فصل: الْأُسْلُوبُ الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْأُسْلُوبُ الْأَوَّلُ: التَّأْكِيدُ:

وَالْقَصْدُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ لِيَصِيرَ وَاقِعًا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَأْكِيدُ الْمَاضِي وَلَا الْحَاضِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ وَإِنَّمَا يُؤَكَّدُ الْمُسْتَقْبَلُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ فِيهِمَا تَأْكِيدٌ وَلَا في اللغة بل لابد أَنْ يُفِيدَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الْأَوَّلِ وَاعْتَرَضَ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِمَا فِيهِمَا مِنَ التَّأْكِيدَاتِ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْبَلَاغَةِ فِي النَّظْمِ إِيجَازُ اللَّفْظِ وَاسْتِيفَاءُ الْمَعْنَى وَخَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَلَا يُمَلُّ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنَ الْإِعَادَةِ وَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِيءُ لِقُصُورِ النَّفَسِ عَنْ تَأْدِيَةِ الْمُرَادِ بِغَيْرِ تَأْكِيدٍ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى لِسَانِ الْقَوْمِ وَفِي لِسَانِهِمُ التَّأْكِيدُ وَالتَّكْرَارُ وَخِطَابُهُ أَكْثَرُ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مَعْدُودٌ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُكَابِرٌ إِذْ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ تَأْكِيدًا فَائِدَةٌ فَإِنَّ الِاسْمَ لَا يُوضَعُ إِلَّا لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
الثَّانِيَةُ: حَيْثُ وَقَعَ فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَجَازٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْمَذْكُورُ الْأَوَّلُ حَكَاهُ الطرطوسي في العمدة ثُمَّ قَالَ وَمَنْ سَمَّى التَّأْكِيدَ مَجَازًا فَيُقَالُ لَهُ إِذَا كَانَ التَّأْكِيدُ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ نَحْوُ عَجِّلْ عَجِّلْ وَنَحْوُهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَجَازًا جَازَ فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَإِذَا بَطَلَ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ بَطَلَ حَمْلُ الثَّانِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْأَوَّلِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى التَّأْكِيدِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى مُدَّةٍ مُحَدَّدَةٍ.
الرَّابِعَةُ: يَكْتَفِي فِي تِلْكَ بِأَيْ مَعْنًى كَانَ وَشَرْطٍ وَمَا قَالَهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْأَلْفَاظِ حَتَّى يَحْذُوَ بِهِ حَذْوَ الْأَلْفَاظِ.
الْخَامِسَةُ: فِي تَقْسِيمِهِ وَهُوَ صِنَاعِيٌّ-يَتَعَلَّقُ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ- وَمَعْنَوِيٌّ وَأَقْسَامُهُ كَثِيرَةٌ فَلْنَذْكُرْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا.

.الْقَسَمُ الْأَوَّلُ: التَّوْكِيدُ الصِّنَاعِيُّ:

وَهُوَ قِسْمَانِ: لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيِّ: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فجاجا سبلا} {ضيقا حرجا} في قراءة كسر الراء {وغرابيب سود}.
وَجَعَلَ الصَّفَّارُ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فِيمَا إِنْ مكناكم فيه} عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَاهُمَا لِلنَّفْيِ وَاللَّفْظِيُّ يَكُونُ في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قواريرا قوارير} وَجَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ عُصْفُورٍ مِنْهُ: {دَكًّا دكا} و: {صفا صفا} وَهُوَ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ معنى دكا دكا دكا بَعْدَ دَكٍّ وَأَنَّ الدَّكَّ كُرِّرَ عَلَيْهَا حَتَّى صَارَ هَبَاءً مَنْثُورًا وَأَنَّ مَعْنَى: {صَفًّا صَفًّا} أَنَّهُ تَنَزَّلُ مَلَائِكَةُ كُلِّ سَمَاءٍ يَصْطَفُّونَ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ مُحَدِّقِينَ بِالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ الثَّانِي مِنْهُمَا تَكْرَارًا لِلْأَوَّلِ بَلِ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْثِيرُ نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ رَجُلًا رَجُلًا وَعَلَّمْتُهُ الْحِسَابَ بَابًا بَابًا.
