فصل: فَصْلٌ (الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***


الْبَابُ الْخَامِسُ‏:‏ فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا

‏[‏مَعْنَى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْبِدْعَةِ الْإِضَافِيَّةِ‏]‏

وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏:‏

إِنَّ الْبِدْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ‏:‏ هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ لَا فِي الْجُمْلَةِ وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِدْعَةً- كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ-؛لِأَنَّهَا شَىْءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ‏.‏

وَإِنْ كَانَ الْمُبْتَدِعُ يَأْبَى أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ، إِذْ هُوَ مُدَّعٍ أَنَّهُ دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، لَكِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ، لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، أَمَّا بِحَسَبَ نَفْسِ الْأَمْرِ؛ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ فَإِنَّ أَدِلَّتَهُ شُبَهٌ لَيْسَتْ بِأَدِلَّةٍ إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ‏.‏

وَأَمَّا الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ؛ فَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ‏:‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ لَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً‏.‏

وَالْأُخْرَى‏:‏ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ إِلَّا مِثْلَ مَا لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ‏.‏

فَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ شَائِبَتَانِ لَمْ يَتَخَلَّصْ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ؛ وَضَعْنَا لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ، وَهِيَ ‏"‏ الْبِدْعَةُ الْإِضَافِيَّةُ ‏"‏‏.‏

أَيْ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى شُبْهَةٍ لَا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ غَيْرِ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شَيْءٍ‏.‏

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى‏:‏ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ قَائِمٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّاتِ أَوِ الْأَحْوَالِ أَوِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُهَا فِي التَّعَبُدِيَّاتِ لَا فِي الْعَادِيَّاتِ الْمَحْضَةِ؛ كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

‏[‏أَقْسَامُ الْإِضَافِيَّةِ مَا يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهَا‏]‏

ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا‏:‏

إِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَكْثَرَ وَأَعَمَّ وَأَشْهَرَ فِي النَّاسِ ذِكْرًا، وَافْتَرَقَتِ الْفِرَقُ، وَكَانَ النَّاسُ شِيَعًا، وَجَرَى مِنْ أَمْثِلَتِهَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَهِيَ أَسْبَقُ فِي فَهْمِ الْعُلَمَاءِ؛ تَرَكْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ‏.‏

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَلَّمَا تَخْتَصُّ بِحُكْمٍ دُونَ الْإِضَافِيَّةِ، بَلْ هُمَا مَعًا يَشْتَرِكَانِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ تُشْرَحَ فِيهِ؛ بِخِلَافِ الْإِضَافِيَّةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً وَشَرْحًا خَاصًّا- وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ إِلَّا أَنَّ الْإِضَافِيَّةَ أَوَّلًا عَلَى ضَرْبَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ، حَتَّى تَكَادَ الْبِدْعَةُ تُعَدُّ حَقِيقِيَّةً‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ يَبْعُدُ مِنْهَا حَتَّى ‏(‏يَكَادَ‏)‏ يُعَدُّ سُنَّةً مَحْضَةً‏.‏

وَلَمَّا انْقَسَمَتْ هَذَا الِانْقِسَامَ؛ صَارَ مِنَ الْأَكِيدِ عَلَى كُلِّ قِسْمٍ عَلَى حِدَتِهِ، فَلْنَعْقِدْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُصُولًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ

قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

فَخَرَّجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ‏:‏

قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمَ‏؟‏ ‏"‏‏.‏

قُلْتُ‏:‏ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا‏:‏ فِرْقَةٌ آزَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ، فَقَتَلَتْهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِوَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏(‏فِيهِمْ‏)‏‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَصَدَّقُوا بِي وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا وَحَجَدُوا‏.‏

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الْكُوفِيِّينَ‏.‏

وَالرَّهْبَانِيَّةُ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهِ بِمَعْنَى اعْتِزَالِ الْخَلْقِ فِي السِّيَاحَةِ، وَاطِّرَاحِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا مِنَ النِّسَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهُ لُزُومُ الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ- عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ- مَعَ الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ ‏(‏تَعَالَى‏)‏‏:‏ ‏{‏إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ‏}‏، مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا‏:‏

فَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى الِاتِّصَالِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهَا مِمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ- أَيْ‏:‏ مِمَّا شُرِعَتْ لَهُمْ- لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ الرِّضْوَانِ‏.‏

‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رِعَايَتَهَا حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الرِّضْوَانِ إِذَا كَانَ شَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُمْ؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا ذَلِكَ الْقَصْدَ، فَإِلَى أَيْنَ سَارَ بِهِمْ؛ سَارُوا، وَإِنَّمَا شَرَعَ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا نُسِخَ بِغَيْرِهِ؛ رَجَعُوا إِلَى مَا أَحْكَمَ وَتَرَكُوا مَا نُسِخَ، وَهُوَ مَعْنَى ابْتِغَاءَ الرِّضْوَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوا وَأَصَرُّوا عَلَى الْأَوَّلِ؛ كَانَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، لَا اتِّبَاعًا لِلْمَشْرُوعِ، وَاتِّبَاعُ الْمَشْرُوعِ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الرِّضْوَانُ، وَقَصْدُ الرِّضْوَانَ بِذَلِكَ‏.‏

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏، فَالَّذِينَ آمِنُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا بِشَرْطِهَا، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

إِلَّا أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَشْرُوعَ لَهُمْ يُسَمَّى ابْتِدَاعًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدُّ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّهُ يُسَمَّى بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ أَخَلُّوا بِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ، إِذْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوطَةً بِشَرْطٍ، فَيَعْمَلُ بِهَا دُونَ شَرْطِهَا؛ لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً عَلَى وَجْهِهَا، وَصَارَتْ بِدْعَةً؛ كَالْمُخِلِّ قَصْدًا بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؛ مِثْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوِ الطَّهَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَحَيْثُ عَرَفَ بِذَلِكَ وَعَلِمَهُ؛ فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَدَأَبَ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ شَرْطِهَا؛ فَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ، فَيَكُونُ تَرَهُّبُ النَّصَارَى صَحِيحًا قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بُعِثَ؛ وَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى مِلَّتِهِ، فَالْبَقَاءُ عَلَيْهِ مَعَ نَسْخِهِ بَقَاءً عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَإِذَا بَنَيْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ فَالْمَعْنَى‏:‏ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أَصْلًا، وَلَكِنَّهُمُ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا بِشَرْطِهَا، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً‏.‏

وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِدْعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَمْرَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ- كَمَا تَقَدَّمَ- لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَذْمُومَةً فِي حَقِّهِمْ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لِأَنَّهُمْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا، فَمَنْ لَمْ يُخِلَّ مِنْهُمْ بِشَرْطِهَا، وَعَمَلِ بِهَا قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَصَلَ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؛ حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏؛ أَيْ‏:‏ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ؛ وَفَّيْنَاهُ أَجْرَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إِضَافِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً؛ لَخَالَفُوا بِهَا شَرْعَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بِهَا أَجْرٌ، بَلْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ؛ لِمُخَالَفَتِهِمْ لِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا كَانَ جَائِزًا لَهُمْ فِعْلُهُ، فَلَا تَكُونُ بِدْعَتُهُمْ حَقِيقِيَّةً، لَكِنَّهُ يُنْظَرُ عَلَى أَيِّ مَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبِدْعَةِ، وَسَيَأْتِي بَعْدُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ حُكْمٌ؛ لِأَنَّهُ نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، فَلَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي‏.‏

عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ نَقَلَ فِي الْآيَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ‏:‏

الْأَوَّلُ‏:‏ مَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ رَفْضُ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ فِي شَرْعِنَا‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ السِّيَاحَةُ‏.‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ ‏"‏‏.‏

وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا بِدْعَةٌ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ تَرَهَّبُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ، وَسُمِّيَتْ بِدْعَةً، وَالنَّدْبُ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ لَا ابْتِدَاعَ فِيهَا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ‏؟‏‏!‏

وَلَكِنْ لِلْمَسْأَلَةِ فِقْهُ يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا‏}‏؛ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنْ جَنَابَةٍ، وَتَرَكُوا الْخِتَانَ، ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا‏}‏؛ يَعْنِي‏:‏ الطَّاعَةَ وَالْمِلَّةَ ‏{‏حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏، فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْمِلَّةُ الْمَفْهُومُ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً‏}‏؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ ثَمَّ مِلَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ‏}‏ عَلَى الشَّمْسِ حَتَّى عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ‏}‏، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ‏:‏ مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلُوهُ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ، فَالْبِدْعَةُ فِيهِ إِذًا حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضَافِيَّةٌ‏.‏

وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ؛ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، فَلَا نَظَرَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ‏.‏

وَخَرَّجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَإِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إِذْ فَعَلْتُمُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ أُنَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ ‏"‏ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا‏}‏، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَدُومُوا عَلَيْهَا‏.‏

قَالَ بَعْضُ نَقْلَةِ التَّفْسِيرِ‏:‏ ‏"‏ وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ لُزُومُ الْإِتْمَامِ لِكُلِّ مَنْ بَدَأَ بِتَطَوُّعٍ وَنَفْلٍ، وَأَنْ يَرْعَوْهُ حَقَّ رَعْيِهِ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ‏:‏ ‏"‏ وَقَدْ زَاغَ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنِ الْتَزَمُوهَا ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا عَنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيهِ أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إِلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إِذَا بَنَيْنَا الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، إِذْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِحَالٍ؛ لِلْقَطْعِ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ- حَسْبَمَا تَقَدَّمَ-، فَالْأَصْلُ أَنْ يُتْبَعَ الدَّلِيلُ، وَلَا عَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ‏.‏

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَا نُخَلِّي- بِحَوْلِ اللَّهِ- قَوْلَ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ عَلَى وِفْقِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ بُعْدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَدَّ عَمَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جَمْعِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ بِدْعَةً لِقَوْلِهِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ‏:‏ ‏"‏ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهَا بِاعْتِبَارٍ مَا، وَأَنَّ قِيَامَ الْإِمَامِ بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ، فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ؛ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَعَادَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى نِصَابِهِ؛ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَأَتَّ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَمَانَ خِلَافَتِهِ؛ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى تَأَتَّى النَّظَرُ، فَوَقَعَ مِنْهُ، لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَمْ يَجْرِ بِهِ عَمَلُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، لَا أَنَّهُ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ‏.‏

فَكَأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ اعْتَبَرَ فِيهِ نَظَرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِحْدَاثًا؛ مُوَافَقَةً لِتَسْمِيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ تَرْكَ الرِّعَايَةِ هُوَ تُرْكُ دَوَامِهِمْ عَلَى الْتِزَامِ عَمَلٍ لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَلَمْ يُوفُوا بِمُقْتَضَى مَا الْتَزَمُوهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي التَّطَوُعَاتِ غَيْرِ اللَّازِمَةِ، وَلَا السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تُؤْخَذَ عَلَى أَصْلِهَا فِيمَا اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ، فَتَارَةً يَنْشَطُ لَهَا وَتَارَةً لَا يَنْشَطُ، أَوْ يُمْكِنُهُ تَارَةً بِحَسْبِ الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أُخْرَى لِمُزَاحَمَةِ أَشْغَالٍ وَنَحْوِهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ كَالرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْيَوْمَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَتَصَدَّقُ، وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ غَدًا، أَوْ يَكُونُ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْشَطُ لِلْعَطَاءِ، أَوْ يَرَى إِمْسَاكَهُ أَصْلَحَ فِي عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الطَّارِئَةِ لِلْإِنْسَانِ‏.‏

فَهَذَا الْوَجْهُ لَا حَرَجَ عَلَى أَحَدٍ تَرَكَ التَّطَوُعَاتِ كُلَّهَا، وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ ثَمَّ لَوْمٌ أَوْ عُتْبٌ؛ لَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ تَأْخُذَ مَأْخَذَ الْمُلْتَزِمَاتِ؛ كَالرَّجُلِ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وَظِيفَةً رَاتِبَةً مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، كَالْتِزَامِ قِيَامِ حَظٍّ مِنَ اللَّيْلِ مَثَلًا، وَصِيَامِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لِفَضْلٍ ثَبَتَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ، أَوْ يَتَّخِذُ وَظِيفَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

فَهَذَا الْوَجْهُ أَخَذَتْ فِيهِ التَّطَوُعَاتُ مَأْخَذَ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وَجْهٍ؛ أَنَّهُ لَمَّا نَوَى الدَّؤُبَ عَلَيْهَا فِي الِاسْتِطَاعَةِ؛ أَشْبَهَتِ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنَ الرَّاتِبَةَ؛ كَمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْإِيجَابُ غَيْرَ لَازِمٍ بِالشَّرْعِ؛ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا؛ إِذْ تَرْكُهُ أَصْلًا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ أَعْنِي‏:‏ تَرْكَ الِالْتِزَامِ، وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا النَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْأَصْلِ، وَمِنْ حَيْثُ صَارَتْ رَوَاتِبَ؛ أَشْبَهَتِ السُّنَنَ وَالْوَاجِبَاتِ‏.‏

وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حِينَ صَلَّاهُمَا فَسُئِلَ عَنْهُمَا فَقَالَ‏:‏ يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ‏!‏ سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ‏؟‏ أَتَى نَاسٌ مِنْ عَبَدَ الْقَيْسِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ؛لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ لَهُمَا بَعْدَ مَا نَهَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظُّهْرِ كَالنَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ، فَإِمَّا فَاتَتَاهُ؛ صَلَّاهُمَا بَعْدَ وَقْتِهِمَا كَالْقَضَاءِ لَهُمَا حَسْبَمَا يَقْضِي الْوَاجِبُ‏.‏

