فصل: (التَّحْذِيرُ مِنِ الْبِدَعِ وَبَيَانُ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***


الِاعْتِصَامُ لِلْإِمَامِ الشَّاطِبِيِّ

مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ

‏[‏مَعْنَى حَدِيثِ ‏"‏ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا‏"‏‏]‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، الَّذِي بِحَمْدِهِ يُسْتَفْتَحُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، خَالِقِ الْخَلْقِ لِمَا شَاءَ، وَمُيَسِّرِهِمْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ، لَا عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ لِمَا سَرَّ وَسَاءَ، وَمُصَرِّفِهِمْ بِمُقْتَضَى الْقَبْضَتَيْنِ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ فَمِنْهُمْ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَمُسَوِّيهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِلْهَامَيْنِ فَفَاجِرٌ وَتَقِيٌّ، كَمَا قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى حُكْمِ الطَّرَفَيْنِ فَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، كُلٌّ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فَلَا يَعْدُوهُ، فَلَوْ تَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يَسُدُّوا ذَلِكَ الْفَتْقَ لَمْ يَسُدُّوهُ، أَوْ يَرُدُّوا ذَلِكَ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَنْسَخُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ، فَلَا إِطْلَاقَ لَهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا انْفِصَالَ، ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ‏}‏‏.‏

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، وَكَاشِفِ الْغُمَّةِ، الَّذِي نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ كُلَّ شَرِيعَةٍ، وَشَمَلَتْ دَعْوَتُهُ كُلَّ أُمَّةٍ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ دُونَ حُجَّتِهِ، وَلَا اسْتَقَامَ لِعَاقِلٍ طَرِيقٌ سِوَى لَاحِبِ مَحَجَّتِهِ، وَجَمَعَتْ تَحْتَ حِكْمَتِهَا كُلَّ مَعْنًى مُؤْتَلِفٍ، فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ وَضْعِهَا خِلَافُ مُخَالِفٍ وَلَا قَوْلُ مُخْتَلِفٍ، فَالسَّالِكُ سَبِيلَهَا مَعْدُودٌ فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَالنَّاكِبُ عَنْهَا مَصْدُودٌ إِلَى الْفِرَقِ الْمُقَصِّرَةِ أَوِ الْفِرَقِ الْغَالِيَةِ‏.‏

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِشَمْسِهِ الْمُنِيرَةِ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُ اللَّائِحَةَ وَأَنْوَارَهُ الْوَاضِحَةَ وُضُوحَ الظَّهِيرَةِ، وَفَرَّقُوا بِصَوَارِمِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ فَاجِرَةٍ وَمَبْرُورَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ حُجَّةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ مُبِيرَةٍ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ السَّبِيلِ، سَائِرِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا‏.‏

أَمَّا بَعْدُ‏:‏ فَإِنِّي أُذَكِّرُكَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى، وَالْخَالِصَةُ الْأَصْفَى، فِي مُقَدِّمَةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا، كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ قِيلَ‏:‏ وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ‏.‏

وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ مُبَيَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى‏.‏ وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ‏:‏ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطْفَى‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ غَرِيبًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي حَيِّ كَذَا وَكَذَا‏:‏ إِنَّهُ لَغَرِيبٌ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي‏.‏

وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ‏:‏

وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رَسْمًا، وَلَا تُقِيمُ بِهِ فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ مَا وَجَدَتْ عَلَيْهِ آبَاءَهَا، وَمَا اسْتَحْسَنَهُ أَسْلَافُهَا، مِنَ الْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، وَالنِّحَلِ الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ‏.‏

فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فَسُرْعَانَ مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بِالنُّكْرِ، وَغَيَّرُوا فِي وَجْهِ صَوَابِهِ بِالْإِفْكِ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ إِذْ خَالَفَهُمْ فِي الشِّرْعَةِ وَنَابَذَهُمْ فِي النِّحْلَةِ كُلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بِأَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ قَطُّ خَبَرًا بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَآوِنَةً يَتَّهِمُونَهُ بِالسِّحْرِ وَفِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِمَّنْ يَدَّعِيهِ، وَكَرَّةً يَقُولُونَ‏:‏ إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ بِكَمَالِ عَقْلِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَخَبَلِهِ‏.‏

وَإِذَا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالُوا‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏، مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّادِقَةِ‏:‏ ‏{‏فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏‏.‏

وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بَطْشَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنْكَرُوا مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِمْكَانِهِ، ‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بِعِيدٌ‏}‏‏.‏

وَإِذَا خَوَّفَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ، قَالُوا‏:‏ ‏{‏اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏، اعْتِرَاضًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَإِذَا جَاءَهُمْ بِآيَةٍ خَارِقَةٍ‏;‏ افْتَرَقُوا فِي الضَّلَالَةِ عَلَى فِرَقٍ، وَاخْتَرَقُوا فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَهْلُ التَّهَدِّي إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ‏.‏

كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ، إِذْ رَأَوْا خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ رَدًّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَبْذًا لِمَا شَدُّوا عَلَيْهِ يَدَ الظِّنَّةِ، وَاعْتَقَدُوا إِذْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ أَنَّ الْخِلَافَ يُوهِنُ الثِّقَةَ وَيُقَبِّحُ جِهَةَ الِاسْتِحْسَانِ، وَخُصُوصًا حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الِانْتِصَارِ بِعِلْمٍ فَلَمْ يَجِدُوا أَكْثَرَ مِنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ‏.‏

وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ‏:‏ ‏{‏مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ‏}‏ فَحَادُوا كَمَا تَرَى عَنِ الْجَوَابِ الْقَاطِعِ الْمُورَدِ مَوْرِدَ السُّؤَالِ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ‏}‏‏.‏

فَرَجَعُوا عَنْ جَوَابِ مَا أُلْزِمُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ‏}‏، فَأَجَابُوا بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ، رُكُونًا إِلَى مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّقْلِيدِ، لَا بِجَوَابِ السُّؤَالِ‏.‏

فَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ‏;‏ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ، وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ‏.‏

حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يَسْتَنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ السِّيَاسَةِ فِي زَعْمِهِمْ، لِيُوقِعُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ‏[‏ـهُ‏]‏ الْمُؤَالَفَةَ وَالْمُوَافَقَةَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَقْنَعُوا مِنْهُ بِذَلِكَ‏;‏ لِيَقِفَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَاهِي بِنَائِهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ الصَّوَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏(‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ‏)‏ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ‏.‏

فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهْلُ السِّلْمِ كُلُّهُمْ حَرْبًا عَلَيْهِ، ‏[‏وَ‏]‏ عَادَ الْوَلِيُّ الْحَمِيمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ رَحِمًا كَانُوا أَقْسَى قُلُوبًا عَلَيْهِ‏.‏

فَأَيُّ غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ‏؟‏‏!‏

وَمَعَ ذَلِكَ‏;‏ فَلَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سَلَّطَهُمْ عَلَى النَّيْلِ مِنْ أَذَاهُ، إِلَّا نَيْلَ الْمَصْلُوفِينَ، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ‏.‏

ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا تُبْعِدُ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَيْنَ مَا ابْتَدَعُوا، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ عَجِيبٍ، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَبَيْنَ أَكَابِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ الْأَوَّلِ الْأَصِيلِ، فَفِي الْعَرَبِ نِسْبَتُهُمْ إِلَى أَبِيهِمْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي غَيْرِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمَبْعُوثِينَ فِيهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

وَمَا زَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لَهَا، فَيَئُوبُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِفَاءِ، خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ زَمَانَ ظُهُورِهِمْ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ‏.‏

فَلَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَنِفُوا وَقَامُوا وَقَعَدُوا‏:‏

فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَجَأَ إِلَى قَبِيلِهِ، فَحَمَوْهُ عَلَى إِغْمَاضٍ، أَوْ عَلَى دَفْعِ الْعَارِ فِي الْإِخْفَارِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ مِنَ الْإِذَايَةِ وَخَوْفِ الْغِرَّةِ، هِجْرَةً إِلَى اللَّهِ وَحُبًّا فِي الْإِسْلَامِ‏.‏

وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَزِرٌ يَحْمِيهِ، وَلَا مَلْجَأٌ يَرْكَنُ إِلَيْهِ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعَذَابِ أَوِ الْقَتْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، حَتَّى زَلَّ مِنْهُمْ مَنْ زَلَّ فَرَجَعَ أَمْرُهُ- بِسَبَبِ الرُّجُوعِ- إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّخْصَةَ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ ظَاهِرًا، لِيَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاطِقِ الْمُوَافَقَةُ وَتَزُولَ الْمُخَالَفَةُ، فَنَزَلَ إِلَيْهَا مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ التَّقِيَّةِ، رَيْثَمَا يَتَنَفَّسُ مِنْ كَرْبِهِ وَيَتَرَوَّحُ مِنْ خِنَاقِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏.‏

وَهَذِهِ غُرْبَةٌ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ‏.‏

وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاقِعِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ ضِدَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ، فَلَوْ عَلِمُوا لَحَصَلَ الْوِفَاقُ، وَلَمْ يُسْمَعِ الْخِلَافُ، وَلَكِنَّ سَابِقَ الْقَدَرِ حَتَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ‏}‏‏.‏

ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَزِيدُ الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى مُدَّةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَأَكْثَرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَصْغَوْا إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، كَبِدْعَةِ الْقَدَرِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ‏:‏ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ‏;‏ يَعْنِي‏:‏ لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ، بَلْ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الظَّاهِرِ‏;‏ كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏ وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ‏.‏

ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏

فِي قَوْلِهِ‏:‏ افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ‏:‏ لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ، لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏:‏ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَمَنْ‏؟‏ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ‏:‏ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ‏.‏

وَكُلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ، فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهَا، وَيَخُصَّ سُؤَالَهُ بَلْ سِوَاهُ عَلَيْهَا، إِذِ التَّأَسِّي فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَذَاهِبِ مَوْضُوعٌ طَلَبُهُ فِي الْجِبِلَّةِ، وَبِسَبَبِهِ تَقَعُ فِي الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ لِلْمُخْتَلِفِينَ‏.‏

كَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وَجِدَّتِهِ مُقَاوِمًا بَلْ ظَاهِرًا، وَأَهْلُهُ غَالِبُونَ، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ- مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ ابْتَدَعَ فِيهِ- صَوْلَةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا، وَلَا قُوَّةٌ يَضْعُفُ دُونَهَا حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ، فَصَارَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ، وَاقْتَضَى سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا‏.‏

وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ‏;‏ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏، وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ‏}‏، وَلِيُنْجِزَ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ‏;‏ طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْفِرَقُ كُلُّهُا عَلَى كَثْرَتِهَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَادَةً وَسَمْعًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَا تُنَاوِشُهُمُ الْفِرَقُ الضَّالَّةُ وَتُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏;‏ اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ، لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ، آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ وَيُثِيبُهُمْ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ‏.‏

فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُخَالَفَةِ بِالْمُوَافَقَةِ جَارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ، لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَمَنْ وَافَقَ‏;‏ فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ الْمُصِيبُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، وَمَنْ خَالَفَ‏;‏ فَهُوَ الْمُخْطِئُ الْمُصَابُ، وَمَنْ وَافَقَ‏;‏ فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَ‏;‏ فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ، وَمَنْ وَافَقَ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ خَالَفَ‏:‏ فَقَدْ تَاهَ فِي طُرُقِ الضَّلَالَةِ وَالْغِوَايَةِ‏.‏

وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَعْنًى أَذْكُرُهُ‏:‏

وَذَلِكَ أَنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَمْ أَزَلْ مُنْذُ فَتَقَ لِلْفَهْمِ عَقْلِي، وَوُجِّهَ شَطْرَ الْعِلْمِ طَلَبِي أَنْظُرُ فِي عَقْلِيَّاتِهِ وَشَرْعِيَّاتِهِ، وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، لَمْ أَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ دُونَ عِلْمٍ، وَلَا أَفْرَدْتُ عَنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعًا دُونَ آخَرَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، وَأَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ الْمَخْلُوقَةُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِي، بَلْ خُضْتُ فِي لُجَجِهِ خَوْضَ الْمُحْسِنِ لِلسِّبَاحَةِ، وَأَقْدَمْتُ فِي مَيَادِينِهِ إِقْدَامَ الْجَرِيءِ، حَتَّى كِدْتُ أَتْلَفُ فِي بَعْضِ أَعْمَاقِهِ، أَوْ أَنْقَطِعُ فِي رُفْقَتِي الَّتِي بِالْأُنْسِ بِهَا تَجَاسَرْتُ عَلَى مَا قُدِّرَ لِي، غَائِبًا عَنْ مَقَالِ الْقَائِلِ وَعَذْلِ الْعَاذِلِ، وَمُعْرِضًا عَنْ صَدِّ الصَّادِّ وَلَوْمِ اللَّائِمِ، إِلَى أَنْ مَنَّ عَلَيَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ، فَشَرَحَ لِي مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِي، وَأَلْقَى فِي نَفْسِي الْقَاصِرَةِ‏:‏ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لَمْ يَتْرُكَا فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ وَلَا أَبْقَيَا لِغَيْرِهِمَا مَجَالًا يُعْتَدُّ فِيهِ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَالسَّعَادَةَ الْكُبْرَى فِيمَا وَضَعَ، وَالطِّلْبَةَ فِيمَا شَرَعَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ وَبُهْتَانٌ وَإِفْكٌ وَخُسْرَانٌ، وَأَنَّ الْعَاقِدَ عَلَيْهِمَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى مُحَصِّلٌ لِكَلِمَتَيِ الْخَيْرِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَمَا سِوَاهُمَا فَأَحْلَامٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ، وَقَامَ لِي عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ تُطْرَقُ حَوْلَ حِمَاهُ، وَلَا تَرْتَمِي نَحْوَ مَرْمَاهُ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ‏}‏، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ‏.‏

فَمِنْ هُنَالِكَ قَوِيَتْ نَفْسِي عَلَى الْمَشْيِ فِي طَرِيقِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ فِيهِ، فَابْتَدَأْتُ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ السُّنَنِ أَوْ مِنَ الْبِدَعِ، كَمَا أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ الْجَائِزِ وَمَا هُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَأَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، ثُمَّ أُطَالِبُ نَفْسِي بِالْمَشْيِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَتَرْكِ الْبِدَعِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا بِدَعٌ وَأَعْمَالٌ مُخْتَلِفَةٌ‏.‏

وَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلْتُ فِي بَعْضِ خُطَطِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى طَرِيقٍ‏;‏ وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ‏;‏ لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا الْأَصْلِيَّةِ شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدْعًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا‏؟‏‏!‏ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ‏:‏

كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ‏.‏

قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ‏:‏ فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ‏؟‏

قَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ‏:‏ فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ‏؟‏

وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ‏:‏ دَخَلَ أَبُو الدَّرْادَاءِ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَغْضَبَكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا‏.‏

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ‏;‏ قَالَ‏:‏ مَا أَعْرِفُ مِنْكُمْ مَا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَوْلِكُمْ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ قُلْنَا‏:‏ بَلَى يَا أَبَا حَمْزَةَ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَدْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏‏!‏

وَعَنْ أَنَسٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَمَا وَاللَّهِ- عَلَى ذَلِكَ- لَمَنْ عَاشَ فِي النُّكْرِ، وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَرَأَى صَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سُبُلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ، لَيُعَوَّضُ أَجْرًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ‏;‏ قَالَ‏:‏ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ فِيكُمْ مِنَ السَّلَفِ، مَا عَرَفَ غَيْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ‏.‏

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ‏.‏

إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ تَدْخُلُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ قَبْلَ زَمَانِنَا، وَإِنَّمَا تَتَكَاثَرُ عَلَى تَوَالِي الدُّهُورِ إِلَى الْآنَ‏.‏

فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ‏;‏ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ نَحْوٍ مِمَّا حَصَلَ لِمُخَالِفِي الْعَوَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ الْمُعْتَادَ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ‏؟‏‏!‏

فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَقَامَتْ عَلَيَّ الْقِيَامَةُ، وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْمَلَامَةُ، وَفَوَّقَ إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ‏.‏

وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا‏;‏ لَوَجَدْتُ؛ غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ رَقَى بِي مُرْتَقًى صَعْبًا وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ‏.‏

وَرُبَّمَا أَلَمُّوا فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ، أَوْ خَرَّجُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏

فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ‏.‏ وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالْعُلَمَاءِ‏.‏

وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ‏:‏

وَقَدْ سُئِلَ ‏(‏أَصْبَغُ‏)‏ عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً‏.‏

قِيلَ لَهُ‏:‏ فَدُعَاؤُهُ لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَصْمُدُ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ دَائِمًا، فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ‏.‏

وَنَصَّ أَيْضًا عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ‏:‏ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْخُلَفَاءِ فِي الْخُطْبَةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ‏.‏

وَتَارَةً أُضِيفَ إِلَيَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَمَا أَضَافُوهُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ ذِكْرِي لَهُمْ فِي الْخُطْبَةِ، وَذِكْرُهُمْ فِيهِ مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ‏.‏

وَتَارَةً حُمِلَ عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَلِلْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ فِي كِتَابِ ‏(‏الْمُوَافَقَاتُ‏)‏‏.‏

وَتَارَةً سِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُنْتَصِبِينَ بِزَعْمِهِمْ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ‏.‏

وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ‏.‏ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، أَوْ وَهِمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ‏.‏

فَكُنْتُ عَلَى حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَةَ الْإِمَامِ الشَّهِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَطَّةَ الْحَافِظِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ إِذْ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ‏:‏

‏"‏ عَجِبْتُ مِنْ حَالِي فِي سَفَرِي وَحَضَرِي مَعَ الْأَقْرَبِينَ مِنِّي وَالْأَبْعَدِينَ، وَالْعَارِفِينَ وَالْمُنْكِرِينَ، فَإِنِّي وَجَدْتُ بِمَكَّةَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرَ مَنْ لَقِيتُ بِهَا مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا، دَعَانِي إِلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَتَصْدِيقِ قَوْلِهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ، فَإِنْ كُنْتُ صَدَّقْتُ فِيمَا يَقُولُ وَأَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ‏;‏ سَمَّانِي مُوَافِقًا، وَإِنْ وَقَفْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ سَمَّانِي مُخَالِفًا، وَإِنْ ذَكَرْتُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَارِدٌ، سَمَّانِي خَارِجِيًّا، وَإِنْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ حَدِيثًا فِي التَّوْحِيدِ، سَمَّانِي مُشَبِّهًا، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّؤْيَةِ‏;‏ سَمَّانِي سَالِمِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِيمَانِ سَمَّانِي مُرْجِئًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ، سَمَّانِي قَدَرِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْرِفَةِ سَمَّانِي كَرَامِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، سَمَّانِي نَاصِبِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ سَمَّانِي رَافِضِيًّا، وَإِنْ سَكَتُّ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَلَمْ أُجِبْ فِيهِمَا إِلَّا بِهِمَا، سَمَّانِي ظَاهِرِيًّا، وَإِنْ أَجَبْتُ بِغَيْرِهِمَا، سَمَّانِي بَاطِنِيًّا، وَإِنْ أَجَبْتُ بِتَأْوِيلٍ، سَمَّانِي أَشْعَرِيًّا، وَإِنْ جَحَدْتُهُمَا، سَمَّانِي مُعْتَزِلِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ، سَمَّانِي شَفْعَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُنُوتِ سَمَّانِي حَنَفِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ، سَمَّانِي حَنْبَلِيًّا، وَإِنْ ذَكَرْتُ رُجْحَانَ مَا ذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ وَالْحَدِيثِ مُحَابَاةٌ قَالُوا‏:‏ طَعَنَ فِي تَزْكِيَتِهِمْ‏.‏

ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَنِي فِيمَا يَقْرَءُونَ عَلَيَّ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَسَامِي، وَمَهْمَا وَافَقْتُ بَعْضَهُمْ‏;‏ عَادَانِي غَيْرُهُ، وَإِنْ دَاهَنْتُ جَمَاعَتَهُمْ، أَسْخَطْتُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏.‏ وَإِنِّي مُسْتَمْسِكٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏.‏

هَذَا تَمَامُ الْحِكَايَةِ، فَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ الْجَمِيعِ، فَقَلَّمَا تَجِدُ عَالِمًا مَشْهُورًا أَوْ فَاضِلًا مَذْكُورًا، إِلَّا وَقَدْ نُبِذَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا، لِأَنَّ الْهَوَى قَدْ يُدَاخِلُ الْمُخَالِفَ، بَلْ سَبَبُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ الْجَهْلُ بِهَا وَالْهَوَى الْمُتَّبَعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِلَافِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، حُمِلَ عَلَى صَاحِبِ السُّنَّةِ، أَنَّهُ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَرُجِعَ بِالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ وَالتَّقْبِيحِ لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، حَتَّى يُنْسَبَ هَذِهِ الْمَنَاسِبَ‏.‏

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَيِّدِ الْعُبَّادِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ‏(‏أُوَيْسٍ‏)‏ الْقَرَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَدَعَا لِلْمُؤْمِنِ صَدِيقًا‏:‏ نَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَشْتُمُونَ أَعْرَاضَنَا، وَيَجِدُونَ فِي ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنَ الْفَاسِقِينَ، حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَوْنِي بِالْعَظَائِمِ، وَايْمُ اللَّهِ، لَا أَدَعُ أَنْ أَقُومَ فِيهِمْ بِحَقِّهِ‏.‏

فَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، لِأَنَّ الْمُؤَالِفَ فِيهِ عَلَى وَصْفِهِ الْأَوَّلِ قَلِيلٌ، فَصَارَ الْمُخَالِفُ هُوَ الْكَثِيرَ، فَانْدَرَسَتْ رُسُومُ السُّنَّةِ حَتَّى مَدَّتِ الْبِدَعُ أَعْنَاقَهَا، فَأُشْكِلَ مَرْمَاهَا عَلَى الْجُمْهُورِ، فَظَهَرَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ‏.‏

‏[‏التَّحْذِيرُ مِنِ الْبِدَعِ وَبَيَانُ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ‏]‏

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْإِنْكَارِ مَا وَقَعَ مَعَ مَا هَدَى اللَّهُ إِلَيْهِ وَلَهُ الْحَمْدُ، لَمْ أَزَلْ أَتَّبِعُ الْبِدَعَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَذَّرَ مِنْهَا، وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ، وَأَشَارَ الْعُلَمَاءُ إِلَى تَمْيِيزِهَا وَالتَّعْرِيفِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا، لَعَلِّي أَجْتَنِبُهَا فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَأَبْحَثُ عَنِ السُّنَنِ الَّتِي كَادَتْ تُطْفِئُ نُورَهَا تِلْكَ الْمُحْدَثَاتُ‏;‏ لَعَلِّي أَجْلُو بِالْعَمَلِ سَنَاهَا، وَأُعَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَنْ أَحْيَاهَا، إِذْ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَنِ مَا هُوَ فِي مُقَابَلَتِهَا، حَسْبَمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏;‏ قَالَ‏:‏ مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ، إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدْعَةُ، وَتَمُوتَ السُّنَنُ‏.‏

وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ‏:‏ لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا‏.‏

وَعَنْ لُقْمَانَ بْنِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً إِلَّا رُفِعَ بِهَا عَنْهُمْ سُنَّةٌ‏.‏ وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ‏:‏ مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

‏[‏التَّرْغِيبُ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ‏]‏

وَجَاءَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ مَا جَاءَ‏:‏

فَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا

وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى وَقَالَ فِيهِ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ ثُمَّ قَالَ لِي‏:‏ يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

فَرَجَوْتُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِانْتِظَامَ فِي سِلْكِ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً وَأَمَاتَ بِدْعَةً‏.‏

‏[‏سَبَبُ تَأْلِيفِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ‏]‏

وَعَلَى طُولِ الْعَهْدِ وَدَوَامِ النَّظَرِ اجْتَمَعَ لِي فِي الْبِدَعِ وَالسُّنَنِ أُصُولٌ قَرَّرْتُ أَحْكَامَهَا الشَّرْعِيَّةَ، وَفُرُوعٌ طَالَتْ أَفْنَانُهَا، لَكِنَّهَا تَنْتَظِمُهَا تِلْكَ الْأُصُولُ، وَقَلَّمَا تُوجَدُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ، فَمَالَتْ إِلَى بَثِّهَا النَّفْسُ، وَرَأَتْ أَنَّهُ مِنَ الْأَكِيدِ الطَّلَبِ، لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الِالْتِبَاسِ النَّاشِئِ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْبِدَعِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ، وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَوْ غَفَلُوا عَنِ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْقِيَامِ فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْتَبَسَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَتَأَكَّدَ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ فِيهَا عِلْمٌ، وَقَلَّمَا صُنِّفَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَصْنِيفٌ، وَمَا صُنِّفَ فِيهَا فَغَيْرُ كَافٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ‏.‏

مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ فَاقِدُ الْمُسَاعِدِ عَدِيمُ الْمُعِينِ‏:‏ فَالْمُوَالِي لَمْ يَخْلُدْ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُلْقِي لَهُ بِالْيَدِ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ بَثِّ الْحَقِّ، بَعْدَ رُسُوخِ الْعَوَائِدِ فِي الْقُلُوبِ، وَالْمُعَادِي يَرْمِيهِ بِالْأَرْدَبِيسِ، وَيَرُومُ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ الْبَئِيسِ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ عَوَائِدَهُ الرَّاسِخَةَ فِي الْقُلُوبِ، الْمُتَدَاوَلَةَ فِي الْأَعْمَالِ، دِينًا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَشَرِيعَةً يُسْلَكُ عَلَيْهَا، لَا حُجَّةَ لَهُ إِلَّا عَمَلُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، مَعَ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ الْعَالِمِينَ، كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمْ لَا‏.‏ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ مُوَافَقَتِهِمْ لِلْآبَاءِ وَالْأَشْيَاخِ مُخَالِفُونَ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ‏.‏

فَالْمُعْتَرِضُ لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ يَنْحُو نَحْوَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ، حَيْثُ قَالَ‏:‏

‏"‏ أَلَا وَإِنِّي أُعَالِجُ أَمْرًا لَا يُعِينُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ فَنِيَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَكَبُرَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَفَصُحَ عَلَيْهِ الْأَعْجَمِيُّ، وَهَاجَرَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لَا يَرَوْنَ الْحَقَّ غَيْرَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا مِمَّنْ لَهُ مِنَّةٌ إِلَّا الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي بَثِّهِ، بَعْدَ تَحْصِيلِهِ عَلَى كَمَالِهِ، وَإِنْ كَرِهَ الْمُخَالِفُ فَكَرَاهِيَتُهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ إِلَّا يُرَفْعُ مَنَارُهُ، وَلَا تُكْشَفُ وَتُجَلَّى أَنْوَارُهُ‏.‏

فَقَدْ خَرَّجَ أَبُو الطَّاهِرِ السَّلَفِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ‏:‏ ‏"‏ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَلِّمِ النَّاسَ الْقُرْآنَ وَتَعَلَّمْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وَأَنْتَ كَذَلِكَ‏;‏ زَارَتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْرَكَ كَمَا يُزَارُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وَعَلِّمِ النَّاسَ سُنَّتِي، وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَلَّا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ‏;‏ فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَطَّانِ‏:‏ ‏"‏ وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، مِنْ إِقْرَاءِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّحْدِيثِ بِالسُّنَّةِ، أَحَبَّ النَّاسُ أَمْ كَرِهُوا، وَتَرْكِ الْحَدَثِ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَا يَتَأَوَّلُ شَيْئًا مِمَّا رَوَى، تَتْمِيمًا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْخَطَأِ‏.‏

عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَرَبِ التَّمِيمِيِّ حَكَى عَنِ ابْنِ فَرُّوخَ‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ إِنَّ بَلَدَنَا كَثِيرُ الْبِدَعِ، وَإِنَّهُ أَلَّفَ كَلَامًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ‏.‏

فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ لَهُ‏:‏ إِنْ ظَنَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، خِفْتُ أَنْ تَزِلَّ فَتَهْلِكَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ ضَابِطًا عَارِفًا بِمَا يَقُولُ لَهُمْ، لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَيُخْطِئَ فَيَمْضُوا عَلَى خَطَئِهِ، أَوْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ فَيَطْغَوْا وَيَزْدَادُوا تَمَادِيًا عَلَى ذَلِكَ، انْتَهَى‏.‏

وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي لِمِثْلِي بِالْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ‏.‏ وَشِيَاعُ هَذَا النُّكْرِ، وَفُشُوُّ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَظَاهَرُ أَصْحَابِهِ‏;‏ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ بِهَذَا الْمَقَامِ مُنَّةٌ بِالْإِقْدَامِ دُونَ الْإِحْجَامِ، لِأَنَّ الْبِدَعَ قَدْ عَمَّتْ وَجَرَتْ أَفْرَاسُهَا مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ مِلْءَ أَعِنَّتِهَا‏.‏

وَحَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ‏:‏ أَنَّ أَسَدَ بْنَ مُوسَى كَتَبَ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ‏:‏

‏"‏ اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْكَتْبِ إِلَيْكَ مَا أَنْكَرَ أَهْلُ بِلَادِكَ مِنْ صَالِحِ مَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، مِنْ إِنْصَافِكَ النَّاسَ، وَحُسْنِ حَالِكَ مِمَّا أَظْهَرْتَ مِنَ السُّنَّةِ، وَعَيْبِكَ لِأَهْلِ الْبِدَعِ، وَكَثْرَةِ ذِكْرِكَ لَهُمْ وَطَعْنِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، وَشَدَّ بِكَ ظَهَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَيْبِهِمْ، وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وَأَذَلَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَصَارُوا بِبِدْعَتِهِمْ مُسْتَتِرِينَ‏.‏

فَأَبْشِرْ يَا أَخِي بِثَوَابِ اللَّهِ، وَاعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَفْضَلِ حَسَنَاتِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ‏.‏ وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنْ إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏‏!‏ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَمَنْ أَحْيَا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ، وَقَالَ‏:‏ أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏؟‏‏!‏ فَمَنْ يُدْرِكُ يَا أَخِي هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ‏؟‏‏!‏ وَذَكَرَ أَيْضًا‏:‏ إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ كِيدَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَلِيًّا لِلَّهِ يَذُبُّ عَنْهَا، وَيَنْطِقُ بِعَلَامَتِهَا‏.‏

فَاغْتَنِمْ يَا أَخِي هَذَا الْفَضْلَ، وَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَأَوْصَاهُ وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لِأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ‏.‏

فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ، وَادْعُ إِلَى السُّنَّةِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ أُلْفَةٌ وَجَمَاعَةٌ يَقُومُونَ مَقَامَكَ إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً بَعْدَكَ، فَيَكُونُ لَكَ ثَوَابٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ‏.‏

فَاعْمَلْ عَلَى بَصِيرَةٍ وَنِيَّةٍ حَسَنَةٍ، فَيَرُدُّ اللَّهُ بِكَ الْمُبْتَدِعَ وَالْمَفْتُونَ الزَّائِغَ الْحَائِرَ، فَتَكُونُ خَلَفًا مِنْ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَأَحْيِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلٍ يُشْبِهُهُ‏.‏