وَقَدْ ذِكْرَ ابْنُ جِنِّي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إذا رجت} أَنْ {رُجَّتِ} بَدَلٌ مِنْ {وَقَعَتْ} وَكُرِّرَتْ (إِذَا) تَأْكِيدًا لِشِدَّةِ امْتِزَاجِ الْمُضَافِ بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَيَكُونُ فِي اسْمِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لما توعدون} وَفِي الْجُمْلَةِ نَحْوُ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يسرا} ولكون الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ لِلتَّوْكِيدِ سَقَطَتْ مِنْ مُصْحَفِ ابْنِ مسعود ومن قراءته.
والأكثر فصل الجملتين بثم كَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أدراك} {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}.
ويكون فِي الْمَجْرُورِ كَقَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجنة خالدين فيها} وَالْأَكْثَرُ فِيهِ اتِّصَالُهُ بِالْمَذْكُورِ وَزَعَمَ الْكُوفِيُّونَ أَنَّهُ لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قَالَ الصَّفَّارُ فِي شَرْحِ سِيبَوَيْهِ: وَالسَّمَاعُ يَرُدُّهُ قال تعالى: {وهم بالآخرة هم كافرون} فَإِنَّ (هُمُ) الثَّانِيَةَ تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها} وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} أَلَّا تَرَى أَنَّ قَبْلَهُ: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فَأَكَّدَ (لَمَّا) وَبَيْنَهُمَا كَلَامٌ وَأَصْلُهُ: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كفروا} فَكُرِّرَ لِلطُّولِ الَّذِي بَيْنَ (لَمَّا) وَجَوَابِهَا وَقَوْلُهُ: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أنكم مخرجون} فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ (أَنَّ) بَعْدَ مَا فَصَلَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ والأرض لآيات للمؤمنين}.
رَيْبَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْهَلَاكِ وَإِنَّ قَوْمَ مُوسَى اجْتَمَعُوا فِي النَّجَاةِ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حكاية عن يوسف: {وأتوني بأهلكم أجمعين} فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا أَنْ يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ وَإِنْ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ اجْتِمَاعَهُمْ فِي الْمَعْنَى إِلَيْهِ وَأَلَّا يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ.
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: يَتَخَلَّفَ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَهَذَا يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ وَالْقَرِينَةِ.
وَمِنَ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كلهم} يُفِيدُ الشُّمُولَ وَالْإِحَاطَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفِيدَ: {أَجْمَعُونَ} قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ في السجود هذا في اللفظ وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكُنْ لِيَتَخَلَّفَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عنده ولاسيما وَقَدْ وُقَّتَ لَهُمْ بِوَقْتٍ وَحُدَّ لَهُمْ بِحَدٍّ وَهُوَ التَّسْوِيَةُ وَنَفْخِ الرُّوحِ فَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ سَجَدُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَلَامَ الْمُبَرِّدِ الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ عَلَى الْكُلِّ بدليل قوله: {أستكبرت أم كنت من العالين} مَرْدُودٌ بَلْ الْعَالُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ وَفِي رَسَائِلِ إِخْوَانِ الصَّفَاءِ أَنَّ الْعَالِينَ هُمُ الْعُقُولُ الْعَاقَّةُ الَّتِي لَمْ تَسْجُدُ وَهَذَا تَحْرِيفٌ وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْعُقُولِ الَّتِي تَدَّعِيهَا الْفَلَاسِفَةُ.
وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْ لَا؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنْهُ لَيْسَ مِنْهُمْ عُنْصُرًا فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَتِ الْجَانُّ مِنَ النَّارِ وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ» وَهُوَ مِنْهُمْ حُكْمًا لِدُخُولِهِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ بِالسُّجُودِ مَعَهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {إِلَّا آلَ لوط إنا لمنجوهم أجمعين} فَلَمْ يُذْكَرْ قَبْلَهُ (كُلُّهُمْ) لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْآيَةِ لَمْ تَحْسُنِ الزِّيَادَةُ فِي التَّأْكِيدِ بِدَلِيلِ الاستثناء بعده من قوله: {إلا امرأته}.