فَصَارَ حِينَئِذٍ لِهَذَا النَّوْعِ حَالَةٌ مِنَ التَّطَوُّعِ بَيْنَ حَالَتَيْنِ؛ إِلَّا أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ بِحَسَبَ مَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ أَيْضًا الْأَخْذَ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ، وَأَنْ لَا يُلْزَمَ الْمُكَلَّفُ مَا لَعَلَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُ، أَوْ يَحْرَجُ بِالْتِزَامِهِ، فَإِنْ الِالْتِزَامَ؛ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْقَدْرِ الَّذِي يُكْرَهُ ابْتِدَاءً؛ فَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، ‏(‏وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَارَ الْإِخْلَالُ بِهِ مَكْرُوهًا‏)‏‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْذِ بِالرِّفْقِ، وَأَنَّهُ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى- وَإِنْ كَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ أَيْضًا مَطْلُوبًا عَتِيدًا- فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ‏}‏، عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَمْرِ وَاقِعٌ فِي التَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمَعْنَى لَعَنِتُّمْ لَحَرَجْتُمْ، وَلَدَخَلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةُ، وَدِينُ اللَّهِ لَا حَرَجَ فِيهِ، ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ‏}‏؛ بِالتَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، ‏{‏وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَإِنَّمَا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَوَضْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏‏.‏

وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الْأَخْذَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ اعْتِدَاءً، فَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا‏}‏‏.‏

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَثِيرٌ‏.‏

؛ كَمَسْأَلَةِ الْوِصَالِ، فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، قَالُوا‏:‏ إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ‏:‏ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْ مُدَّ لَنَا شَهْرٌ لَوَاصَلْنَا وِصَالًا حَتَّى يَدَعَ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ، وَهَذَا إِنْكَارٌ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ قَالَ‏:‏ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏:‏ فَإِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَأَيُّكُمْ مِثْلِي‏؟‏‏!‏ إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ؛ بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ ‏"‏؛كَالْمُنَكِّلِ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ تَرَكَهُ مَخَافَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهُ فَيَقَعُوا فِي الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ، فَكَانَ ذَلِكَ رِفْقًا مِنْهُ بِهِمْ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ‏:‏ ‏"‏ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ وَاصَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؛ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ ‏"‏‏.‏

وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا‏:‏ ‏"‏ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعَ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضُ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ‏.‏

قَالَ الْمُهَلَّبُ‏:‏ ‏"‏ وَجْهُهُ‏:‏ خَشِيتُ أَنْ يُسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَيُفْرَضَ ‏"‏‏.‏

وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَجْتَمِعُ النَّهْيُ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُوَطَّأِ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْحَوْلَاءِ بِنْتِ تُوَيْتٍ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ هَذِهِ‏؟‏ ‏"‏، فَقُلْتُ‏:‏ امْرَأَةٌ لَا تَنَامُ تُصَلِّي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ‏!‏ خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا‏.‏

فَأَعَادَ لَفْظَ ‏"‏ لَا تَنَامُ ‏"‏ مُنْكِرًا عَلَيْهَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ-، غَيْرَ رَاضٍ فِعْلَهَا؛ لِمَا خَافَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْكَلَلِ وَالسَّآمَةِ أَوْ تَعْطِيلِ حَقٍّ آكَدٍ‏.‏

وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ‏:‏ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ- وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ-، فَقَالَ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ ‏"‏، قَالُوا‏:‏ حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسَلَتْ أَوْ فَتَرَتْ؛ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسَلَ أَوْ فَتَرَ؛ قَعَدَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ لَا، حُلُّوهُ‏.‏

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ‏:‏ بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَصُومُ أُسْرِدُ، وَأُصَلِّي اللَّيْلَ، فَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ وَإِمَّا لَقِيتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ لَا تُفْطِرُ وَتَصِلِي اللَّيْلَ‏؟‏‏!‏ فَلَا تَفْعَلْ؛ فَإِنَّ لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكِ حَظًّا، وَلِأَهْلِكَ حَظًّا، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَصَلِّ وَنَمْ‏.‏‏.‏‏.‏، الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ؛ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ قَالَ‏:‏ كُنْتُ أَصُومُ الدَّهْرَ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَإِمَّا ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا أَرْسَلَ إِلَيَّ فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ‏؟‏‏!‏، فَقُلْتُ‏:‏ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، أَوْ قَالَ‏:‏ كَذَلِكَ‏)‏؛ فَحَسْبُكَ أَنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ‏"‏، قُلْتُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ‏!‏ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ- وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا ‏"‏، قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَقَلَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ‏!‏ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا نَبِيَّ اللَّهِ‏!‏ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكِ عَلَيْكَ حَقًّا، قَالَ‏:‏ فَشَدَّدْتُ فَشَدَّدَ ‏(‏اللَّهُ‏)‏ عَلَيَّ، قَالَ‏:‏ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ ‏"‏، قَالَ‏:‏ فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ؛ وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ‏:‏ صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو‏:‏ لَأَنْ أَكُونَ قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِي وَمَالِيَ

وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ‏:‏ ذُكِرَ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، وَذُكِرَ عِنْدِهِ آخَرٌ بِرِعَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا يُعْدَلُ بِالرِّعَةِ، وَالرِّعَةُ‏:‏ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّفْقُ وَالتَّيْسِيرُ‏.‏

قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَسَنٌ غَرِيبٌ‏.‏

وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ‏:‏ جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا؛ كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا‏:‏ وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏؟‏ وَقَدْ غَفَرَ ‏(‏اللَّهُ‏)‏ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ‏؟‏‏!‏ فَقَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ أَمَّا أَنَا؛ فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ إِنِّي أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ إِنِّي أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا‏؟‏‏!‏ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي‏.‏

وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ بِجُمْلَتِهَا تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ عَدَمِ الِالْتِزَامِ، وَإِنْ تُصُوِّرَ مَعَ الِالْتِزَامِ؛ فَعَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ فِيهِ حَسْبَمَا نُفَسِّرُهُ الْآنَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْأَخْذُ فِي التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ مَعَ الِالْتِزَامِ عَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ‏]‏

فَأَمَّا إِنِ الْتَزَمَ أَحَدٌ ذَلِكَ الْتِزَامًا؛ فَعَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏

إِمَّا عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً‏:‏

أَلَا تَرَى إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ‏:‏ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ؛ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُ لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الشَّحِيحِ‏.‏

ـ وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ النَّذْرُ لَا يُقَدِّمُ شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ لَا تَنْذُرُوا؛ فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ‏.‏

وَإِنَّمَا وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- تَنْبِيهًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي أَنَّهَا كَانَتْ تَنْذُرُ‏:‏ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي؛ فَعَلَيَّ صَوْمُ كَذَا، وَإِنْ قَدِمَ غَائِبِي، أَوْ إِنْ أَغْنَانِيَ اللَّهُ؛ فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، فَيَقُولُ‏:‏ لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا، بَلْ مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ الصِّحَّةَ أَوِ الْمَرَضَ أَوِ الْغِنَى أَوِ الْفَقْرَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ فَالنَّذْرُ لَمْ يُوضَعْ سَبَبًا لِذَلِكَ، كَمَا وُضِعَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبًا فِي الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، بَلِ النَّذْرُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ؛ بِشَرْعِيَّةِ الْوَفَاءِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ‏}‏، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ‏.‏

