فصل: تفسير الآيات رقم (186- 188)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 188‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب‏}‏ سبب النزول فيما قال الحسن‏:‏ أن قوماً، قيل‏:‏ اليهود، وقيل‏:‏ المؤمنون، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه‏.‏ وقال عطاء‏:‏ لما نزل‏.‏ ‏{‏وقال ربكم أدعوني أستجب لكم‏}‏ قال قوم‏:‏ في أي ساعة ندعو‏؟‏ فنزل ‏{‏وإذا سألك‏}‏ ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله‏:‏ ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون‏}‏ طلب تكبيره وشكره بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبته، تنبيهاً على أن يكون ولا بد مسبوقاً بالثناء الجميل‏.‏

والكاف في‏:‏ سألك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله ‏{‏الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل‏:‏ أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف‏.‏ و‏:‏ عبادي، ظاهره العموم، وقيل‏:‏ أريد به الخصوص‏:‏ إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب، وأما عبادي‏.‏ و‏:‏ عني، فالضمير فيه لله تعالى، وهو من باب الالتفات، لأنه سبق و‏:‏ لتكبروا لله، فهو خروج من غائب إلى متكلم، و‏:‏ عني، متعلق بسألك، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله‏:‏ فإني قريب، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه‏.‏ ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونحن أقرب إليه من حبل الوريد‏}‏ وما روي من قوله عليه السلام‏:‏ «هو بينكم وبين أعناق رواحلكم»

والفاء في قوله‏:‏ فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره‏:‏ فقل لهم إني قريب، لإنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب‏.‏

‏{‏أجيب دعوة الداعي إذا دعان‏}‏ أجيب‏:‏ إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في‏:‏ فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء‏:‏ يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب‏:‏ أشهرهما‏:‏ مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم‏:‏

‏{‏بل أنتم قوم تفتنون‏}‏ ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏ وكقول الشاعر‏:‏

وإنا لقوم ما نرى القتل سبة *** والطريق الثاني‏:‏ مراعاة الخبر كقولك‏:‏ أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب ‏(‏منهج السالك‏)‏ والعامل في‏:‏ إذا، قوله أجيب‏.‏

وروي أنه نزل قوله‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏ لما نزل‏:‏ ‏{‏فإني قريب‏}‏ وقال المشركون‏:‏ كيف يكون قريباً من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ، سمك كل سماء خمسمائة عام، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك، فبين بقوله‏:‏ ‏{‏أجيب‏}‏‏:‏ أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة، وظاهر قوله‏:‏ ‏{‏أجيب دعوة الداع‏}‏ عموم الدعوات، إذ لا يريد دعوة واحدة، والهاء في‏:‏ دعوة، هنّا ليست للمرة، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو‏.‏ رحمة، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد، وإنما هي للعموم‏.‏ والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله‏.‏

وذكروا قيوداً في هذا الكلام، وتخصيصات، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى‏.‏ التقدير‏:‏ إن شئت، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء، وقيل‏:‏ بوفق القضاء أي‏:‏ أجيب إن وافق قضائي، وهو راجع لمعنى المشيئة، وقيل‏:‏ يكون المسؤول خير السائل، أي‏:‏ إن كان خيراً‏.‏ وقيل‏:‏ يكون المسؤول غير محال، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل، ولا يبلغه المقصود مما طلب، فخصصوا الداعي بأن يكون‏:‏ مطيعاً مجتنباً لمعاصيه‏.‏

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يطيل السفر‏:‏ «أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنَّى يستجاب له»‏؟‏‏.‏

قالوا‏:‏ ومن شرطه أن لا يمل، ففي ‏(‏الصحيح‏)‏‏:‏ يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول‏:‏ قد دعوت فلم يستجب لي‏.‏

وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم، ولا قطيعة رحم، ولا معصية، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث‏:‏ إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها» وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور، وأن لا يقصد فيه السجع، سجع الجاهلية، وأن يكون غير ملحون‏.‏

وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر، وفي الثلث الأخير من الليل، ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر، والصف في سبيل الله، والعيدين، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة‏:‏ وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة‏:‏ كذا ورد مفسراً في الحديث، وقيل‏:‏ بعد عصر الجمعة، وعندما تزول الشمس‏.‏

