فصل: النَّوْعُ الْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ:

وَالْمُعَوِّذَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاسْتِفَاضَتُهُمَا كَاسْتِفَاضَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِقُرْآنٍ وَلَا حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَّهُمَا وَأَسْقَطَهُمَا مِنْ مُصْحَفِهِ لِعِلَلٍ وَتَأْوِيلَاتٍ.
قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ أَوْ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَوْ زَيْدٍ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ أَوْ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ عِتْرَتِهِ جَحْدُ آيَةٍ أَوْ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَغْيِيرُهُ أَوْ قِرَاءَتُهُ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِي مُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ وَلَا يُسْمَعُ بَلْ لَا تَصْلُحُ إِضَافَتُهُ إِلَى أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِنَا فَضْلًا عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِنَّ كَلَامَ الْقُنُوتِ الْمَرْوِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ بَلْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَنُقِلَ نَقْلَ الْقُرْآنِ وَحَصُلَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ كَانَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا ثُمَّ نُسِخَ وَأُبِيحَ الدُّعَاءُ بِهِ وَخُلِطَ بِكَلَامٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي مُصْحَفِهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ مِنْ دُعَاءٍ وَتَأْوِيلٍ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهَا شَيْئًا كَفَرَ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ الْمُحَلَّى: هَذَا كذب على ابن مسعود وموضوع وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْهُ وَفِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْفَاتِحَةُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: لَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِثْبَاتَ الْحَمْدِ لِأَنَّهُ كَانَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَلَّا يُثْبِتَ إِلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِهِ وَكَتْبِهِ وَلَمْ نَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سُمِعَ أَمْرُهُ بِهِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا.
وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ زِرٍّ قُلْنَا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لي جبريل: {قل أعوذ برب الْفَلَقِ} فَقُلْتُهَا وَقَالَ لِي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَقُلْتُهَا فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.النَّوْعُ الْأَرْبَعُونَ: فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْقُرْآنِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَبَدًا مُتَعَاضِدَانِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدَارِجِ الْحِكْمَةِ حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْآخَرِ وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ.
ثُمَّ مِنْهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ وَمَعَهُ مَا يَغْمُضُ وَقَدِ اعْتَنَى بِإِفْرَادِ ذَلِكَ بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن برجان في كتابه المسمى بالإرشاد وَقَالَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من شيء فهو في القرآن وفيه أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ الله» وَلَيْسَ فِي نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ الرَّجْمُ وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَكِنَّ الرَّجْمَ فِيهِ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا العذاب}.
وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذِكْرِ الْعَذَابِ وَتَفْسِيرِ هَذَا الْمُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ وبأمره بِهِ وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فخذوه وما نهاكم عنه} وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
وَهَكَذَا حُكْمُ جَمِيعِ قَضَائِهِ وَحُكْمُهُ عَلَى طُرُقِهِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ وَيَبْلُغُ مِنْهُ الرَّاغِبُ فِيهِ حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ وَمُقَدِّرُ الْقِسَمِ.
وَهَذَا الْبَيَانُ مِنَ الْعِلْمِ جَلِيلٌ وَحَظُّهُ مِنَ الْيَقِينِ جَزِيلٌ وَقَدْ نَبَّهَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ.
مِنْهَا حِينَ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ» ثُمَّ قَالَ: «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}».
وَمِنْهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى}.
وَوَصَفَ الْجَنَّةَ فَقَالَ: «فِيهَا شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ وَلَا يَقْطَعُهَا ثُمَّ قال: اقرءوا إن شئتم: {وظل ممدود}».
فَأَعْلَمَهُمْ مَوَاضِعَ حَدِيثِهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مِصْدَاقِ خِطَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ طَلَبًا لِلْيَقِينِ وَلِتَسْتَبِينَ لَهُمُ السَّبِيلُ حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الِارْتِيَابَ وَأَنْ يَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ ثُمَّ بَدَأَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَقَالَ: مَوْضِعُهُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ما نشاء لمن نريد} إلى قوله: {فأولئك كان سعيهم مشكورا} ونظيرها في هود والشورى.
وَمَوْضِعُ التَّصْرِيحِ بِهِ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كسبت قلوبكم} و: {ما عقدتم الأيمان}.
وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَكَثِيرٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} {من مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الِاعْتِزَازَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ فَمُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ فَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بَلِّغْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنِ ابْتِغَاءِ الْعِزَّةِ بِهِمْ أَنَّهُمْ قد أخطأوا مَوَاضِعَهَا وَطَلَبُوهَا فِي غَيْرِ مَطْلَبِهَا فَإِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِهَا فَلْيُوَالُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ وَلْيُوَالُوا مَنْ وَالَاهُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وللمؤمنين} فَكَانَ ظَاهِرُ آيَةِ النِّسَاءِ تَعْرِيضًا لِظَاهِرِ آيَةِ المنافقين وظاهر أية الْمُنَافِقِينَ تَعْرِيضًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ وَالْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ هِيَ الْإِسْلَامُ وَأَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ هُوَ الإيمان وهو نَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مَسْنَدِهِ: الْإِسْلَامُ ظَاهِرٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ مَوْضِعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السماوات والأرض طوعا وكرها} وقوله: {أولئك كتب في قلوبهم الأيمان} ونظائرها {وأيدهم بروح منه} قال: بنيت هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعُلْيَا صِفَاتِ اللَّهِ- تَعَالَى ظُهُورُهَا- مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: اسْمِ السَّلَامِ وَاسْمِ الْمُؤْمِنِ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» فِي قَوْلِهِ: {مَا على المحسنين من سبيل}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا النَّارَ مِنْ أَجْلِ اسْتِكْبَارِهِمْ وَإِبَائِهِمْ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوهَا مُخْلِصِينَ بِهَا حُرِّمُوا عَلَى النَّارِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين} وقوله: {والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل} وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ كَلِمَاتٍ جَمَعْنَ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِلْخَلْقِ لأن من كف سره وَأَذَاهُ وَقَالَ خَيْرًا أَوْ صَمَتَ عَنِ الشَّرِّ وَأَفْضَلَ عَلَى جَارِهِ وَأَكْرَمَ ضَيْفَهُ فَقَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ وَدَخَلَ الْجَنَّةَ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَسَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ وَالْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا وَلِهَذَا قِيلَ لَا يُغْرَنَّكُمْ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ.
وَقَوْلُهُ: «رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رأى} الآية فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضُرُوبِ الِامْتِحَانِ وَأَنَّ الْهِدَايَةَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَ التَّبَرِّي مِنْهَا وَالْمَعْصُومُ من عصمه الله قال تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} وَقَالَ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله وهبنا له إسحاق ويعقوب} وَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَمِنْ هُنَاكَ إِقْبَالُهَا وَذَلِكَ أَشْرَفُ لَهَا وَأَكْبَرُ لِشَأْنِهَا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ وَغُرُوبُهَا إِدْبَارُهَا وَطُلُوعُهَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِيُزَيِّنَهَا لَهُمْ قَالَ تَعَالَى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم} وَلِمَا كَانَ فِي مَطْلَعِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الْعِبَرِ بِطُلُوعِهَا مِنْ هُنَاكَ وَظُهُورِهَا عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ بِهِنَّ وَلِمَا فِي الْغُرُوبِ مِنْ عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ التي تتبين هناك قرن بِتَزْيِينِ الْعَدُوِّ لَهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ» وَلِأَجْلِ مَا بَيْنَ مَعْنَى الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ كَانَ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحًا مِنْ جِهَتِهِ إِلَى يَوْمِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْهُ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لهم من دونها سترا} أَيْ وَقَعَتْ عُقُولُهُمْ عَلَيْهَا وَحُجِبَتْ بِهَا عَنْ حَالَتِهَا مَعَ قَوْلِهِ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا للقمر}.
وفي قوله عند طلوعها: {هذا ربي} وعند غروبها: {لا أحب الآفلين} {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضالين} مَا يُبَيِّنُ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «رَأْسُ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ».
وَمِنْ ذَلِكَ بَدْءُ الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ سبحانه: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} إِلَى قَوْلِهِ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ على من يشاء من عباده}.
وَقَوْلِ خَدِيجَةَ: «وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ» وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ لَنَا ربك بما عهد عندك} وقوله: {فلولا أنه كان من المسبحين} وَفِي هَذَا بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَ الْغَارِ الثَّلَاثَةَ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِيَدْعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِهِ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا».