وَوَجْهُ النَّهْيِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى كَرَاهَتِهِ‏.‏

وَإِمَّا عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ؛ فَكَأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْوَعْدِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَأْتِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ، حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَتَوْا يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِقَوْلِهِمْ‏:‏ أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَخْ‏؟‏‏!‏، وَقَالَ أَحَدُهُمْ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَأَفْعَلُ كَذَا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَخْ‏.‏

وَنَحْوُهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ‏:‏ لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ وَلَأَصُومَنَّ النَّهَارَ مَا عِشْتُ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى النَّذْرِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُلْ لَهُ‏:‏ صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، صُمْ كَذَا، وَلَقَالَ لَهُ‏:‏ أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ‏.‏

فَأَمَّا الِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى النَّذْرِيِّ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ بِهِ وُجُوبًا لَا نَدْبًا، عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ، وَجَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي؛ فَالْأَدِلَّةُ تَقْتَضِي الْوَفَاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَ الْعِتَابِ عَلَى التَّرْكِ- حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ فِي مَأْخَذِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً-؛ كَانَ ذَلِكَ بِصُورَةِ النَّوَافِلِ الرَّاتِبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّوَامِ فِي الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَأَمَرَهُمْ بِالدَّوَامِ حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَنْ عَاهَدَ ثُمَّ لَمْ يُوفِ بِعَهْدِهِ، فَيَصِيرَ مُعَاتَبًا، لَكِنَّ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ‏:‏

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يُطَاقُ، أَوْ مِمَّا فِيهِ حَرَجٌ أَوْ مَشَقَّةٌ فَادِحَةٌ، أَوْ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيعِ مَا هُوَ أَوْلَى؛ فَهَذِهِ هِيَ الرَّهْبَانِيَّةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

وَالْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ تَلْحَقُ بِسَبَبِهِ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ، أَوْ تَضْيِيعُ مَا هُوَ آكَدُ، فَهَاهُنَا أَيْضًا يَقَعُ النَّهْيُ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ‏.‏

وَجَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ، حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَشَدَّدْتُ فَشُدِّدَ عَلَيَّ ‏"‏، ‏"‏ وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنَّكَ لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ‏.‏

فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ اعْتُبِرَ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يُلْزَمُ ابْتِدَاءً أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْتِ‏!‏

قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَصِرْتُ إِلَى الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا كَبِرْتُ؛ وَدِدْتُ أَنِّي قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَيُطِيقُ أَحَدٌ ذَلِكَ‏؟‏‏!‏ ‏"‏، ثُمَّ قَالَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ‏:‏ ‏"‏ وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ ذَلِكَ ‏"‏، فَمَعْنَاهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَدِدْتُ أَنِّي طُوِّقْتُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا؛ فَقَدْ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَقُولُ‏:‏ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ‏:‏ كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ‏:‏ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ‏:‏ لَا يَصُومُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ‏]‏

إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نِيَّةِ الِالْتِزَامِ لَهُ إِنْ كَانَ فِي الْمُعْتَادِ، بِحَيْثُ إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهِ؛ أَوْرَثَ مَلَلًا، يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الِالْتِزَامَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، إِذْ هُوَ مُؤَدٍّ إِلَى أُمُورِ جَمِيعُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَهْدَى فِي هَذَا الدِّينِ التَّسْهِيلَ وَالتَّيْسِيرَ، وَهَذَا الْمُلْتَزِمَ يُشْبِهُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هَدِيَّتَهُ، وَذَلِكَ يُضَاهِي رَدَّهَا عَلَى مُهْدِيهَا، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَمْلُوكِ مَعَ سَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ‏؟‏‏!‏

وَالثَّانِي‏:‏ خَوْفُ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا هُوَ أَوْلَى وَآكَدُ فِي الشَّرْعِ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِخْبَارًا عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى؛تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُضْعِفْهُ الصِّيَامُ عَنْ لِقَاءٍ لِعَدُوٍّ فَيَفِرُّ وَيَتْرُكُ الْجِهَادَ فِي مَوَاطِنَ تُكَبِّدُهُ بِسَبَبِ ضَعْفِهِ‏.‏

وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ إِنَّكَ لَتُقِلُّ الصَّوْمَ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّهُ يَشْغَلُنِي عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ ‏"‏‏.‏

وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏"‏ لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ ‏"‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَا بَأْسَ بِهِ؛ مَا لَمْ يَضُرَّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ‏"‏‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي‏:‏ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ سَنْتَيْنِ، ثُمَّ إِنَّ الْإِفْطَارَ فِيهِ لِلْحَاجِّ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، وَلِابْنِ وَهْبٍ فِي ذَلِكَ حِكَايَةٌ‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ إِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِزُوَّارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفَسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَإِذَا انْقَطَعَ إِلَى عِبَادَةٍ لَا تَلْزَمُهُ فِي الْأَصْلِ؛ فَرُبَّمَا أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ‏.‏

وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ ‏(‏رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ‏)‏؛ قَالَ‏:‏ آخَرُ مَا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ مُتَبَذِّلَةً، فَقَالَ‏:‏ مَا شَأْنُكِ مُتَبَذِّلَةً‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ لَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا، قَالَ‏:‏ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؛ قَرَّبَ إِلَيْهِ طَعَامًا، فَقَالَ‏:‏ كُلْ؛ فَإِنِّي صَائِمٌ، قَالَ‏:‏ مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تَأْكُلَ، قَالَ‏:‏ فَأَكَلَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ؛ ذَهَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ نَمْ، فَنَامَ، ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ نَمْ، فَنَامَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ؛ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ‏:‏ قُمِ الْآنَ، فَقَامَا فَصَلَّيَا، فَقَالَ ‏(‏سَلْمَانُ‏)‏‏:‏ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ‏.‏ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ صَدَقَ سَلْمَانُ‏.‏

قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ صَحِيحٌ‏.‏

وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَمَعَ التَّنْبِيهَ عَلَى حَقِّ الْأَهْلِ بِالْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَالضَّيْفِ بِالْخِدْمَةِ وَالتَّأْنِيسِ وَالْمُؤَاكَلَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْوَلَدِ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِالِاكْتِسَابِ وَالْخِدْمَةِ، وَالنَّفْسِ بِتَرْكِ إِدْخَالِ الْمَشَقَّاتِ عَلَيْهَا، وَحَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ وَبِوَظَائِفَ أُخَرَ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ آكَدَ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِي لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ‏.‏

وَإِذَا الْتَزَمَ الْإِنْسَانُ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ الْمَنْدُوبَةِ أَوْ أَمْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً؛ فَقَدْ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِهَا، أَوْ عَنْ كَمَالِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَيَكُونُ مَلُومًا‏.‏