انْتَهَى مَا قَصَدْتُ إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِ أَسَدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ‏.‏ وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي جَانِبَ الْإِقْدَامِ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ فِي خُطْبَتِهِ أَنْ قَالَ‏:‏

‏"‏ وَاللَّهِ إِنِّي لَوْلَا أَنْ أُنْعِشَ سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ، أَوْ أَنْ أُمِيتَ بِدْعَةً قَدْ أُحْيِيَتْ، لَكَرِهْتُ أَنْ أَعِيشَ فِيكُمْ فَوَاقًا ‏"‏‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ فِي كِتَابِ ‏"‏ الْقُطْعَانِ ‏"‏ وَحَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ‏:‏ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَنْ يَزَالَ لِلَّهِ نُصَحَاءُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِبَادِهِ، يَعْرِضُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِذَا وَافَقُوهُ، حَمِدُوا اللَّهَ، وَإِذَا خَالَفُوهُ، عَرَفُوا بِكِتَابِ اللَّهِ ضَلَالَةَ مَنْ ضَلَّ، وَهُدَى مَنِ اهْتَدَى، فَأُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ‏.‏

وَفِيهِ عَنْ سُفْيَانَ‏;‏ قَالَ‏:‏ اسْلُكُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشُوا مِنْ قِلَّةِ أَهْلِهِ‏.‏ فَوَقَعَ التَّرْدِيدُ بَيْنَ النَّظَرَيْنِ‏.‏

ثُمَّ إِنِّي أَخَذْتُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنْ قَلْبِي مَحَلَّ السُّوَيْدَاءِ، وَقَامُوا لِي فِي عَامَّةِ أَدْوَاءِ نَفْسِي مَقَامَ الدَّوَاءِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي طَلَبِ الشَّرْعِ نَشْرُهُ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ‏.‏

فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَسَمَّيْتُهُ بِـ«الِاعْتِصَامِ»‏.‏

وَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَمَلًا خَالِصًا، وَيَجْعَلَ ظِلَّ الْفَائِدَةِ بِهِ مَمْدُودًا لَا قَالِصًا، وَالْأَجْرَ عَلَى الْعَنَاءِ فِيهِ كَامِلًا لَا نَاقِصًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ‏.‏

وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ فِي جُمْلَةِ أَبْوَابٍ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فُصُولٌ اقْتَضَاهَا بَسْطُ الْمَسَائِلِ الْمُنْحَصِرَةِ فِيهِ، وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا مِنَ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ‏.‏

الْبَابُ الْأَوَّلُ‏:‏ تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لَفْظًا

‏[‏تَعْرِيفُ الْبِدْعَةِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا‏]‏

وَأَصْلُ الْمَادَّةِ ‏"‏ بَدَعَ ‏"‏ لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ‏:‏

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، أَيْ‏:‏ مُخْتَرِعُهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ مُتَقَدِّمٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏;‏ أَيْ‏:‏ مَا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ‏.‏

وَيُقَالُ‏:‏ ابْتَدَعَ فَلَانٌ بِدْعَةً، يَعْنِي ابْتَدَأَ طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ‏.‏ وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ‏.‏

وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا هِيَ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْعِلْمُ الْمَعْمُولُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بِدْعَةً‏.‏

فَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ‏:‏ حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ‏;‏ كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ‏.‏ وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ‏.‏

فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ‏:‏ مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ‏.‏

وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً خَاصَّةً مَعَ مُجَرَّدِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا‏;‏ سُمِّيَ فِعْلًا مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَإِلَّا، لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ‏;‏ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ وَيُنْهَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ التَّشْرِيعِ‏;‏ مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ مَعَ الدَّوَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ، وَيُسَمَّى فَاعِلُهُ مُبْتَدِعًا‏.‏

فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ‏:‏ طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ‏.‏

وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ، فَيَقُولُ‏:‏

الْبِدْعَةُ‏:‏ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ‏:‏

فَالطَّرِيقَةُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ وَالسَّنَنُ هِيَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ‏.‏

وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا صَاحِبُهَا، وَأَيْضًا‏;‏ فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ، لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً‏;‏ كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ، فَمِنْهَا مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا، خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أَيْ‏:‏ طَرِيقَةٌ ابْتُدِعَتْ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ، إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ‏.‏

وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، فَأُصُولُهَا مَوْجُودَةٌ فِي الشَّرْعِ‏:‏

إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ‏.‏

وَعُلُومُ اللِّسَانِ هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا أَنَّهَا‏:‏ فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا‏;‏ كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى‏؟‏

وَأُصُولُ الْفِقْهِ‏;‏ إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ‏.‏

وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا فِي الْفُرُوعِ الْعِبَادِيَّةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ‏؟‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ‏:‏

فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جُزْءٍ وَاحِدٍ، فَلَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ‏.‏

وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ فِي عِلْمِ الْبِدَعِ؛ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إِذًا بِبِدْعَةٍ‏.‏ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ‏.‏

فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، بِدْعَةً أَصْلًا‏.‏

وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً‏:‏ فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ‏;‏ كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيَامَ النَّاسِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ‏:‏ ‏"‏ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ ‏"‏ ‏;‏ يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُضَادَّةٌ لَهَا مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ‏:‏

مِنْهَا‏:‏ وَضَعُ الْحُدُودِ‏;‏ كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ، وَالِاخْتِصَاصُ فِي الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ، وَالِاقْتِصَارُ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَقِيَامِ لَيْلَتِهِ‏.‏

وَثَمَّ أَوْجُهٌ تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَقْصِدُ الِاسْتِتْبَاعَ بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ‏.‏

فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ تَأَوَّلُوا فِيمَا أَحْدَثُوا احْتِجَاجًا مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏، وَكَتَرْكِ الْحُمْسِ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ‏;‏ لِقَوْلِهِمْ‏:‏ لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا‏;‏ قَائِلِينَ‏:‏ لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ لِيُصَيِّرُوهُ بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ‏.‏

فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ عُدَّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ‏؟‏‏!‏ فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ، وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا‏;‏ ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى ‏"‏ هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدُّخُولِ فِيهَا يَحُثُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ‏;‏ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ فِيهِ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ، فَرَأَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ، مَعَ مَا يُدَاخِلُ النُّفُوسَ مِنْ حُبِّ الظُّهُورِ أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضَّبْطِ شَائِبَةُ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَأَيْضًا‏;‏ فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدَّوَامِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ، حَصَلَ بِهَا نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا‏:‏ لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ‏;‏ بِحُكْمِ هَذَا الْمَعْنَى، كَمَنْ قَالَ‏:‏ كَمَا تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ‏:‏ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ الْقُرْآنَ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ‏.‏

وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ‏;‏ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَإِنَّهَا لَا تُسَمَّى بِدَعًا عَلَى إِحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ‏.‏

وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى‏;‏ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ، إِلَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ ‏"‏، وَمَعْنَاهُ‏:‏ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ‏;‏ لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ‏;‏ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا‏.‏

فَمَنْ يَجْعَلُ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ‏;‏ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ، وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ الْمُحْتَفِلَةُ‏;‏ التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ وَالْخَرِبِ، وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَقَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَيَعُدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَمَا هِيَ فِي الشَّرْعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ‏]‏

فِي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا‏:‏ ‏"‏ إِنَّهَا طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ‏"‏ إِلَى آخِرِهِ، يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكِيَّةُ، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ‏.‏

فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ أَوْ غَيْرَ تَحْرِيمٍ، فَإِنَّ الْفِعْلَ مَثَلًا يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ، فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ يَقْصِدُ تَرْكَهُ قَصْدًا‏.‏

فَبِهَذَا التَّرْكِ‏;‏ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ، فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ أَوْ مَا يُطْلَبُ بِتَرْكِهِ، كَالَّذِي يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ، بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التَّدَاوِي لِلْمَرِيضِ‏;‏ فَإِنَّ التَّرْكَ هَنَا مَطْلُوبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي‏;‏ فَالتَّرْكُ مُبَاحٌ‏.‏

فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى الْحَمِيَّةِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ‏!‏ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ إِلَى أَنْ قَالَ‏:‏ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ الَّذِي يَكْسِرُ مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لَا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَصِيرَ إِلَى الْعَنَتِ‏.‏

وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ الْبَأْسُ‏;‏ فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ لِغَيْرِ ذَلِكَ‏;‏ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا‏;‏ فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ، وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً، إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ‏;‏ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ‏:‏ إِنَّ الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ، وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى‏;‏ فَلَا تَدْخُلُ، لَكِنَّ هَذَا التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ بِاعْتِقَادِهِ التَّحْرِيمَ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ تَدَيُّنًا، فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا، فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ التَّحْلِيلِ‏.‏

وَفِي مِثْلِهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏، فَنَهَى أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْآيَةُ تُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ اعْتِدَاءً، لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ‏.‏

وَسَيَأْتِي لِلْآيَةِ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ هَمَّ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شَأْنِ النِّسَاءِ، وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي‏.‏

فَإِذَا كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا، هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا، هَلْ يُسَمَّى مُبْتَدِعًا أَمْ لَا‏؟‏‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ التَّارِكَ لِلْمَطْلُوبَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ‏:‏ إِمَّا كَسَلًا، أَوْ تَضْيِيعًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ‏;‏ فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ‏;‏ وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ، فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا‏;‏ فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ، حَيْثُ تَدَيَّنَ بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَمِثَالُهُ أَهْلُ الْإِبَاحَةِ الْقَائِلُونَ بِإِسْقَاطِ التَّكَالِيفِ إِذَا بَلَغَ السَّالِكُ عِنْدَهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي حَدُّوهُ‏.‏

فَإِذًا قَوْلُهُ فِي الْحَدِّ‏:‏ ‏"‏ طَرِيقَةٌ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ ‏"‏ ‏;‏ يَشْمَلُ الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّةَ، كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا‏;‏ لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، أَمْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ نَفْيُ الْفِعْلِ، عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ‏.‏

وَكَمَا يَشْمَلُ الْحَدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ‏.‏

وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ‏:‏ قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ، يَتَعَلَّقُ بِهِ الِابْتِدَاعُ‏.‏

الْبَابُ الثَّانِي‏:‏ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أَصْحَابِهَا

‏[‏الْأَدِلَّةُ مِنَ النَّظَرِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ‏]‏

لَا خَفَاءَ أَنَّ الْبِدَعَ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذَمَّهَا، لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا خُرُوجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ‏.‏

وَبَيَانُ ذَلِكَ‏:‏ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ‏.‏

أَمَّا النَّظَرُ فَمِنْ وُجُوهٍ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ وَالْخِبْرَةِ السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى الْيَوْمِ أَنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا‏.‏ لِأَنَّهَا إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ‏.‏

فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ‏;‏ فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أَوَّلًا، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لِأَنَّ وَضْعَهَا أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى‏;‏ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى الْأَرْضِ عَلِمَ كَيْفَ يَسْتَجْلِبُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْلُومِهِ أَوَّلًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا‏}‏، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْلِيمًا غَيْرَ عَقْلِيٍّ، ثُمَّ تَوَارَثَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ فَرَّعَتِ الْعُقُولُ مِنْ أُصُولِهَا تَفْرِيعًا تَتَوَهَّمُ اسْتِقْلَالَهَا بِهِ، وَدَخَلَ فِي الْأُصُولِ الدَّوَاخِلُ حَسْبَمَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ أَزْمِنَةُ الْفَتَرَاتِ، إِذْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الْفَتَرَاتِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ‏;‏ لِوُجُودِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ، وَظُهُورِ أَوْجُهِ الْفَسَادِ‏.‏

فَلَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْخَلْقِ بِبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ تَسْتَقِمْ لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ فِي أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ‏.‏

وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ، فَأَبْعَدُ عَنْ مَصَالِحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا‏;‏ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ، فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ‏.‏

وَمِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَكَوْنِهَا آتِيَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنَّهَا دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ‏;‏ فَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ أَنْ يَشْعُرَ بِهَا‏.‏

وَلَا يَغْتَرَّنَّ ذُو الْحِجَى بِأَحْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُدَّعِينَ لِإِدْرَاكِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَزَلْ وَارِدَةً عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَيْضًا لَمْ يَزَالُوا مَوْجُودِينَ فِي الْعَالَمِ وَهُمْ أَكْثَرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ‏.‏

غَيْرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ إِذَا أَخَذَتْ فِي الدُّرُوسِ‏;‏ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَفْرُوضَةِ، مَا بَيْنَ زَمَانِ أَخْذِهَا فِي الِانْدِرَاسِ وَبَيْنَ إِنْزَالِ الشَّرِيعَةِ بَعْدَهَا بَعْضُ الْأُصُولِ الْمَعْلُومَةِ‏.‏

فَأَتَى الْفَلَاسِفَةُ إِلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، فَتَلَقَّفُوهَا أَوْ تَلَقَّفُوا مِنْهَا، فَأَرَادُوا أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى مُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْلِيًّا لَا شَرْعِيًّا‏.‏

وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مُتَقَدِّمٍ مُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا يُمْكِنُ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قِبَلَهُمْ أَصْلٌ مُسَلَّمٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَعَلَى الْجُمْلَةِ‏:‏ الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ، فَالِابْتِدَاعُ مُضَادٌّ لِهَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْعَقْلِ‏.‏

فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْعَبَثِ‏.‏

هَذَا إِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ‏.‏

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ‏;‏ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا‏;‏ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ وَإِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، وَالْعَقْلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ‏.‏

وَنَاهِيكَ مِنْ نِحْلَةٍ يَنْتَحِلُهَا صَاحِبُهَا فِي أَرْفَعِ مُطَالَبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا، وَيُلْقِي مِنْ يَدِهِ مَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ كَامِلَةً لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ‏:‏

لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا‏}‏‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ‏:‏ وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا‏؟‏

قَالَ‏:‏ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي الْحَدِيثَ‏.‏

وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ‏.‏

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ‏:‏ إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا‏;‏ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ‏;‏ لَمْ يَبْتَدِعْ، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ‏:‏ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً، زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ، وَمَشَاقٌّ لَهُ‏;‏ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عَيَّنَ لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وَقَصَرَ الْخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَأَنَّ الشَّرَّ فِي تَعَدِّيهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ‏.‏ فَالْمُبْتَدِعُ رَادٌّ لِهَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَرَ، لَيْسَ مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عَيَّنَهُ بِمُتَعَيِّنٍ، كَأَنَّ الشَّارِعَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ، بَلْ رُبَّمَا يَفْهَمُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الشَّارِعُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ‏;‏ فَهُوَ كُفْرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ‏;‏ فَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ‏.‏

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ كَتَبَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ يَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ‏؟‏ فَكَتَبَ إِلَيْهِ‏:‏

أَمَّا بَعْدُ‏;‏ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَرْكِ مَا أَحْدَثَ الْمُحْدِثُونَ فِيمَا قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ‏.‏

فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ ‏;‏ فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ‏.‏

فَارْضَ لِنَفْسِكَ بِمَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ لِأَنْفُسِهِمْ‏;‏ فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ قَدْ كُفُوا وَهُمْ كَانُوا عَلَى كَشْفِ الْأُمُورِ أَقْوَى، وَبِفَضْلٍ كَانُوا فِيهِ أَحْرَى‏.‏ فَلَئِنْ قُلْتُمْ‏:‏ أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سُنَنِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَهُمُ السَّابِقُونَ، فَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَمَا فَوْقَهُمْ مَحْسَرٌ، لَقَدْ قَصَرَ عَنْهُمْ آخَرُونَ ‏[‏فَجَفَوْا، وَطَمِحَ عَنْهُمْ‏]‏ فَغَلَوْا وَأَنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ‏.‏

ثُمَّ خُتِمَ الْكِتَابُ بِحُكْمِ مَسْأَلَتِهِ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا ‏"‏ ‏;‏ فَهُوَ مَقْصُودُ الِاسْتِشْهَادِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ‏;‏ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ، وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ تُنَزَّلِ الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إِلَى بَعْثِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ‏.‏

‏[‏فَـ‏]‏ هَذَا الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صَيَّرَ نَفْسَهُ نَظِيرًا وَمُضَاهِيًا لِلشَّارِعِ، حَيْثُ شَرَعَ مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بِذَلِكَ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى‏;‏ لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى وَأَنَّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ‏.‏

أَلَا تَرَى قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

فَحَصَرَ الْحُكْمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ‏:‏ اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏}‏‏.‏ وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا‏.‏

وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ‏;‏ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ‏.‏ وَهَذَا شَأْنُ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏.‏ وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ‏.‏

وَمَا بَيَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وَبَيَّنَتْهُ الْآيَةُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ وَلَا صَاحِبُهُ بِضَالٍّ، كَيْفَ وَقَدْ قَدَّمَ الْهُدَى فَاسْتَنَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ هَوَاهُ‏؟‏ وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ تَابِعَيْنِ بِالسُّنَّةِ إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ تَابِعَيْنِ وَهُوَ الْمَذْمُومُ‏.‏

وَالْمُبْتَدِعُ قَدَّمَ هَوَى نَفْسِهِ عَلَى هُدَى رَبِّهِ، فَكَانَ أَضَلَّ النَّاسِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى‏.‏

وَقَدِ انْجَرَّ هُنَا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ عَيَّنَتْ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ‏;‏ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي مَسَاقِ الذَّمِّ‏.‏

وَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْآيَاتِ‏;‏ أَلْفَى ذَلِكَ كَذَلِكَ‏.‏

ثُمَّ الْعِلْمُ الَّذِي أُحِيلَ عَلَيْهِ وَالْحَقُّ الَّذِي حُمِدَ إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏:‏

كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏ وَهَذَا كُلُّهُ لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏}‏، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي التَّشْرِيعِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ‏}‏ أَيْ لَا يَهْدِيهِ دُونَ اللَّهِ شَيْءٌ‏.‏ وَذَلِكَ بِالشَّرْعِ لَا بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْهُدَى‏.‏

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْهَوَى، تَزَلْزَلَتْ قَاعِدَةُ حُكْمِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مَجَالٌ إِلَّا مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْهَوَى، فَهُوَ إِذًا اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَدَعِ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا، وَإِنْ كَانَ أَهْلُهُ قَدْ زَلُّوا أَيْضًا بِالِابْتِدَاعِ‏;‏ فَإِنَّمَا زَلُّوا مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْخِطَابِ وَمِنْ حَيْثُ التَّشْرِيعِ‏.‏

وَلِذَلِكَ عُذِرَ الْجَمِيعُ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَعْنِي‏:‏ فِي خَطَئِهِمْ فِي التَّشْرِيعَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّسُلُ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ يَسْتَقِيمُ إِلَيْهَا ‏{‏رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ ‏{‏فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏

فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِ النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أُصُولِيَّةً، فَهَذِهِ نُكْتَتُهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، انْتَهَى‏.‏