وَمِنْهَا: قَصْدُ تَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إني جاعل} فَأُكِّدَ بِإِنَّ وَبَاسِمِ الْفَاعِلِ مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَاكِّينَ فِي الْخَبَرِ.
وَمِثْلُهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ ميتون}.
وَقَالَ حَاكِيًا عَنْ نُوحٍ: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يضلوا عبادك}.
وَمِنْهَا: قَصْدُ إِغَاظَةِ السَّامِعِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: {إنك لمن المرسلين}.
وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ كَقَوْلِهِ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} أَكَّدَهُ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ وَهِيَ إِنَّ وَضَمِيرُ الْفَصْلِ وَالْمُبَالَغَتَانِ مَعَ الصِّفَتَيْنِ لَهُ لِيَدُلَّ عَلَى تَرْغِيبِ اللَّهِ الْعَبْدَ فِي التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ طَمِعَ فِي عَفْوِهِ وَقَوْلِهِ: {لَا تَحْزَنْ إن الله معنا}.
وَمِنْهَا: الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} دون الاقتصار على (يأتينكم هدى) قال المفسرونك فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ.
وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وشفاء لما في الصدور} {قد جاءكم برهان من ربكم}.
وَمِنْهَا: التَّعْرِيضُ بِأَمْرٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبِّ إني ظلمت نفسي} وَقَوْلِ مُوسَى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قَبُولِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ تَطْلُبُ لِلنَّذْرِ ذَكَرًا.

.تَنْبِيهَانِ:

الْأَوَّلُ: قَالُوا: إِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ لِلْحَاجَةِ لِلتَّحَرُّزِ عن ذكر مالا فَائِدَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ سَاذَجًا أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْكَلَامُ خَالِيًا عَنِ التَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِيهِ حَسُنَ تَقْوِيَتُهُ بِمُؤَكَّدٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا وَجَبَ تَأْكِيدُهُ وَيُرَاعَى فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ بِحَسَبِ حَالِ الْمُنْكِرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عن رسل عيسى: {ربنا يعلم} الْآيَةَ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَفَوْا رِسَالَتَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مثلنا} والثاني قولهم: {ما أنزل الرحمن من شيء} والثالث قولهم: {إن أنتم إلا تكذبون} فَقُوبِلُوا عَلَى نَظِيرِهِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ: {ربنا يعلم} وُوجِهَ التَّأْكِيدُ فِيهِ أَنَّهُ فِي مَعْنَى قَسَمٍ والثاني قوله: {إنا إليكم لمرسلون} وَالثَّالِثُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ المبين}.
وَقَدْ يَنْزِلُ الْمُنْكِرُ كَغَيْرِ الْمُنْكَرِ وَعَكْسُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أكدت الإماتة تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ وَأُكِّدَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَلَّا يَتَكَرَّرَ وَيَتَرَدَّدَ فِيهِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ.
الثَّانِي: قَالَ التَّنُوخِيُّ في (أقصى القرب): إِذَا قَصَدُوا مُجَرَّدَ الْخَبَرِ أَتَوْا بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ وَإِنْ أَكَّدُوا فَبِالِاسْمِيَّةِ ثُمَّ بِإِنَّ ثُمَّ بِهَا وَبِاللَّامِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الْفِعْلِيَّةُ بِقَدْ وَإِنِ احْتِيجَ بِأَكْثَرَ جِيءَ بِالْقَسَمِ مَعَ كُلٍّ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ وَقَدْ تُؤَكَّدُ الِاسْمِيَّةُ بِاللَّامِ فَقَطْ نَحْوُ: لَزَيْدٌ قَائِمٌ وَقَدْ تَجِيءُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ مُضْمَرَةً بَعْدَ اللَّامِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِطَابَ عَلَى دَرَجَاتٍ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ لَقَدْ قَامَ-فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِعْلِيَّةَ كَأَنَّهَا دُونَ الِاسْمِيَّةِ- ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ ولزيد قائم.