ومن الأماكن‏:‏ في الكعبة، وتحت ميزابها، وفي الحرم، وفي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والجامع الأقصى‏.‏

وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله، ولا يقطع رجاءه من فضله، فإن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ وقال سفيان بن عيينة‏:‏ لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس‏:‏ ‏{‏قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون‏}‏

وقالت المعتزلة‏:‏ الإجابة مختصة بالمؤمنين ‏{‏الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم‏}‏ لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم، والفاسق لا يستحق التعظيم، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة‏.‏

قيل‏:‏ والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى، والشرع قد ورد بالأمر به، وقد دعت الأنبياء والرسل، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه، وذكر شبهاً له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة، وقالوا‏:‏ الأَوْلى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء، والحث عليه، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس، إنهم علماء الحقيقة‏:‏ يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل، فلا حاجة إليها‏.‏

وقال قوم منهم‏.‏ إن كان في حالة الدعاء أصلح، وقلبه أطيب، وسره أصفى، ونفسه أزكى، فليدع؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به‏.‏

وقال قوم منهم‏:‏ ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة بالله، وعدم الاعتراض، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار‏.‏

وقال قوم منهم‏:‏ ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فهو حسبه‏}‏

وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه‏.‏ أحدها‏:‏ أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله، لأنك دعوته ووجدته، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاءً سمي القبول إجابة، لتجانس اللفظ‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن الإجابة هو السماع فكأنه قال‏:‏ أسمع‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة، والإجابة قبول التوبة‏.‏

الوجه الرابع‏:‏ أن يكون الدعاء هو العبادة وفي الحديث ‏(‏الدعاء العبادة‏)‏ قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ثم قال إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب

الوجه الخامس‏:‏ الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه فالمعنى إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد

وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر‏.‏

فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى أي فيطليوا أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني قاله ثعلب فيكون استفعل قد جاءت بمعنى الطلب كاستغفر وهو الكثير فيها أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم قاله مجاهد وأبو عبيدة وغيرهما ويكون استفعل فيه بمعنى أفعل وهو كثير في القرآن فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى إلا أن تعديته في القرآن باللام وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال‏:‏ وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النداء *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب‏.‏أي فلم يجبه ومثل ذلك أعني كون استفعل موافق أفعل قولهم استبل بمعنى أبل واستحصد الزرع واحصد واستعجل الشيء وأعجل واستثاره وأثاره ويكون استفعل موافقة أفعل متعدياً ولازماً وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله وإياك نستعين

وقال أبو رجاء الخراساني معناه فليدعوا لي وقال الأخفش فليذعنوا الإجابة وقال مجاهد أيضاً والربيع فليطيعوا وقيل الإستجابة هنا التلبية وهو لبيك اللهم لبيك واللام لام الأمر وهي ساكنة ولا نعلم أحداً قرأها بالكسر

وليؤمنوا بي معطوف على فليجيبوا لي ومعناه الأمر بالإيمان بالله وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بُعدٌ لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون فلذلك يؤول على الديمومة أو على إخلاص الدين والدعوة والعمل أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه أو بالإيمان في أني أجيب دعاءهم خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين وقرأ قوم يرشدون مبنياً للمفعول وروي عن أبي حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة يرشدون بفتح الياء وكسر الشين وذلك باختلاف عنهما وقرئ أيضاً يرشدون بفتحهما والمعنى أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه وإنما ذلك مختص بك

ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ناسب ذكر الرشاد وهو الهداية كما قال تعالى اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري عن البراء لما نزل صوم رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فنزلت وقيل كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة وأن عمر وكعباً الأنصاري وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائماً فغشي عليه عند انتصاف النهار فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ فنزلت‏:‏ وقال بعض العلماء نزلت الآية في زلة ندرت فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة هذا إحكام العناية

ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا اقتضى عموم التشبيه في الكتابة وفي العدد وفي الشرائط وسائر تكاليف الصوم وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا وقيل بعد العشاء وكان المسلمون كذلك فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر لطفاً بهم وناسب أيضاً قوله تعالى في آخر آية الصوم يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهذا من التيسير

