فصل: تفسير الآيات رقم (248- 252)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏248- 252‏]‏

‏{‏وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏248‏)‏ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏249‏)‏ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏250‏)‏ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏251‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏252‏)‏‏}‏

التابوت‏:‏ معروف وهو الصندوق، وفي التابوت قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ إن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه، بالهاء آخراً، ويجوز أن تكون الهاء بدلاً من التاء كما أبدلوها منها في الوقف، في مثل‏:‏ طلحة فقالوا‏:‏ طلحه، ولا يجوز أن يكون‏:‏ فعلوتا كملكوت، من‏:‏ تاب يتوب، لفقدان معنى الاشتقاق فيه‏.‏

والقول الآخر‏:‏ أنه فعلوت من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف توضع فيه الأشياء وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته قاله الزمخشري‏.‏ قال‏:‏ ولا يكون فاعولاً لقلة نحو سلس، وقلق، ولانه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، وأما بالهاء ففاعول إلاّ فيمن جعل هاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث‏.‏

السكينة‏:‏ فعلية من السكون، وهو الوقار تقول‏:‏ في فلان سكينة أي‏:‏ وقار وثبات‏.‏

هارون‏:‏ أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة‏.‏

الجنود‏:‏ جمع جند، وهو معروف، واشتقاقه من الجند وهو‏:‏ الغليظ من الأرض اذ بعضهم يعتصم ببعض‏.‏

الغرفة‏:‏ بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء، كالأكلة للقدر الذي يؤكل، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة نحو‏:‏ ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف، والغرفة البناء العالي المشرف‏.‏

جاوز‏:‏ وجاز المكان قطعه‏.‏

جالوت‏:‏ اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كان ملك العمالقة، ويقال إن البربر من نسله‏.‏

الفئة‏:‏ القطعة من الناس، وقيل‏:‏ هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، فيكون المحذوف عين الكلمة، أو من فأوت رأسه‏:‏ كسرته‏:‏ فيكون المحذوف لام الكلمة قولاً‏.‏

غلب‏:‏ غلباً وغلبةً‏:‏ قهر، والأغلب القوي الغليظ، والأنثى غلبى‏.‏

برز‏:‏ يبرز بروزاً، ظهر، وامرأة برزة أخذ منها السن، فلم تستر وجهها، ومن ذلك البراز والمتبرّز‏.‏

أفرغ‏:‏ صب وفرغ من كذا، خلا منه‏.‏

ثبت‏:‏ استقر ورسخ، وثبته أقّره ومكنه بحيث لا يتزحزح‏.‏

القدم‏:‏ الرجل وهي مؤنثة تقول في تصغيرها‏:‏ قديمة، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم‏.‏

هزم‏:‏ كسر الشيء ورد بعضه على بعض، وتقول العرب‏:‏ هزمت على زيد‏:‏ عطفت عليه‏.‏ قال الشاعر‏:‏

هزمتُ عليكِ اليوم يا ابنة مالك *** فجودي علينا بالنوال وأنعمي

داود‏:‏ اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة، وهو هنا‏:‏ أبو سليمان، على نبينا وعليهما السلام، وهو داود بن إيسا، بكسر الهمزة، ويقال داود بن زكريا بن ينوى، من سبط يهود بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم، على نبينا وعليهم السلام‏.‏

الدفع‏:‏ الصرف‏:‏ دفع يدفع دفعاً، ودافع مدافعة ودفاعاً‏.‏

‏{‏وقال لهم نبيهم ان آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرّين بنبوّة هذا النبي الذي كان معهم، ألا ترى إلى قولهم‏:‏

‏{‏ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله‏}‏

ولكن لما أخبرهم الله‏:‏ ‏{‏بأن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً‏}‏ أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له‏.‏ وقال الطبري، وحكى معناه عن ابن عباس والسدّي، وابن زيد‏:‏ تعنت بنو إسرائيل، وقالوا لنبيهم‏:‏ وما آية ملك طالوت‏؟‏ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً‏}‏ وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل، وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم، وقيل‏:‏ خيرهم النبي في آية، فاختاروا التابوت، ولا يكون إتيان التابوت آية إلاَّ إذا كان يقع على وجه يكون خارقاً للعادة، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز، وهو سبب لاستقرار قلوبهم، واطمئنان نفوسهم؛ ونسبة الاتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي، إنما يؤتى به، كقوله‏:‏ ‏{‏فإذا عزم الأمور‏}‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏

وقرأ الجمهور‏:‏ التابوت بالتاء؛ وقرأ أبيّ وزيد‏:‏ بالهاء، وهي لغة الأنصار، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء‏؟‏ أم أصل‏؟‏ قال ابن عباس، وابن السائب‏:‏ كان التابوت من عود الشمشار، وهو خشب تعمل منه الأمشاط، وعليه صفائح الذهب، وقيل‏:‏ كانت الصفائح مموّهة بالذهب، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حاله، ولم ينص على تعيين ما فيه، وأن الملائكة تحمله، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز، فذكروا‏:‏ أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم فيه صور الأنبياء، وبيوت بعددهم، وآخره بيت محمد صلى الله عليه وسلم، فتناقله بعد، أولاده شيث فمن بعده إلى ابراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم عند ابنه قيدار، فنازعه إياه بنو عمه أولاد إسحاق، وقالوا له‏:‏ وقد صرفت النبوّة عنكم إلاَّ هذا النور الواحد، فامتنع عليهم، وجاء يوماً يفتحه فتعسر، فناداه منادٍ من السماء لا يفتحه إلاَّ نبي، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب، فحمله على ظهره إلى كنعان، فدفعه ليعقوب، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام، فوضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، ثم توارثها أنبياء بني إسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه‏.‏

وقيل‏:‏ اتخذ موسى التابوت ليجمع فيه رضاض الألواح‏.‏

والسكينة‏:‏ هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت، جعل التابوت ظرفاً لها، وهذا من المجاز الحسن، وهو تشبيه المعاني بالاحرام، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة، فغشيته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال‏:‏

«تلك السكينة تنزلت للقرآن»

وفي حديث أسيد بن حضير، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث، وفيه‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «تلك الملائكة كانت تسمع لذلك، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم» فأخبر صلى الله عليه وسلم عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على مضاف، أي‏:‏ تلك أصحاب السكينة، وهم الملائكة المخبر عنهم في حديث أسيد، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم، وقد جاء في ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلاَّ نزلت عليهم السكينة‏.‏ وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده»

فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان، واستقرار ذلك في قلوبهم، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه‏.‏ والتفكر في أساليبه، ما يطمئن إليه قلبه، وتستقر له نفسه، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خالياً من ذلك، فحين تلا نزل ذلك عليه‏.‏

وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين، قال قتادة السكينة هنا الوقار‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال نحوه الزجاج‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ التابوت صندوق التوراة، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، والسكينة‏:‏ السكون والطمأنينة، وذكر عن عليّ أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة، وقيل‏:‏ السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدو، وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتت وسكنوا، ونزل النصر‏.‏ وقيل‏:‏ بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء، فإن الله ينصر طالوت وجنوده، ويقال‏:‏ جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح، والعصا، وآثار أصحاب نبوتهم، وجعل تعالى سكينة هذه الأمة في قلوبهم، وفرق بين مقر تداولته الأيدي، قد فر مرة، وغلب عليه مرة، وبين مقر بين أصبعين من أصابع الرحمن‏.‏

وقرأ أبو السماك‏:‏ سكينة، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة، بقوله‏:‏ فيه، وهو في موضع الحال، أي‏:‏ كائناً فيه سكينة‏.‏ و‏:‏ من، لابتداء الغاية، أي‏:‏ كائنة من ربكم، فهو في موضع الصفة، أو متعلقاً بما تعلق به قوله‏:‏ فيه، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف، أي‏:‏ من سكينات ربكم‏.‏

والبقية؛ قيل‏:‏ رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قاله عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ عصا موسى قاله وهب وقيل‏:‏ عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المنّ، قاله أبو صالح‏.‏ وقيل‏:‏ العلم والتوراة قاله مجاهد، وعطاء وقيل‏:‏ رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل وقيل‏:‏ قفيز من منّ ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري‏.‏ وقيل‏:‏ العصا والنعلان، حكاه الثوري أيضاً، وقيل‏:‏ الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة ورضاض الألواح قاله السدّي‏.‏ وقيل‏:‏ لوحان من التوراة، وثياب موسى وهارون وعصواهما، وكلمة الله‏:‏ لا إله إلا الله الحكيم الكريم، وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وقيل‏:‏ عصا موسى وأمور من التوراة، قاله الربيع‏.‏ ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية‏.‏

‏{‏مما ترك‏}‏ في موضع الصفة لبقية، و‏:‏ من، للتبعيض‏.‏

و‏:‏ ‏{‏آل موسى وآل هارون‏}‏ هم من الأنبياء، إليهما من قرابة أو شريعة، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين كانوا بعدهما، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد‏.‏ ونذكر كيفية فقده إن شاء الله‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما‏.‏ إنتهى‏.‏ وقال غيره‏:‏ آل هنا زائدة، والتقدير‏:‏ مما ترك موسى وهارون، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى، يريد نفسه، ولقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود، أي‏:‏ من مزامير داود ومنه قول جميل‏:‏

بثينة من آل النساء وإنما *** يكنّ لأدنى، لا وصال لغائب

أي‏:‏ من النساء‏.‏ إنتهى‏.‏ ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق، وقول الزمخشري‏:‏ والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله‏:‏ ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون‏؟‏ وإن عنى بالآل الشخص، فانه يطلق على شخص الرجل آله، فكأنه قيل‏:‏ مما ترك موسى وهارون أنفسهما، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به‏:‏ أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما، وكان ذلك مقحماً لأنه لو قيل‏:‏ مما ترك موسى وهارون لاكتفى، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما، تركا ذلك وورث عنهما‏.‏