‏(‏وَالثَّالِثُ‏)‏‏:‏ خَوْفُ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الْمُلْتَزَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فُرِضَ مِنْ جِنْسِ مَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهِ، فَتَدْخُلُ الْمَشَقَّةُ، ‏(‏بِحَيْثُ‏)‏ لَا يُقَرِّبُ مِنْ وَقْتِ الْعَمَلِ؛ إِلَّا وَالنَّفْسُ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ، وَتَوَدُّ لَوْ لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَمَنَّى لَوْ لَمْ تَلْتَزِمْ‏.‏

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضُوا لِأَنْفُسِكُمْ عِبَادَةَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهَرًا أَبْقَى‏.‏

فَشَبَّهَ الْمُوغِلَ بِالْعُنْفِ بِالْمُنْبَتِّ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ؛ ‏[‏لِأَنَّهُ عَنَّفَ فِي أَوَّلِهِ‏]‏ تَعْنِيفًا عَلَى الظَّهْرِ- وَهُوَ الْمَرْكُوبُ- حَتَّى وَقَفَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّيْرِ، وَلَوْ رَفَقَ بِدَابَتِهِ؛ لَوَصَلَ إِلَى رَأْسِ الْمَسَافَةِ‏.‏

فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ؛ عُمُرُهُ مَسَافَةٌ، وَالْغَايَةُ الْمَوْتُ، وَدَابَّتُهُ نَفْسُهُ، فَكَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالرِّفْقِ عَلَى الدَّابَّةِ حَتَّى يَصِلَ بِهَا؛ فَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهَا قَطْعُ مَسَافَةِ الْعُمُرِ بِحِمْلِ التَّكْلِيفِ، فَنَهَى فِي الْحَدِيثِ عَنِ التَّسَبُّبِ فِي تَبْغِيضِ الْعِبَادَةِ لِلنَّفْسِ، وَمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ لَا يَكُونُ حَسَنًا‏.‏

وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ‏:‏ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا‏}‏، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ انْطَلِقَا فَبَشِّرَا وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا؛ فَإِنِّي أُنْزِلَتْ عَلَيَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا‏}‏‏.‏

وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرًا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا‏.‏

وَعَنْهُ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا‏.‏

وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّعْسِيرِ الَّذِي الْتِزَامُ الْحَرَجِ فِي التَّعَبُّدِ نَوْعٌ مِنْهُ‏.‏

وَفِي الطَّبَرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛قَالَ‏:‏ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ الرَّجُلَ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ وَالْقِسْطِ- ثَلَاثًا-؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا‏.‏

وَعَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَنْ هَذَا‏؟‏، فَقُلْتُ‏:‏ هَذَا فُلَانٌ، فَذَكَرْتُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ‏.‏

وَهَذَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الرِّضَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَخَافَةَ الْكَرَاهِيَةِ لِلْعَمَلِ، وَكَرَاهِيَةُ الْعَمَلِ مَظِنَّةٌ لِلتَّرْكِ الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِ نَقْضِ الْعَهْدِ، ‏(‏وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏)‏‏.‏

وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطْعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى ‏"‏، وَمَعَ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏ وَلَا تُبَغِّضُوا إِلَى أَنْفُسِكُمُ الْعِبَادَةَ؛يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُغْضَ الْعَمَلِ وَكَرَاهِيَتَهُ مَظِنَّةُ الِانْقِطَاعِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمُنْبَتِّ، وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْمَسَافَةِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏، عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ‏.‏

‏(‏وَالْخَامِسُ‏)‏‏:‏ الْخَوْفُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّ الْغُلُوَّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِيهِ إِلَى حَيِّزِ الْإِسْرَافِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ أَشْيَاءُ‏:‏

حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ‏!‏ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ‏}‏‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ‏:‏ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ الْعَقَبَةِ‏:‏ ‏"‏ اجْمَعْ لِي حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ ‏"‏، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ‏.‏

فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ يَشْتَمِلُ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ مَا هُوَ غُلُوٌّ وَإِفْرَاطٌ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ آنِفًا خَرَّجَهَا الطَّبَرِيُّ‏.‏

وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ؛قَالَ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يُقَالُ‏:‏ اعْمَلْ وَأَنْتَ مُشْفِقٌ، وَدَعِ الْعَمَلَ وَأَنْتَ تُحِبُّهُ‏:‏ عَمَلٌ دَائِمٌ وَإِنَّ قَلَّ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ مُنْقَطِعٍ ‏"‏‏.‏

وَأَتَى مُعَاذًا رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ أَوْصِنِي‏.‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَمُطِيعِي أَنْتَ‏؟‏ ‏"‏، قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ صَلِّ وَنَمْ، وَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَاكْتَسِبْ وَلَا تَأْتِ اللَّهَ إِلَّا وَأَنْتَ مُسْلِمٌ، وَإِيَّاكَ وَدَعْوَةَ الْمَظْلُومِ‏.‏

وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْدٍ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَبْدِ بْنِ مُطَرِّفٍ‏:‏ ‏"‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ‏!‏ الْعِلْمُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ‏.‏

وَمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ إِنَّ الْحَسَنَةَ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ‏:‏ أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ الْقَصْدُ وَالْعَدْلُ، وَالسَّيِّئَتَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّقْصِيرُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏}‏ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَمَعْنَى الْحَقْحَقَةِ‏:‏ أَرْفَعُ السَّيْرِ، وَإِتْعَابُ الظَّهْرِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْغُلُوِّ وَالْإِفْرَاطِ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُرَّةَ الْجُعْفِيِّ؛قَالَ‏:‏ ‏"‏ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَلَا تُبَغِّضْ إِلَيْكَ دِينَ اللَّهِ، وَأَوْغِلْ بِرِفْقٍ؛ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَمْ يَقْطَعْ بُعْدًا وَلَمْ يَسْبِقْ ظَهْرًا، وَاعْمَلْ عَمَلَ الْمَرْءِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِلَّا يَوْمًا، وَاحْذَرْ حَذَرَ الْمَرْءِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَمُوتُ غَدًا‏.‏

وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ‏.‏

وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ‏.‏

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ إِسْحَاقَ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَدْرَكْتُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَيْسَرَ سِيرَةً وَلَا أَقَلَّ تَشْدِيدًا مِنْهُمْ ‏"‏‏.‏

وَقَالَ الْحَسَنُ‏:‏ ‏"‏ دِينُ اللَّهِ وُضِعَ فَوْقَ التَّقْصِيرِ وَدُونَ الْغُلُوِّ ‏"‏‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ‏.‏

وَالْحَرَجُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْحَالِيِّ- كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا- كَذَلِكَ يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْمَآلِي، إِذْ كَانَ الْحَرَجُ لَازِمًا مَعَ الدَّوَامِ؛ كَقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ- مِمَّا تَقَدَّمَ-، مَعَ أَنَّ الدَّوَامَ مَطْلُوبٌ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنَّ قَلَّ، فَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، حَتَّى قَضَى رَكْعَتَيْ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ بَعْدَ الْعَصْرِ‏.‏

هَذَا؛ إِنْ كَانَ الْعَامِلُ لَا يَنْوِي الدَّوَامَ فِيهِ، فَكَيْفَ إِذَا عَقَدَ فِي نِيَّتِهِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ‏؟‏‏!‏ فَهُوَ أَحْرَى بِطَلَبِ الدَّوَامِ‏.‏

فَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو‏:‏ ‏"‏ يَا عَبْدَ اللَّهِ‏!‏ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، فَنَهَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كَرَاهِيَةِ التَّرْكِ مِنْ ذَلِكَ الْفُلَانِ وَغَيْرِهِ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةٌ لِلْمَشَقَّةِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَطْلُوبُ التَّرْكِ لِعِلَّةٍ أَكْثَرِيَّةٍ، فَفُهِمَ عِنْدَ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ إِذَا فُقِدَتْ؛ زَالَ طَلَبُ التَّرْكِ، وَإِذَا ارْتَفَعَ طَلَبُ التَّرْكِ؛ رَجَعَ إِلَى أَصْلِ الْعَمَلِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ‏.‏

فَالدَّاخِلُ فِيهِ عَلَى الْتِزَامِ شَرْطِهَ دَاخِلٌ فِي مَكْرُوهٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَجْهٍ؛ لِإِمْكَانِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ، وَفِي الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ؛ حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْوَفَاءِ، فَمِنْ حَيْثُ النَّدْبُ؛ أَمَرَهُ الشَّارِعُ بِالْوَفَاءِ، وَمِنْ حَيْثُ الْكَرَاهِيَةُ؛ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ‏.‏

وَحِينَ صَارَتِ الْكَرَاهَةُ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ؛ كَانَ دُخُولُهُ فِي الْعَمَلِ لِقَصْدِ الْقُرْبَةِ يُشْبِهُ الدُّخُولَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمْرٍ، فَأَشْبَهَ الْمُبْتَدِعَ الدَّاخِلَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهَا، فَقَدْ يُسْتَسْهَلُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ إِطْلَاقُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَسْهَلَهُ أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏.‏

وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَمَلُ مَأْمُورًا بِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، أَوْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ مَعَ اعْتِقَادِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ؛ أَشْبَهَ صَاحِبُهُ مَنْ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى أَدِلَّةِ النَّدْبِ‏.‏

وَلِذَلِكَ أُمِرَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ، كَانَ نَذْرًا أَوِ الْتِزَامًا بِالْقَلْبِ غَيْرَ نَذْرٍ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ؛ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَفَاءِ، وَلَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا‏.‏

وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ‏:‏ ‏"‏ مَا بَالُ هَذَا‏؟‏ ‏"‏، فَقَالُوا‏:‏ نَذَرَ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَلَا يَجْلِسَ وَيَصُومَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ‏.‏

فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ أَبْطَلَ عَلَيْهِ التَّبَدُّعَ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ أَلْبَتَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الْأَصْلِ، فَلَوْلَا ‏[‏أَنَّ‏]‏ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى؛ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مَفْهُومٌ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِذَا كَانَ الدَّاخِلُ مَأْمُورًا بِالدَّوَامِ؛ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الدُّخُولُ طَاعَةً، بَلْ لَا بُدَّ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ- فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ- لَا يُؤْمَرُ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ‏.‏

وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ‏.‏

وَلِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ أَوْفَى بِنَذْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بِالنَّذْرِ‏}‏ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ‏.‏

وَفِي آيَةِ الْحَدِيدِ‏:‏ ‏{‏فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏، وَلَا يَكُونُ الْأَجْرُ إِلَّا عَلَى مَطْلُوبٍ شَرْعًا‏.‏

فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى، فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَبِهِ يَرْتَفِعُ إِشْكَالُ التَّعَارُضِ الظَّاهِرِ لِبَادِيَ الرَّأْيِ، حَتَّى تَنْتَظِمَ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ وَسِيَرُ مَنْ تَقَدَّمَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى بَعْدَهَا إِشْكَالَانِ قَوِيَّانِ، وَبِالنَّظَرِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُمَا يَنْتَظِمُ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ عَلَى تَمَامِهِ، فَنَعْقِدُ فِي كُلِّ إِشْكَالٍ فَصْلًا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يَشُقُّ دَوَامُهَا مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ‏]‏

‏(‏الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ‏)‏‏:‏ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الِالْتِزَامَاتِ الَّتِي يَشُقُّ دَوَامُهَا مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ‏:‏

فَقَدَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ‏:‏ أَوْ لَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا‏؟‏‏!‏‏.‏

وَيَظَلُّ الْيَوْمَ الطَّوِيلَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ صَائِمًا‏.‏

وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ‏.‏ وَفِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي‏.‏

فَإِنَّ أَبَيْتُمْ هَذَا الدَّلِيلَ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ- وَلِذَلِكَ كَانَ رَبُّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ- وَكَانَ يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُهُ أُمَّتُهُ؛ فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ‏:‏

حَتَّى أَنْ بَعْضَهُمْ قَعَدَ مِنْ رِجْلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ التَّبَتُّلِ‏.‏

وَصَارَتْ جَبْهَةُ بَعْضِهِمْ كَرُكْبَةِ الْبَعِيرِ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ‏؟‏

وَجَاءَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ يَقْرَأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّهُ ‏"‏‏.‏

وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ صَلَّى الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ كَذَا كَذَا سَنَةً، وَسَرَدَ الصِّيَامَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً، وَكَانُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ، لَا يَمِيلُونَ عَنْهَا لَحْظَةً‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ أَنَّهُمَا كَانَا يُوَاصِلَانِ الصِّيَامَ‏.‏

وَأَجَازَ مَالِكٌ- وَهُوَ إِمَامٌ فِي الِاقْتِدَاءِ- صِيَامَ الدَّهْرِ؛ يَعْنِي‏:‏ إِذَا أَفْطَرَ أَيَّامَ الْعِيدِ‏.‏

وَمِمَّا يُحْكَى عَنْ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ بَلَغَنِي أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا سُجُودًا أَبَدًا‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏؛ يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَنَفَّلُ بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ فِيهَا الْقِيَامَ، وَتَارَةً الرُّكُوعَ، وَتَارَةً السُّجُودَ‏.‏

وَعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْضَرَّ جَسَدُهُ وَيَصْفَرَّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ‏:‏ وَيْحَكَ‏!‏ لِمَ تُعَذِّبْ هَذَا الْجَسَدَ‏؟‏ فَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏ إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ، إِنَّ الْأَمْرَ جِدٌّ ‏"‏‏.‏

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ‏:‏ أَنَّ امْرَأَةَ مَسْرُوقٍ قَالَتْ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ خَلْفَهُ أَبْكِي مِمَّا أَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ‏.‏

وَعَنِ الشَّعْبِيِّ؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ غُشِيَ عَلَى مَسْرُوقٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ‏:‏ أَفْطِرْ، قَالَ‏:‏ مَا أَرَدْتِ بِي‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ الرِّفْقَ، قَالَ‏:‏ يَا بُنْيَةُ‏!‏ إِنَّمَا طَلَبْتُ الرِّفْقَ لِتَعَبِي فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏"‏‏.‏

وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ‏:‏ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَتَيْتُ أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَعَدَ، فَقُلْتُ‏:‏ لَا أَشْغَلُهُ عَنِ التَّسْبِيحِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ قَامَ فَصَلَّى إِلَى الظُّهْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ، صَلَّى إِلَى الْعَصْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ؛ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ؛ صَلَّى إِلَى الْعِشَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ؛ صَلَّى إِلَى الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ؛ جَلَسَ، فَأَخَذَتْهُ عَيْنُهُ، ثُمَّ انْتَبَهَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَيْنٍ نَوَّامَةٍ، وَبَطْنٍ لَا تَشْبَعُ ‏"‏‏.‏

وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا هُوَ شَاقٌّ فِي الدَّوَامِ، فَى أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ وَلَمْ يَعُدَّهُمْ أَحَدٌ بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، بَلْ عَدُّوهُمْ مِنَ السَّابِقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَيْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ، بَلْ هُوَ عَنِ الْغُلُوِّ فِيهَا غُلُوًا يُدْخِلُ الْمَشَقَّةَ عَلَى الْعَامِلِ، فَإِذَا فَرَضْنَا مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ؛ فَلَا يَنْتَهِضُ النَّهْيُ فِي حَقِّهِ؛ كَمَا إِذَا قَالَ الشَّارِعُ‏:‏ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ، وَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ؛ اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مُشَوِّشٍ، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنَّهُ مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ، وَهَذَا صَحِيحٌ جَارٍ عَلَى الْأُصُولِ‏.‏

وَحَالُ مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ الْعِلَّةُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبَةِ الْخَوْفِ أَوِ الرَّجَاءِ أَوِ الْمَحَبَّةِ؛ فَإِنَّ الْخَوْفَ سَوْطٌ سَائِقٌ، وَالرَّجَاءَ حَادٍ قَائِدٌ، وَالْمَحَبَّةَ سَبِيلٌ حَامِلٌ، فَالْخَائِفُ إِنْ وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ فَالْخَوْفُ مِمَّا هُوَ أَشَقُّ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ مَا هُوَ أَهْوَنُ وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ شَاقًّا، وَالرَّاجِي يَعْمَلُ وَإِنْ وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الرَّاحَةِ التَّامَّةِ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ التَّعَبِ، وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ شَوْقًا إِلَى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، فَيُوهِنُ الْقُوَى، وَلَا يَرَى أَنَّهُ أَوْفَى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ وَلَا قَامَ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ، وَيَعْصِرُ الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنَّهُ قَضَى نَهْمَتَهُ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَجَازَ الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ الْتِزَامًا مَعَ الْإِيغَالِ فِيهِ‏:‏ إِمَّا مُطْلَقًا، وَإِمَّا مَعَ ظَنِّ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ دَخَلَتِ الْمَشَقَّةُ فِيمَا بَعْدُ؛ إِذَا صَحَّ مَعَ الْعَامِلِ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ‏.‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ النَّهْيِ صَحِيحٌ صَرِيحٌ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يُحْمَلَ ‏[‏عَلَى‏]‏ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا عَلَى التَّوَسُّطِ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةُ الدَّوَامِ، فَلَمْ يُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا لَعَلَّهُ يُدْخِلُ عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةَ حَتَّى يَتْرُكُوا بِسَبَبِهِ مَا هُوَ أَوْلَى، أَوْ يَتْرُكُوا الْعَمَلَ، أَوْ يُبَغِّضُوهُ لِثِقَلِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، بَلِ الْتَزَمُوا مَا كَانَ عَلَى النُّفُوسِ سَهْلًا فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّمَا طَلَبُوا الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَالَ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَمِلُوا بِمَحْضِ السُّنَّةِ وَالطَّرِيقَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الطَّبَرِيِّ فِي الْجَوَابِ‏.‏

وَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّؤَالِ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ؛ فَقَضَايَا أَحْوَالٍ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامِلَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ‏.‏

‏(‏وَالثَّانِي‏)‏‏:‏ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ لَا عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ، لَا بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ‏.‏

وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي أَعْمَالٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهَا وَلَا يَشُقُّ فِي الْحَالِ، فَيَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ؛ غَيْرَ نَاظِرٍ فِيهَا فِيمَا يَأْتِي، وَيَكُونُ جَارِيًا فِيهِ عَلَى أَصْلِ رَفْعِ الْحَرَجِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْهُ؛ تَرَكَهُ، وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ‏.‏

وَيُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ قَالَتْ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ‏:‏ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ‏:‏ لَا يَصُومُ، وَمَا رَأَيْتُهُ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ‏.‏‏.‏‏.‏، الْحَدِيثَ‏.‏

فَتَأَمَّلُوا وَجْهَ اعْتِبَارِ النَّشَاطِ، وَالْفَرَاغِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، أَوِ الْقُوَّةِ فِي الْأَعْمَالِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي صِيَامِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ‏:‏ ‏"‏ لَيْتَنِي طُوِّقْتُ ذَلِكَ ‏"‏؛ إِنَّمَا يُرِيدُ الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُوَالِي الصِّيَامَ حَتَّى يَقُولُوا لَا يُفْطِرُ‏.‏

وَلَا يُعْتَرَضُ ‏[‏عَلَى‏]‏ هَذَا الْمَأْخَذِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنَّ قَلَّ، وَأَنَّـ ‏[‏ـهُ‏]‏ كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ‏.‏

وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْهُمْ إِدَامَةُ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ وَقِيَامُ جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَصِيَامُ الدَّهْرِ‏.‏‏.‏‏.‏ وَنَحْوُهُ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَالًا يَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ، فَإِذَا أَتَى زَمَانٌ آخَرُ وَجَدَ فِيهِ النَّشَاطَ أَيْضًا وَإِذَا لَمْ يُخِلَّ بِمَا هُوَ أَوْلَى؛ عَمِلَ كَذَلِكَ، فَيَتَّفِقُ أَنْ يَدُومَ لَهُ هَذَا النَّشَاطُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ هُوَ فِي فُسْحَةِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ يَنْتَهِزُ الْفُرْصَةَ مَعَ الْأَوْقَاتِ، فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يَصْحَبَهُ النَّشَاطُ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ، فَيَظُنُّهُ الظَّانُّ الْتِزَامًا وَلَيْسَ بِالْتِزَامٍ‏.‏

وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ سَائِقِ الْخَوْفِ أَوْ حَادِي الرَّجَاءِ أَوْ حَامِلِ الْمَحَبَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ، فَلِذَلِكَ قَامَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، وَامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏}‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

‏(‏وَالثَّالِثُ‏)‏‏:‏ أَنَّ دُخُولَ الْمَشَقَّةِ وَعَدَمَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدَّوَامِ أَوْ غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا، بَلْ هُوَ إِضَافِيٌّ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قُوَّةِ أَجْسَامِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَوْ فِي قُوَّةَ يَقِينِهِمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ أَجْسَامِهِمْ وَأَنَفَاسِهِمْ، فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْوَى جِسْمًا، أَوْ أَقْوَى عَزِيمَةً، أَوْ يَقِينًا بِالْمَوْعِدِ، وَالْمَشَقَّةُ قَدْ تَضْعُفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُوَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَأَشْبَاهِهَا، وَتَقْوَى مَعَ ضَعْفِهَا‏.‏