.ما يلتحق بالتأكيد الصناعي:

وَيَلْتَحِقُ بِالتَّأْكِيدِ الصِّنَاعِيِّ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} وقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} {وسلموا تسليما} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الجبال سيرا} {وهي تمر مر السحاب}.
{فدكتا دكة واحدة} {إذا زلزلت الأرض زلزالها} {فيكيدوا لك كيدا} وَهُوَ كَثِيرٌ.
قَالُوا: وَهُوَ عِوَضٌ عَنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ فَقَوْلُكَ ضَرَبْتُ ضَرْبًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ ضَرَبْتُ ثُمَّ عَدَلُوا عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَاضُوا عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْمُفْرَدِ وَلَيْسَ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وتظنون بالله الظنونا} بل هو جمع الظن وَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ قَالَهُ ابْنُ الدَّهَّانِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَائِدَتِهِ فَقِيلَ: إِنَّهُ يَرْفَعُ الْمَجَازَ عَنِ الْفَاعِلِ فَإِنَّكَ تَقُولُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ اللِّصَّ ولا يكون باشر بل أمر به ضَرَبًا عُلِمَ أَنَّهُ بَاشَرَ.
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور فِي شَرْحِ الْجَمَلِ الصَّغِيرِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَرْفَعُ الْوَهْمَ عَنِ الْحَدِيثِ لَا عَنِ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ فَإِذَا قُلْتَ: ضَرْبُ الْأَمِيرِ احْتُمِلَ مَجَازَيْنِ أَحَدُهُمَا: إِطْلَاقُ الضَّرْبِ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَالثَّانِي: إِطْلَاقُ الْأَمِيرِ عَلَى أَمْرِهِ فَإِذَا أَرَدْتَ رَفْعَ الْأَوَّلِ أَتَيْتَ بِالْمَصْدَرِ فَقُلْتَ: ضَرْبًا وَإِنْ أَرَدْتَ الثَّانِيَ قُلْتَ: نَفْسِهِ أَوْ عَيْنِهِ وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ ضَعْفَ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ كَلَامِ اللَّهِ لِمُوسَى فِي قَوْلِهِ تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} فَإِنَّهُ لِمَا أُرِيدَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ قَالَ: {تَكْلِيمًا} وَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ حَقِيقَةً أَمَّا تَأْكِيدُ فَاعِلِهِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ وَلَقَدْ سَخُفَ عَقْلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِأَظْفَارِ الْمِحَنِ مِنَ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ لِأَنَّ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ فِي بَيَانِ الْوَحْيِ وَيُحْكَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِالْآيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُؤَكِّدُ فَسَلَّمَ الْمُعْتَزِلِيُّ لَهُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ وَأَرَادَ دَفْعَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَادَّعَى أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا هُوَ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بِنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَجَعَلَ مُوسَى فَاعِلًا بِـ كَلَّمَ وَأَنْكَرَ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ وَكَابَرَ فَقَالَ السُّنِّيُّ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَ موسى لميقاتنا وكلمه ربه} فَانْقَطَعَ الْمُعْتَزِلِيُّ عِنْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الدَّهَّانِ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَرْفَعُ الْمَجَازَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَرَعْتُ ظَنَابِيبَ الْهَوَى يَوْمَ عَالِجٍ ** وَيَوْمَ اللِّوَى حَتَّى قَسَرْتُ الْهَوَى قَسْرًا

قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وأسررت لهم إسرارا} فَمَفْعُولُ {أَسْرَرْتُ} مَحْذُوفٌ أَيِ: الدُّعَاءَ وَالْإِنْذَارَ وَنَحْوَهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: التَّأْكِيدُ يُنَافِي الْحَذْفَ فَالْجَوَابُ مِنْ وجهين:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُصَدِّرَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ هُنَا لِلتَّأْكِيدِ وَإِنْ كَانَ بِصُورَتِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ لِأَجْلِ الْفَوَاصِلِ وَلِهَذَا لَمْ يُؤْتَ بِمَصْدَرٍ {أَعْلَنْتُ} وَهُوَ مِثْلُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ (أَسْرَّ) وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّهُ هُنَا قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ مَفْعُولِهِ وَجُعِلَ نَسْيًا كَمَا فِي قَوْلِهِ فُلَانٌ يُعْطَى وَيُمْنَعُ فَصَارَ لِذَلِكَ كَاللَّازِمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَجِيءِ بِهِ بِالْمَصْدَرِ لَوْ كَانَ.
