فصل: (الْبِدْعَةُ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***


فَصْلٌ ‏[‏مَا جَاءَ عَنِ الصُّوفِيَّةِ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏]‏

الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا عَنِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ النَّاسِ‏:‏

وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ كِفَايَةٌ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مُتَسَاهِلُونَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ وَالْتِزَامَ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ الْتِزَامُهُ مِمَّا يَقُولُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أَوْ يَقُولُوا بِهِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَنَوْا عَلَيْهِ طَرِيقَتَهُمْ‏:‏ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَاجْتِنَابُ مَا خَالَفَهَا، حَتَّى زَعَمَ مُذَكِّرُهُمْ، وَحَافِظُ مَأْخَذِهِمْ، وَعَمُودُ نِحْلَتِهِمْ، ‏(‏أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ‏)‏ أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِاسْمِ التَّصَوُّفِ انْفِرَادًا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَّسِمْ أَفَاضِلُهُمْ فِي عَصْرِهِمْ بَاسِمِ عَلَمٍ سِوَى الصُّحْبَةِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ فَوْقَهَا، ثُمَّ سُمِّيَ مَنْ يَلِيهِمُ التَّابِعِينَ، وَرَأَوْا هَذَا الِاسْمَ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَتَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَقِيلَ لِخَوَاصِّ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ شِدَّةُ عِنَايَةٍ مِنَ الدِّينِ‏:‏ الزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ثُمَّ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ فِيهِمْ زُهَّادًا وَعُبَّادًا، فَانْفَرَدَ خَوَاصُّ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُرَاعُونَ أَنْفُسَهُمْ مَعَ اللَّهِ الْحَافِظُونَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْغَفْلَةِ بِاسْمِ التَّصَوُّفِ‏.‏

هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَدْ عَدَّ هَذَا اللَّقَبَ مَخْصُوصًا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُبَايَنَةِ الْبِدْعَةِ، وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْجُهَّالُ وَمَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلْعِلْمِ‏.‏

وَفِي غَرَضِي إِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَنِي بِفَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لِيَ الْأَسْبَابَ أَنْ أُلَخِّصَ فِي طَرِيقَةِ الْقَوْمِ أُنْمُوذَجًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَجَرَيَانِهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، وَأَنَّهُ إِنَّمَا دَاخَلَتْهَا الْمَفَاسِدُ وَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهَا الْبِدَعُ مِنْ جِهَةِ قَوْمٍ تَأَخَّرَتْ أَزْمَانُهُمْ عَنْ عَهْدِ ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَادَّعَوُا الدُّخُولَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سُلُوكٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا فَهْمٍ لِمَقَاصِدِ أَهْلِهَا، وَتَقَوَّلُوا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوا بِهِ، حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَسَاهَلُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَيَرَوْنَ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ طَرِيقًا لِلتَّعَبُّدِ صَحِيحًا، وَطَرِيقَةُ الْقَوْمِ بَرِيئَةٌ مِنْ هَذَا الْخِبَاطِ بِحَمْدِ اللَّهِ‏.‏

فَقَدَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ‏:‏ ‏"‏ مَنْ جَلَسَ مَعَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، لَمْ يُعْطَ الْحِكْمَةَ ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ لِـ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ مُنْذُ دَهْرٍ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَنَا لِمَاذَا نَدْعُو اللَّهَ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَنَا‏!‏ فَقَالَ‏:‏ مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ‏:‏ أَوَّلُهَا‏:‏ عَرَفْتُمُ اللَّهَ فَلَمْ تُؤَدُّوا حَقَّهُ، وَالثَّانِي‏:‏ قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ، وَالثَّالِثُ‏:‏ ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهُ، وَالرَّابِعُ‏:‏ ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ، وَالْخَامِسُ‏:‏ قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ وَمَا تَعْمَلُونَ لَهَا‏.‏ إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ‏.‏

وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ‏:‏ ‏"‏ مِنْ عَلَامَةِ حُبِّ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَخْلَاقِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَمْرِهِ وَسُنَّتِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ، الْأَوَّلُ‏:‏ ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي‏:‏ صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ مُهَيَّئَةً لِشَهَوَاتِهِمْ، وَالثَّالِثُ‏:‏ غَلَبَهُمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قِصَرِ الْأَجَلِ، وَالرَّابِعُ‏:‏ آثَرُوا رِضَاءَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى رِضَاءِ اللَّهِ، وَالْخَامِسُ‏:‏ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّادِسُ‏:‏ جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ وَدَفَنُوا أَكْثَرَ مَنَاقِبِهِمْ‏.‏

وَقَالَ لِرَجُلٍ أَوْصَاهُ‏:‏ ‏"‏ لِيَكُنْ آثَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ وَأَحَبَّهَا إِلَيْكَ‏:‏ إِحْكَامُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَاتِّقَاءُ مَا نَهَاكَ عَنْهُ، فَإِنَّ مَا تَعْبُدُ اللَّهَ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَخْتَارُهُ لِنَفْسِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي ‏[‏لَا‏]‏ تَجِبُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهَا أَبْلَغُ لَكَ فِيمَا تُرِيدُ، كَالَّذِي يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ وَالتَّقَلُّلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَ أَبَدًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ يُحْكِمُهُ عَلَى تَمَامِ حُدُودِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَتَّقِيهِ عَلَى إِحْكَامِ مَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ‏:‏ تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ، وَأَسْمَاعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، وَأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ، وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا‏;‏ لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أَبْدَانُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ عَنْ حَمْلِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الْقُرَّاءِ وَالنُّسَّاكِ حَقَّرُوا مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، وَاسْتَهَانُوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا ثَوَابَ لَذَّةِ الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي‏:‏ ‏"‏ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي‏:‏ يَا بِشْرُ‏!‏ تَدْرِي لِمَ رَفَعَكَ اللَّهُ بَيْنَ أَقْرَانِكَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ لِاتِّبَاعِكَ سُنَّتِي، وَحُرْمَتِكَ لِلصَّالِحِينَ، وَنَصِيحَتِكَ لِإِخْوَانِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لِأَصْحَابِي وَأَهْلِ بَيْتِي؛ هُوَ الَّذِي بَلَّغَكَ مَنَازِلَ الْأَبْرَارِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ‏:‏ ‏"‏ اخْتِلَافُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ضِدٌّ، فَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ، وَقَعَ فِي ضِدِّهِ‏:‏ التَّوْحِيدُ وَضِدُّهُ الشِّرْكُ، وَالسُّنَّةُ وَضِدُّهَا الْبِدْعَةُ، وَالطَّاعَةُ وَضِدُّهَا الْمَعْصِيَةُ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الدَّقَّاقُ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ‏:‏ ‏"‏ كُنْتُ مَارًّا فِي تِيهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَخَطَرَ بِبَالِي أَنَّ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ مُبَايِنٌ لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ‏:‏ كُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا الشَّرِيعَةُ فَهِيَ كُفْرٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ‏:‏ ‏"‏ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَبْدِ‏:‏ تَيْسِيرُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصُحْبَتُهُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَحُسْنُ أَخْلَاقِهِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبَذْلُ مَعْرُوفِهِ لِلْخَلْقِ وَاهْتِمَامُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمُرَاعَاتُهُ لِأَوْقَاتِهِ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ كَثِيرَةٌ، وَأَوْضَحُ الطُّرُقِ وَأَبْعَدُهَا عَنِ الشُّبَهِ‏:‏ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَعَزْمًا وَعَقْدًا وَنِيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏

فَقِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى السُّنَّةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مُجَانَبَةُ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ مَجَالِسِ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلُزُومُ طَرِيقَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ ‏"‏ لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ تَمَامَ الْهِمَّةِ بِأَوْصَافِهَا إِلَّا أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا أَخَذُوا ذَلِكَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ هِمَّةً، وَأَقْرَبَهُمْ زُلْفَى ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْوَرَّاقُ‏:‏ ‏"‏ لَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بِاللَّهِ، وَبِمُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرَائِعِهِ، وَمَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ فِي غَيْرِ الِاقْتِدَاءِ، يَضِلُّ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الصِّدْقُ‏:‏ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ فِي الدِّينِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي الشَّرْعِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏‏.‏

وَمِثْلُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْقَمَّارِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ‏:‏ إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ نَبِيِّهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ‏:‏ ‏"‏ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ صَوَابًا، وَمِنْ صَوَابِهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَمِنْ خَالِصِهَا إِلَّا مَا وَافَقَ السُّنَّةَ ‏"‏‏.‏

وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ الْقِرْمِيسِينِيُّ صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَاصَّ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، مُتَمَسِّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَازِمًا لِطَرِيقِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ‏:‏ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْآدَابِ وَالْمُعَامَلَاتِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعْدَانَ- وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ- وَغَيْرِهِ‏:‏ الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّجَّاجِيُّ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا‏:‏ ‏"‏ كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّبِعُونَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ وَطَبَائِعُهُمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاتِّبَاعِ، فَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَسْتَحْسِنُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ، وَيَسْتَقْبِحُ مَا يَسْتَقْبِحُهُ ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ لِإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ جَدِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَلَقِيَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ‏:‏ مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُوعُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ التُّونُسِيُّ‏:‏ ‏"‏ هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحُدُودِ لَا يُقَصِّرُ فِيهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ‏:‏ ‏"‏ عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَشَقِيتُ‏.‏ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَمُتَابَعَةُ الْعِلْمِ هِيَ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ لَا غَيْرِهَا ‏"‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ قُمْ بِنَا نَنْظُرُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نَفْسَهُ بِالْوِلَايَةِ كَانَ رَجُلًا مَقْصُودًا مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ ‏"‏‏.‏

قَالَ الرَّاوِي‏:‏ ‏"‏ فَمَضَيْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ‏;‏ رَمَى بِبُصَاقِهِ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ، فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ‏؟‏‏!‏

وَهَذَا أَصْلٌ أَصَّلَهُ أَبُو يَزِيدَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّ لَا تَحْصُلُ لِتَارِكِ السُّنَّةِ، كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا مِنْهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا كَانَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ كِفَاحًا‏؟‏‏!‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا‏؟‏ وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَسْأَلْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِي اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَمْ حَائِطٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَقِيَ فِي الْهَوَاءِ‏;‏ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَآدَابِ الشَّرِيعَةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتُرِيُّ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ‏:‏ طَاعَةً كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً، فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ يَعْنِي‏:‏ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ‏;‏ فَهُوَ عِتَابٌ عَلَى النَّفْسِ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ ‏"‏‏.‏

وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ الْمَذْمُومُ، وَمَقْصُودُ الْقَوْمِ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أُصُولُنَا سَبْعَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاجْتِنَابُ الْآثَامِ، وَالتَّوْبَةُ، وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ قَدْ أَيِسَ الْخَلْقُ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ‏:‏ مُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ، وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ، وَتَرْكُ أَذَى الْخَلْقِ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ عَنِ الْفُتُوَّةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ‏:‏ ‏"‏ رُبَّمَا تَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا، فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ‏:‏ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ‏:‏ ‏"‏ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ‏;‏ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ‏:‏ ‏"‏ مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ، فَلَا تَعُدَّهُ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ عَنْ الْبِدْعَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ التَّعَدِّي فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّهَاوُنُ فِي السُّنَنِ، وَاتِّبَاعُ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَمَا ظَهَرَتْ حَالَةٌ عَالِيَةٌ‏;‏ إِلَّا مِنْ مُلَازَمَةِ أَمْرٍ صَحِيحٍ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ‏:‏ مَتَى يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى النَّاسِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَدَاءُ فَرْضٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فِي عَمَلِهِ، أَوْ خَافَ هَلَاكَ إِنْسَانٍ فِي بِدْعَةٍ يَرْجُو أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ‏;‏ عَرَفَ تَقْصِيرَهُ، وَتَخَلُّفَهُ عَنْ دَرَجَاتِ الرِّجَالِ ‏"‏‏.‏

وَهَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُثَابَرَةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ لِرَجُلٍ ذَكَرَ الْمَعْرِفَةَ وَقَالَ‏:‏ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ الْجُنَيْدِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بِإِسْقَاطِ الْأَعْمَالِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فِيهَا ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ‏;‏ لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بِي دُونَهَا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الطُّرُقُ كُلُّهُا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ‏;‏ لِأَنَّ عِلْمَنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجَبْرِيُّ‏:‏ ‏"‏ الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُسْنِ الْأَدَبِ وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ ‏"‏‏.‏ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ‏.‏

وَلَمَّا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ، مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ، فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ خِلَافُ السُّنَّةِ يَا بُنَيَّ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَمَّرَ السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا‏;‏ نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أَمَّرَ الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا‏;‏ نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ‏;‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ النَّوَوِيُّ‏:‏ ‏"‏ مَنْ رَأَيْتَهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مِنْهُ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ‏:‏ ‏"‏ ذَهَابُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةٍ‏:‏ لَا يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَعْمَلُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنَ التَّعَلُّمِ‏.‏

هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ وَصْفُ صُوفِيَّتِنَا الْيَوْمَ، عِيَاذًا بِاللَّهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَعْرَفُهُمْ بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ مُجَاهَدَةً فِي أَوَامِرِهِ، وَأَتْبَعُهُمْ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ شَاةُ الْكَرْمَانِيُّ‏:‏ ‏"‏ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ آدَابَ اللَّهِ‏;‏ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَيْضًا‏:‏ ‏"‏ أَعْظَمُ الْغَفْلَةِ‏:‏ غَفْلَةُ الْعَبْدِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَوَامِرِهِ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ آدَابِ مُعَامَلَتِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَاسْتَعْمَلَهُ، وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ عَنِ الْعَافِيَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الْعَافِيَةُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ‏:‏ دِينٌ بِلَا بِدْعَةٍ، وَعَمَلٌ بِلَا آفَةٍ، وَقَلْبٌ بِلَا شُغْلٍ، وَنَفْسٌ بِلَا شَهْوَةٍ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الصَّبْرُ‏:‏ الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بُنَانٌ الْحَمَّالُ وَسُئِلَ عَنْ أَصْلِ أَحْوَالِ الصُّوفِيَّةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ الثِّقَةُ بِالْمَضْمُونِ، وَالْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، وَمُرَاعَاةُ السِّرِّ، وَالتَّخَلِّي عَنِ الْكَوْنَيْنِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ‏:‏ ‏"‏ مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ سُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الرَّقَاشِيُّ‏:‏ ‏"‏ عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةُ نَبِيِّهِ ‏"‏ اه-‏.‏

وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

وَقَالَ مَمْشَادُ الدِّينَوَرِيُّ‏:‏ ‏"‏ آدَابُ الْمُرِيدِ فِي‏:‏ الْتِزَامِ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَحُرْمَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَحِفْظِ آدَابِ الشَّرْعِ عَلَى نَفْسِهِ ‏"‏‏.‏

وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ عَمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ وَيَقُولُ‏:‏ هِيَ لِي حَلَالٌ لِأَنِّي قَدْ وَصَلْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيَّ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَدْ وَصَلَ، وَلَكِنْ إِلَى سَقَرٍ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ‏:‏ ‏"‏ لَمْ يُضَيِّعْ أَحَدٌ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ‏;‏ إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِتَضْيِيعِ السُّنَنِ، وَلَمْ يُبْتَلَ بِتَضْيِيعِ السُّنَنِ أَحَدٌ‏;‏ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْبِدَعِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ‏:‏ ‏"‏ أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ مَا قَارَنَ الْعِلْمَ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ نُجَيْدٍ‏:‏ ‏"‏ كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ‏;‏ فَإِنَّ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ‏:‏ ‏"‏ صُحْبَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ تُورِثُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيُّ‏:‏ ‏"‏ الطَّرِيقُ وَاضِحٌ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَائِمَانِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ، فَمَنْ صَحِبَ مِنَّا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصِيبُ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ النَّصْرَابَاذِيُّ‏:‏ ‏"‏ أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ وَالتَّأْوِيلَاتِ ‏"‏‏.‏

وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ، وَقَدْ نَقَلْنَا عَنْ جُمْلَةٍ مِمَّنِ اشْتُهِرَ مِنْهُمْ يَنِيفُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْخًا، جَمِيعُهُمْ يُشِيرُ أَوْ يُصَرِّحُ بِأَنَّ الِابْتِدَاعَ ضَلَالٌ وَالسُّلُوكَ عَلَيْهِ تِيهٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَمَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَطْرُودٌ عَنْ نَيْلِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمُ الطَّرِيقَةُ‏;‏ مُجْمِعُونَ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ، مُقِيمُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، غَيْرُ مُخِلِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِهَا، أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا‏.‏

وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى فِر‍َقٍ مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، وَلَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى خِلَافِ السُّنَّةِ‏.‏

وَأَكْثَرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَمُحَدِّثُونَ وَمِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الدِّينُ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي دِينِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ‏.‏

وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَقَائِقِ وَالْمَوَاجِدِ وَالْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ التَّوْحِيدِيَّةِ، فَهُمُ الْحُجَّةُ لَنَا عَلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى طَرِيقِهِمْ وَلَا يَجْرِي عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، بَلْ يَأْتِي بِبِدَعٍ مُحْدَثَاتٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَّبَعَاتٍ، وَيَنْسُبُهَا إِلَيْهِمْ، تَأْوِيلًا عَلَيْهِمْ‏.‏ مِنْ قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، أَوِ اسْتِمْسَاكًا بِمَصْلَحَةٍ شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، يَرْتَكِبُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا، وَيَحْتَجُّ بِحِكَايَاتٍ هِيَ قَضَايَا أَحْوَالٍ، إِنْ صَحَّتْ‏;‏ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ، لِوُجُوهٍ عِدَّةٍ، وَيَتْرُكُ مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْحَقِّ الصَّرِيحِ، وَالِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ، شَأْنُ مَنِ اتَّبَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا‏.‏

وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ فِي طَرِيقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ كَسَائِرِ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمْ، أَتَيْتُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَقُومُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى ‏(‏مُدَّعِي‏)‏ السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدْعَةِ فِي طَرِيقَتِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا لَنَا مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ عُمُومًا، وَعَلَى الْمُدَّعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ خُصُوصًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ‏]‏

الْوَجْهُ الْخَامِسُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ‏:‏

وَهُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِ أُسِّ، وَالْمُسْتَنِدُ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُّنَّةٍ، لَكِنَّهُ وَجْهٌ تَشْرِيعِيٌّ، فَصَارَ نَوْعًا مِنَ الِابْتِدَاعِ، بَلْ هُوَ الْجِنْسُ فِيهَا‏;‏ فَإِنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ إِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِوَصْفِ الضَّلَالِ‏.‏

فَفِي الصَّحِيحِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ‏;‏ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يَسْتَفْتُونَ، فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ‏.‏

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَذَمُّ الرَّأْيِ عَائِدٌ عَلَى الْبِدَعِ بِالذَّمِّ لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ، يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَيُحِلُّونَ بِهِ مَا حَرَّمَ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ‏:‏ ‏"‏ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالتَّخَرُّصِ وَالظَّنِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ ‏"‏ يُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ ‏"‏‏؟‏ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْلِيلُهُ، وَالْحَرَامَ مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْرِيمُهُ، فَمَنْ جَهِلَ ذَلِكَ وَقَالَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَاسَ بِرَأْيِهِ مَا خَرَجَ ‏(‏مِنْهُ‏)‏ عَنِ السُّنَّةِ، فَهَذَا الَّذِي قَاسَ بِرَأْيِهِ فَضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ رَدَّ الْفُرُوعَ فِي عِلْمِهِ إِلَى أُصُولِهَا‏;‏ فَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيِهِ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا‏:‏ ‏"‏ إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثًا، وَإِحْدَاهُنَّ‏:‏ ‏"‏ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ ‏"‏‏.‏

قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ‏:‏ مَنِ الْأَصَاغِرُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ‏;‏ فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَصْبَحَ أَهْلُ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ ‏"‏‏.‏

قَالَ سَحْنُونُ‏:‏ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ الْبِدَعَ ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ ‏"‏ إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ‏"‏‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِـ ابْنِ وَهْبٍ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَّةِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ يُسْأَلُوا أَنْ يَقُولُوا‏:‏ لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاكُمْ ‏"‏‏.‏

قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ‏:‏ ‏"‏ أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ قُرَّاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ الرَّأْيِ سُنَّةً لِلْأُمَّةِ ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَدْرَكَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ، فَأَضَلُّوا بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمُ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ شُعِّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ فَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ، فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا‏.‏

وَعَنْ دَرَّاجِ بْنِ السَّمْحِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ‏;‏ يُسَمِّنُ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا، ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نَقْضًا، يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُّنَّةٍ قَدْ عَمِلَ بِهَا فَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِالظَّنِّ ‏"‏‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّأْيِ الْمَقْصُودِ بِالرَّأْيِ الْوَارِدِ ذَمُّهُ فِي الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ‏:‏

فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ الْمُرَادُ بِهِ رَأْيُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَنِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادِ كَمَذْهَبِ جَهْمٍ وَسَائِرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا آرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَفِي رَدِّ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ‏;‏ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الرَّدَّ وَيَقْتَضِي التَّأْوِيلَ، كَمَا قَالُوا بِنَفْيِ الرُّؤْيَةِ نَفْيًا لِلظَّاهِرِ بِالْمُحْتَمَلَاتِ، وَنَفْيِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَنَفْيِ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ‏.‏ وَكَذَلِكَ رَدُّوا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ إِنَّمَا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ حَقَائِقَ جَمِيعِ الْبِدَعِ رُجُوعٌ إِلَى الرَّأْيِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ‏.‏

وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ، إِذِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَقْتَضِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبِدَعِ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ، حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَانَتْ مِنَ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏;‏ بَعْدَمَا حَكَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخَوَارِجِ‏.‏

وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يَقُلْ بِهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَتَى بِمِثَالٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ الْآيَةُ، كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ‏;‏ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ مُشْتَهِرًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا يُمَثَّلُ بِهِ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَلَوْ سُئِلَ عَنِ الْعُمُومِ لَقَالَ بِهِ‏.‏

وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْخَاصَّةِ بِبَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَلَى التَّفْسِيرِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِي قِصَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ، ثُمَّ نَزَلَتْ عَلَى الْخَوَارِجِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ، إِنَّمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا يَشْمَلُهُ الْمَوْضِعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الْحَاضِرَةِ لَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لُغَةً‏.‏

وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ أَقْوَالَ الْمُفَسِّرِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِمَنَاصِبِهِمْ فِي الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِهِمْ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏.‏

وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ وَهُمْ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ‏:‏ الرَّأْيُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ هُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ وَالْأُغْلُوطَاتِ، وَرْدُّ الْفُرُوعِ وَالنَّوَازِلِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ، وَفُرِّعَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ لِلظَّنِّ‏.‏

قَالُوا‏:‏ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ‏:‏ تَعْطِيلُ السُّنَنِ، وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِيهِ‏.‏

وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ، مِنْهَا‏:‏ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَنَ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، وَمَا جَاءَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ، وَهِيَ صِعَابُ الْمَسَائِلِ، وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ إِلَّا عَمَّا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ دُونَ مَا لَمْ يَنْزِلْ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ‏;‏ قَدْ مَنَعَ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي السُّنَنِ اقْتِصَارًا عَلَى الرَّأْيِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ‏;‏ اجْتَمَعَ مَعَ مَا قَبْلُهُ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ وَشَدَّدَ فِيهِ‏;‏ مَنَعَ مَا حَوَالَيْهِ، وَمَا دَارَ بِهِ وَرَتَعَ حَوْلَ حِمَاهُ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ‏;‏ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ، وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَمْنُوعِ يَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَنْعِ فِي الذَّرِيعَةِ وَشِدَّتُهُ‏.‏

وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ يُبَيِّنُ لَكَ عِظَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي الِابْتِدَاعِ، فَالْحَوْمُ حَوْلَ حِمَاهُ يَتَّسِعُ جِدًّا، وَلِذَلِكَ تَنَصَّلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُتْيَا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏

لَا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا تُشَتَّتُ بِكُمُ الطُّرُقُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا‏.‏

وَصَحَّ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَعَفَا عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا‏.‏

وَأَحَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَلَمْ يَكُونُوا يُفْتُونَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهَا‏:‏ صَوَافِيَ الْأُمَرَاءِ‏.‏

وَكَانَ جَمَاعَةٌ يُفْتُونَ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَأَنَّهُ رَأْيٌ لَيْسَ بِعِلْمٍ‏:‏ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ سُئِلَ فِي الْكَلَالَةِ‏:‏ ‏"‏ أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ ‏"‏، ثُمَّ أَجَابَ‏.‏

وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَأَمْلَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ، فَأَجَابَهُ، فَكَتَبَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَاءِ سَعِيدٍ‏:‏ أَتَكْتُبُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ رَأْيَكَ‏؟‏ فَقَالَ سَعِيدٌ لِلرَّجُلِ‏:‏ ‏"‏ نَاوِلْنِيهَا ‏"‏، فَنَاوَلَهُ الصَّحِيفَةَ، فَخَرَقَهَا‏.‏

وَسُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ شَيْءٍ‏؟‏ فَأَجَابَ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ‏;‏ دَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏"‏ لَا تَقُلْ‏:‏ إِنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إِنِ اضْطُرِرْتَ إِلَيْهِ عَمِلْتَ بِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ‏:‏ ‏"‏ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ الرَّأْيَ، فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ‏;‏ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ ‏"‏‏.‏

ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي النَّازِلَةِ‏:‏ ‏{‏إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ‏}‏‏.‏

وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَمَّقُ فِيهِ، لَمْ يَزَلْ يَذُمُّهُ وَيَذُمُّ مَنْ تَعَمَّقَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ يُنْحَى عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِمْ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَحُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ، مِنْ أَخَفِّهَا قَوْلُهُ‏:‏

‏"‏ الِاسْتِحْسَانُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا يَكَادُ الْمُغْرِقُ فِي الْقِيَاسِ إِلَّا يُفَارِقُ السُّنَّةَ ‏"‏‏.‏

وَالْآثَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةٌ بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ، فَهَذِهِ كُلُّهُا تَشْدِيدَاتٌ فِي الرَّأْيِ، وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأُصُولِ، حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى أَصْلٍ‏.‏

وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ كَرِهْنَا الْإِتْيَانَ بِهِ‏.‏

وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ‏:‏ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ مَا بُنِيَ عَلَى الْجَهْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرْجَعَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ذَرِيعَةً إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِهِ مَحْمُودًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ‏:‏

فَالْأَوَّلُ‏:‏ دَاخِلٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الذَّمِّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ خَارِجٌ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ بِدْعَةً أَبَدًا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْأَوْصَافُ الْمَحْذُورَةُ وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةُ فِي الْبِدَعِ‏]‏

‏[‏الْبِدْعَةُ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ‏]‏

الْوَجْهُ السَّادِسُ‏:‏ مِنَ النَّقْلِ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّؤْمِ‏:‏

وَهُوَ كَالشَّرْحِ لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَسْطٍ وَبَيَانٍ زَائِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ، فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَسَعُ ذِكْرُهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ‏.‏

فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ جَزَاءُ الْمُبْتَدِعِ‏:‏ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ، وَمُجَالِسُ صَاحِبِهَا تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَاشِي إِلَيْهِ وَمُوَقِّرُهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا‏؟‏ وَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَيَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ بُعْدًا، وَهِيَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَانِعَةٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَرَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَعَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وَتُلْقَى عَلَيْهِ الذِّلَّةُ وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، وَيُبْعَدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِي الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ فِي الْآخِرَةِ، ‏[‏وَ‏]‏ يُعَذَّبُ بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ‏.‏

فَأَمَّا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ‏:‏

فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ‏:‏ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا حَجًّا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ‏"‏‏.‏

وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ أَسَدُ بْنُ مُوسَى‏:‏ ‏"‏ وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الْبِدَعِ أَخٌ أَوْ جَلِيسٌ أَوْ صَاحِبٌ‏:‏

فَإِنَّهُ جَاءَ الْأَثَرُ‏:‏ مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ‏;‏ نُزِعَتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ، مَشَى إِلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَجَاءَ‏:‏ مَا مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَاحِبِ هَوًى‏.‏

وَوَقَعَتِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ‏.‏

وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَلَا فَرِيضَةً وَلَا تَطَوُّعًا‏.‏

وَكُلَّمَا ازْدَادُوا اجْتِهَادًا صَوْمًا وَصَلَاةً ازْدَادُوا مِنَ اللَّهِ بُعْدًا‏.‏

فَارْفُضْ مُجَالَسَتَهُمْ، وَأَذِلَّهُمْ، وَأَبْعِدْهُمْ، كَمَا أَبْعَدَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى بَعْدَهُ‏.‏

وَكَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ‏"‏‏.‏

وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ‏:‏ ‏"‏ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا، لَقِيَ اللَّهَ، فَأَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَأَخْرَسَ لِسَانَهُ، وَجَعَلَ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا، وَقَطَعَ بِهِ الْأَسْبَابَ، وَكَبَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ‏"‏‏.‏

وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَمَا كَانَ نَحْوَهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ تَتَضَمَّنُ عُمْدَةَ صِحَّتِهَا كُلُّهَا‏;‏ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فِيهَا لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ‏.‏

أَمَّا أَوَّلًا‏;‏ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِهَا مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَبُولِ‏.‏

وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ، حَيْثُ قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ‏:‏ ‏"‏ إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي، فَوَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ‏;‏ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ‏;‏ مَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ‏"‏، ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ‏.‏

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ وَقَوْلُهُ فِيهِ‏:‏ ‏"‏ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ‏"‏، بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِهِمْ هَذَا لِأَجْلِ بِدْعَةٍ‏;‏ فَكُلُّ مُبْتَدِعٍ يُخَافُ عَلَيْهِ مِثْلُ مَنْ ذَكَرَهُ‏.‏

وَأَمَّا ثَانِيًا‏:‏ فَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ‏:‏ إِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ مِنْ وِفَاقِ سُّنَّةٍ أَوْ خِلَافِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ابْتَدَعَ فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يَبْتَدِعْ فِيهِ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ‏:‏ فَيُمْكِنُ عَلَى أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ‏.‏

الْأَوَّلُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ‏;‏ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ فَأَعْمَالُهُ لَا تُقْبَلُ مَعَهَا دَاخَلَتْهَا تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَمْ لَا‏.‏

وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ آنِفًا‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ وَاللَّهِ‏;‏ مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ‏;‏ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا، فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا‏:‏ الْمَدِينَةُ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ‏"‏‏.‏

وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ الصَّرْفَ وَالْعَدْلَ بِالْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ‏.‏

وَهَذَا شَدِيدٌ جِدًّا عَلَى أَهْلِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنْ تَكُونَ بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا ذَهَبَ إِلَى إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِإِطْلَاقٍ، فَإِنَّ عَامَّةَ التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ‏;‏ لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ‏.‏ وَمَا تَفَرَّعَ مِنْهُمَا رَاجِعٌ إِلَيْهِمَا‏:‏

فَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ السُّنَّةِ، فَمُعْظَمُ نَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، بَلْ قَدْ أَعْوَزَ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرًا‏.‏

وَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ الْكِتَابِ، فَإِنَّمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ، فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ‏;‏ فَلَا بُدَّ لِمُطَّرِحِ نَقْلِ الْآحَادِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ رَأْيَهُ ‏[‏فِيهِ‏]‏، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ ‏[‏كُلُّ‏]‏ فَرْعٍ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ بِدْعَةً لَا سُنَّةً، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ‏.‏

وَكَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى‏.‏

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُكَاشَفِينَ بِحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، فَأَمَّا مَنْ رُفِعَ لَهُ الْحِجَابُ وَكُوشِفَ بِحَقِيقَةِ مَا هُنَالِكَ، فَقَدِ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لَا يَلِيقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذِكْرُهُ‏.‏

أَمْثِلَةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمَارِقِينَ مِنْ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ جَاءَتْ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ أَمْرِي فِيمَا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ‏:‏ لَا أَدْرِي‏!‏ مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ‏!‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ عَنِّي الْحَدِيثُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ‏:‏ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ ‏(‏قَالَ‏)‏‏:‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا حَلَّلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ‏.‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الذَّمِّ وَإِثْبَاتِ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَكِتَابِ اللَّهِ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، فَقَدْ بَنَى أَعْمَالَهُ عَلَى رَأْيِهِ لَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ، إِذْ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَوْلَانِ‏.‏

وَفِي الظَّوَاهِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ‏;‏ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْخَوَارِجِ حِينَ ذَكَرَ السَّهْمَ بِصِيغَةِ الْخَوَارِجِ مِنَ الرَّمِيَّةِ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ‏.‏

وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَنَحْوُ الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَجُرُّهُ اعْتِقَادُ بِدْعَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصَيِّرُ اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَعِيفًا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عَلَيْهِ جَمِيعَ عَمَلِهِ‏.‏

بَيَانُ ذَلِكَ أَمْثِلَةٌ،

مِنْهَا‏:‏ أَنْ يَتْرُكَ الْعَقْلَ مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرْعُ كَاشِفًا لِمَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ‏.‏

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي‏!‏ هَلْ حَكَّمَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ شَرْعَهُ أَمْ عُقُولَهُمْ‏؟‏ بَلْ صَارَ الشَّرْعُ فِي نِحْلَتِهِمْ كَالتَّابِعِ الْمُعِينِ لَا حَاكِمًا مُتَّبَعًا‏.‏

وَهَذَا هُوَ التَّشْرِيعُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلشَّرْعِ مَعَهُ أَصَالَةٌ، فَكُلُّ مَا عَمِلَ هَذَا الْعَامِلُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَقْلُهُ، وَإِنْ شَرَكَ الشَّرْعَ، فَعَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ لَا عَلَى إِفْرَادِ الشَّرْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى إِبْطَالِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ مِنْ مَشْهُورِ الْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْمُسْتَحْسِنَ لِلْبِدَعِ يَلْزَمُهُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ عِنْدَهُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ‏;‏ مَعْنًى يُعْتَبَرُ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَمُحْسِنُ الظَّنِّ مِنْهُمْ يَتَأَوَّلُهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الَّتِي تَبْتَدِعُ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهَا مِمَّنْ يُكْثِرُ الزُّهْدَ وَالِانْقِطَاعَ وَالِانْفِرَادَ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَجْرِي أَغْمَارُ الْعَوَامِّ، وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ كَانَ أَتْقَى خَلْقِ اللَّهِ لَا يُعِدُّونَهُ إِلَّا مِنَ الْعَامَّةِ، وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ‏.‏

وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْمُعْتَزِّينَ بِهِمْ، وَالْمَائِلِينَ إِلَى جِهَتِهِمْ، يَزْدَرُونَ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَحِلْ مِثْلَ مَا انْتَحَلُوا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْمَحْجُوبِينَ عَنْ أَنْوَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَعْنَى‏;‏ يَضْعُفُ فِي يَدِهِ قَانُونُ الشَّرْعِ الَّذِي ضَبَطَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبَيَّنَ حُدُودَهُ الْفُقَهَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي طَرِيقِ السُّلُوكِ بِمُنْهَضٍ حَتَّى يَدْخُلَ مَدَاخِلَ خَاصَّتِهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى لِعَمَلٍ فِي أَيْدِيهِمْ رُوحُ الِاعْتِمَادِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ بَابُ عَدَمِ الْقَبُولِ فِي تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَشْرُوعَةً، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهَا أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ، فَحَقِيقٌ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِمَّنْ هَذَا شَأْنُهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ‏!‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ مَا ابْتَدَعُوا فِيهِ خَاصَّةً فَيَظْهَرُ أَيْضًا‏.‏

وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ‏:‏ كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ وَالْجَمِيعُ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، أَيْ‏:‏ إِنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى عَدَمِ الْقَبُولِ، وِفَاقَ قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏‏.‏

وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَقْتَصِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصِّيَامِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ دُونَ الْحَجِّ، وَلَا عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاضِرٌ مَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَفِي ‏"‏ الْمَبْسُوطَةِ ‏"‏ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى‏:‏ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأَعْرَافَ وَأَهْلَهُ، فَتَوَجَّعَ وَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ قَوْمٌ أَرَادُوا وَجْهًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمْ يُصِيبُوهُ ‏"‏‏.‏

فَقِيلَ لَهُ‏:‏ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ‏!‏ أَفَيُرْجَى لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِسَعْيِهِمْ ثَوَابٌ‏؟‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَيْسَ فِي خِلَافِ السُّنَّةِ رَجَاءُ ثَوَابٍ ‏"‏‏.‏

‏[‏صَاحِبُ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ‏:‏

فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ جِدًّا‏:‏

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ طُلُوعِ ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ لَا نَهْتَدِي سَبِيلًا، وَلَا نَعْرِفُ مِنْ مَصَالِحِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا قَلِيلًا عَلَى غَيْرِ كَمَالٍ، وَلَا مِنْ مَصَالِحِنَا الْأُخْرَوِيَّةِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْكَبُ هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ، وَيَطْرَحُ هَوَى غَيْرِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ‏.‏

فَلَا يَزَالُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَالْفَسَادُ فِيهِمْ يَخُصُّ وَيَعُمُّ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِزَوَالِ الرَّيْبِ وَالِالْتِبَاسِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ‏:‏

كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا‏}‏‏.‏

وَلَمْ يَكُنْ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ‏;‏ إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُهُمْ، وَتَجْتَمِعُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَلَفُوا، وَهُوَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الْفَسَادَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَانْخَفَضَتِ الْأَدْيَانُ وَالدِّمَاءُ وَالْعَقْلُ وَالْأَنْسَابُ وَالْأَمْوَالُ، مِنْ طُرُقٍ يَعْرِفُ مَآخِذَهَا الْعُلَمَاءُ، وَذَلِكَ ‏[‏مِنَ‏]‏ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِقْرَارًا، وَلَمْ يُرَدُّوا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ‏;‏ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِلُّونَ بِدَرْكِ مَصَالِحِهِمْ وَلَا تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ‏.‏

فَإِذَا تَرَكَ الْمُبْتَدِعُ هَذِهِ الْهِبَاتِ الْعَظِيمَةَ وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، وَأَخَذَ فِي اسْتِصْلَاحِ نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ بِنَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَكَيْفَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ‏؟‏ وَقَدْ حَلَّ يَدَهُ مِنْ حَبْلِ الْعِصْمَةِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ‏.‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا‏}‏ بَعْدَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏، فَأَشْعُرُ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ تَفْرِقَةٌ، لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَفَرَّقُوا‏}‏، وَالْفُرْقَةُ مِنْ أَخَسِّ أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ وَبَايَنَ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏.‏

رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ حَبْلَ اللَّهِ الْجَمَاعَةُ‏.‏

وَعَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏"‏ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ‏:‏ هَذَا الْقُرْآنُ وَسُنَنُهُ، وَعَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَالثِّقَةُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ وَيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ‏}‏‏.‏

‏[‏الْمَاشِي إِلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْمُوَقِّرِ لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏]‏

الْمَاشِي إِلَى الْمُبْتَدِعِ وَالْمُوَقِّرُ لَهُ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏:‏

فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ‏.‏

وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا‏:‏ مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ، فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏.‏

وَيُجَامِعُهَا فِي الْمَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُجَامِعُ التَّوْقِيرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَالتَّوْقِيرَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهُ لِأَجْلِ بِدْعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنِ الْعَمَلِ بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ‏;‏ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ‏;‏ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ‏.‏

وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ‏:‏ ‏"‏ فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ‏:‏ مَا لَهُمْ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ‏؟‏ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ ‏"‏‏.‏

فَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ تَمُوتُ إِذَا أُحْيِيَتِ الْبِدَعُ، وَإِذَا مَاتَتْ ‏[‏السُّنَنُ‏]‏ ‏;‏ انْهَدَمَ الْإِسْلَامُ‏.‏

وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ النَّقْلُ عَنِ السَّلَفِ‏;‏ زِيَادَةً إِلَى صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الْبَاطِلَ إِذَا عُمِلَ بِهِ لَزِمَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَغِلُ إِلَّا بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَمِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ تَرْكُ الْبِدَعِ، فَمَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ وَاحِدَةٍ‏;‏ فَقَدْ تَرَكَ تِلْكَ السُّنَّةَ‏.‏

فَمِمَّا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ‏!‏ مَا نَرَى بَيْنَهُمَا إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ‏:‏ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ، قَالُوا‏:‏ تُرِكَتِ السُّنَّةُ ‏"‏‏.‏

وَلَهُ آخَرُ قَدْ تَقَدَّمَ‏.‏

وَعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً‏;‏ إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ سُنَّةً ‏"‏‏.‏

وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ‏;‏ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَرْفَعُهُ‏:‏ لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً‏;‏ إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ ‏"‏‏.‏

‏[‏الْمُبْتَدِعُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ الْمُبْتَدِعُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ‏:‏

فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

وَعَدَّ مِنَ الْإِحْدَاثِ‏:‏ الِاسْتِنَانُ بِسُنَّةٍ سُوءٍ لَمْ تَكُنْ‏.‏

وَهَذِهِ اللَّعْنَةُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا صَاحِبُ الْبِدْعَةِ مَعَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَجَاءَهُ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ وَالْبَيَانُ الشَّافِي، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏}‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

وَاشْتَرَكَ أَيْضًا مَعَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

فَتَأَمَّلُوا الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَ الْمُبْتَدِعُ فِيهِ مَعَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَذَلِكَ مُضَادَّةُ الشَّارِعِ فِيمَا شَرَعَ‏;‏ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى غَايَةِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْبَيَانِ، فَضَادَّهَا الْكَافِرُ بِأَنْ جَحَدَهَا جَحْدًا، وَضَادَّهَا كَاتِمُهَا بِنَفْسِ الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُبَيِّنُ وَيُظْهِرُ وَهَذَا يَكْتُمُ وَيُخْفِي، وَضَادَّهَا الْمُبْتَدِعُ بِأَنْ وَضَعَ الْوَسِيلَةَ لِتَرْكِ مَا بَيَّنَ وَإِخْفَاءِ مَا أَظْهَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الْإِشْكَالَ فِي الْوَاضِحَاتِ، مِنْ أَجْلِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِأَنَّ الْوَاضِحَاتِ تَهْدِمُ لَهُ مَا بَنَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَهُوَ آخِذٌ فِي إِدْخَالِ الْإِشْكَالِ عَلَى الْوَاضِحِ، حَتَّى يَرْتَكِبَ مَا جَاءَتِ اللَّعْنَةُ فِي الِابْتِدَاعِ بِهِ مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏.‏

قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ‏:‏ ‏"‏ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ يَعْنِي‏:‏ الْمَدِينَةَ فَصَلَّى وَوَضَعَ رِدَاءَهُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ‏;‏ رَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ وَرَمَقُوا مَالِكًا، وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ‏;‏ قَالَ‏:‏ مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْحَرَسِ‏؟‏ فَجَاءَهُ نَفْسَانِ، فَقَالَ‏:‏ خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ، فَاحْبِسَاهُ، فَحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ‏;‏ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ أَمَا خِفْتَ اللَّهَ وَاتَّقَيْتَهُ أَنْ وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ‏؟‏‏!‏ فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي غَيْرِهِ ‏"‏‏.‏

وَهَذَا غَايَةٌ فِي التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ فِي تَرْكِ إِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ‏;‏ خَوْفًا مِنْ تِلْكَ اللَّعْنَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سِوَى وَضْعِ الثَّوْبِ‏؟‏‏!‏

وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الطَّحَاوِيِّ‏:‏ ‏"‏ سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ ‏"‏، فَذَكَرَ فِيهِمْ التَّارِكَ لِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْذًا بِالْبِدْعَةِ‏.‏

‏[‏الْمُبْتَدِعُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا‏]‏

وَأَمَّا أَنَّهُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا الْمُبْتَدِعُ يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا‏:‏

فَلِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ‏;‏ مَا يَزْدَادُ مِنَ اللَّهِ اجْتِهَادًا صِيَامًا وَصَلَاةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا ‏"‏‏.‏

وَيُصَحِّحُ هَذَا النَّقْلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ‏:‏ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ‏.‏

فَبَيَّنَ أَوَّلًا اجْتِهَادَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ آخِرًا بُعْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَهُوَ بَيِّنٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكُلُّ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ، فَكَمَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ‏.‏

وَيَزِيدُ عَلَى تَارِكِ الْعَمَلِ بِالْعِنَادِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ابْتِدَاعُهُ، وَالْفَسَادِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّاسِ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ وَفِي فُرُوعِ الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ، وَهُوَ يَظُنُّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ بِدْعَتَهُ تُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ وَتُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ ‏(‏الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ‏)‏ بِأَنَّهُ لَا يُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الْعَمَلُ بِمَا شَرَعَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ وَهُوَ تَارِكُهُ، وَأَنَّ الْبِدَعَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَهُوَ يَنْتَحِلُهَا‏.‏

‏[‏الْبِدَعُ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ‏:‏

فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعًا، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ‏;‏ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏‏.‏

وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الشَّوَاهِدِ تَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الِافْتِرَاقِ وَالْعَدَاوَةِ عِنْدَ وُقُوعِ الِابْتِدَاعِ‏.‏

وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ، إِذْ عَادَوْا أَهْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَقْتُلُونَهُمْ وَيَدَعُونَ الْكُفَّارَ‏;‏ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ ‏[‏الْحَدِيثُ‏]‏ الصَّحِيحُ‏.‏

ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْلَةٌ مِنْهُمْ بِقُرْبِ الْمُلُوكِ‏;‏ فَإِنَّهُمْ تَنَاوَلُوا أَهْلَ السُّنَّةِ بِكُلِّ نَكَالٍ وَعَذَابٍ وَقَتْلٍ أَيْضًا، حَسْبَمَا بَيَّنَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَخْبَارِ‏.‏

ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَيَذُمُّونَهُمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمُ الْأَرْجَاسُ الْأَنْجَاسُ الْمُكِبِّينَ عَلَى الدُّنْيَا، وَيَضَعُونَ عَلَيْهِمْ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَذَمِّ الْمُكِبِّينَ عَلَيْهَا‏:‏

كَمَا يُرْوَى عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلَى شِرَاكِ نَعْلٍ‏;‏ مَا أَجْزَتُ شَهَادَتَهُمْ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ‏:‏ كَيْفَ حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ فِعْلَ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً ‏"‏‏.‏

وَقِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ فِي السَّكْتَتَيْنِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا تَصْنَعُ بِسَمُرَةَ‏؟‏‏!‏ قَبَّحَ اللَّهُ سَمُرَةَ ‏"‏ اه-‏.‏

بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ‏.‏

وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ شَيْءٍ‏؟‏ فَأَجَابَ فِيهِ‏.‏ قَالَ الرَّاوِي‏:‏ قُلْتُ‏:‏ لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَمَنْ أَصْحَابُكَ لَا أَبَا لَكَ‏؟‏ ‏"‏، قُلْتُ‏:‏ أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ‏"‏‏.‏

فَهَكَذَا أَهْلُ الضَّلَالِ يَسُبُّونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ‏;‏ لَعَلَّ بِضَاعَتَهُمْ تَنْفُقُ، ‏{‏وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏‏.‏

وَأَصْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ قِبَلِ الْخَوَارِجِ، فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ لَعَنَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَتَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَإِنَّ فِرْقَةَ النَّجَاةِ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مَأْمُورُونَ بِعَدَاوَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنِ انْحَاشَ إِلَى جِهَتِهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ مَظِنَّةَ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لَكِنَّ الدَّرْكَ فِيهَا عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَى التَّعَادِي مُطْلَقًا‏.‏ كَيْفَ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُعَادَاتِهِمْ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُوَالَاتِنَا وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ‏؟‏‏!‏

‏[‏الْبِدَعُ مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِدَعُ مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

فَلِمَا رُوِيَ‏:‏ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ‏:‏ حَلَّتْ شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي‏;‏ إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ‏.‏

وَيُشِيرُ إِلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى فِيهِ مَا فِي الصَّحِيحِ‏;‏ قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ فَيُقَالُ‏:‏ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ‏.‏ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ‏.‏

فَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَفَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ فَأَقُولُ لَهُمْ‏:‏ سُحْقًا‏;‏ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ‏.‏

وَيَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كُفْرٍ‏;‏ لِقَوْلِهِ‏:‏ وَإِنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَمَا نُسِبُوا إِلَى أُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ، وَفِيهَا‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، لَمَا ذَكَرَهَا، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عَمَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ‏;‏ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ ‏(‏الْمُوَطَّأِ‏)‏ لِقَوْلِهِ فِيهِ‏:‏ فَأَقُولُ فَسُحْقًا فَسُحْقًا‏.‏

‏[‏الْبِدَعُ رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا‏]‏

وَأَمَّا أَنَّهَا رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا الْبِدَعُ رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا‏:‏

فَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمُوَقِّرَ لِصَاحِبِهَا مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ‏.‏

‏[‏عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِالْبِدْعَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِ لِمَنْ عَمِلَ بِبِدْعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏:‏

فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏‏.‏

وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا الْحَدِيثَ‏.‏

وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ‏:‏ مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا‏;‏ إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ‏.‏

وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ قَبْلَهُ، إِذْ عَلَّلَ تَعْلِيقَ الْإِثْمِ عَلَى ابْنِ آدَمَ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَنَّ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِثْمُ بِمَنْ سَنَّ الْقَتْلَ‏;‏ لِكَوْنِهِ قَتْلًا دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةَ سُوءٍ وَجَعَلَهَا طَرِيقًا مَسْلُوكَةً‏.‏

وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوْ يَأْتِي كَقَوْلِهِ‏:‏ وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏;‏ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا‏.‏

وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ‏.‏

فَلْيَتَّقِ اللَّهَ امْرُؤٌ رَبَّهُ، وَلْيَنْظُرْ قَبْلَ الْإِحْدَاثِ فِي أَيِّ مَزَلَّةٍ يَضَعُ قَدَمَهُ فِي مَصُونِ أَمْرِهِ، ‏[‏أَمْ‏]‏ يَثِقُ بِعَقْلِهِ فِي التَّشْرِيعِ، وَيَتَّهِمُ رَبَّهُ فِيمَا شَرَعَ‏!‏ وَلَا يَدْرِي الْمِسْكِينُ مَا الَّذِي يُوضَعُ لَهُ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ، مِمَّا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، وَلَا شَعَرَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ‏.‏

فَمَا مِنْ بِدْعَةٍ يَبْتَدِعُهَا أَحَدٌ فَيَعْمَلُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ إِثْمُ ذَلِكَ الْعَامِلِ، زِيَادَةً إِلَى إِثْمِ ابْتِدَاعِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ عَمَلِهِ ثَانِيًا‏.‏

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُبْتَدَعُ، فَلَا تَزْدَادُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَّا مُضِيًّا حَسْبَمَا تَقَدَّمَ وَاشْتِهَارًا وَانْتِشَارًا، فَعَلَى وَزْنِ ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً‏;‏ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ يَلْزَمُهَا إِمَاتَةُ سُّنَّةٍ تُقَابِلُهَا‏;‏ كَانَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَهُوَ إِثْمٌ زَائِدٌ عَلَى إِثْمِ الِابْتِدَاعِ، وَذَلِكَ الْإِثْمُ يَتَضَاعَفُ تَضَاعُفَ إِثْمِ الْبِدْعَةِ بِالْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا كُلَّمَا تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ‏;‏ تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلِ إِمَاتَةِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ‏.‏

وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَنَا بِأَنَّهُمْ‏:‏ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ، فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا إِذَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُ‏;‏ شَكَّ فِيهِ وَتَمَارَى‏:‏ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمْ أَمْ لَا‏؟‏ وَإِنَّمَا سَبَبُهُ الِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ فَهَذِهِ بِدَعٌ ثَلَاثٌ، إِعَاذَةً بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ‏.‏

‏[‏الْمُبْتَدِعُ لَيْسَ لَهُ تَوْبَةٌ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ تَوْبَةُ الْمُبْتَدِعِ‏:‏

فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ‏.‏

وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ‏;‏ إِلَّا إِلَى أَشَرَّ مِنْهَا ‏"‏‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا كَانَ رَجُلٌ عَلَى رَأْيٍ مِنَ الْبِدْعَةِ فَتَرَكَهُ، إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ‏"‏‏.‏

خَرَّجَ هَذِهِ الْآثَارَ ابْنُ وَضَّاحٍ‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ اثْنَانِ لَا نُعَاتِبُهُمَا‏:‏ صَاحِبُ طَمَعٍ، وَصَاحِبُ هَوًى، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْزِعَانِ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ مَا كَانَ عَبْدٌ عَلَى هَوًى تَرَكَهُ‏;‏ إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا، فَقَالَ‏:‏ تَصْدِيقُهُ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ‏.‏

وَعَنْ أَيُّوبَ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ رَجُلٌ يَرَى رَأْيًا، فَرَجَعَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُ مُحَمَّدًا فَرِحًا بِذَلِكَ أُخْبِرُهُ، فَقُلْتُ‏:‏ أَشَعَرْتَ أَنَّ فُلَانًا تَرَكَ رَأْيَهُ الَّذِي كَانَ يَرَى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ انْظُرْ إِلَامَ يَتَحَوَّلُ‏؟‏ إِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ‏:‏ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ‏.‏

وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ‏.‏

فَهَذِهِ شَهَادَةُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآثَارِ، وَحَاصِلُهَا‏:‏ أَنْ ‏[‏لَا‏]‏ تَوْبَةَ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنْ بِدْعَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا‏;‏ فَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهَا‏;‏ كَمَا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْخُرُوجَ عَنْهَا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا بَعْدُ‏;‏ كَقِصَّةِ غَيْلَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذْ قَالَ فِيهِ‏:‏ وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ‏.‏

وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ عَمَّا رَأَى وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مُنَاظَرَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَرُورِيَّةَ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي مُنَاظَرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِبَعْضِهِمْ‏.‏

وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ، وَمِنْ هُنَالِكَ قُلْنَا‏:‏ يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ‏;‏ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَسَبَبُ بُعْدِهِ عَنِ التَّوْبَةِ‏:‏ أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ‏;‏ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وَصَادٌّ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا‏;‏ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إِنَّمَا تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَلِلْهَوَى فِيهَا مَدْخَلٌ، لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى نَظَرِ مُخْتَرِعِهَا لَا إِلَى نَظَرِ الشَّارِعِ، ‏[‏فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الشَّارِعِ‏]‏ فَعَلَى حُكْمِ التَّبَعِ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، مَعَ ضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِشُبْهَةِ دَلِيلٍ يَنْسِبُهَا إِلَى الشَّارِعِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَصَارَ هَوَاهُ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ وَدَاعِي الْهَوَى مُسْتَمْسِكٌ بِحُسْنِ مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي الْجُمْلَةِ‏؟‏‏!‏‏.‏

وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ‏;‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَلَغَنِي أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ آلَفَهُ الشَّيْطَانُ الْعِبَادَةَ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْبُكَاءَ‏;‏ كَيْ يَصْطَادَ بِهِ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ‏:‏ ‏"‏ أَشَدُّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ ‏"‏، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ فِي صِيَامِهِ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ‏.‏

وَيُحَقِّقُ مَا قَالَهُ الْوَاقِعُ‏;‏ كَمَا نُقِلَ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ‏.‏

فَالْمُبْتَدِعُ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ‏;‏ لِيَنَالَ فِي الدُّنْيَا التَّعْظِيمَ وَالْمَالَ وَالْجَاهَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ، بَلِ التَّعْظِيمُ عَلَى شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى إِلَى انْقِطَاعِ الرُّهْبَانِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ عَنْ جَمِيعِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَمُقَاسَاتِهِمْ فِي أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفِّ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَالِدُونَ فِي جَهَنَّمَ‏؟‏‏!‏‏.‏

قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً‏}‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏}‏‏.‏

وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِخِفَّةٍ يَجِدُونَهَا فِي ذَلِكَ الِالْتِزَامِ، وَنَشَاطٍ بِدَاخِلِهِمْ‏;‏ يَسْتَسْهِلُونَ بِهِ الصَّعْبَ، بِسَبَبِ مَا دَاخَلَ النَّفْسَ مِنَ الْهَوَى، فَإِذَا بَدَا لِلْمُبْتَدِعِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، رَآهُ مَحْبُوبًا عِنْدَهُ‏;‏ لِاسْتِبْعَادِهِ لِلشَّهَوَاتِ وَعَمَلِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَرَآهُ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ عِنْدَهُ، فَمَا الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ‏؟‏ وَهُوَ يَرَى أَنَّ أَعْمَالَهُ أَفْضَلُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادَاتِهِ أَوْفَقُ وَأَعْلَى‏؟‏‏!‏ أَفَيُفِيدُ الْبُرْهَانُ مَطْلَبًا‏؟‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

‏[‏الْمُبْتَدِعُ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏

فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏;‏ حَسْبَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ‏;‏ لِأَنَّ الْمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِهِ حَتَّى عَبَدُوهُ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ خُوَارِهِ، وَلِمَا أَلْقَى إِلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ فِيهِ، فَكَانَ فِي حَقِّهِمْ شُبْهَةً خَرَجُوا بِهَا عَنِ الْحَقِّ الَّذِي كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ‏}‏ ‏;‏ فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ أَشْبَهَهُمْ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْبِدَعُ كُلُّهُا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ‏;‏ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

فَإِذًا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ بِسَبَبِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ عِزُّهُ وَجَبَرُوتُهُ، فَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّلَّةَ الْحَاضِرَةَ بَيْنَ أَيْدِينَا مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، أَلَا تَرَى أَحْوَالَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ‏؟‏ حَتَّى تَلَبَّسُوا بِالسَّلَاطِينِ، وَلَاذُوا بِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ‏;‏ اسْتَخْفَى بِبِدْعَتِهِ، وَهَرَبَ بِهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِهَا عَلَى التَّقِيَّةِ‏.‏

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وَصَدَّقَ ذَلِكَ الْوَاقِعُ بِالْيَهُودِ حَيْثُمَا حَلُّوا‏;‏ فِي أَيِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ كَانُوا، لَا يَزَالُونَ أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏، وَمِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِدَاءِ اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ‏.‏

هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّلَّةِ، وَأَمَّا الْغَضَبُ‏;‏ فَمَضْمُونٌ بِصَادِقِ الْأَخْبَارِ، فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْغَضَبِ، وَاللَّهُ الْوَاقِي بِفَضْلِهِ‏.‏

‏[‏الْمُبْتَدِعُ بَعِيدٌ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏]‏

وَأَمَّا الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبْتَدِعُ بَعِيدٌ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

فَلِحَدِيثِ ‏(‏الْمُوَطَّأِ‏)‏‏:‏ فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ‏:‏ أُمَّتِي‏!‏ فَيُقَالُ‏:‏ إِنَّكَ لَا تَدْرِي، مَشَوْا الْقَهْقَرَى‏.‏

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ، حَتَّى إِذَا تَأَهَّبْتُ لِأَتَنَاوَلَهُمْ، اخْتَلَجُوا دُونِي، فَأَقُولُ‏:‏ أَيْ رَبِّ‏!‏ أَصْحَابِي، يَقُولُ‏:‏ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَكَ‏.‏

وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي غِمَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ‏;‏ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَهُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ، كَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا أَوِ ارْتِدَادًا، وَلِقَوْلِهِ‏:‏ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ‏;‏ لَقَالَ‏:‏ قَدْ كَفَرُوا بَعْدَكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ تَبْدِيلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ النِّفَاقُ‏;‏ فَذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِنَا، لِأَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوا الشَّرِيعَةَ تَقِيَّةً لَا تَعَبُّدًا، فَوَضَعُوهَا فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَهُوَ عَيْنُ الِابْتِدَاعِ‏.‏

وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ السُّنَّةَ وَالْعَمَلَ بِهَا حِيلَةً وَذَرِيعَةً إِلَى نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، لَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لَهَا، وَإِخْرَاجٌ لَهَا عَنْ وَضْعِهَا الشَّرْعِيِّ‏.‏