‏{‏تحمله الملائكة‏}‏ وقرأ مجاهد‏:‏ يحمله، بالياء من أسفل، والضمير يعود على التابوت، وهذه الجملة حال من التابوت، أي حاملاً له الملائكة، ويحتمل الاستئناف، كأنه قيل‏:‏ ومن يأتي به وقد فقد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏تحمله الملائكة‏}‏ استعظاماً لشأن هذه الآية العظيمة، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام، ولهم القوّة والتمكين والإطلاع بأقدار الله لهم على ذلك، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم، وقلبهم مدائن العصاة، وقبض الأرواح، وإزجاء السحاب، وحمل العرش، وغير ذلك من الأمور الخارقة، والمعنى‏:‏ تحمله الملائكة إليكم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت‏.‏

قال وهب‏:‏ قالوا لنبيهم‏:‏ إنعت وقتاً تأتينا به‏!‏ فقال‏:‏ الصبح، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت، فأقروا بملكه‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ غير راضين، وقيل‏:‏ سبى التابوت أهل الأردن، قرية من قرى بفلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم، فأصبح الصنم تحت التابوت، فسمروا قدمي الصنم على التابوت، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت، وأصنامهم منكسة، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فدفنوه بالصحراء في متبَّرزٍ لهم، فكان من تبرز هناك أخذه الناسور والقولنج، فتحيروا، وقالت امرأة من أولاد الأنبياء من بني إسرائيل‏:‏ ما تزالوان ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم‏!‏ فاخرجوه عنكم‏!‏ فحملوا التابوت على عجلة، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين، وضربوا جنوبهما، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما، فما مرّ التابوت بشيء من الأرض إلاَّ كان مقدّساً، إلى أرض بني إسرائيل، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل، ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بني إسرائيل إلاَّ التابوت، فكبروا وحمدوا الله على تمليك طالوت، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏تحمله الملائكة‏}‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة، وقيل يوم القيامة، وقيل‏:‏ عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام‏.‏

‏{‏إن في ذلك لآية لكم، إن كنتم مؤمنين‏}‏ قيل‏:‏ الإشارة إلى التابوت، والأحسن أن يعود على الإتيان أي‏:‏ إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها، لأن أولها ‏{‏إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت‏}‏ والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم، وقيل‏:‏ علامة لكم على نصركم على عدوّكم، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا، فينصرون‏.‏

و‏:‏ إن، قيل على حالها من وضعها للشرط‏.‏ أي‏:‏ ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل‏:‏ صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم، وقيل‏:‏ إن كنتم مصدّقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكاً‏.‏ وقيل‏:‏ مصدّقين بأن وعد الله حق‏.‏

وقيل‏:‏ إن، بمعنى‏:‏ إذ، ولم يسألوا تكذيباً لنبيهم، وإنما سألوا تعرفاً لوجه الحكمة، والسؤال عن الكيفية لا يكون انكارا كلياً‏.‏

‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏}‏ بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره‏:‏ فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت، أي‏:‏ انفصل من مكان اقامته، يقال‏:‏ فصل عن الموضع انفصل، وجاوزه‏.‏ قيل‏:‏ وأصله فصل نفسه، ثم كثر، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدّي‏:‏ كانفصل، والباء في، بالجنود، للحال، أي‏:‏ والجنود مصاحبوه، وكان عددهم سبعين ألفاً، قاله ابن عباس‏.‏ أو ثمانين ألفاً قاله عكرمة‏.‏ أو مائة ألف، قاله مقاتل‏.‏ أو ثلاثين ألفاً‏.‏

قال عكرمة‏:‏ لما رأى بنو اسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه، فقال لهم طالوت‏:‏ لا يخرج معي من بنى بناءً لم يفرغ منه، ولا من تزّوج امرأة لم يدخل بها، ولا صاحب زرع لم يحصده، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها، ولا من له أو عليه دين، ولا كبير، ولا عليل‏.‏ فخرج معه من تقدّم الاختلاف في عددهم على شرطه، فسار بهم، فشكوا قلة الماء وخوف العطش، وكان الوقت قيظاً، وسلكوا مفازة، فسألوا الله أن يجري لهم نهراً‏.‏

‏{‏قال إن الله مبتليكم بنهر‏}‏ قال وهب‏:‏ هو الذي اقترحوه‏.‏ وقال ابن عباس، وقتادة‏:‏ هو نهر بين الأردن وفلسطين‏.‏ وقيل‏:‏ نهر فلسطين، قاله السدّي، وابن عباس، أيضاً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بنهر، بفتح الهاء‏.‏ وقرأ مجاهد، وحميد الأعرج، وأبو السماك، وغيرهم‏:‏ باسكان الهاء في جميع القرآن‏.‏

وظاهر قول طالوت‏:‏ ان الله يوحي، إمالة على قول من قال‏:‏ إنه نبي، أو يوحي إلى نبيهم، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه، فجرت به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع، فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله، على طريق الجزم عن الله‏.‏

‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏}‏ أي‏:‏ ليس من أتباعي في هذه الحرب، ولا أشياعي، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو‏:‏ «من غشنا فليس منا»، «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود»، أو‏:‏ ليس بمتصل بي ومتحد معي، من قولهم‏:‏ فلان مني كأنه بعضه، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة‏:‏

إذا حاولت في أسد فجوراً *** فإني لست منك ولست مني

‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏ أي‏:‏ من لم يذقه، وطعم كل شيء ذوقه، ومنه التطعم، يقال‏:‏ تطعمت منه أي‏:‏ ذقته، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول، تطعم منه يسهل أكله، قال ابن الانباري‏:‏ العرب تقول‏:‏ أطعمتك الماء تريد أذقتك، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر‏:‏

فإن شئتُ حرمت النساء عليكم *** وإن شئتُ لم أطعم نقاخاً ولا برداً

النقاخ‏:‏ العذب، والبرد‏:‏ النوم، ويقال‏:‏ ما ذقت غماضاً‏.‏ وفي حديث أبي ذر‏.‏ «في ماء زمزم‏.‏ طعام طعم» وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ليس لنا طعام إلاَّ الأسودين‏:‏ التمر والماء ‏"‏ والطعم يقع على الطعام والشراب، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، لأن الطعم ينطلق على الذوق، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب، إذ يحصل بإلقائه في الفم، وإن لم يشربه، نوع راحة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يطعمه‏}‏ دلالة على ان الماء طعام، وقد تقدّم أيضاً ما يدل على ذلك‏.‏

واختلف في جريان الرِّبا فيه، فقال الشافعي‏:‏ لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلاً، ولا يجوز فيه الأجل‏.‏ وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف‏:‏ يجوز ذلك‏.‏ وحكى ابن العربي‏:‏ أن الصحيح من مذهب مالك جريان الرِّبا فيه‏.‏ وقال محمد بن الحسن‏:‏ هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل‏.‏

وكأن قوله‏:‏ ‏{‏فمن شرب منه‏}‏ يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر، حتى لو أخذ بالكوز وشربه، لا يكون داخلاً في من شرب منه، إذا لم يباشر الشرب من النهر، وفي مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، أنه إن قال إن شربت من القربة فعبدي حرّ، يحمل على الكروع، وإن اغترف منه، أو شرب بإناء لم يحنث‏.‏ قالوا‏:‏ لأنه تعالى حظر الشرب من النهر، وحظر مع ذلك أن يطعم منه، واستثنى من الطعم منه الاغتراف، فحظرُ الشرب باقٍ، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب، وأتى بقوله‏:‏ ‏{‏ومن لم‏}‏ معدّى لضمير الماء، لا إلى النهر، ليزيل ذلك الإبهام، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر، بمباشرة الشرب منه، أو بواسطة‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يطعمه فإنه مني‏}‏ سدّ الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة، لم يأت الكلام‏:‏ ومن لم يشرب منه، انتهى كلامه‏.‏

‏{‏إلا من اغترف غرفة بيده‏}‏ هذا استثناء من الجملة الأولى، وهي قوله‏:‏ ‏{‏فمن شرب منه فليس مني‏}‏ والمعنى‏:‏ أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني، والاستثناء إذا اعتقب جملتين، أو جملاً، يمكن عوده إلى كل واحدة منها، فإنه يتعلق بالأخيرة، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم، لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر، وأن من شرب منه فليس منه، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه، فصارت الجملة الثانية كلاًّ فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى، حتى إنها لو لم يكن مصرحاً بها لفهمت من الجملة الأولى، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه‏:‏ إلاَّ من اغترف‏.‏

استثناءً من الأولى، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية‏.‏ انتهى‏.‏ ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن‏:‏ من لم يطعمه فانه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها أن‏:‏ من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن‏:‏ من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتاً، ومن الاثبات نفياً، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة‏.‏ وفي الاستثناء محذوف تقديره‏:‏ إلاَّ من اغترف غرفة بيده فشرِبَها، أو للشرب‏.‏

وقرأ الحرميان، وأبو عمر، و‏:‏ غرفة، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها، فقيل‏:‏ هما بمعنى المصدر، وقيل‏:‏ هما بمعنى المغروف، وقيل‏:‏ الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما تحمله اليد، فإذا كان مصدراً فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال‏:‏ اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفاً، أي‏:‏ ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولاً به، قال ابن عطية‏:‏ وكان أبو عليّ يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضاً‏:‏ أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة‏.‏

ويتعلق‏:‏ بيده، بقوله‏:‏ اغتراف‏.‏ قيل‏:‏ ويجوز أن يكون نعتاً لغرفة، فيتعلق بالمحذوف‏.‏ وظاهر‏:‏ غرفة بيده، الاقتصار على غرفة واحدة، وأنها تكون باليد، قال ابن عباس، ومقاتل‏:‏ كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال مقاتل‏:‏ ويملأ منها قربته، قيل‏:‏ فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظة، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك‏؟‏ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان‏.‏

‏{‏فشربوا منه إلا قليلاً منهم‏}‏ أي‏:‏ كرعوا فيه، ظاهره أن الأكثر شربوا، وإن القليل لم يشربوا، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه، ووقع به المخالفة، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه، فبقي تحت القليل قسمان‏:‏ أحدهما‏:‏ لم يطعمه البتة والثانية‏:‏ الذين‏:‏ اغترفوا بأيديهم، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفاً، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئاً، وأخذ بعضهم الغرفة‏.‏ فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة‏.‏ وقيل‏:‏ الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح‏.‏ وقيل‏:‏ بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل الذين لم يشربوا‏.‏ والقليل المستثنى أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدّي، وقيل‏:‏ ثلاثمائة وثلاثة عشر‏.‏