وَقَوْلِ وَرَقَةَ: «يَا لَيْتَنِي حَيٌّ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ» إِلَخْ وقوله تعالى: {لنخرجنك يا شعيب} وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ» مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بل هم قوم طاغون}.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ مِصْدَاقُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي صَدْرِ سُورَةِ النَّجْمِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ» مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيم حنيفا}.
وَبِتَصْدِيقِ كَلِمَةِ اللَّهِ اتَّبَعَهُ كَوْنًا وَمِلَّةً وَهَكَذَا حَالُهُ حَيْثُ جَاءَتْ صِدْقًا وَعَدْلًا فَتَطَلَّبْ صِدْقَ كَلِمَاتِهِ بِتَرْدَادِ تِلَاوَتِكَ لِكِتَابِهِ وَنَظَرِكَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ فَهَذَا هُوَ قَصْدُ سَبِيلِ الْمُتَّقِينَ وَأَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ قَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يؤمن بالله وكلماته} وَقَالَ لِزَكَرِيَّا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بكلمة من الله وسيدا} ولما كان عيسى عليه السلام من أسماء كَلِمَاتِهِ لَمْ يَأْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَنَبٍ لِطَهَارَتِهِ وَزَكَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا ينام» في قوله: {سنة ولا نوم} وَقَوْلُهُ: «وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» مِنْ قوله: {القيوم} وَفَسَّرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ» وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ ممن تشاء وتعز من تشاء}.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ» وَقَالَ: «الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أيام» و: «رمضان إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فَهَذَا رَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرِ الْعَامِ وَيَبْقَى شَهْرَانِ دَاخِلَانِ فِي كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ.
قُلْتُ: قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ» مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْجُمُعَةِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إن كنتم تعلمون} وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الصَّوْمِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لكم إن كنتم تعلمون} أَشَارَ إِلَى سِرٍّ فِي الْجُمُعَةِ وَفَضْلٍ عَظِيمٍ أَرَاهُمَا الزِّيَارَةَ وَالرُّؤْيَةَ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَكَذَلِكَ أَشَارَ فِي الصِّيَامِ بقوله: {إن كنتم تعلمون} إِلَى سِرٍّ فِي الصِّيَامِ وَهُوَ حُسْنُ عَاقِبَتِهِ وَجَزِيلُ عَائِدَتِهِ فَنَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
وَقَوْلُهُ وَقَدْ رَأَى أَعْقَابَهُمْ تَلُوحُ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ: «وَيْلٌ للأعقاب من النار» في مفهوم {فاغسلوا} فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم} وَغَسَلَ هُوَ قَدَمَيْهِ وَعَمَّهُمَا غُسْلًا.
وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أو يصيبهم عذاب أليم} مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مهين}.
وَقَوْلُهُ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وخرج مِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ» الْحَدِيثَ من قوله تعالى: {ولكن يريد ليطهركم} أَيْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تشكرون} أَيْ تَرْقَوْنَ فِي دَرَجَةِ الشُّكْرِ فَيَتَقَبَّلُ أَعْمَالَكُمُ القبول الأعلى.
وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً فَلَهُ الشُّكْرُ وَالشُّكْرُ دَرَجَاتٌ» وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْكَفَّارَةِ فَضْلٌ وَهُوَ النَّافِلَةُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ لِمَنْ قَلَّتْ ذُنُوبُهُ وَكَثُرَتْ صَالِحَاتُهُ فَذَلِكَ الشُّكْرُ وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَقَلَّتْ صَالِحَاتِهِ فَأَكَلَتْهَا الْكَفَّارَاتُ فَذَلِكَ الْمَرْجُوُّ لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَمَنْ زَادَتْ ذُنُوبُهُ فَلَمْ تَقُمْ صَالِحَاتُهُ بِكَفَّارَةِ ذُنُوبِهِ فَذَلِكَ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ {إِلَّا أَنْ يشاء ربي شيئا}.
