُلْنَا: صَدقْتُمْ، وَإِنَّمَا الْجَواب هُوَ الَّذِي بَين السُّؤَال، وَلَكِن للمجيب الاجتزاء بتبيين السُّؤَال، وَله الزِّيَادَة عَلَيْهِ، سِيمَا صَاحب الشَّرِيعَة فَإِنَّهُ يشرع ويشرح فِي أَي وَقت شَاءَ ابْتِدَاء، وعَلى عقب الأسئلة، كَمَا مثلنَا بِهِ من الْآيَات.

.القَوْل فِي أَنه هَل يجوز أَن يسمع اللَّفْظ الْعَام فِي الْوَضع من لَا يسمع مخصصة؟

اخْتلف ارباب الْأُصُول على ذَلِك، فَصَارَ مُعظم الْقَائِلين بِالْعُمُومِ إِلَى أَنه يجوز أَن يسمع الْمُكَلف لَفظه مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة وَلَا يسمع مَعهَا مُخَصّصا وَلها مُخَصص فِي أَدِلَّة الشَّرِيعَة.
وَصَارَ بعض الْمُتَكَلِّمين إِلَى منع ذَلِك، فَقَالُوا: كل لَفْظَة شَرْعِيَّة كَانَت مخصصة بِدلَالَة شَرْعِيَّة فَلَا يجوز أَن يسْمعهَا الله عبدا مُكَلّفا من غير أَن يسمعهُ مُخَصّصا.
وَلَا خلاف فِي جَوَاز وُرُود اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم إذاكانت مخصصة بِدلَالَة الْعقل من غير تَنْبِيه عَلَيْهَا، وَإِن كَانَت الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة لَا تستدرك إِلَّا بدقيقالنظر فَهَذَا أَمر وَاضح مِمَّا يسْتَدلّ بِهِ، فَإنَّا نقُول إِذا جَازَ أَن تقع اللَّفْظَة فِي مسامعه وَهِي مَوْضُوعَة للْعُمُوم فِي اللُّغَة مَعَ كَونهَا مَخْصُوصَة بِدلَالَة عقلية لم نتدبرها بعد فَيَنْبَغِي أَن يسوغ مثل ذَلِك فِي الْأَدِلَّة السمعية فَإِن كل مَا يتَحَقَّق فِي التَّخْصِيص بالأدلة الْعَقْلِيَّة يتَحَقَّق مثله فِي الْأَدِلَّة السمعية، وَإِذا سبرت وَقسمت وجدت المجوز فِي الْمُتَّفق عَلَيْهِ متحققا فِي الْمُخْتَلف فِيهِ، وَهَذَا تحريرالأدلة فِي مسَائِل الْقطع.
فَإِن قيل: إِنَّمَا سَاغَ ذَلِك فِي العقليات لاقتداره على التَّوَصُّل إِلَيْهَا. قيل: وَكَذَلِكَ يقتدر على التَّوَصُّل إِلَى الْأَدِلَّة السمعية فَلَا حاجز فِي الْبَابَيْنِ.
فَإِن قيل فقد أعلمهُ الله تَعَالَى أَن الْعَام يبْنى على دلالات الْعُقُول.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ أعلمهُ أَن الْأَلْفَاظ الْوَارِدَة تبنى على أَدِلَّة الشَّرْع، ويسلط بَعْضهَا بالتخصيص على بعض فَلَا فرق فِي ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: فَيجوز أَن يبلغهُ الْمَنْسُوخ، وَلَا يبلغهُ النَّاسِخ.
قُلْنَا: هَكَذَا القَوْل وَلَا استبعاد فِيهِ.
فَإِن قيل: فَمَا حكم الله تَعَالَى عَلَيْهِ إِذا بلغه الْمَنْسُوخ؟
قُلْنَا: ذَلِك مِمَّا يستقصى فِي تصويب الْمُجْتَهدين إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قَالُوا: فجوزوا على طرد مذهبكم أَن يسمع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ دون الِاسْتِثْنَاء.