وقرأ عبد الله، وأبيّ والأعمش‏:‏ إلا قليلٌ، بالرفع قال الزمخشري‏:‏ وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانباً، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى‏:‏ فشربوا منه، في معنى‏:‏ فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل‏:‏ فلم يطيعوه إلاَّ قليل منهم‏.‏ ونحوه قول الفرزذق‏:‏

‏(‏وعض زمان يا بن مروان‏)‏ لم يدع *** من المال إلاَّ مسحتا أو مجلف

كأنه قال‏:‏ لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف انتهى كلامه‏.‏

والمعنى أن هذا الموجب الذي هو‏:‏ فشربوا منه، هو في معنى المنفي، كأنه قيل‏:‏ فلم يطيعوه، فارتفع‏:‏ قليل، على هذا المعنى، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد‏:‏ إلاَّ، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى، فالموجب فيه كالمنفي، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد‏:‏ إلاَّ، على التأويل هنا، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب، فلذلك تأوله‏.‏

ونقول‏:‏ إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد‏:‏ إلاَّ، وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ النصب على الاستثناء وهو الأفصح‏:‏ والثاني‏:‏ أن يكون ما بعد‏:‏ إلاَّ، تابعاً لإعراب المستثنى منه، إن رفعاً فرفع، أو نصباً فنصب، أو جراً فجر، فتقول‏:‏ قام القوم إلاَّ زيد، ورأيت القوم إلاَّ زيداً، ومررت بالقوم إلاَّ زيد‏:‏ وسواء كان ما قبل‏:‏ إلاَّ، مظهراً أو مضمراً‏.‏ واختلفوا في إعرابه، فقيل‏:‏ هو تابع على أنه نعت لما قبله، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة‏.‏

وقال‏:‏ ينعت بما بعد‏:‏ إلاَّ، الظاهر والمضمر، ومنهم من قال‏:‏ لا ينعت به إلاَّ النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإن كان معرفة بالإضافة نحو‏:‏ قام اخوتك، أو بالألف واللام للعهد، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس، فلا يجوز الاتباع، ويلزم النصب على الاستثناء‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان، ومن الاتباع بعد الموجب قوله‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلاَّ الفرقدان

وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو‏.‏

وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب‏.‏

‏{‏فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه‏}‏ ظاهره أنه ما جاوز النهر إلاَّ هو والمؤمنون، وكذلك روي عن ابن عباس، والسدي‏:‏ أن الذين شربوا وخالفوا انحرفوا، ولم يجاوزوا، وقيل‏:‏ بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلاَّ القليل‏.‏

وجاوز‏:‏ فاعل فيه بمعنى فعل، أي جاز‏.‏ والذين آمنوا معه‏:‏ عدة أهل بدر وقال ابن عباس، والسدي‏:‏ جاز معه أربعة آلاف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ منهم من شرب، قالا‏:‏ فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قالوا لا طاقة لنا اليوم، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلاَّ غرفة‏.‏ ومن لم يشرب جملة‏.‏ ثم اختلفت بصائر هؤلاء، فبعض كع، وقليل صمم، و‏:‏ هو، توكيد للضمير المستكن في جاوزه، و‏:‏ الذين، يحتمل أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف، ولا يستحسن، إلاَّ ان كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها‏.‏

‏{‏قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده‏}‏ قائل ذلك الكفرة الذين انخذلوا، وهو الفاعل في شربوا، قاله ابن عباس والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ من قلت بصيرته من المؤمنين، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج‏.‏

طاقة‏:‏ من الطوق، وهو القوة، وهو من‏:‏ أطاق، كأطاع طاعة، وأجاب جابة، وأغار غارة‏.‏ ويتعلق‏:‏ لنا، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر، ولا يجوز أن يتعلق‏:‏ بطاقة، لأنه كان يكون طاقة مطولاً، فيلزم تنوين، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت‏:‏ متعلق به‏.‏ وأجاز بعضهم أن يكون‏:‏ بجالوت، في موضع الخبر، وليس المعنى على ذلك‏.‏

‏{‏قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله‏}‏ يحتمل أن يكون الظن على بابه، ومعنى‏:‏ ملاقو الله، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال، وتصميمهم على لقاء أعدائهم، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد، وغيره، قاله الزجاج في آخرين‏.‏ وقيل‏:‏ ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة‏.‏ لأن كل أحد لا يعلم عاقبة أمره فلا بد من أن يكون ظاناً، وقيل‏:‏ ملاقو طاعة الله، لأنه لا يقطع أن عمله هذا طاعة، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة، وقيل‏:‏ ملاقو وعد الله إياهم بالنصر، لأنه وإن كان مقطوعاً به فهو مظنون في المرة الأولى، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى الإيقان‏:‏ أي‏:‏ يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين‏.‏

‏{‏كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله‏}‏‏.‏ هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدّق الله‏.‏ والمعنى‏:‏ أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا، فإن الكثرة ليست سبباً للانتصار، فكثيراً ما انتصر القليل على الكثير؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية‏.‏ وعلموا بذلك، أخبروا بصيغة‏:‏ كم، المقتضية للتكثير‏.‏ وقرأ أبيّ‏:‏ وكأين، وهي مرادفة‏:‏ لكم، في التكثير، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوباً بمن، ولو حذفت‏:‏ من، لأنجّر تمييز‏:‏ كم، الخبرية بالإضافة، وقيل بإضمار‏:‏ من، ويجوز نصبه حملاً على‏:‏ كم، الإستفامية، وانتصب تمييز‏:‏ كأين، فتقول كأين رجلاً جاءك‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أطرد اليأس بالرجا فكأين *** أملاً حمّ يسره بعد عسر

و‏:‏ كم؛ في موضع رفع على الابتداء، و‏:‏ من فئة، قيل زائدة، وليس من مواضع زيادتها، وقيل‏:‏ في موضع الصفة لكم، و‏:‏ فئة، هنا مفرد في معنى الجمع، كأنه قيل‏:‏ كثير من فئات قليلة غلبت‏.‏ وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء، نحو‏:‏ ميرة في‏:‏ مئرة، وهو ابدال نفيس، وخبر‏:‏ كم، قوله‏:‏ غلبت، ومعنى‏:‏ باذن الله، بتمكينه وتسويفه الغلبة‏.‏

وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير، وإن كانوا أضعاف أضعافهم، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم، وأما جواز الفرار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏والله مع الصابرين‏}‏، تحريض على الصبر في القتال، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه، ينصره ويعينه ويؤيده، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم، ويحتمل أن يكون استئنافاً من الله، قاله القفال‏.‏

‏{‏ولما برزوا لجالوت وجنوده‏}‏ صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس، وقيل‏:‏ مائة ألف، وقال عكرمة‏:‏ تسعين ألفاً‏.‏

‏{‏قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا‏}‏ الصبر‏:‏ هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية‏.‏ وقولهم‏:‏ أفرغ علينا صبراً سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعلياً عليهم، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه‏.‏

‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ فلا تزل عن مداحض القتال، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعلياً عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها‏.‏

‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين‏}‏ أي‏:‏ أعنا عليهم، وجاؤا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر، وكانوا يعبدون الأصنام، وفي قولهم‏:‏ ربنا، إقرار لله تعالى بالوحدانية، وقرار له بالعبودية‏.‏

‏{‏فهزموهم باذن الله‏}‏ أي‏:‏ فغلبوهم بتمكين الله‏.‏

‏{‏وقتل داود جالوت‏}‏ طوَّل المفسرون في قصة كيفية قتل داود لجالوت، ولم ينص الله على شيء من الكيفية، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصاراً يدل على المقصود، فقال‏:‏ كان أصغر بنيه، يعني بني إيشا، والد داود، الثلاثة عشر‏.‏ وكان مخلفاً في الغنم، وأوحى إلى نبيهم أن قَاتِلَ جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درعٌ عند طالوت، فلم تستو إلاَّ على داود، وقيل‏:‏ لما برز جالوت نادى طالوت‏:‏ من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره، فقتل جماعة وانهزموا، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء، وهم بقتل داود، ومات تائباً قاله الضحاك‏.‏ وقال وهب‏:‏ ندم قبل الوفاء ومات عاصياً، وقيل‏:‏ أصاب داود موضع أنف جالوت، وقيل‏:‏ تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه، كالقبضة التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مرّ في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله، وقالت له‏:‏ إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته، ورمى بها جالوت فقتله، وزوجه طالوت بنته، وروي أنه حسده وأراد قتله، ثم تاب‏.‏ إنتهى‏.‏ وروي‏:‏ أن داود كان من أرمى الناس بالمقلاع، وروي‏:‏ أن الاحجار التأمت في المخلاة فصارت حجراً واحداً‏.‏

‏{‏وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء‏}‏ روي أن طالوت تخلى لداود عن الملك، فصار الملك‏.‏ وروي‏:‏ أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب قتل داود جالوت، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه، فكان في جبل إلى أن مات طالوت، فملكته بنو إسرائيل، قال الضحاك، والكلبي‏:‏ ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلاَّ على داود‏.‏

واختلف أكان داود نبياً عند قتل جالوت أم لا‏؟‏ فقيل‏:‏ كان نبياً، لأن خوارق العادات لا تكون إلاَّ من الأنبياء‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لم يكن نبياً لأنه لا يجوز أن يتولى من ليس بنبي على نبي، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوّة، ولم يكن ذلك لغيره قبله، كان الملك في سبط والنبوّة في سبط، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبّوة‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ الحكمة الزبور، وقيل‏:‏ العدل في السيرة‏؟‏ وقيل‏:‏ الحكمة العلم والعمل به‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلاَّ برئ، يتحاكم إليها، فمن كان محقاً تمكن منها حتى إن رجلاً كانت عنده درة لرجل، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة، فتمكن منها لأنه ردها، فرفعت لشؤم احتياله‏.‏

وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها‏.‏ والنبوّة بعده من باب الترقي‏.‏