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ» وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عليكم لعلكم تشكرون} وجاءت لام كي ها هنا إِشْعَارًا وَوَعْدًا وَبِشَارَةً لَهُمْ بِنِعَمٍ أُخْرَى وَارِدَةٍ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ وَلِذَلِكَ قَالَ يَوْمَ الْإِكْمَالِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْأَذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: «أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» مِنْ قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ والملائكة وأولو العلم} وَتَكْرَارُهَا فِي قَوْلِهِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
وَقَوْلُهُ: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» فِي قوله تعالى: {محمد رسول الله} {وما محمد إلا رسول} مَعَ قَوْلِهِ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شهيدا} وَتَكْرَارُ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَكَفَى بالله شهيدا} مع قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} وَالتَّنْبِيهُ أَوَّلُ الْكَثْرَةِ وَلِأَنَّهَا عِبَارَةٌ شُرِعَتْ لِلْإِعْلَامِ فَتَكْرَارُهَا آكُدُ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ.
وَأَمَّا إِسْرَارُهُ بِهِمَا يَعْنِي بِالشَّهَادَتَيْنِ فَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ من القول} وأما إجهاره بهما ففي قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَالنِّدَاءُ الْإِعْلَامُ وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِنِهَايَةِ الْجَهْرِ.
وَقَوْلُهُ: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) فِي قَوْلِهِ: {وإذا ناديتم إلى الصلاة} {إذا نودي للصلاة}.
وَقَوْلُهُ: (حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ) فِي قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَوْلُهُ: (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ) فِي قَوْلِهِ: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله: {ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون}.
وَقَوْلُهُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وقوله: {لا إله إلا الله} كررها وختم بها في قوله: {اذكروه كما هداكم} «وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَخَتَمَ بِمَا بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بالحسنة فله عشر أمثالها}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ» فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يبعثك ربك مقاما محمودا} {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}.
وَقَوْلُهُ: «حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نصيب منها}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ وكل بِهِ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِشَيْءٍ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلِهِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصراط المستقيم} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ هَذَا دُعَاءٌ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: «وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ».
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنَا حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بهذا الْبَلَدِ} يُرِيدُ مَكَّةَ ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا الْبَلَدِ} يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَدِينَةَ وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِحُرْمَةِ الْبَلَدَيْنِ حَيْثُ أَقْسَمَ بِهِمَا وَتَكْرَارُهُ الْبَلَدَ مَرَّتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ وَجَعْلُ الِاسْمَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخِطَابُ فِي الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَحَدِهِمَا بِدَلِيلِ وُجُودِ الْحُرْمَةِ فِيهِمَا.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الدَّجَّالِ.
قُلْتُ: وقع سؤال بين جماعة من الفضلاء في أنه: ما الحكمة أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الدَّجَّالُ فِي الْقُرْآنِ وَتَلَمَّحُوا فِي ذَلِكَ حُكْمًا ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْإِمَامَ قَالَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِقِصَّتِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيَّ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لن تخلفه} وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وعد أولاهما} فَذَكَرَ الْوَعْدَ الْأَوَّلَ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرَّةَ الَّتِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْآخِرَةَ فَقَالَ: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم} الآية ثم قال: {وإن عدتم عدنا} وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خُرُوجِ عِيسَى.
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} وَالدَّجَّالُ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَنْ قَرَأَهَا بِعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمَفْهُومِ من قوله: {محمد رسول الله} {وخاتم النبيين}.
وَمِنَ الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا وَيَحْسِرُ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ» فِي قوله تعالى: {وأخرجت الأرض أثقالها} فَإِنَّ الْأَرْضَ تُلْقِي مَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَكُونَ آخَرَ مَا تُلْقِي الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً.
وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الخبء في السماوات والأرض} فَتَوَجَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً وَتَوَجَّهَ الْحَدِيثُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا كُنُوزَهَا وَمَعَادِنَهَا.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تغن بالأمس} الْآيَةَ وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ إِتْمَامِ كَلِمَةِ الْحَقِّ: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} وَقَدْ تَوَلَّوْا وَقَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بهم} يومئذ تظهر العقبة ويلقي الأمر بجرانه وتضع الحرب أوزارها ويكن ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى السَّاعَةِ وَآيَةً عَلَى قُرْبِ الِانْقِرَاضِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَثَلِ الدُّنْيَا: «إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب}.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ من قبلكم} إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي نَفْعُهُ إِلَى اكْتِسَابِ التَّقْوَى وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ» وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِضَعْفِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ فَتُغْلَقُ عَنْهُ أَبْوَابُ الْمَعَاصِي وَهَى أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَتُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الطَّاعَةِ وَالْقُرُبَاتِ وَهِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّاتِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» مِنْ آثَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لكم الخيط الأبيض} ومن بركته حضوره الذي هو وصف نُزُولِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْتَغِي الْبَرَكَةَ فِي مَوْضِعِ خِطَابِ رَبِّهِ وَفِي مَوْضِعِ حُضُورِهِ أَوْ ذِكْرِهِ أَوِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَمِنْ هُنَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِاسْمِ الْمُبَارَكِ وَاسْمِ الْقُدُّوسِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليل} وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الخيط الأسود من الفجر} وَالْبَرَكَةُ فِي اتِّبَاعِ مَجَارِي خِطَابِهِ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ حُكْمُهُ حُكْمُ إِبَاحَةٍ كَمَا أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَا يُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ إِلَّا عَلَى فِطْرٍ وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ السَّحُورَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ ابْتِغَاءَ الْبَرَكَةِ فِي ذَلِكَ وَالْخَيْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ» فِي مَعْنَى قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يطعمني ويسقين} وَالْمَعْنَى بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ الَّذِينَ لَا يَطْعَمُونَ إِنَّمَا غِذَاؤُهُمُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ: «إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ» فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وَالْآكِلُ رَاضٍ وَالرَّاضِي شَرِيكٌ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَدُومُونَ عَلَى مَا كُنْتُمْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً» فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لم يدعنا إلى ضر مسه} وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ منكم بربهم يشركون} فَذَكَرَ تَعَالَى اللَّجَأَ إِلَيْهِ عِنْدَمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ وَهُوَ ذِكْرٌ صُورِيٌّ فَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ لَمْ تُفَارِقْهُمُ الْمَلَائِكَةُ السَّيَّاحُونَ الْمُلَازِمُونَ حَلَقَ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وَلَوْ قَرَبُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا الْقُرْبَ لَبَدَتْ لَهُمْ عِيَانًا وَلَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَجَمِيلِ الْأُلْفَةِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» في قوله تعالى: {سواء محياهم ومماتهم}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَبْعَثُونَ عَلَى أَعْمَالِهُمْ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصة}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شفاعة سيئة يكن له كفل منها} وَمَعَ قَوْلِهِ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} وقوله: {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} مَعَ مَا جَاءَ مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ» وَالْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مما رزقناهم سرا وعلانية}.
وَقَوْلُهُ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الْيَدَ السُّفْلَى الْآخِذَةُ وَالْعُلْيَا هو الْمُعْطِيَةُ وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: «مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ» وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مِنْ أَيْدِينَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مَنْ يَضَعُ فِيهَا حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهَا وَيُطَهِّرُهَا بِذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهَا وَأَنْجَاسِهَا وَلَوْلَا الْيَدُ الْآخِذَةُ مَا قَدَرَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى صَدَقَةٍ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ» فِي قَوْلِهِ تعالى: {وإلهكم إله واحد} إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} وَقَوْلُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} وَقَوْلِهِ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قوم لا يعقلون} وَوَصَفَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {لا تفقهون تسبيحهم} ثُمَّ أَعْلَمَ سُبْحَانَهُ سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ لَا يُسَبِّحُونَهُ وَلَا يَفْقَهُونَ تَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِينَ مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ أَعْلَمَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا حُرِمُوا الْفِقْهَ عَنْ رَبِّهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ خَتْمُ عُقُوبَةِ الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أن يفقهوه} الْآيَةَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ تَعَالَى إِلَّا لِيُفَهِّمَهُ وَيُعْلَمَ وَيُفَهَّمَ وَلِذَلِكَ خَاطَبَ بِهِ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ يفقهون والذين يتفكرون لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ.
وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الدُّنْيَا إِلَّا مِثَالًا لِلْآخِرَةِ فَمَنْ فَقِهَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَادَهُ مِنْهَا فَقَدْ أَرَاحَ نَفْسَهُ وَأَجَمَّ فِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ.
وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِقْهِ أَفْنَى أُولُو الْأَلْبَابِ أَعْمَارَهُمْ وَفِي تَعْرِيفِهِ أَتْعَبُوا قُلُوبَهُمْ وَوَاصَلُوا أَفْكَارَهُمْ.
رَزَقَنَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ نُورًا نَمْشِي بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ وَفُرْقَانًا نُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ.