فصل: النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فصل في الكلام على (كلا) في القرآن:

(كلا) في القرآن على ثلاثة أقسام:
إحداها: مَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبْتَدَأُ بِهِ.
وَالثَّالِثُ: مَا يُبْتَدَأُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ وَجُمْلَتُهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حَرْفًا تَضَمَّنُهَا خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً كُلُّهَا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَلِلشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدِّيرِينِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَمَا نَزَلَتْ كَلَّا بِيَثْرِبَ فَاعْلَمَنْ ** وَلَمْ تَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي نِصْفِهِ الْأَعْلَى

وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ النِّصْفَ الْآخِرَ نَزَلَ أَكْثَرُهُ بِمَكَّةَ وَأَكْثَرُهَا جَبَابِرَةٌ فَتَكَرَّرَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَى وَجْهِ التَّهْدِيدِ وَالتَّعْنِيفِ لَهُمْ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَمَا نَزَلَ مِنْهُ فِي الْيَهُودِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِيرَادِهَا فِيهِ لِذُلِّهِمْ وَضَعْفِهِمْ.
وَالْأَوَّلُ: اثْنَا عَشَرَ حَرْفًا:
مِنْهَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {أَمِ اتَّخَذَ عند الرحمن عهدا كلا}.
ومنه فيها: {ليكونوا لهم عزا كلا}.
وفي المؤمنين: {فيما تركت كلا}.
وفي المعارج: {ينجيه كلا} وفيها: {جنة نعيم كلا}.
وفي المدثر: {أن أزيد كلا} وفيها: {صحفا منشرة كلا}.
وفي القيامة: {أين المفر كلا}.
وفي عبس: {تلهى كلا}.
وفي المتطفيفين: {قال أساطير الأولين كلا}.
وفي الفجر: {أهانن كلا}.
وفي الهمزة: {أخلده كلا}.
وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ:
فِي الشُّعَرَاءِ: {أَنْ يَقْتُلُونِ قال كلا}.
وفيها: {إنا لمدركون قال كلا}.
وفي سبأ: {ألحقتم به شركاء كلا}.
وَالثَّالِثُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا:
فِي الْمُدَّثِّرِ: {كَلَّا والقمر} {كلا إنه تذكرة}.
وفي القيامة: {كلا بل تحبون العاجلة} {كلا إذا بلغت التراقي}.
وفي النبأ: {كلا سيعلمون}.
وفي عبس: {كلا لما يقض}.
وفي الانفطار: {كلا بل تكذبون}.
وفي المتطفيفين: {كلا إن كتاب الفجار} {كلا إنهم}.
وفي الفجر: {كلا إذا}.
وفي العلق: {كلا إن} {كلا لئن لم ينته} {كلا لا تطعه}.
وفي التكاثر: {كلا سوف تعلمون}.
وَقَسَّمَهَا مَكِّيٌّ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: مَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ فِيهِ عَلَى كَلَّا عَلَى مَعْنَى الرَّدِّ لِمَا قَبْلَهَا وَالْإِنْكَارِ لَهُ فَتَكُونُ بِمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَالْوَقْفُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ هُوَ الِاخْتِيَارُ وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ إِلَّا وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا:
مِنْهَا الْمَوْضِعَانِ فِي مَرْيَمَ وَفِي الْمُؤْمِنِينَ وَفِي سبأ {ألحقتم به شركاء كلا} وَمَوْضِعَانِ فِي الْمَعَارِجِ وَمَوْضِعَانِ فِي الْمُدَّثِّرِ وَمَوْضِعٌ فِي الْمُطَفِّفِينَ وَالْفَجْرِ وَالْحُطَمَةِ قَالَ فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ تَقِفَ عَلَيْهَا عَلَى مَعْنَى النَّفْيِ وَالْإِنْكَارِ لِمَا تَقَدَّمَهَا وَيَجُوزُ أَنْ تَبْتَدِئَ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا لِجَعْلِهَا تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ الَّذِي بعدها أو الاستفتاح.
الثاني: مالا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ فِيهَا وَلَا يَكُونُ الِابْتِدَاءُ بِهَا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ أَلَا أَوْ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا وَلَا يُوقَفُ عَلَيْهَا وَلَا يُبْتَدَأُ بِهَا وَالِابْتِدَاءُ بِهَا في هذه الْمَوَاضِعِ أَحْسَنُ وَذَلِكَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا:
مَوْضِعَانِ فِي الْمُدَّثِّرِ: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى للبشر كلا والقمر} {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ كَلَّا إِنَّهُ تذكرة}.
وثلاثة في القيامة: {أين المفر كلا} {ثم إن علينا بيانه كلا} {أن يفعل بها فاقرة كلا إذا}.
وموضع في عم: {كلا سيعلمون}.
وَمَوْضِعَانِ فِي عَبَسَ: {إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا} {تلهى كلا}.
وَمَوْضِعٌ فِي الِانْفِطَارِ: {مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلَّا}.
وَثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْمُطَفِّفِينَ: {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّا إن كتاب الفجار} {ما كانوا يكسبون كلا إنهم}.
{الذي كنتم به تكذبون كلا}.
وموضع في الفجر: {حبا جما كلا}.
وَثَلَاثَةُ مَوَاضِعَ فِي الْعَلَقِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لم يعلم كلا} {ألم يعلم بأن الله يرى كلا} {سندع الزبانية كلا}.
وَمَوْضِعَانِ فِي التَّكَاثُرِ: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سوف تعلمون} وقوله: {كلا لو تعلمون}.
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا الِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْقُرَّاءِ وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْ يُبْتَدَأَ بِهَا وكلا عَلَى مَعْنَى حَقًّا أَوْ أَلَا وَأَلَّا يُوقَفَ عَلَيْهَا.
الثَّالِثُ: مَا لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ فِيهِ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَلَا تَكُونُ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْكَلَامِ وَلَا بِمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ مَوْضِعَانِ فِي {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {كَلَّا سيعلمون ثم كلا سيعلمون}.
وَكَذَا فِي التَّكَاثُرِ {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فَلَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَلَا الِابْتِدَاءُ بِهَا.
الرَّابِعُ: مَا لَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا وَيَحْسُنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا وَهُوَ مَوْضِعَانِ فِي الشُّعَرَاءِ: {أَنْ يقتلون قال كلا} {إنا لمدركون قال كلا}.
قَالَ فَهَذَا هُوَ الِاخْتِيَارُ وَيَجُوزُ فِي جَمِيعِهَا أَنْ تَصِلَهَا بِمَا قَبْلَهَا وَبِمَا بَعْدَهَا وَلَا تقف عليها ولا تبتدئ بها.