‏{‏وعلمه مما يشاء‏}‏ قيل‏:‏ صنعة الدروع، وقيل‏:‏ منطق الطير وكلامه للنحل والنمل، وقيل‏:‏ الزبور، وقيل‏:‏ الصوت الطيب والألحان، قيل‏:‏ ولم يعط الله أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الريح، وما صنعت المزامير والصنوج إلاَّ على صوته‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏مما يشاء‏}‏ فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي‏.‏ والضمير الفاعل في‏:‏ يشاء عائد على داود أي‏:‏ مما يشاء داود‏.‏

‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض‏}‏ قرأ نافع، ويعقوب، وسهل‏:‏ ولولا دفاع، وهو مصدر دفع، نحو‏:‏ كتب كتاباً أو مصدر دافع بمعنى دفع‏.‏ قال أبو ذؤيب‏:‏

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم *** فإذا المنية أقبلت لا تدفع

وقرأ الباقون‏:‏ دفع، مصدر دفع، كضرب ضرباً‏.‏ والمدفوع بهم جنود المسلمين، والمدفوعون المشركون، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد، قال معناه ابن عباس، وجماعة من المفسرين‏.‏ أو الأبدال وهم أربعون، كلما مات واحد أقام الله واحداً بدل آخر، وعند القيامة يموتون كلهم‏:‏ إثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق‏.‏

وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء، ورفعا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أو المذكورون في حديث‏:‏ «لولا عباد ركَّع، وأطفال رضع وبهائم رتع لصبَّ عليكم العذاب صبا» أو‏:‏ من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك، أو‏:‏ المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر، قاله قتادة، أو‏:‏ الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء، أو‏:‏ الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق، قاله الثوري، أو‏:‏ السلطان، أو‏:‏ الظالم يدفع يد الظالم، أو‏:‏ داود دفع به عن طالوت ولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل، فيكون‏:‏ الناس، عاماً والمراد الخصوص‏.‏

والذي يظهر‏:‏ أن المدفوع بهم هم المؤمنون، ولولا ذلك لفسدت الأرض، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي زماناً من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى، إلى أن جعل ذلك في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض‏.‏

إنتهى‏.‏ وهو كلام حسن، والذي قبله كلام ابن عطية‏.‏

والمصدر الذي هو‏:‏ دفع، أو‏:‏ دفاع، مضاف إلى الفاعل، وبعضهم بدل من الناس، وهو بدل بعض من كل، والباء في‏:‏ ببعض، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء، وأصل التعدية بالباء، وأصل التعدية بالباء أن يكون ذلك في الفعل اللازم‏:‏ نحو‏:‏ ‏{‏لذهب بسمعهم‏}‏ فإذا كان متعدياً فقياسه أن يعدى بالهمزة، تقول‏:‏ طعم زيد اللحم، ثم تقول أطعمت زيداً اللحم، ولا يجوز أن تقول‏:‏ طعمت زيداً باللحم، وإنما جاء ذلك قليلاً بحيث لا ينقاس، من ذلك‏:‏ دفع، وصك، تقول‏:‏ صك الحجر الحجر، وتقول‏:‏ صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكه‏.‏ وكذلك قالوا‏:‏ صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير‏:‏ ‏{‏دفع الله الناس بعضهم ببعض‏}‏ فالباء للتعدية كالهمزة‏.‏

قال سيبويه، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه‏:‏ وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، على حد قولك‏:‏ ألزمت، كأنك قلت في التمثيل‏:‏ أدفعت، كما أنك تقول‏:‏ أذهبت به، وأذهبته من عندنا، وأخرجته، وخرجت به معك، ثم قال سيبويه‏:‏ صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك‏:‏ اصطك الحجران أحدهما بالأخر، ومثل ذلك‏:‏ ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض‏.‏ إنتهى كلام سيبويه‏.‏

ولا يبعد في قولك‏:‏ دفعت بعض الناس ببعض، أن تكون الباء للآلة، فلا يكون المجرور بها مفعولاً به في المعنى، بل الذي يكون مفعولاً به هو المنصوب، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولاً به في اللفظ فاعلاً من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز، كما أنك تقول في‏:‏ كتبت بالقلم، كتبت القلم‏.‏

وأسند الفساد إلى الارض حقيقة‏:‏ بالخراب، وتعطيل المنافع، أو مجازاً‏:‏ والمراد أهلها‏.‏

‏{‏ولكن الله ذو فضل على العالمين‏}‏ وجه الاستدراك هنا هو أنه لما قسم الناس إلى مدفوع به ومدفوع، وانه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد ارض، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى، غير متفضل عليه، إذ لم يبلغه مقاصده ومآربه، فاستدرك أنه، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لذو فضل عليه، ويحسن إليه‏.‏ واندرج في عموم العالمين، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ان الله لذو فضل على الناس‏}‏ وما من أحد إلاَّ ولله عليه فضل، ولو لم يكن إلاَّ فضل الإختراع‏.‏

وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن‏:‏ لكن، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل، لأن فعله يتعدى‏:‏ بعلى، فكذلك المصدر، وربما حذفت‏:‏ على، مع الفعل، تقول‏:‏ فضلت فلاناً أي على فلان، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر‏:‏

وجدنا نهشلاً فضلت فقيماً *** كفضل ابن المخاض على الفصيل

واذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه، كقوله‏:‏ ‏{‏فضَّل الله المجاهدين على القاعدين‏}‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين‏}‏ تلك إشارة للبعيد، وآيات الله قيل‏:‏ هي القرآن، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت، وإماتة الله لهم دفعة واحدة، ثم أحياهم إحياءة واحدة، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملاً على بقايا من إرث آل موسى وآل هارون، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر، وإجابة من توكل على الله في النصرة، وقتل داود جالوت، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقاً لما في كتب بني إسرائيل‏.‏ ولأمّة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار، وأن كثرة العدد قد يغلبها العقل، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعوّل عليه في الملمات، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه، أعلم أنه من المرسلين، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية، من غير قراءة كتاب، ولا مدارسة أحبار، ولا سماع أخبار‏.‏

وتضمنت الآيات الكريمة أخبار بني إسرائيل حيث استفيدوا تمليك طالوت عليهم أن لذلك آية تدل على تملكيه، وهو أن التابوت الذي فقدتموه يأتيكم مشتملاً على ما كان فيه من السكينة والبقية المخلفة عن آل موسى وآل هارون، وأن الملائكة تحمله، وإن في ذلك آية أيّ آية لمن كان مؤمناً، لأن هذا خارق عظيم‏.‏ وفصل طالوت بالجنود وتبريزه بهم من ديارهم للقاء العدوّ يدل على أنهم ملكوه وانقادوا له، وأخبرهم عن الله مبتليهم بنهر فاحتمل أن يكون الله نبأه، واحتمل أن يكون ذلك بإخبار نبيهم له عن الله، وأن من شرب منه كرعاً فليس منه إلاَّ من اغترف غرفة بيده، وأن من لم يطعمه فإنه منه، وأخبر الله أنهم قد خالف أكثرهم فشربوا منه، ولما عبروا النهر ورأوا ما هو فيه جالوت من العَدد والعُدد اخبروا أنهم لا طاقة لهم بذلك، فأجابهم من أيقن بلقاء الله‏:‏ بأن الكثرة لا تدل على الغلبة، فكثيراً ما غلب القليل الكثير بتمكين الله وإقداره، وأنه إذا كان الله مع الصابرين فهم المنصورون، فحضوا على التصابر عند لقاء العدوّ، وحين برزوا لأعدائهم، ووقعت العين على العين لجأوا إلى الله تعالى بالدعاء والاستغاثة، وسألوا منه الصبر على القتال وتثبيت الأقدام عند المداحض، والنصر على من كفر به، وكانت نتيجة هذا القول وصدق القتال أن مكنهم من أعدائهم وهزموهم وقتل ملكهم، واذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وأعطى الله داود ملك بني إسرائيل والنبوّة وهي‏:‏ الحكمة، وعلمه مما أراد أن يعلمه من‏:‏ الزبور، وصنعة اللبوس، وغير ذلك مما علمه‏.‏

ثم ذكر تعالى أن إصلاح الأرض هو بدفع بعض بعضاً، فلولا أن دفع الله عن بني إسرائيل بهزيمة قوم جالوت وقتل داود جالوت، لغلب عليهم أعداؤهم واستؤصلوا قتلاً ونهباً وأسراً، وكذلك من جرى مجراهم، ولكن فضل الله هو السابق، حيث لم يمكن منهم أعداءهم، ومكنهم منهم‏.‏

ثم أخبر تعالى أن هذه الآيات التي تضمنت هذه العبر وهذه الخوارق تلاها الله على نبيه بالحق الذي لا شك فيه، ثم أخبره أنه مرسل من جملة المرسلين الذين تقدّموه في الزمان، والرسالة فوق النبوّة، ودل على رسالته إخباره بهذا القصص المتضمن للآيات الباهرة الدالة على صدق من أخبر بها، من غير أن يعلمه بها معلم إلاَّ الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏253- 257‏]‏

‏{‏تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ‏(‏253‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏254‏)‏ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏255‏)‏ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏256‏)‏ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏257‏)‏‏}‏

البيع‏:‏ معروف، والفعل منه باع يبيع، ومن قال‏:‏ أباع في معنى باع أخطأ‏.‏

الخلة‏:‏ الصداقة كأنها تتخلل الأعضاء أي‏:‏ تدخل خلالها، والخلة الصديق، قال الشاعر‏:‏

وكان لها في سالف الدهر خلة *** يسارق بالطرف الخباء المسترا

السِّنَةُ والوسن‏:‏ قيل‏:‏ النعاس، وهو الذي يتقدّم النوم من الفتور قال الشاعر‏:‏

وسنان أقصدَه النعاس فرنقت *** في عينه سِنَة وليس بنائم

ويبقى مع السنة بعض الذهن، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، وهذا البيت يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله، وهذا الذي قاله، ابن زيد ليس بمفهوم من كلام العرب؛ قال المفضل‏:‏ السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب‏.‏

الكرسي‏:‏ آلة من الخشب أو غيره معلومة، يقعد عليها، والياء فيه كالياء في‏:‏ قمري، ليست للنسب، وجمعه كراسي، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى‏.‏ آده الشيء يؤده‏:‏ أثقله، وتحمل منه مشقة قال الشاعر‏:‏