قُلْنَا: إِن عنيتم بِالِاسْتِثْنَاءِ مَا يتَّصل بالْكلَام، فَيُقَال لكم: إِن استوفى الْكَلَام وسَمعه كُله فَمن ضَرُورَته أَن يسمع الِاسْتِثْنَاء.
وَإِن قُلْتُمْ: هَل يتَصَوَّر أَن يسمع أصل الْكَلَام ثمَّ يَعْتَرِيه آفَة تحجزه سَماع الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل بِهِ؟ وَهَذَا مِمَّا نجوزه وَلَا ننكره فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَاعْلَم أَنا اسْتَوْفَيْنَا فِي الأسئلة أدلتهم وأجبنا عَنْهَا، وَالدّلَالَة الْعَقْلِيَّة تنقض كل شُبْهَة لَهُم.

.فصل:

اخْتلف أَئِمَّة الْفُقَهَاء فِي الْأُصُول فِي أَن اللَّفْظَة الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم إِذا اتَّصَلت بالمخاطب فَهَل يعْتَقد الْعُمُوم فِي حَال اتصالها بِهِ أم يرقب ويتوقف إِلَى أَن تيَسّر الْأَدِلَّة فَإِن رَآهَا مخصصة اعْتقد الْخُصُوص وَإِن لم ير فِيهَا مَا يَقْتَضِي تَخْصِيص اللَّفْظَة اعْتقد فِيهَا الْعُمُوم حِينَئِذٍ؟
فَذهب أَبُو بكر الصَّيْرَفِي إِلَى أَنه يعْتَقد الْعُمُوم كَمَا اتَّصل اللَّفْظ بِهِ. وَذهب ابْن سُرَيج فِي مُعظم الْعلمَاء إِلَى أَنه لَا يسوغ اعْتِقَاد الْعُمُوم إِلَّا بعد النّظر فِي الْأَدِلَّة ثمَّ إِذا نظر فِيهَا جرى على قضيتها.
وَالَّذِي ذكره ابْن سُرَيج هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ الصَّحِيح، ونقول للصيرفي فِي هَذَا هَل يجوز أَن يبلغ الْمُكَلف الْعُمُوم وَلَا يبلغهُ مخصصه؟ فَإِن لم يجوز ذَلِك كَانَ الْكَلَام عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ على الَّذين سبقوا، وَإِن جوز ذَلِك وَهُوَ الظَّن بِهِ فَإِنَّهُ لاينتحي نَحْو الْمُعْتَزلَة فِي الصّلاح والأصلح واللطف، فَيُقَال لَهُ: فَإِذا جوزت أَن لَا يبلغهُ الْمُخَصّص فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَن تعتقد انه لَيْسَ بعام وَلَا خَاص، وَهَذَا محَال. أَو تعتقد أَنه عَام خَاص من وَجه وَاحِد، وَهَذَا محَال. وتعتقد أَنه عَام كَمَا قلته، وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا مَعَ تَجْوِيز الذهول أَن يكون مُخَصّصا فَأنى يَسْتَقِيم اعْتِقَاد الْعُمُوم وَالْقطع مَعَ تَجْوِيز الذهول عَن الْمُخَصّص، وَإِن اعْتقد الْخُصُوص مَعَ جَوَاز أَن لَا يكون للفظ مُخَصص كَانَ محالا لما ذَكرْنَاهُ فِي الْقسم قبله فَلَا يبْقى إِلَّا تَجْوِيز كِلَاهُمَا، وَإِذا جوز كِلَاهُمَا لم يتَصَوَّر قطع الِاعْتِقَاد باحدهما وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاء بِهِ.
فان قَالَ الصَّيْرَفِي فِي معنى قَول يعْتَقد الْعُمُوم أَنه يعْمل بِالْعُمُومِ وَإِن كَانَ يجوز خصوصه فَهَذَا مُخَالفَة مِنْهُ لقَوْله الْمَنْقُول عَنهُ فِي الِاعْتِقَاد مَعَ أَنا نعلم أَنه لَا يَكْتَفِي بِمَا قُلْنَاهُ من الْعَمَل، وَالْقَصْد إبْطَال اعْتِقَاد الْعُمُوم، وَقد اسْتمرّ ذَلِك كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
ثمَّ نقُول: لَو جَازَ الْعَمَل بِالْعُمُومِ مَعَ تردد الِاعْتِقَاد فِيهِ جَازَ أَن يعْمل الْمُجْتَهد إِذا عَن لَهُ قِيَاس من غير أَن يسبره حق سبره، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ، وسنقرره فِي أَوْصَاف الِاجْتِهَاد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن اسْتدلَّ الصَّيْرَفِي فَقَالَ: هَذِه اللَّفْظَة دلَالَة على الْعُمُوم وَشرط الدّلَالَة أَن تدل على مدلولها فَيجب لذَلِك اعْتِقَاد الْعُمُوم فِيهَا.
قيل لَهُ: إِنَّمَا تدل لَو جردت عَن مُخَصص، وَإِنَّمَا نَعْرِف تجردها أَو يغلب ذَلِك على ظَنّه إِذا نظر فِي الْأَدِلَّة.
فَإِن قَالَ: وَإِن نظر فِي الْأَدِلَّة فَرُبمَا لَا يتَوَصَّل إِلَى الْقطع، فَقولُوا: لَا يتَحَقَّق مِنْهُ الِاعْتِقَاد فِي الْعُمُوم وَإِن نظر.
قُلْنَا: إِذا نظر وَلم يعثر على دلَالَة قَاطِعَة تَقْتَضِي تَخْصِيص اللَّفْظَة فَلَا يعْتَقد فِيهَا عُمُوما بل يغلب ذَلِك على ظَنّه فَيعْمل بِهِ كَمَا يعْمل بخبرالواحد، وَالْقِيَاس السمعي وَإِن لم يقطع بهما، فَهَذَا قَوْلنَا، ثمَّ لم يدل ذَلِك على قطع النّظر فِي الْأَخْبَار وَوُجُوب الْعَمَل بهَا، كَمَا نقلت قبل النّظر فِي صِفَات الرب.
شُبْهَة أُخْرَى لَهُم، فَإِن قَالُوا: لَو توقف فِي اللَّفْظَة حَالَة وَاحِدَة سَاغَ أَن يتَوَقَّف حالتين وَثَلَاثَة، وَيلْزم مِنْهُ التَّبْلِيغ إِلَى الْوَقْف أبدا كَمَا صَارَت إِلَيْهِ الواقفية.
فَيُقَال: إِنَّمَا يتَوَقَّف بِقدر مَا ينظر فِي الْأَدِلَّة على حسب جهده من غير تَفْرِيط وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِط زَمَانه، وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجْتَهد يفكر فِي حكم الْحَادِثَة ويجتهد فَرُبمَا يبْقى فِي اجْتِهَاده سَاعَات ثمَّ لَا يلْزم من ذَلِك ان يتَوَقَّف أبدا، وَكَذَلِكَ من نقل إِلَيْهِ الْخَبَر يتَوَقَّف فِي الْعَمَل بِهِ ريثما يسير أَحْوَال الروَاة ثمَّ لَا يلْزمه مِنْهُ ترك القَوْل بهَا، وَكَذَلِكَ القَاضِي يتَوَقَّف فِي إبرام الْقَضَاء إِلَى التفحص عَن أَحْوَال الشُّهُود.
فَإِن قيل: فَهَل يتحدد النّظر فِي مُخَصص الْعُمُوم بِحَدّ؟
قيل لَهُم: فَهَل يتحدد نظر الْمُجْتَهد، وَمن نقل إِلَيْهِ الْخَبَر، وَنظر القَاضِي فِي أَحْوَال الشُّهُود بِحَدّ؟
فَإِن قَالَ: لَا ينْحَصر فِيهِ زمَان، وَيخْتَلف ذَلِك بِسُرْعَة الخاطر وبطئه والمقصد أَن لَا يقصر النَّاظر فِيهِ، وَلَا يألو جهده. قيل لَهُ: فَهَذَا فِي الْمُتَنَازع فِيهِ.