.الكلام عَلَى بَلَى:

وَأَمَّا {بَلَى} فَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ فِي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا فِي سِتَّ عَشْرَةَ سُورَةً وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَخْتَارُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ الْوَقْفَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِمَا قَبْلَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِمَا بَعْدَهَا وَذَلِكَ عَشَرَةُ مَوَاضِعَ مَوْضِعَانِ فِي الْبَقَرَةِ: {مَا لَا تَعْلَمُونَ بلى من كسب سيئة} {إن كنتم صادقين بلى}.
وَمَوْضِعَانِ فِي آلِ عِمْرَانَ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى من أوفى} {بلى إن تصبروا}.
وَمَوْضِعٌ فِي الْأَعْرَافِ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ.
وَفِي النَّحْلِ: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ من سوء بلى}.
وفي يس: {أن يخلق مثلهم بلى}.
وفي غافر: {رسلكم بالبينات قالوا بلى}.
وَفِي الْأَحْقَافِ: {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى}.
وفي الانشقاق: {أن لن يحور بلى}.
فَهَذِهِ عَشَرَةُ مَوَاضِعَ يُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِمَا قَبْلَهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَا بَعْدَهَا وَأَجَازَ بَعْضُهُمُ الِابْتِدَاءَ بِهَا.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا لِتَعَلُّقِ مَا بَعْدَهَا بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا وَذَلِكَ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ.
فِي الأنعام: {بلى وربنا}.
وَفِي النَّحْلِ: {لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بلى}.
وفي سبأ: {قل بلى وربي}.
وَفِي الزُّمَرِ: {مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ}.
وفي الأحقاف: {بلى وربنا}.
وفي التغابن {قل بلى وربي لتبعثن}.
وفي القيامة: {أن لن نجمع عظامه بلى}.
وَهَذِهِ لَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا وَلَا يَحْسُنُ الِابْتِدَاءُ بِهَا لِأَنَّهَا وَمَا بَعْدَهَا جَوَابٌ.
الثَّالِثُ مَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا وَالْأَحْسَنُ الْمَنْعُ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَّصِلٌ بِهَا وَبِمَا قَبْلَهَا وَهِيَ خَمْسَةُ مَوَاضِعَ:
فِي البقرة: {بلى ولكن ليطمئن قلبي}.
وفي الزمر: {قالوا بلى ولكن حقت}.
وفي الزخرف: {ونجواهم بلى ورسلنا}.
وفي الحديد: {قالوا بلى}.
وَفِي الْمُلْكِ: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ}.