ألاَ ما لسلمى اليوم بت جديدها *** وضنَّت، وما كان النوال يؤدها

الغي‏:‏ مقابل الرشد، يقال غوى الرجل يغوى أي‏:‏ ضل في معتقد أو رأي، ويقال‏:‏ أغوى الفصيل إذا بشم، وإذا جاع على الضدّ‏.‏

الطاغوت‏:‏ بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى الطبري يطغو إذا جاوز الحدّ بزيادة عليه، ووزنه الأصلي‏:‏ فعلوت، قلب إذ أصله‏:‏ طغووت، فجعلت اللام مكان العين، والعين مكان اللام، فصار‏:‏ طوغوت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، فصار‏:‏ طاغوت، ومذهب أبي علي أنه مصدر‏:‏ كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع‏.‏ ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه إسم جنس يقع للكثير والقليل، وزعم أبو العباس أنه جمع، وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من لام الكلمة، ووزنه‏:‏ فاعول‏.‏

العروة‏:‏ موضع الإمساك وشدّ الأيدي والتعلق، والعروة شجرة تبقى على الجذب لأن الإبل تتعلق بها في الخصب مِن‏:‏ عَرَوْتُهُ‏:‏ ألممت به متعلقاً، واعتراه التم‏:‏ تعلق به‏.‏

الانفصام‏:‏ الانقطاع، وقيل الانكسار من غير بينونة، والقصم بالقاف الكسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة‏.‏

‏{‏تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني اسرائيل، وتفضل داود عليهم بايتائه الملك والحكمة وتعليمه، ثم خاطب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، بأنه من المرسلين، وكان ظاهر اللفظ يقتضي التسوية بين المرسلين، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضاً، كما كان التفاضل بين غير المرسلين‏:‏ كطالوت وبني اسرائيل‏.‏

و‏:‏ تلك، مبتدأ وخبره‏:‏ الرسل، و‏:‏ فضلنا، جملة حالية، وذو الحال‏:‏ الرسل، والعامل فيه إسم الإشارة‏.‏

ويجوز أن يكون‏:‏ الرسل، صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلم، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله‏:‏ ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ ولا يلزم من ذلك علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم، بل أخبر أنه من جملة المرسلين، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض، وأتى‏:‏ بتلك، التي للواحدة المؤنثة، وإن كان المشار إليه جمعاً، لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ، ولإزالة قلق التكرار، لأنه لو جاء‏:‏ أولئك المرسلون فضلنا، كان اللفظ فيه طول، وكان فيه التكرار‏.‏ والالتفات في‏:‏ نتلوها، وفي‏:‏ فضلنا، لأنه خروج إلى متكلم من غائب، إذ قبله ذكر لفظ‏:‏ الله، وهو لفظ غائب‏.‏

والتضعيف في‏:‏ فضلنا، للتعدية، و‏:‏ على بعض، متعلق بفضلنا، قيل‏:‏ والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع، أو بالخصائص كالكلام‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏فضلنا بعضهم على بعض‏}‏ لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه دسيسه اعتزالية‏.‏

ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول‏.‏ وهكذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏ أنا سيد ولد آدم ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا تفضلوني على موسى ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي لأحد أن يقول‏:‏ أنا خير من يونس بن متى ‏"‏

‏{‏منهم من كمل الله‏}‏ قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة، والعائد على‏:‏ من، محذوف تقديره من كلمه وقرئ بنصب الجلالة والفاعل مستتر في‏:‏ كلم، يعود على‏:‏ من، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهشل، وابن السميفع‏:‏ كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة، وهي صدور الكلام من اثنين، ومنه قيل‏:‏ كليم الله أي، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل‏:‏ كجليس وخليط‏.‏ وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلاً لخطابه ومناجاته من غير سفير، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ‏"‏ وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم‏:‏ أنبي مرسل‏؟‏ فقال‏:‏ «نعم نبي مكلم ‏"‏ وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل، أنه جرت بينه صلى الله عليه وسلم وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله‏:‏ ‏{‏منهم من كلم الله‏}‏‏:‏ موسى وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏كلم الله‏}‏ التفات، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم، إذ كأن يكون‏:‏ فضلنا، وكلمنا، ورفعنا، وآتينا‏.‏

‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ هو محمد صلى الله عليه وسلم، أو إبراهيم، أو إدريس صلى الله عليهم، ثلاثة أقوال، قالوا‏:‏ والأول أظهر، وهو قول مجاهد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيداً للأول‏.‏ انتهى‏.‏ ويعنى أنه توكيد لقوله ‏{‏فضلنا بعضهم على بعض‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر، ولو لم يؤت إلاَّ القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات‏.‏

وفي هدا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل‏:‏ من فعل هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ أحدكم، أو بعضكم‏!‏ يريد به الذي تُعورِفَ واشْتُهِرَ بنحوه من الأفعال، فيكون، أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه‏.‏

وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر، زهيراً والنابغة، ثم قال‏:‏ ولو شئت لذكرت الثالث‏.‏ أراد نفسه، ولو قال‏:‏ ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره‏.‏

ويجوز أن يريد‏:‏ إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل‏.‏ انتهى كلام الزمخشري‏.‏ وهو كلام حسن‏.‏

وقال غيره‏:‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث إلى الناس كافة، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد، وهو أعظم الناس أمة، وختم به باب النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه، ومن معجزاته، وباهر آياته‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ إنه أوتي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة، وما أوتي نبي معجزة إلاَّ أوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها وزاد عليهم بآيات‏.‏

وانتصاب‏:‏ درجاتٍ، قيل على المصدر، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، أو على المصدر الذي في موضع الحال، أو على الحال على حذف مضاف، أي‏:‏ ذوي درجات، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعنى‏:‏ بلغ، أو على إسقاط حرف الجر، فوصل الفعل وحرف الجر، إما‏:‏ على، أو‏:‏ في، أو‏:‏ إلى‏.‏ ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، أي‏:‏ ورفع درجات بعضهم، والمعنى على درجات بعض‏.‏

‏{‏وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس‏}‏ تقدّم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله‏:‏

‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب وقضينا من بعده بالرسل‏}‏ فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ولأن آيتيهما موجودتان، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين، ووقع منهم المنازعة والخلاف‏.‏

ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحاً لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوّته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوّة، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله، لا لفظه، لقربه، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله، ورفع الله، فكان يقرب التكرار، فكان الإضمار أحسن‏.‏

وفي الجملتين‏:‏ المفضل منهم لا معين بالأسم، لكن يعين الأول صلة الموصول، لأنها معلومة عند السامع، ويعين الثاني ما أخبر به عنه، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات، وهذه الرتبة ليست إلاَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الإلتفات، إذ قبله غائب، وكل هذا يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة‏.‏

‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ قيل‏:‏ في الكلام حذف، التقدير‏:‏ فاختلف أممهم واقتتلوا ولو شاء الله، ومفعول شاء محذوف تقديره‏:‏ أن لا تقتتلوا، وقيل‏:‏ أن لا يأمر بالقتال، قاله الزجاج‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ أن لا تختلفوا الإختلاف الذي هو سبب القتال، وقيل‏:‏ ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا، وقال أبو عليّ بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان‏.‏ وقال عليّ بن عيسى‏:‏ هذه مشيئة القدرة، مثل‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً‏}‏ ولم يشأ ذلك، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري‏:‏ ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر، وجواب لو‏:‏ ما اقتتل، وهو فعل منفي بما، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام، فتقول‏:‏ لو قام زيد لما قام عمرو، و‏:‏ من بعدهم صلة للذين، فيتعلق بمحذوف أي‏:‏ الذين كانوا من بعدهم، والضمير عائد على الرسل، وقيل‏:‏ عائد على موسى وعيسى وأتباعهما‏.‏

وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك، بل المراد‏:‏ ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فلف الكلام لفاً لم يفهمه السامع وهذا كما تقول‏:‏ اشتريت خيلاً ثم بعتها، وإن كنت قد اشتريتها فرساً فرساً وبعته، وكذلك هذا، إنما اختلف بعد كل نبي، و‏:‏ من بعد، قيل‏:‏ بدل من بعدهم، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل، إذ كان في البينات، وهي الدلائل الواضحة، ما يفضي إلى الاتفاق وعدم التقاتل، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل‏.‏

‏{‏ولكن اختلفوا‏}‏ هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضدّ لما بعدها، لأن المعنى‏:‏ لو شاء الاتفاق لا تفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا‏.‏

‏{‏فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏ من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسداً وبغياً واستئثاراً بحطام الدنيا‏.‏

‏{‏ولو شاء الله ما اقتتلوا‏}‏ قيل‏:‏ الجملة تكررت توكيداً للأولى، قاله الزمخشري‏.‏ وقيل‏:‏ لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى‏:‏ ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية‏:‏ ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه، ولم يزل ذلك مختلفاً فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافياً حيث قال‏:‏

استأثر الله بالوفاء وبالعد *** ل وولى الملامة الرجلا

وكان لبيد مثبتاً حيث قال‏:‏

من هداه سبل الخير اهتدى *** ناعم البال ومن شاء أضل

‏{‏ولكن الله يفعل ما يريد‏}‏ هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة، وإن ارادة غيره غير مؤثرة، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدّر وقضى من خير وشر، وهو فعله تعالى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولكنّ الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة، وهذا على طريقة الاعتزالية‏.‏

قيل‏:‏ وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة‏:‏ التقسيم، في قوله‏:‏ ‏{‏منهم من كلم الله‏}‏ بلا واسطة، ومنهم من كلمه بواسطة، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى، وفي قوله ‏{‏فمنهم من آمن ومنهم من كفر‏}‏ وهذا التقسيم ملفوظ به‏.‏ و‏:‏ الاختصاص، مشاراً إليه ومنصوباً عليه، و‏:‏ التكرار، في لفظ البينات، وفي ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتلوا‏}‏ على أحد التأويلين‏.‏ و‏:‏ الحذف، في قوله ‏{‏منهم من كلم الله‏}‏ أي كفاحاً وفي قوله ‏{‏يفعل ما يريد‏}‏ يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم‏}‏ مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الاقتتال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق، فشمل النفقة في الجهاد، وهي، وإن لم ينص عليها، مندرجة في قوله‏:‏ أنفقوا، وداخلة فيها دخولاً أولياً، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم، قال ابن جريج، والأكثرون‏:‏ الآية عامّة في كل صدقة واجبة أو تطوع‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هي في الزكاة، والزكاة منها جزء للمجاهدين، وقاله الزمخشري، قال‏:‏ أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به ‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات، لأن الشفاعة ثَمّ في زيادة الفضل لا غير، ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ أراد‏:‏ والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال‏:‏ والكافرون، للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج‏:‏ ومن كفر، مكان‏:‏ ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار، في قوله ‏{‏وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ انتهى كلامه‏.‏