ثُمَّ التَّأْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ تَارَةً يَجِيءُ مِنْ لَفْظِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ وَتَارَةً يَجِيءُ مِنْ مُرَادِفِهِ كقوله تعالى: {ثم إني دعوتهم جهارا} فَإِنَّ الْجِهَارَ أَحَدُ نَوْعَيِ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: {لَيًّا بألسنتهم} فإنه منصوب بقوله: {يحرفون الكلم} لِأَنَّ {لَيًّا} نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيفِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون منه: {أتأخذونه بهتانا} لِأَنَّ الْبُهْتَانَ ظُلْمٌ وَالْأَخْذُ عَلَى نَوْعَيْنِ: ظَلَمٌ وغيره.
وزعم الزمخشري قوله: {نافلة لك} وضع {نافلة} مَوْضِعَ تَهَجُّدًا لِأَنَّ التَّهَجُّدَ عِبَادَةٌ زَائِدَةٌ فَكَانَ التَّهَجُّدُ وَالنَّافِلَةُ يَجْمَعُهُمَا مَعْنًى وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قيلا} قِيلَ: كَانَ الْأَصْلُ تَكْرَارَ الصِّدْقِ بِلَفْظِهِ فَاسْتُثْقِلَ التَّكْرَارُ لِلتَّقَارُبِ فَعُدِلَ إِلَى مَا يُجَارِيهِ خِفَّةً ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خِفَّةً وَوَزْنًا إِحْرَازًا لِلتَّنَاسُبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا ويخرجكم إخراجا} فَفَائِدَةُ {إِخْرَاجًا} أَنَّ الْمَعَادَ فِي الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي يُخْرِجُكُمْ مِنْهَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْهَا أَمْثَالُهُمْ وَأَنَّ الْمَبْعُوثَ الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَبْطُلُ بِقَوْلِهِ تعالى: {نبتكم من الأرض نباتا} فَإِنَّهُ أَكَّدَ بِالْمَصْدَرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ النَّبَاتِ.
قُلْتُ: لَا جَرَمَ حَيْثُ لَمْ يَرُدَّ الْحَقِيقَةَ هُنَا لَمْ يُؤَكِّدْهُ بِالْمَصْدَرِ الْحَقِيقِيِّ الْقِيَاسِيِّ بَلْ عُدِلَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَصْدَرَ أَنْبَتَ الْإِنْبَاتُ وَالنَّبَاتُ اسْمُهُ لَا هُوَ كَمَا قيل في (الكلام) و: (السلام): اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّسْلِيمُ وأما قوله: {وتبتل إليه تبتيلا} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى تَبَتُّلٍ لَكِنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى: بِتَّلْ نَفْسَكَ تَبَتُّلًا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وتعالى عما يقولون علوا كبيرا} قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هُوَ مَوْضِعُ تَعَالِيًا لِأَنَّهُ مَصْدَرُ قَوْلِهِ: {وَتَعَالَى} وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ مَصْدَرًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مَعْنَاهُ وَكَذَا قَالَ الرَّاغِبُ قَالَ: وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ لِأَنَّ لَفْظَ التَّفَاعُلِ مِنَ التَّكَلُّفِ كَمَا يَكُونُ مِنَ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجُمْلَةُ الْفَاعِلِيَّةُ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ فِي مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ إِنَّ الْمَجَازَ فِي: {تَمُورُ} وَأَنَّهَا مَا تَمُورُ بَلْ تَكَادُ أَوْ يُخَيَّلُ إِلَى النَّاظِرِ أَنَّهَا تَمُورُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي السماء وأن المور الحقيقي لكنها وَأَهْلِهَا لِشِدَّةِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي {وَتَسِيرُ الجبال سيرا} فَإِذَا رُفِعَ الْمَجَازُ عَنْ أَحَدِ جُزْأَيِ الْجُمْلَةِ نُفِيَ احْتِمَالُهُ فِي الْآخَرِ فَلَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ التَّأْكِيدِ وَأُجِيبَ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ {مَوْرًا} فِي تَقْدِيرِ (تَمُورُ) فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَمُورُ السَّمَاءُ تَمُورُ السَّمَاءُ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ تَسِيرُ الْجِبَالُ فَأَكَّدَ كُلًّا مِنَ الْجُزْأَيْنِ بِنَظِيرِهِ وَزَالَ الْإِشْكَالُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ {شَيْئًا} مِنْ تَأْكِيدِ الْفِعْلِ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُ بَيْعًا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ وَالتِّبْيَانِ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي أَمْرًا أَوْ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ وَانْظُرْ كَيْفَ ذُكِرَ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ وَقَوْلُ الْبَيَانِيَّيْنِ: إِنَّهُ يَجِبُ حَذْفُهُ إِذَا كَانَ عَامًّا وَأَمَّا قوله تعالى: {دكا دكا} فَالْمُرَادُ بِهِ: التَّتَابُعَ أَيْ دَكًّا بَعْدَ دَكٍّ وكذا قوله: {صفا صفا} أَيْ: صَفًّا يَتْلُوهُ صَفٌّ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْوَاحِدِ لَا يَحْتَمِلُ صَفًّا وَاحِدًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها} فَإِنَّ إِضَافَةَ الزِّلْزَالِ إِلَيْهَا يُفِيدُ مَعْنَى ذَاتِهَا وَهُوَ: زِلْزَالُهَا الْمُخْتَصُّ بِهَا الْمَعْرُوفُ مِنْهَا الْمُتَوَقَّعُ كَمَا تَقُولُ غَضِبَ زَيْدٌ غَضَبَهُ وَقَاتَلَ زَيْدٌ قِتَالَهُ أَيْ غَضَبَهُ الَّذِي يُعْرَفُ مِنْهُ وَقِتَالَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ كَقَوْلِهِ:
أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

وَاعْلَمْ أَنَّ القاعدة في المصدر والمؤكدأن يَجِيءَ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِ نَحْوُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تكليما} وَقَدْ يَخْرُجُ عَنْهَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَبَتَّلْ إليه تبتيلا} وقوله تعالى: {فإني أعذبه عذابا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} وقوله تعالى: {أنبتكم من الأرض نباتا} ولم يقل: (تبتلا) و: (تعذيبا) و: (إقراضا) و: (إنباتا).
واختلف في ذلك على أقوال:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَضَعَ الِاسْمَ مِنْهَا مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُجْرَى عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ دَلِيلًا عَلَى الْمُضْمَرِ فَالْمَعْنَى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا وَهُوَ قَوْلُ الْمُبَرِّدِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ خَرُوفٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَكَذَا قَالَ ابْنُ يَعِيشَ وَنَازِعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِتِلْكَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ جَارِيَةً عَلَيْهَا.
وَالرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْفِعْلِ غَيْرُ مُعَبِّرٍ بِمَعْنَى مَصْدَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الظَّاهِرِ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتا} أَيْ: وَنَبَتُّمْ أَيْ وَسَاغَ إِضْمَارُهُ لِأَنَّهُمْ إِذَا أُنْبِتُوا فَقَدْ نَبَتُوا وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُنْصَبَ بِالظَّاهِرِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْمَصْدَرِ تَأْكِيدُ الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَهُ أَوْ تَبْيِينُ مَعْنَاهُ وَإِذَا كَانَ الْمَصْدَرُ مُغَايِرًا لِمَعْنَى الْفِعْلِ الظَّاهِرِ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِنْبَاتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَعْنَاهُ فَكَيْفَ يُؤَكِّدُهُ أَوْ يُبَيِّنُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين} فَإِنَّمَا ذِكْرُ قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} مَعَ {تَدَايَنْتُمْ} يَدُلُّ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لِيَعُودَ الضَّمِيرُ فِي {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يَذْكُرْهُ لَقَالَ: (فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ) ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ {تَدَايَنْتُمْ} لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الدَّيْنِ.