.الكلام عَلَى نَعَمْ:

وَأَمَّا {نَعَمْ} فَفِي الْقُرْآنِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ:
فِي الْأَعْرَافِ: {قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مؤذن} وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَى نَعَمْ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِهَا وَلَا بِمَا قَبْلَهَا إِذْ لَيْسَ هُوَ قَوْلُ أَهْلِ النَّارِ وَ: {قَالُوا نَعَمْ} مِنْ قَوْلِهِمْ.
وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي الْأَعْرَافِ والشعراء: {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ}.
الرَّابِعُ فِي الصَّافَّاتِ: {قُلْ نعم وأنتم داخرون}.
وَالْمُخْتَارُ أَلَّا يُوقَفَ عَلَى نَعَمْ فِي هَذِهِ المواضع لتعلقها بما قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهِ بِالْقَوْلِ وَضَابِطُ مَا يُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ إِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا مَا اخْتِيرَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا أَوْ يُقَالَ إن وقع بعدها واو لم يجز الْوَقْفُ عَلَيْهَا وَإِلَّا اخْتِيرَ وَأَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي أيهما شئت.

.النَّوْعُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ:

وَلَمَّا كَانَ خَطُّ الْمُصْحَفِ هُوَ الْإِمَامَ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ الْقَارِئُ فِي الْوَقْفِ وَالتَّمَامِ وَلَا يَعْدُو رُسُومَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُ مَرْسُومَهُ قَدْ خَالَفَ خَطَّ الْإِمَامِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَعْلَامِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَيْفَ اتَّفَقَ بَلْ عَلَى أَمْرٍ عِنْدَهُمْ قَدْ تَحَقَّقَ وَجَبَ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عَلَى سَبَبِهِ.
وَلَمَّا كَتَبَ الصَّحَابَةُ الْمُصْحَفَ زَمَنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَلَفُوا فِي كِتَابَةِ التابوت فَقَالَ زَيْدٌ التَّابُوهُ وَقَالَ النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ التَّابُوتُ وَتَرَافَعُوا إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ اكْتُبُوا التَّابُوتَ فَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى لِسَانِ قُرَيْشٍ.
قَالَ ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ خَطَّانِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِمَا خَطُّ الْمُصْحَفِ وَخَطُّ تَقْطِيعِ الْعَرُوضِ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ فِي كِتَابِ اللُّبَابِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى كِتَابَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى لَفْظِهَا إِلَّا فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُمُ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَا وَجَدُوهُ فِي الْإِمَامِ وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ.
فَحَصَلَ أَنَّ الْخَطَّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ خَطٌّ يُتَّبَعُ بِهِ الاقتداء السلفي وهو رسم الْمُصْحَفِ وَخَطٌّ جَرَى عَلَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّفْظُ وَإِسْقَاطِ مَا حَذَفَهُ وَهُوَ خَطُّ الْعَرُوضِ فَيَكْتُبُونَ التَّنْوِينَ وَيَحْذِفُونَ هَمْزَةَ الْوَصْلِ وَخَطٌّ جَرَى عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ النَّحْوِيُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ: الْأُولَى حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ وَالثَّانِيَةُ مِثَالُهُ فِي الذِّهْنِ وَهَذَانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ وَالثَّالِثَةُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمِثَالِ الذِّهْنِيِّ وَالْخَارِجِيِّ وَالرَّابِعَةُ الْكِتَابَةُ الدَّالَّةُ عَلَى اللَّفْظِ وَهَذَانِ قَدْ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ كَاخْتِلَافِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالْخَطِّ الْعَرَبِيِّ وَالْهِنْدِيِّ وَلِهَذَا صَنَّفَ النَّاسُ فِي الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ إِذْ لَا يَجْرِي عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: لَمَّا عَمِلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ السَّرَّاجِ كِتَابَ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ قَالَ لِي اكْتُبْ كِتَابَنَا هَذَا قُلْتُ لَهُ نَعَمْ إِلَّا أَنِّي آخُذُ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهُ قَالَ وَمَا هُوَ قُلْتُ قَوْلُهُ وَمَنْ عَرَفَ صَوَابَ اللَّفْظِ عَرَفَ صَوَابَ الْخَطِّ.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ يُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَالسُّرْيَانِيَّ وَالْكُتُبَ كُلَّهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ كَتَبَهَا فِي طِينٍ وَطَبَخَهُ فَلَمَّا أَصَابَ الْأَرْضَ الْغَرَقُ وَجَدَ كُلُّ قَوْمٍ كِتَابًا فَكَتَبُوهُ فَأَصَابَ إِسْمَاعِيلُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَمُخْتَلِفَةٌ.
وَالَّذِي نَقُولُهُ: إِنَّ الخط توقيفي لقوله: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وقال تعالى: {ن والقلم وما يسطرون}.
وإذا كان كذا فليس بِبَعِيدٍ أَنْ يُوقَفَ آدَمُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْكِتَابِ.
وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ لَمْ تَعْرِفْ هذه الحروف بأسمائها وأنهم لم يعرفوا نَحْوًا وَلَا إِعْرَابًا وَلَا رَفْعًا وَلَا نَصْبًا ولا همزا.
ومذهبنا فيه التوقيف فنقول أَنَّ أَسْمَاءَ هَذِهِ الْحُرُوفِ دَاخِلَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ وَمَا اشْتَهَرَ أَنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرَبِيَّةَ وَأَنَّ الْخَلِيلَ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الْعَرُوضَ فَلَا نُنْكِرُهُ وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ هذين العلمين كانا قديما وَأَتَتْ عَلَيْهِمَا الْأَيَّامُ وَقَلَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ثُمَّ جَدَّدَهُمَا هَذَانِ الْإِمَامَانِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم ذَلِكَ كِتَابَتُهُمُ الْمُصْحَفَ عَلَى الَّذِي يُعَلِّلُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ وَالْهَمْزِ وَالْمَدِّ وَالْقَصْرِ فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو وَلَمْ يُصَوِّرُوا الْهَمْزَةَ إِذَا كَانَ مَا قَبْلَهَا ساكنا نحو الخبء والدفء والملء فصار ذلك كله حُجَّةً وَحَتَّى كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ اتِّبَاعِ المصحف.
وَأُسْنِدَ إِلَى الْفَرَّاءِ قَالَ اتِّبَاعُ الْمُصْحَفِ إِذَا وَجَدْتُ لَهُ وَجْهًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِرَاءَةُ الفراء أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ خِلَافِهِ.
وَقَالَ أَشْهَبُ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَلْ تَكْتُبُ الْمُصْحَفَ عَلَى مَا أَخَذَتْهُ النَّاسُ مِنَ الْهِجَاءِ فَقَالَ لَا إِلَّا عَلَى الْكِتْبَةِ الْأُولَى رَوَاهُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ فِي الْمُقْنِعِ ثُمَّ قَالَ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْحُرُوفِ فِي الْقُرْآنِ مِثْلِ الْوَاوِ وَالْأَلِفِ أَتَرَى أَنْ تُغَيَّرَ مِنَ الْمُصْحَفِ إِذَا وُجِدَا فِيهِ كَذَلِكَ فَقَالَ لَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو يَعْنِي الْوَاوَ وَالْأَلِفَ الْمَزِيدَتَيْنِ فِي الرَّسْمِ لِمَعْنًى الْمَعْدُومَتَيْنِ فِي اللَّفْظِ نَحْوُ الواو في {أولو الألباب} {وأولات} و: {الربوا} وَنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَحْرُمُ مُخَالَفَةُ خَطِّ مُصْحَفِ عُثْمَانَ فِي يَاءٍ أَوْ وَاوٍ أَوْ أَلِفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْعِلْمُ حَيٌّ غَضٌّ وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ يُخْشَى الْإِلْبَاسُ وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لا تجوز كتابة المصحف الآن عَلَى الرُّسُومِ الْأَوْلَى بِاصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ لِئَلَّا يُوقِعَ فِي تَغْيِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي إِجْرَاءُ هَذَا عَلَى إِطْلَاقِهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ وَشَيْءٌ أَحْكَمَتْهُ الْقُدَمَاءُ لَا يُتْرَكُ مُرَاعَاتُهُ لِجَهْلِ الْجَاهِلِينَ وَلَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مَنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظَ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ الَّتِي كَتَبُوا بِهَا تِلْكَ الْمَصَاحِفَ وَلَا يُخَالِفَهُمْ فِيهَا وَلَا يُغَيِّرَ مِمَّا كَتَبُوهُ شَيْئًا فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَأَصْدَقُ قَلْبًا وَلِسَانًا وَأَعْظَمُ أَمَانَةً مِنَّا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ بِأَنْفُسِنَا اسْتِدْرَاكًا عَلَيْهِمْ وَرَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْدٍ قَالَ الْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ يَعْنِي أَلَّا تُخَالِفَ النَّاسَ بِرَأْيِكِ فِي الِاتِّبَاعِ.
قَالَ وَبِمَعْنَاهُ بَلَغَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ وَتَرَى الْقُرَّاءَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَذْهَبِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقِرَاءَةِ إِذَا خَالَفَ ذَلِكَ خَطَّ المصحف واتباع حروف المصاحف عندنا كَالسُّنَنِ الْقَائِمَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يتعداها.