ورُدَّ قوله بأنه ليس في الآية وعيد، فكأنه قيل‏:‏ حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة، وقول الزمخشري‏:‏ لأن الشفاعة ثَمَّ في زيادة الفضل لا غير، هو قول المعتزلة، لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة، فلا يدخلون النار، ولا للعصاة الذين دخلوا النار، فلا يخرجون منها بالشفاعة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد منه الإنفاق في الجهاد، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكأن المراد منه الانفاق في الجهاد، وهو قول الأصم‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير، وصلة رحم، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية ‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ أي‏:‏ فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه، والرزق، وإن تناول غير الحلال، فالمراد منه هنا الحلال، و‏:‏ مما رزقناكم، متعلق بقوله‏:‏ أنفقوا، و‏:‏ ما، موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي‏:‏ رزقناكموه، وقيل‏:‏ ما مصدرية أي‏:‏ من رزقنا إياكم، و‏:‏ من قبل، متعلق‏:‏ بأنفقوا، أيضاً، واختلف في مدلول‏:‏ مِنْ‏:‏ فالأولى‏:‏ للتبعيض، والثانية‏:‏ لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق‏:‏ برزقناكم‏.‏

‏{‏من قبل أن يأتي يوم‏}‏ حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم، وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏لا بيع فيه‏}‏ أي‏:‏ لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، وقيل‏:‏ لا فداء عمّا منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ‏.‏ وقيل‏:‏ لا بيع فيه للأعمال فتكتسب‏.‏

‏{‏ولا خلة‏}‏ أي‏:‏ لا صداقة تقتضي المساهمة، كما كان ذلك في الدنيا، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة، لكن لا نحتاج إليها، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئاً‏.‏

‏{‏ولا شفاعة‏}‏ اللفظ عام والمراد الخصوص، أي‏:‏ ولا شفاعة للكفار، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فما لنا من شافعين ولا صديق حميم‏}‏ أو‏:‏ ولا شفاعة إلاَّ باذن الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنفع الشفاعة عنده إلاَّ لمن أذن له‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى‏}‏ فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم، وعلى تأويل الإذن‏:‏ لا شفاعة للمؤمنين إلاَّ بإذنه‏.‏ وقيل‏:‏ المراد العموم، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيام ألبتة، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع‏.‏

وقد تعلق بقوله‏:‏ ولا شفاعة، منكرو الشفاعة، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه، وصح حديث الشفاعة الذين تلقته الأمّة بالقبول، فلا التفات لمن أنكر ذلك‏.‏

وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو‏:‏ بفتح الثلاثة من غير تنوين، وكذلك‏:‏ ‏{‏لا بيع فيه ولا خلال‏}‏ في إبراهيم و‏:‏ ‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ في الطور وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، وقد تقدّم الكلام على إعراب الاسم بعد‏:‏ لا، مبنياً على الفتح، ومرفوعاً منوناً، فأغنى ذلك عن إعادته‏.‏

والجملة من قوله‏:‏ لا بيع، في موضع الصفة، ويحتاج إلى إضمار التقدير‏:‏ ولا شفاعة فيه، فحذف لدلالة‏:‏ فيه، الأولى عليه‏.‏

‏{‏والكافرون هم الظالمون‏}‏ يعني الجائرين الحدّ، و‏:‏ هم، يحتمل أن يكون بدلاً من‏:‏ الكافرون، وأن يكون مبتدأ، وأن يكون فصلاً‏.‏ قال عطاء بن دينار‏:‏ الحمد لله الذي قال‏:‏ والكافرون، ولم يقل‏:‏ والظالمون هم الكافرون، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم، وهو من يضع الشيء في غير موضعه، بالكفر، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلاَّ من عصمه الله من العصيان‏.‏

‏{‏الله لا إله إلاَّ هو الحي القيوم‏}‏ هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها، وثبت في ‏(‏صحيح مسلم‏)‏ من حديث أبيّ أنها أعظم آية، وفي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏ من حديث أبي هريرة‏:‏ أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وورد أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أنا ما قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوماً، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله، وورد‏:‏ أن سيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه، وذكر صفاته العلا، ولا مذكور أعظم من الله، فذكره أفضل من كل ذكر‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وبهذا يعلم‏:‏ أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف‏:‏

إن العرانين تلقاها محسدة *** انتهى كلامه‏.‏ وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات‏:‏

إن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مقام باذلاً جهدي

وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به، وإن لم يكن مكانه‏.‏

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض، وأن منهم من كلمه، وفسر بموسى عليه السلام، وأنه رفع بعضهم درجات، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونص على عيسى عليه السلام، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، فكان منهم العرب، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى الله عليه وسلم على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية، والمتضمنة صفاته العلا من‏:‏ الحياة، والاستبداد بالملك، واستحالة كونه محلاً للحوادث، وملكه لما في السموات والأرض، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ باذنه، وسعة علمه، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد، وعلى طرح ما سواها‏.‏

وتقدّم الكلام على لفظة‏:‏ الله، وعلى قوله‏:‏ لا إله إلا هو، فأغنى عن إعادته‏.‏

الحي‏:‏ وصف وفعله حيي، قيل‏:‏ وأصله‏:‏ حيو، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وأدغمت في الياء، وقيل‏:‏ أصله فيعل، فخفف كميت في ميت، ولين في لين، وهو وصف لمن قامت به الحياة، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول، وفسر هنا بالباقي، قالوا‏:‏ كما في قول لبيد‏:‏

فاما تريني اليوم أصبحت سالماً *** فلست بأحيا من كلاب وجعفر

أي‏:‏ فلست بأبقى، وحكى الطبري عن قوم أنه، يقال‏:‏ حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وحكي أيضاً عن قوم‏:‏ أنه حي لا بحياة، وهو قول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري‏.‏ الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر‏.‏ انتهى كلامه، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ القيوم، على وزن فيعول، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود، وابن عمر، وعلقمة، والنخعي والأعمش‏:‏ القيام وقرأ علقمة أيضاً‏:‏ القيم، كما تقول‏:‏ ديور وديّار وقال أمية‏:‏

لم تخلقِ السماءُ والنجوم *** والشمس معها قمر يعوم

قدرها المهيمن القيُّوم *** والحشر والجنة والنعيم

إلاَّ لأمر شأنه عظيم *** ومعناه‏:‏ أنه قائم على كل شيء بما يجب له، بهذا فسره مجاهد، والربيع، والضحاك‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ الدائم الوجود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الذي لا يزول ولا يحول، وقال قتادة‏:‏ القائم بتدبير خلقه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ القائم على كل نفس بما كسبت‏.‏ وقيل‏:‏ العالم بالأمور، من قولهم‏:‏ فلان يقوم بهذا الكتاب أي‏:‏ يعلم ما فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق‏:‏ الذي لا يبلى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه‏.‏ وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً‏.‏

وقالوا‏:‏ فيعول، من صيغ المبالغة، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو‏:‏ الله، أو على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من‏:‏ هو، أو من‏:‏ الله تعالى، أو‏:‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي‏:‏ هو، أو‏:‏ على أنه مبتدأ والخبر‏:‏ لا تأخذه، وأجودها الوصف، ويدل عليه قراءة من قرأ‏:‏ الحيَّ القيومَ بالنصب، فقطع على إضمار‏:‏ أمدح، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع، ولا يقال‏:‏ في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، لأن ذلك جائز حسن، تقول‏:‏ زيد قائم العاقل‏.‏

‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ يقال‏:‏ وسن سنة ووسناً، والمعنى‏:‏ أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير‏:‏ معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا هو مفهوم الخطاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقبل لهما أف‏}‏ وقيل‏:‏ نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه، وفي المثل‏:‏ النوم سلطان قال الزمخشري‏:‏ وهو تأكيد للقيوم، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً‏.‏ ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية‏:‏ أينام ربُّنا‏؟‏ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام‏.‏ ثم قال‏:‏ خذ بيدك قارورتين مملوؤتين، فأخذهما، وألقى الله عليه، النعاس، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه‏:‏ قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا‏.‏ انتهى‏.‏ هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر، وفيه أنه سأل الملائكة، وكان ذلك يعني السؤال من قومه، كطلب الرؤية، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل، كما استحال النوم في حقه تعالى، وهذا من عادته في نصرة مذهبه، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة‏.‏

وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال وقع في نفس موسى‏:‏ هل ينام الله‏؟‏ وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري‏.‏

قال بعض معاصرينا‏:‏ هذا حديث وضعه الحشوية، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام، فكيف الرسل‏؟‏ انتهى كلامه‏.‏

وفائدة تكرار‏:‏ لا، في قوله‏:‏ ولا نوم، انتفاؤهما على كل حال، إذ لو أسقطت، لا‏:‏ لا، احتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع، تقول‏:‏ ما قام زيد وعمرو، بل أحدهما، ولا يقال‏:‏ ما قام زيد ولا عمرو، بل أحدهما‏.‏

وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله‏:‏ الحي، على أن يكون‏:‏ الحي، مبتدأ، ويجوز أن يكون خبراً عن الله، فيكون قد أخبره بعده إخباراً، على مذهب من يجيز ذلك، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم، أي‏:‏ قيوم بأمر الخلق غير غافل‏.‏

‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ يصح أن يكون خبراً بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها‏.‏ و‏:‏ ما، للعموم تشمل كل موجود، و‏:‏ اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى، وكرر‏:‏ ما، للتوكيد‏.‏ وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات‏:‏ كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية‏:‏ كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق‏.‏

وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم‏.‏

‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه‏}‏ كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله، وكانوا يقولون‏:‏ إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى‏.‏ وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله، وعظم كبريائه، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ باذن منه تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن‏}‏ ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى، والإذن هنا معناه الأمر، كما ورد‏:‏ إشفع تشفع، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر‏.‏

و‏:‏ من، رفع على الابتداء، وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت‏:‏ إلاَّ، في قوله‏:‏ إلا بإذنه، وخبر المبتدأ قالوا‏:‏ ذا، ويكون الذي نعتاً لذا، أو بدلاً منه، وعلى هذا الذي قالوا يكون‏:‏ ذا، اسم إشارة، وفي ذلك بعد، لأن‏:‏ ذا، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن‏:‏ من، استقلت بهما الجملة، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها‏.‏

والذي يظهر أن‏:‏ من، الإستفهامية ركب معها‏:‏ ذا، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن‏:‏ ذا، لغو، فيكون‏:‏ من ذا، كله في موضع رفع بالابتداء، والموصول بعدهما هو الخبر، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية، و‏:‏ عنده، معمول‏:‏ ليشفع، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع، فيكون التقدير‏:‏ يشفع مستقراً عنده، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه‏.‏ وقيل‏:‏ الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه، فشفاعة غيره أبعد، و‏:‏ بإذنه، متعلق‏:‏ بيشفع، والباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بالحال، أي‏:‏ لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له‏.‏

‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ الضمير يعود على‏:‏ ما، وهم الخلق، وغلب من يعقل، وقيل‏:‏ الضميران في‏:‏ أيديهم وخلفهم، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ قاله ابن عطية، وجوّز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه‏:‏ من ذا، من الملائكة والأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ على الملائكة، قاله مقاتل، و‏:‏ ما بين أيديهم، أمر الآخرة، و‏:‏ ما خلفهم، أمر الدنيا‏.‏ قاله ابن عباس، وقتادة، أو العكس قاله مجاهد، وابن جريح، والحكم بن عتبة، والسدّي وأشياخه‏.‏

و‏:‏ ما بين أيديهم، هو ما قبل خلقهم، و‏:‏ ما خلفهم، هو ما بعد خلقهم، أو‏:‏ ما بين أيديهم، ما أظهروه، و‏:‏ ما خلفهم، ما كتموه‏.‏ قاله الماوردي، أو‏:‏ ما بين أيديهم، من السماء إلى الأرض، و‏:‏ ما خلفهم، ما في السموات‏.‏ أو‏:‏ ما بين أيديهم، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم، و‏:‏ ما خلفهم، ما سيكون‏.‏ أو‏:‏ عكسه، ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره‏.‏

أو‏:‏ ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد‏.‏ أو ما فعلوه وما هم فاعلوه، قاله مقاتل‏.‏

والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به، كما تقول‏:‏ ضرب زيد الظهر والبطن، وأنت تعني بذلك جميع جسده، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات، لا يعزب عنه شيء، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين‏.‏ كما ذهبوا إليه‏.‏

‏{‏ولا يحيطون بشيء من علمه‏}‏ الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته، والاشتمال عليه، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، كما جاء في حديث موسى والخضر‏:‏ ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات، وقالوا‏:‏ اللهم اغفر علمك فينا، أي معلومك، والمعنى‏:‏ لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم، قاله الكلبي‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم‏.‏

و‏:‏ بشيء، وبما شاء، متعلقان‏:‏ بيحيطون، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل، نحو قولك‏:‏ لا أمر بأحد إلاَّ بزيد، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به، لدلالة قوله‏:‏ ولا يحيطون على ذلك‏.‏

‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ قرأ الجمهور وسع بكسر السين، وقرئ شاذا بسكونها، وقرئ أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين، والسموات والأرض بالرفع مبتدأ، وخبراً، والكرسي‏:‏ جسم عظيم يسع السموات والأرض، فقيل‏:‏ هو نفس العرش، قاله الحسن‏.‏ وقال غيره‏:‏ دون العرش وفوق السماء السابعة، وقيل‏:‏ تحت الأرض كالعرش فوق السماء، عن السدّي وقيل‏:‏ الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم، أو‏:‏ ملك آخر عظيم القدر‏.‏ وقيل‏:‏ السلطان والقدرة، والعرب تسمي أصل كل شيء الكرسي، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قد علم القدّوس مولى القدس *** أن أبا العباس أولى نفس

في معدن الملك القديم الكرسي *** وقيل‏:‏ الكرسي العلم‏.‏ لأن موضع العالم هو الكرسي، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المجاز، ومنه يقال للعلماء‏:‏ كراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال‏:‏ أوتاد الأرض، ومنه الكراسة، وقال الشاعر‏:‏

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة *** كراسي بالأحداث حين تنوب

أي‏:‏ ترجع، وقيل‏:‏ الكرسي السر قال الشاعر‏:‏

مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه *** ولا بكرسيّ علم الله مخلوق

وقيل‏:‏ الكرسي‏:‏ ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض، وقيل‏:‏ قدرة الله، وقيل‏:‏ تدبير الله، حكاهما الماوردي، وقال‏:‏ هو الأصل المعتمد عليه‏.‏ قال المغربي‏:‏ من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض، وأكرسته أنا، قال العجاج‏:‏

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال نعم أعرفه وأكرسا

وقال آخر‏:‏

نحن الكراسي لا تعد هوازن *** أمثالنا في النائبات ولا الأشد

وقال الزمخشري‏:‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وسع كرسيه‏}‏ أربعة أوجه‏:‏ أحدها‏:‏ أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة، ولا قعود، ولا قاعد، لقوله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه‏}‏ من غير تصور قبضه وطيّ ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسيّ‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏‏؟‏ انتهى ما ذكره في هذا الوجه‏.‏

واختار القفال معناه قال‏:‏ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم‏.‏

وقيل‏:‏ كرسي لؤلؤ، طول القائمة سبعمائة سنة، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون‏.‏

ذكره ابن عساكر في تاريخه، عن عليّ بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس» وقال أبو ذرّ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض» وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله‏.‏ إنتهى كلامه‏.‏

‏{‏ولا يؤوده حفظهما‏}‏ قرأ الجمهور‏:‏ يؤوده بالهمز، وقرئ شاذاً بالحذف، كما حذفت همزة أناس، وقرئ أيضاً‏:‏ يووده، بواو مضمومة على البدل من الهمزة أي‏:‏ لا يشقه، ولا يثقل عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم‏.‏ وقال ابان بن تغلب‏:‏ لا يتعاظمه حفظهما، وقيل‏:‏ لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات‏.‏

والهاء تعود على الله تعالى، وقيل‏:‏ تعود على الكرسي، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي‏.‏

‏{‏وهو العلي العظيم‏}‏ عليّ في جلاله، عظيم في سلطانه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الذي كمل في عظمته، وقيل‏:‏ العظيم المعظّم، كما يقال‏:‏ العتيق في المعتق، قال الأعشى‏:‏

وكأنّ الخمر العتيق من الاس *** فنط ممزوجة بماء زلال

وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ، فلا يجوز هذا القول‏.‏ وقيل‏:‏ والجواب أنها صفة فعل‏:‏ كالخلق والرزق، فلا يلزم ما قالوه‏.‏ وقيل‏:‏ العلي الرفيع فوق خلقه، المتعالي عن الأشباه والأنداد، وقيل‏:‏ العالي من‏:‏ علا يعلو‏:‏ ارتفع، أي‏:‏ العالي على خلقه بقدرته، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه‏.‏ قال الماوردي‏:‏ وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ ان العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق للعلو‏.‏ الثاني‏:‏ أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما، وقيل‏:‏ العلي‏:‏ القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب‏:‏ علا فلان فلاناً غلبه وقهره‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فلما علونا واستوينا عليهم *** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه ‏{‏إن فرعون علا في الأرض‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ العلي الشأن العظيم الملك والقدرة‏.‏ إنتهى‏.‏ وقال قوم‏:‏ العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ العلي يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز‏.‏ إنتهى‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ فان قلت‏:‏ كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف‏؟‏

قلت‏:‏ ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول العرب‏:‏ بين العصا ومحائها، فالأولى‏:‏ بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه؛ والثانية‏:‏ لكونه مالكاً لما يدبره‏.‏

والثالثة‏:‏ لكبرياء شأنه، والرابعة‏:‏ لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى‏.‏ والخامسة‏:‏ لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو‏:‏ بجلاله وعظيم قدره‏.‏ إنتهى كلامه‏.‏

وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات، منها‏:‏ الوحدانية، بقوله‏:‏ لا إله إلا هو، والحياة، الدالة على البقاء بقوله‏:‏ الحي، و‏:‏ القدرة، بقوله‏:‏ القيوم، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض، إذ الملك آثار القدرة، إذ للمالك التصرف في المملوك‏.‏ و‏:‏ الارادة، بقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ فهذا دال على الإختيار والإرادة، و‏:‏ العلم بقوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏ ثم سلب عنهم العلم، إلاَّ إن أعلمهم هو تعالى، فلما تكملت صفات الذات العلا، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث، ختم ذلك بكونه‏:‏ العلي القدر العظيم الشأن‏.‏

‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها‏:‏ أن بعض أولاد الأنصار تنصر، وبعضهم تهوّد، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت‏.‏ وقال أنس‏:‏ نزلت فيمن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسلم»‏.‏ فقال‏:‏ أجدني كارهاً‏.‏

واختلف أهل العلم في هذه الآية‏:‏ أهي منسوخة‏؟‏ أم ليست بمنسوخة‏؟‏ فقيل‏:‏ هي منسوخة، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة، والضحاك‏:‏ هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، قالا‏:‏ أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلاَّ الإسلام أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية‏.‏ ومذهب مالك‏:‏ أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم لا يقف ذلك على أهل الكتاب‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لا إكراه بعد إسلام العرب، ويقبل الجزية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرهاً، يقال‏:‏ أكفره نسبه إلى الكفر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وطائفة قد أكفروني بحبهم *** وطائفة قالوا‏:‏ مسيء ومذنب