وقوله أحل يقتضي أنه كان حراماً قبل ذلك وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول لكنه لم يكن حراماً في جميع الليلة ألا ترى أن ذلك كان حلالاً لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء

وقرأ الجمهور أحل مبنياً للمفعول وحذف الفاعل للعلم به وقرئ أحل مبنياً للفاعل ونصب الرفث به فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله وأما أن يكون من باب الالتفات وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب لأن قبله فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى ولكم متعلق بأحل وهو التفات لأن قبله ضمير غائب وانتصاب ليلة على الظرف ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس قالوا والناصب لهذا الظرف أحل وليس بشيء لأن ليلة ليس بظرف لأحل إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا فلا يتقدّم معموله لكن يقدّر له ناصب وتقديره الرفث ليلة الصيام فحذف وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله

وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان

أن تقديره إذعان للذلة إذعان وكما خرّجوا قوله إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَإِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ أي ناصح لكما وقال لعملكم فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر وأضيفت الليلة إلى الصيام على سبيل الاتساع لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة

وقرأ الجمهور الرفث وقرأ عبد الله الرفث وكنى به هنا عن الجماع والرفث قالوا هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجيناً لما وجد منهم إذ كان ذلك حراماً عليهم فوقعوا فيه كما قال فيه تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فجعل ذلك خيانة وعدى بإلى وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء وحسن اللفظ به هذا التضمين فصار ذلك قريباً من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله فَلَمَّا تَغَشَّاهَا وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ

والنساء جمع الجمع وهو نسوة أو جمع امرأة على غير اللفظ وأضاف النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي أما بتزويج أو ملك

هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ اللباس أصله في الثوب ثم يستعمل في المرأة

قال أبو عبيدة يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك لما بينهما من الممازجة ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان

قال الربيع هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ وقال مجاهد والسدي

هن سكن لكم أي يسكن بعضكم إلى بعض كقوله وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس وقدّم هنّ لباس لكم على قوله وأنتم لباس لهنّ لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها والرجل هو البادئ بطلب ذلك الفعل ولا تكاذ المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل

جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان الطباق المعنوي بقوله أُحِلَّ لَكُمُ فإنه يقتضي تحريماً سابقاً فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم أو ما حرّم على من قبلكم والكناية بقوله الرفث وهو كناية عن الجماع والاستعارة البديعة بقوله هنّ لباس لكم وأفرد اللباس لأنه كالمصدر تقول لابست ملابسةً ولباساً

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ إن كانت عَلِم معداة تعدية عرف فسدت أن مسد المفعول أو التعدية التي هي لها في الأصل فسدّت مسدّ المفعولين على مذهب سيبويه وقد تقدم لنا نظير هذا وتختاتون هو من الخيانة وافتعل هنا بمعنى فعل فاختان بمعن خان كاقتدر بمعنى قدر

قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى والاختيان هنا معبر به عما وقفوا فيه من المعصية بالجماع وبالأكل بعد النوم وكان ذلك خيانة لأنفسهم لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم فكأنه قيل تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير وقيل معناه تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه وقيل معناه تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم

يقال تخون وتخوّل بمعنى تعهد فتكون النون بدلاً من اللام لأنه باللام أشهر وقال أبو مسلم هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس ولذلك قال أنفسكم ولم يقل الله وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره وقيل ذلك على تقدير ولم يقع بعد والمعنى تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة وهذا فيه ضعف لوجود كان ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل ولمنافاة ظاهر قوله فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ

فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي قَبِل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور وقيل معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللَّهِ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ معناه كله التخفيف وقيل معناه أسقط عنكم ما أفترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء أو بعد النوم على الخلاف وهذا القول راجع لمعنى القول الثاني وَعَفَا عَنكُمْ أي عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏(‏التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب‏)‏ فهما راجعان إلى معنى واحد وعاقب بينهما للمبالغة وقيل المعنى سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف أي ترك لكم التحريم كما تقول هذا شيء معفو عنه أي متروك ويقال أعطاه عفواً أي سهلاً لم يكلفه إلى سؤال وجرى الفرس شأوين عفواً أي من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط أو نخس بمهماز

فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ تقدم الكلام على الآن في قوله قَالُواْ الئَانَ جِئْتَ بِالْحَقّ أي فهذا الزمان أي ليلة الصيام باشروهن وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي ولأن الإجماع انعقد عليه والمباشرة في قول الجمهور الجماع وقيل الجماع فما دونه وهو مشتق من تلاصق البشرتين فيدخل فيه المعانقة والملامسة وإن قلنا المراد به هنا الجماع لقوله الرفث ولسبب النزول فإباحته تتضمن إباحة ما دونه

وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا وفي تفسير ما كتب الله أقوال

أحدهما أنه الولد قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن والضحاك والربيع والسدي والحكم بن عتيبة لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له من التناسل ‏(‏تناكحوا تناسلوا فإني مكاثرٌ بكم الآمم يوم القيامة‏)‏

الثاني هو محل الوطء أي ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ

الثالث هو ما أباحه بعد الحظر أي ابتغوا الرخصة والإباحة قاله قتادة وابن زيد

الرابع وابتغوا ليلة القدر قاله معاذ بن جبل وروي عن ابن عباس قال الزمخشري وهو قريب من بدع التفاسير

الخامس هو القرآن قاله ابن عباس والزجاج أي ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به ويرجحه قراءة الحسن ومعاوية بن قرة واتبعوا من الاتباع ورويت أيضاً عن ابن عباس

السادس هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة

السابع هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ

الثامن إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر

وكتب هنا بمعنى جعل كقوله كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ أو بمعنى قضى أو بمعنى أثبت في اللوح المحفوظ أو في القرآن

والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها والمعنى والله أعلم ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام ويرجح هذا قراءة الأعم 5 وأتوا ما كتب الله لكم وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف

وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ أمر إباحة أيضاً أبيح لهم ثلاثة الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام حَتَّى يَتَبَيَّنَ غاية الثلاثة الأشياء من الجماع والأكل والشرب وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ ظاهره أنه الخيط المعهود ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له إلى أن نزل قوله تعالى مِنَ الْفَجْرِ فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار

روي ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية وروي أنه كان بين نزول وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ وبين نزول مِنَ الْفَجْرِ سنة من رمضان إلى رمضان

قال الزمخشري ومن لا يجوز تأخير البيان وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول ليس بعبث لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به انتهى كلامه وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة بل هو من باب النسخ ألا ترى أن الصحابة عملت به أعنى بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت من الفجر فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما وصارا ذلك مجازين شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل شبهاً بخيطين أبيض وأسود وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله من الفجر كقولك رأيت أسداً من زيد فلو لم يذكر من زيد كان استعارة وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة لأن الاستعارة لا تكون إلاَّ حيث يدل عليها الحال أو الكلام وهنا لو لم يأت من الفجر لم يعلم الإستعارة ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول من الفجر حتى إن بعضهم وهو عدي بن حاتم غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله من الفجر فحمل الخيطين على الحقيقة وحكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ فضحك وقال ‏(‏إن كان وسادك لعريضاً‏)‏ وروي ‏(‏إنك لعريض القفاء‏)‏ إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل والقفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرجل وقال عريض القفا ميزانه عن شماله

قد أنحصَّ من حسب القراريط شاربه وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطاً

وقال الزجاج هما فجران أحدهما يبدو سواداً معترضاً وهو الخيط الأسود والأخر يطلع ساطعاً يملأ الأفق فعنده الخيطان هما الفجران سميا بذلك لامتدادهما تشبيهاً بالخيطين وقوله من الفجر يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق وهو البياض المستطير في الأفق لا الصبح الكاذب وهو البياض المستطيل لأن الفجر هو انفجار النور وهو بالثاني لا بالأوّل وشبه بالخيط وذلك بأول حاله لأنه يبدو دقيقاً ثم يرتفع مستطيراً فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك هذا مذهب الجمهور وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار وهو مقتضى حديث ابن مسعود وسمرة بن جندب

وقيل يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال وهاذ مروي عن عثمان وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء والأعمش وغيرهم

وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئاً من هذه ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع

وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر فقال أحدهما طلع الفجر وقال الآخر لم يطلع فقال اختلفتما فأكل وبان لا قضاء عليه

قال الثوري وعبيد الله بن الحسن والشافعي وقال مالك إن أكل شاكّاً في الفجر لزمه القضاء والقولان عن أبي حنيفة

وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز المباشرة إلى التبين فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة والحسن يرى أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال إلا بعد الفجر وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة والحسن يرى أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه وقد روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ كان يصبح جنباً من جماع وهو صائم وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة فلو كانت مقمرة أو مغيمة أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراءً لدينه

وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة المباشرة والأكل والشرب وأما ما عداها من القيء والحقنة وغير ذلك فإنه كان على الإباحة فبقي عليهم

وأما الفقهاء فقالوا خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها وأما القيء والحقنة فالنفس تكرههما والسعوط نادر فلهذا لم يذكرها

ومن الأولى هي لابتداء الغاية قيل وهي مع ما بعدها في موضع نصب لأن المعنى حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود كما يقال بانت اليد من زندها أي فارقته ومن الثانية للتبعيض لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ويتعلق أيضاً يتبين وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية ومِنْ الثانية هي للتبعيض ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً على قول الزجاج لأن الفجر عنده فجران فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد بل يكون جنساً قيل ويجوز أن يكون من الفجر حالاً من الضمير في الأبيض فعلى هذا يتعلق بمحذوف أي كائناً من الفجر ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا فكأنه قيل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر من الخيط الأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود لأن بيان أحديهما بيان للثاني وكان الاكتفاء به أولى لأن المقصود بالتبين والمنوط بتبيينه الحكم من إباحة المباشرة والأكل والشرب ولقلق اللفظ لو صرح به إذ كان يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض ومن الليل بياناً للخيط الأسود ولكون من الخيط الأسود جاء فضلة فناسب حذف بيانه

ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ تقدم ذكر وجوب الصوم فلذلك لم يؤمر به هنا ولم يتقدّم ذكر غايته فذكرت هنا الغاية وهو قوله أُحِلَّ لَكُمْ والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها لم يدخل في حكم ما قبلها والليل ليس من جنس النهار فلا يدخل في حكمه لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل

قال ابن عباس أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء فأمر الله تعالى بالخلاف لهم وبالإفطار عند غروب الشمس

والأمر بالإتمام هنا للوجوب لأن الصوم واجب فإتمامه واجب بخلاف المباشرة والأكل والشرب فإن ذلك مباح في الأصل فكان الأمر بها الإباحة

وقال الراغب فيه دليل على جواز النية بالنهار وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر وعلى نفي صوم الوصال انتهى

أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه فلا تعرض في الآية للنية بالنهار

وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً بل من الكلام الذي قبلها

وأما الدلالة على نفي صوم الوصال فليس بظاهر لأنه غياً وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ولا منافاة بين هذا وبين الوصال وصح في الحديث النهي عن الوصال فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم وبعضهم على الكراهة وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين كعبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبي الحوراء ورخص بعضهم فيه إلى السحر منهم أحمد وإسحاق وابن وهب

وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه وهو قول الجمهور وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم وقال إسحاق وأهل الظاهر لا قضاء عليه كالناسي وروي ذلك عن عمر وقال مالك من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر وفي ثمانية أبي زيد عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر فلو قطع الإتمام متعمد الجماع فالإجماع على وجوب القضاء أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي والقضاء والكفارة عند بقية العلماء أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يلزمه القضاء ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل بل رفع نية الصوم فهو على صومه عند الجمهور ولا يلزمه قضاء قال ابن حبيب وعند مالك في المدوّنة أنه يفطر وعليه القضاء

وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك لأنه لم يسبق له صوم فيتمه قالوا لكن السنة أوجبت عليه الإمساك وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم وأتموا الصيام

وقالت الشافعية المراد منه صوم الفرض لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض قال بعض أرباب الحقائق لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك فقال في حقه وَأَتِمُّواْ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى وحظك وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ

وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الأية وسياق المباشرة المذكورة قبل

وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط وقال بذلك فرقة فالمنهي عنه الجماع وقال الجمهور يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم وأن الاعتكاف يبطل بالجماع وأما دواعي النكاح كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك وقال أبو حنيفة إن فعل فأنزل فسد وقال المزني عن الشافعي إن فعل فسد وقال الشافعي أيضاً لا يفسد من الوطء إلاَّ بما مثله من الأجنبية يوجب وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وهو معتكف في المسجد ولا شك أنها كانت تمسه قالوا فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور وإذا كانت المباشرة معنياً بها اللمس وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى لأن فيه اللمس وزيادة وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة

والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله وهو من الشرائع القديمة

وقرأ قتادة وأنتم عكفون بغير ألف والجملة في موضع الحال أي لا تباشروهن في هذه الحالة وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف والإجماع على أنه ليس بواجب وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ اعتكف فهو سنة ولم تتعرض الآية لمطلوبيته فنذكر شرائطه وشرطه الصوم وهو مروي عن علي وابن عمر وابن عباس وعائشة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري والحسن بن صالح وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف وقال جماعة من التابعين منهم سعيد وإبراهيم ليس الصوم شرطاً وروي طاووس عن ابن عباس مثله وبه قال الشافعي

وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان بل كل ما يسمى لبثاً في زمن ما يسمى عكوفاً وهو مذهب الشافعي وقال مالك لا يعتكف أقل من عشرة أيام هذا مشهور مذهبه وروي عنه أن أقلّة يوم وليلة

وظاهر إطلاق العكوف أيضاً يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار وأحدهما فعلى هذا لو نذر اعتكاف ليلة فقط صَحَّ أو يوم فقط صَحَّ وهو مذهب الشافعي وقال سحنون لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه وقال أبو حنيفة لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها

وفي الخروج من المعتكف والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة والدخول إليه وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقة

وظاهر قوله عاكفون في المساجد أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها ونظير ذلك لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف فذكر المساجد إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها لا أن ذلك شرط في الاعتكاف

والظاهر من قوله في المساجد أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد بل كل مسجد هو محل للاعتكاف وبه قال أبو قلابة وابن عيينة والشافعي وداود الطبري وابن المنذر وهو أحد قولي مالك والقول الآخر أنه لا اعتكاف إلاَّ في مسجد يجمع فيه وبه قال عبد الله وعائشة وإبراهيم وابن جبير وعروة وأبو جعفر

وقال قوم إنه لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة

وقال قوم لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبي وبه قال ابن المسيب وهو موافق لما قبله لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

وروى الحارث عن عليّ أنه لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏

وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال وأما النساء فسكوت عنهن وقال أبو حنيفة تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره وقال مالك تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها وقال الشافعي حيث شاءت

وقرأ مجاهد والأعمش في المسجد على الإفراد وقال الأعمش هو المسجد الحرام والظاهر أنه للجنس ويرجع هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد

وقال بعض الصوفية في قوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ الآية أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ انتهى

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف لأنه شيء واحد بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر والأمر بالشيء نهي عن ضده فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف فأطلق على الكل حدود تغليباً للمنطوق به واعتباراً بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر فقيل حدود الله واحتيج إلى هذا التأويل لأن المأمور بفعله لا يقال فيه فلا تقربوها وحدود الله شروطه قاله السدّي أو فرائضه قاله شهر بن حوشب أو معاصيه قاله الضحاك وقال معناه الزمخشري قال محارمه ومناهيه أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية

وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا وحيث ذكرت تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالالف واللام لهذا المعنى

فَلاَ تَقْرَبُوهَا النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏(‏إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه‏)‏ والرتع حول الحمى وقربانه واحد وجاء هنا فلا تقربوها وفي مكان آخر فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ وقوله وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ لأنه غلب هنا جهة النهي اذ هو المعقب بقوله تلك حدود الله وما كان منهياً عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ وأما حيث جاء فلا تعتدوها فجاء عقب بيان عدد الطلاق وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض فناسب أن ينهي عن التعدي فيها وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها وكذلك قوله تعالى وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ جاء بعد أحكام المواريث وذكر أنصباء الوارث والنظر في أموال الأيتام وبيان عدد ما يحل من الزوجات فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه وجاء قوله تلك حدود الله عقيب قوله وَصِيَّةً مّنَ اللَّهِ ثم وعد من أطاع بالجنة وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته

وقال أبو مسلم معنى لا تقربوها لا تتعرّضوا لها بالتغيير كقوله وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ

كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ أي مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته وقال أبو مسلم المراد بالآيات الفرائض التي بينها كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل إنتهى كلامه وهذا لا يتأتى إلاّ على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به

لِلنَّاسِ ظاهره العموم وقال ابن عطية معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي يتضمن إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها لأنك تقول بينت له فما بين كما تقول علمته فما تعلم

ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين يجعل فيهم البيان فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى جعل في قوم الضلال فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعاً منا ومن المعتزلة وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاءً عظيماً بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلاّ التقوى فلذلك ختمت هذه الآية بها أي هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم

وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ قال مقاتل نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ في أرض وكان امرؤ القيس المطلوب وعد أن الطالب فأراد امرؤ القيس أن يحلف فنزلت فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوّده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائماً له ممنوعاً من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلاّ من الحلال الخالص الذي ينور القلب ويزيده بصيرة ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه وتخلل أيضاً بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي وسؤال العباد الله تعالى وقد جاء في الحديث ‏(‏إن من كان مطعمه حراماً وملبسه حراماً ومشربه حراماً ثم سأل الله أنَّى يستجاب له فناسب أيضاً النهي عن أكل المال الحرام

ويجوز أن تكون المناسبة أنه لما أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على من كان من قبلهم ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا وما يستبيحونه من الأموال بالباطل كما قال تعالى وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وأن يكونوا مخالفيهم قولاً وفعلاً وصوماً وفطراً وكسباً واعتقاداً ولذلك ورد لما ندب إلى السحور ‏(‏خالفوا اليهود‏)‏ وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض إذ نزل فَاعْتَزِلُواْ النّسَاء فِي الْمَحِيضِ لاعتزال اليهود بأن لا يؤاكلوهنّ ولا يناموا معهنّ في بيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ ‏(‏افعلوا كل شيء إلا النكاح‏)‏ فقالت اليهود ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فيه

والمفهوم من قوله تعالى ولا تأكلوا الأكل المعروف لأنه الحقيقة وذكره دون سائر وجوه الإعتداء والإستيلاء لأنه أهم الحوائج وبه يقع إتلاف أكثر الأموال ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازاً عبر به عن الأخذ والإستيلاء وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين وإضافة الأموال إلى المخاطبين والمعنى ولا يأكل بعضكم مال بعض كقوله وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضاً فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهياً ومنهياً عنه وآكلاً ومأكولاً منه فخلط الضمير لهذه الصلاحية وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة بل هي من باب الإضافة بالملابسة وأجاز قوم الإضافة للمالكين وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم لقوله تريدونها بينكم بالباطل وقال الزجاج بالظلم وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب والنهب والقمار وحلوان الكاهن والخيانة والرشاء وما يأخذه المنجمون وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع

وقال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه فيجحد المال ويخاصم صاحبه وهو يعلم أنه آثم وقال عكرمة هو الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها دراهم وقال ابن عباس أيضاً هو أخذ المال بشهادة الزور قال ابن عطية ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه وهبة انتهى وهو صحيح

والناصب للظرف تأكلوا والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص ثم بين المعاني وفي قوله بينكم يقع لما هم يتعاطونه من ذلك لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك وقيل انتصاب بينكم على الحال من أموالكم فيتعلق بمحذوف أي كائنة بينكم وهو ضعيف والباء في بالباطل للسبب وهي تتعلق بتأكلوا وجوزوا أن تكون بالباطل حالاً من الأموال وأن تكون حالاً من الفاعل

وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ هو مجزوم بالعطف على النهي أي ولا تدلوا بها إلى الحكام وكذا هي في مصحف أبيّ ولا تدلوا بإظهار لا الناهية والظاهر أن الضمير في بها عائد على الأموال فنهوا عن أمرين أحدهما أخذ المال بالباطل والثاني صرفه لأخذه بالباطل وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوباً على جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري وحكى ابن عطية أنه قيل تدلوا في موضع نصب على الظرف قال وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى

ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي وتجويز الزمخشري ذلك هنا فتلك مسألة لا تأكل السمك وتشرب اللبن بالنصب

قال النحويون إذا نصبت كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين

أحدهما أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات

والثاني وهو أقوى إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما بل إنما يترتب على وجود أحدهما وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام والإدلاء هنا قيل معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكونن المال أمانة كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدّعي عليه والباء على هذا القول للسبب وقيل معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها قال ابن عطية وهذا القول يترجح لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل وأيضاً فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا من إرسال الدلو والرشوة من الرشاء كأنها يمدّ بها لتقضي الحاجة انتهى كلامه وهو حسن

وقيل المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم أدلى فلان بحجته قام بها وهو راجع لمعنى القول الأوّل والضمير في عائد على الأموال كما قررناه وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور أي لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام فيحتمل على هذا القول أن يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس بسبب شهادة أولئك الشهور

لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا أي قطعة وطائفة مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ قيل هي أموال الأيتام وقيل هي الودائع والأوْلى العموم وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق ومن أموال الناس في موضع الصفة أي فريقاً كائناً من أموال الناس بِالإثْمِ متعلق بقوله لتأكلوا وفسر بالحكم بشهادة الزور وقيل بالرشوة وقيل بالحلف الكاذب وقيل بالصلح مع العلم بأن المقضي له ظالم والأحسن العموم فكل ما أخذ به المال وماله إلى الإثم فهو إثم والاصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر جمالية تعتلى بالرداف

إذا كذب الآثمات الهجيرا

أي المقصرات ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثماً

والباء في بالإثم للسبب ويحتمل أن تكون للحال أي متلبسين بالإثم وهو الذنب وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية أي أنكم مبطلون آثمون وما أعدّ لكم من الجزاء على ذلك وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها وخصوصاً حقوق العباد وفي الحديث ‏(‏فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً فإن ما أقضي له قطعة من نار‏)‏

وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه وهذا في الأموال باتفاق وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور والمحكوم له يعلم بذلك

فقال أبو حنيفة هو نافذ وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور

وقال الجمهور ينفذ ظاهراً ولا ينفذ باطناً

وفي قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه كأن يلقى لأبيه ديناً وأقام البينة على ذلك الدين فحكم له به الحاكم فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك إذ من الجائز أن أباه وهبه أو أن المدين قضاه أو أنه مكره في الإقرار لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه والأصل عدم براءة المقرّ وعدم إكراهه فيجوز له أن يأخذه

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريباً لهم وتحريكاً لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسياً في هذا التكليف الشاقّ بمن قبلنا فليس مخصوصاً بنا وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله أيّاماً معدودات أول يحصرها العدّ من قلتها ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره وأوجب عليه قضاء عدتهاغ إذا صح وأقام ثم ذكر أن من أطلق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدى باطعام مساكين ثم ذكر أن التطوّع بالخير هو خير وإن الصوم أفضل من الفطر والفداء ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان وهكذا جرت العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولاً بالأخف فالأخف ينتهي إلى الحدّ الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة فيستقرّ الحكم

ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه وعذر من كان مريضاً أو مسافراً فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين التسير

ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة ولتعظيم الله ولرجاء الشكر فقابل كل مشروع بما يناسبه ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم ذكر قربه بالمكانة فإذا سألوه أجابهم ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه ثم طلب منهم الإستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا دعوه ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان لأنه أصل العبادات وبصحته تصح ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به ثم امتنّ عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ وكذلك الأكل والشرب وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم وكان من أحوال الصائم الاعتكاف وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراماً نبه على ذلك بقوله وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ

ثم أشار إلى الحواجز وهي الحدود وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدّها هو الله تعالى فنهاهم عن قربانها فضلاً عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها ونهاكم أيضاً عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئاً من الأموال التي لا يستحقونها وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحاً لهم وتوبيخاً لهم لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها وبما يترتب عليها

ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات حتى إنه جاء في الحديث ‏(‏فإن امرؤ سبه فليقل إني صائم‏)‏ وجاء عن الله تعالى ‏(‏الصوم لي وأنا أجزى به‏)‏ وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من ‏(‏الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش‏)‏ فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به واختتمت بمحرم منهي عنه وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضاً أمر ونهي وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به واجتناب ما نهى تعالى عنه أعاننا الله عليها