الثَّانِي: أَنْ {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الدَّيْنِ وَمِنَ الدِّينِ فَاحْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {بِدَيْنٍ} لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ مِنَ الدَّيْنِ لَا مِنَ الدِّينِ.
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ السِّيَاقَ يُرْشِدُ إِلَى إِرَادَةِ الدَّيْنِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {بِدَيْنٍ} إِشَارَةٌ إِلَى امْتِنَاعِ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ كَمَا فَسَّرَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ بَيْعٌ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {تَدَايَنْتُمْ} مُفَاعَلَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ يَقْتَضِي وُجُودَ الدَّيْنِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ فَلَمَّا قَالَ: {بَدَيْنٍ} عُلِمَ أَنَّهُ دَيْنٌ وَاحِدٌ مِنَ الْجِهَتَيْنِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْإِشْهَادَ مَطْلُوبٌ سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلى أجله}.
الْخَامِسُ: أَنَّ {تَدَايَنْتُمْ} مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الِاقْتِرَاضِ وَالْمُبَايَعَةِ وَالْمُجَازَاةِ وَذُكِرَ الدَّيْنُ لِتَمْيِيزِ الْمُرَادِ قَالَ الْحَمَاسِيُّ:
وَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْعُدْوَا ** نِ دَنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ مَعَ ظُهُورِهِ فِيمَا قَبْلَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَقَبَّلَهَا ربها بقبول حسن} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سأل سائل} فَيُقَالُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي التَّصْرِيحِ بِالْمَصْدَرِ فِيهِمَا أَوْ بِضَمِيرِهِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِمَّا قَبِلَهُ.
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ لِمَعْنَى الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كل شيء} فَإِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تمر مر السحاب} لِأَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعْدَ الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} لِأَنَّ هَذَا وَعْدُ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كتابا مؤجلا} انْتَصَبَ {كِتَابًا} عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: (وَكَتَبَ اللَّهُ) لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يَدُلُّ عَلَى كَتَبَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عليكم} تأكيد لقوله: {حرمت عليكم} الْآيَةَ لِأَنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا وَانْتَصَبَ الْمَصْدَرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَكَأَنَّهُ فَعْلٌ تَقْدِيرُهُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ بـ: (عليكم) عَلَى الْإِغْرَاءِ وَقُدِّمَ الْمَنْصُوبُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى مَنْعِ التقدير وقوله: {صبغة الله} تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ به فقد اهتدوا} لِأَنَّ هَذَا دِينُ اللَّهِ وَقِيلَ: مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَصْدَرِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لأن الزلفى مصدر كالرجعى و: (يقربونا) يَدُلُّ عَلَى (يُزَلِّفُونَا) فَتَقْدِيرُهُ: يُزَلِّفُونَا زُلْفَى.
وَقَدْ يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِهِ مَعَ حَذْفِ عَامِلِهِ كقوله: {فإما منا بعد وإما فداء} وَالْمَعْنَى: فَإِمَّا تَمُنُّوا مَنًّا وَإِمَّا إِنْ تُفَادُوا فِدَاءً فَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْصُوبَانِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ.
وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ مِنَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكِّدِ لِنَفْسِهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} لِأَنَّهُ إِذَا أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدْ خَلَقَهُ خَلْقًا حَسَنًا فَيَكُونُ {خَلَقَهُ} عَلَى مَعْنَى خَلَقَهُ خَلْقًا وَالضَّمِيرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَيْ أَحْسَنَ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
قَالَ الصَّفَّارُ: وَالَّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ أَوْلَى لِأَمْرَيْنِ: أَنَّ فِي هَذَا إِضَافَةَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَكْثَرُ وَأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِكَ: (أَحْسَنَ خَلْقَ كُلَّ شَيْءٍ) لِأَنَّهُ قَدْ يُحْسِنُ الْخَلْقَ وَهُوَ الْمُحَاوَلَةُ وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا وَإِذَا قَالَ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ اقْتَضَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ حَسَنٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي الِامْتِنَانِ.