وقيل‏:‏ لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره‏.‏ وقال أبو مسلم، والقفال‏:‏ معناه أنه ما بنى تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ويدل على هذا المعنى أنه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً، قال بعد ذلك‏:‏ لم يبق عذر في الكفر إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الإبتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الإبتلاء‏.‏

ويؤكد هذا قوله بعد‏:‏ ‏{‏قَد تبين الرشد من الغي‏}‏ يعني‏:‏ ظهرت الدلائل ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري‏:‏ لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والإختيار، ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ أي‏:‏ لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الأختيار‏.‏

والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده، والألف واللام للعهد، وقيل‏:‏ بدل من الإضافة أي‏:‏ في دين الله‏.‏

‏{‏قد تبين الرشد من الغيّ‏}‏ أي‏:‏ استبان الإيمان من الكفر، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ الرشد، على وزن القفل، والحسن‏:‏ الرشد، على وزن العنق‏.‏ وأبو عبد الرحمن‏:‏ الرشد، على وزن الجبل، ورويت هذه أيضاً عن الشعبي، والحسن ومجاهد‏.‏ وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن‏:‏ الرشاد، بالألف‏.‏

والجمهور على إدغام دال، قد، في‏:‏ تاء، تبين‏.‏ وقرئ شاذاً بالإظهار، وتبين الرشد، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعاً من غير إكراه، ولا موضع لها من الإعراب‏.‏

‏{‏فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ الطاغوت‏:‏ الشيطان‏.‏ قاله عمر، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، وقتادة، والسدّي‏.‏ أو‏:‏ الساحر، قاله ابن سيرين، وأبو العالية‏.‏ أو‏:‏ الكاهن، قاله جابر، وابن جبير، ورفيع، وابن جريح‏.‏ أو‏:‏ ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك‏:‏ كفرعون، ونمروذ، قاله الطبري‏.‏ أو‏:‏ الأصنام، قاله بعضهم‏.‏

وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلاً، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها‏.‏

قال ابن عطية وقدّم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت‏.‏ إنتهى‏.‏

وناسب ذلك أيضاً اتصاله بلفط الغي، ولأن الكفر بالطاغوت متقدّم على الإيمان بالله، لأن الكفر بها هو رفضها، ورفض عبادتها، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على الانسلاخ بالكلية، مما كان مشتبهاً به، سابقاً له قبل الإيمان، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه‏.‏

وجواب الشرط‏:‏ فقد استمسك، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه، وإن كان مستقبلاً في المعنى لانه جواب الشرط، إشعاراً بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه، و‏:‏ بالعروة، متعلق باستمسك، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن‏.‏

والمشبه بالعروة الإيمان، قاله‏:‏ مجاهد‏.‏ أو‏:‏ الإسلام قاله السدّي أو‏:‏ لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وابن جبير، والضحاك، أو‏:‏ القرآن، قاله السدّي أيضاً، أو‏:‏ السنة، أو‏:‏ التوفيق‏.‏ أو‏:‏ العهد الوثيق‏.‏ أو‏:‏ السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربه‏.‏

‏{‏لا انفصام لها‏}‏ لا انكسار لها ولا انقطاع، قال الفراء‏:‏ الانفصام والانقصام هما لغتان، وبالفاء أفصح، وفرق بعضهم بينهما، فقال‏:‏ الفصم انكسار بغير بينونة، والقصم انكسار ببينونة‏.‏

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة، وقيل‏:‏ من الضمير المستكن في الوثقى، ويجوز أن يكون خبراً مستأنفاً من الله عن العروة، و‏:‏ لها، في موضع الخبر، فتتعلق بمحذوف أي‏:‏ كائن لها‏.‏

‏{‏والله سميع عليم‏}‏ أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وقيل‏:‏ سميع لدعائك يا محمد، عليم بحرصك واجتهادك‏.‏

‏{‏ألله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور‏}‏ الولي، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم، ومعنى‏:‏ آمنوا، أرادوا أن يؤمنوا، والظلمات‏:‏ هنا الكفر، والنور الإيمان، قاله قتادة، والضحاك، والربيع‏.‏ قيل‏:‏ وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات، ووحد النور لأن الإيمان واحد‏.‏

والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصاً بمن كان كافراً ثم آمن، وإن كان مجازاً فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات‏.‏ قال الحسن‏:‏ معنى يخرجهم يمنعهم، وإن لم يدخلوا، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات، فصار توفيقه سبباً لدفع تلك الظلمة، قالوا‏:‏ ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم، كما قال طفيل الغنوي‏:‏

فإن تكنِ الأيام أحسنَّ مرة *** إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب

قال الواقدي‏:‏ كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام، وهو‏:‏ ‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ فإنه أراد به الليل والنهار‏.‏

وقال الواسطي‏:‏ يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها‏:‏ كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة‏.‏

وقال أبو عثمان‏:‏ يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ آمنوا أرادوا أن يؤمنوا، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان، أو‏:‏ الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين‏.‏

انتهى‏.‏ فيكون على هذا القول‏:‏ آمنوا على حقيقته‏.‏

‏{‏والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات‏}‏ قال مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات‏.‏

وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى كفرهم به، وقيل‏:‏ من فطرة الإسلام، وقيل‏:‏ من نور الإقرار بالميثاق، وقيل‏:‏ من الإقرار باللسان إلى النفاق‏.‏ وقيل‏:‏ من نور الثواب في الجنة إلى ظلمة العذاب في النار‏.‏ وقيل‏:‏ من نور الحق إلى ظلمة الهوى‏.‏ وقيل‏:‏ من نور العقل إلى ظلمة الجهل‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ لفظ الآية مستغن عن التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الداعي، النبي المرسل، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد، وأهل للدخول فيه، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر‏:‏ أخرجتني يا فلان من هذا الأمر، وإن كنت لم تدخل فيه ألبتة‏.‏ انتهى‏.‏

والمراد بالطاغوت‏:‏ الصنم، لقوله‏:‏ ‏{‏رب أنهنّ أضللن كثيراً من الناس‏}‏ وقيل‏:‏ الشياطين والطاغوت اسم جنس‏.‏

وقرأ الحسن‏:‏ الطواغيت بالجمع‏.‏

وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى، وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفاً لهم إذ بدئ في جملتهم باسمه تعالى، ولقربه من قوله‏:‏ ‏{‏والله سميع عليم‏}‏ واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعياً عليهم، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح‏.‏ ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت، ولم يصدّر الطاغوت استهانة به، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلاً لله تعالى، ثم عكس الإخبار فيه فابتدأ بقوله‏:‏ أولياؤهم، وجعل الطاغوت خبراً‏.‏ كأن الطاغوت هو مجهول‏.‏ أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت، والأحسن في‏:‏ يخرجهم ويخرجونهم أن لا يكون له موضع من الإعراب، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية، وكأنه من حيث إن الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد، بأنها اخراجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك في الكفار‏.‏

وجوّزوا أن يكون‏:‏ يخرجهم، حالاً والعامل فيه‏:‏ ولي، وأن يكون خبراً ثانياً، وجوّزوا أن يكون‏:‏ يخرجونهم، حالاً والعامل فيه معنى الطاغوت‏.‏ وهو نظير ما قاله أبو عليّ‏:‏ من نصب‏:‏ نزّاعة، على الحال، والعامل فيها‏:‏ لظى، وسنذكره في موضعه ان شاء الله و‏:‏ من، و‏:‏ إلى، متعلقان بيخرج‏.‏

‏{‏أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏ تقدّم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته‏.‏

وذكروا في هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة وعلم البيان، منها في آية الكرسي‏:‏ حسن الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعاً، وتكرير الصفات، والقطع للجمل بعضها عن بعض، ولم يصلها بحرف العطف‏.‏

والطباق‏:‏ في قوله ‏{‏الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ فإن النوم موت وغفلة، والحي القيوم يناقضه‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون‏}‏ والتشبيه‏:‏ في قراءة من قرأ ‏{‏وسع كرسيه السموات والأرض‏}‏ أي كوسع، فإن كان الكرسي جرماً فتشبيه محسوس بمحسوس، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس‏.‏

ومعدول الخطاب في ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ إذا كان المعنى لا تكرهوا على الدين أحداً‏.‏ والطباق‏:‏ أيضاً في قوله ‏{‏قد تبين الرشد من الغي‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏آمنوا وكفروا‏}‏ وفي قوله ‏{‏من الظلمات إلى النور‏}‏ والتكرار‏:‏ في الإخراج لتباين تعليقهما، والتأكيد‏:‏ بالمضمر في قوله‏:‏ ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الإشارة إلى الرسل المذكورين في قوله‏:‏ ‏{‏وإنك لمن المرسلين‏}‏ وأخبر تعالى أنه فضل بعضهم على بعض، فذكر أن ‏{‏منهم من كلم الله‏}‏ وفسر بموسى عليه السلام، وبدئ به لتقدّمه في الزمان، وأخبر أنه ‏{‏رفع بعضهم درجات‏}‏ وفسر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ثالثاً عيسى بن مريم، فجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً بين هذين النبيين العظيمين، فكان كواسطة العقد، ثم ذكر تعالى أن اقتتال المتقدمين بعد مجيء البينات هو صادر عن مشيئته‏.‏

ثم ذكر اختلافهم وانقسامم إلى مؤمن وكافر، وأنه تعالى يفعل ما يريد، ثم أمر المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسل بصداقة ولا شفاعة‏.‏

ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى، ثم ذكر تعالى أنه هو المتوحد بالإلهية، وذلك عقيب ذكر الكافرين‏.‏ وذكر أتباع موسى عليهما السلام‏.‏

ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحداً حياً قائماً بتدبير الخلق، لا يلحقه آفة، مالكاً للسموات والأرض، عالماً بسرائر المعلومات، لا يعلم أحد شيئاً من علمه إلاَّ بما يشاء هو تعالى، وذكر عظيم مخلوقاته، وأن بعضها، وهو الكرسي، يسع السموات والأرض، ولا يثقل ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض‏.‏

ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا ف ‏{‏لا إكراه في الدين‏}‏ إذ قد تبينت طرق الرشاد من طرق الغواية، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة الوثقى، عروة الإيمان، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم، واستعار للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين، وهم على العكس من المؤمنين، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها والحالة هذه، والله أعلم بالصواب‏.‏