فَنَحْنُ نَقُولُ‏:‏ كُلُّ عَمَلٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ؛ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ عَلَى عُمَرَ؛ فَلَا يُنْهَى عَنْهُ‏.‏

فَنَحْنُ نَحْمِلُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَاقًّا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ شَاقًّا عَلَيْنَا، فَلَيْسَ عَمَلُ مِثْلِهِمْ بِمَا عَمِلُوا بِهِ حُجَّةً لَنَا أَنْ نَدْخُلَ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ؛ إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَمْتَدَّ مَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ‏.‏

وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا لِمُشَاهَدَةِ الْجَمِيعِ، فَإِنَّ التَّوَسُّطَ وَالْأَخْذَ بِالرِّفْقِ هُوَ ‏(‏الْأَوْلَى‏)‏ وَالْأَحْرَى بِالْجَمِيعِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ؛ دُونَ الْإِيغَالِ الَّذِي لَا يَسْهُلُ مِثْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَلَا أَكْثَرِهِمْ؛ إِلَّا عَلَى الْقَلِيلِ النَّادِرِ مِنْهُمْ‏.‏

وَالشَّاهِدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي؛يُرِيدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْوِصَالُ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ‏.‏

فَعَلَى هَذَا؛ مَنْ رُزِقَ أُنْمُوذَجًا مِمَّا أُعْطِيَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَصَارَ يُوغِلُ فِي الْعَمَلِ مَعَ قُوَّتِهِ وَنَشَاطِهِ وَخِفَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ؛ فَلَا حَرَجَ‏.‏

وَأَمَّا رَدُّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَهِدَ بِأَنَّهُ لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَا كَانَ مُتَوَقَّعًا، حَتَّى قَالَ‏:‏ ‏"‏ لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏‏.‏

وَيَكُونُ عَمَلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا فِي الْوِصَالِ جَارِيًا عَلَى أَنَّهَمْ أُعْطُوا حَظًّا مِمَّا أُعْطِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَذْكُورٍ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ عَنِ السَّلَفِ مُخَالَفَةٌ لِمَا سَبَقَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ‏]‏

لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ‏.‏

وَمَا ذَكَرُوهُ فِيهِ صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نَظَرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ الْخَوْفُ مِنْ الِانْقِطَاعِ وَالتَّرْكِ إِذَا الْتُزِمَ فِيمَا يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ الْخَوْفُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِيمَا هُوَ الْآكَدُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَّلَ فِيهِ أَصْلًا رَاجِعًا إِلَى قَاعِدَةٍ مَعْلُومَةٍ لَا مَظْنُونَةٍ، وَهِيَ بَيَانُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحَرَجِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ؛ كَمَا أَنْ أَصْلَ الْحَرَجِ مَنْفِيٌّ عَنْهَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ، وَلَا سَمَاحَ مَعَ دُخُولِ الْحَرَجِ؛ فَكُلُّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ مَا يَلْقَى فِيهِ الْحَرَجَ؛ فَقَدْ يَخْرُجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِدْخَالُهُ لِلْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَا مِنَ الشَّارِعِ؛ فَإِنْ دَخَلَ فِي الْعَمَلِ عَلَى شَرْطِ الْوَفَاءِ؛ فَإِنْ وَفَّى؛ فَحَسَنٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ‏:‏ إِمَّا غَيْرُ شَاقٍّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهِ بِشَرْطِهِ، وَإِمَّا شَاقٌّ صَبَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُوفِ النَّفْسَ حَقَّهَا مِنَ الرِّفْقِ، وَسَيَأْتِي، وَإِنْ لَمْ يُوفِّ؛ فَكَأَنَّهُ نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ، وَهُوَ شَدِيدٌ، فَلَوْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الِالْتِزَامِ؛ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ مَا يَتَّقِي مِنْهُ‏.‏

لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ‏:‏ إِنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا مُعَلَّقٌ بِالرِّفْقِ الرَّاجِعِ إِلَى الْعَامِلِ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَدِ اعْتَبَرَ حَظَّ النَّفْسِ فِي التَّعَبُّدِ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ افْعَلْ وَاتْرُكْ؛ أَيْ‏:‏ لَا تَتَكَلَّفْ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ، كَمَا لَا تَتَكَلَّفُ فِي الْفَرَائِضِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَضَعَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ التَّيْسِيرِ مُشْتَرَكٍ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْضُ الْفَرَائِضِ يُدْخِلُ الْحَرَجَ عَلَى الْمُكَلَّفِ؛ يَسْقُطُ عَنْهُ جُمْلَةً، أَوْ عُوِّضَ عَنْهُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، كَذَلِكَ النَّوَافِلُ الْمُتَكَلَّمُ فِيهَا‏.‏

وَإِذَا رُوعِيَ حَظُّ النَّفْسِ؛ فَقَدْ صَارَ الْأَمْرُ فِي الْإِيغَالِ إِلَى الْعَامِلِ، فَلَهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهَا مِنْ حَظِّهَا، وَأَنْ يَسْتَعْمِلَهَا فِيمَا قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهَا بِالدَّوَامِ؛ بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُؤَصَّلَةِ فِي أُصُولِ الْمُوَافَقَاتِ فِي إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، فَلَا يَكُونُ إِذًا مَنْهِيًّا- عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ-، فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ مَا دَامَ طَالِبًا لَهُ، وَلَهُ الْخَيَرَةُ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ بِهِ، فَيَرْتَفِعُ الْوُجُوبُ؛ كَذَلِكَ جَاءَ النَّهْيُ حِفْظًا عَلَى حُظُوظِ النَّفْسِ، فَإِذَا أَسْقَطَهَا صَاحِبُهَا؛ زَالَ النَّهْيُ، وَرَجَعَ الْعَمَلُ إِلَى أَصْلِ النَّدْبِ‏.‏

وَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ حُظُوظَ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّلَبِ بِهَا قَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَلَا يَنْهَضُ مَا قُلْتُمْ، إِذْ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ خِيَرَةٌ فِيهِ‏.‏

فَكَمَا أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالرِّفْقِ بِغَيْرِهِ؛ كَذَلِكَ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ‏:‏

وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ، فَقَرَنَ حَقَّ النَّفْسِ بِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الطَّلَبِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ، وَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ إِلَّا عَلَى مَا كَانَ لَازِمًا‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُبِيحَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ دَمَهُ، وَلَا قَطْعَ طَرْفٍ مِنْ أَطْرَافِهِ، وَلَا إِيلَامَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْآلَامِ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ أَثِمَ وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ‏.‏

وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَرَاجِعٌ إِلَى خِيَرَتِهِ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَةً مِنْ حَقِّ اللَّهِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ- فِيمَا نَحْنُ فِيهِ- أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِلَى خِيَرَتِنَا بِإِطْلَاقٍ؛ لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ فِيهِ عَلَيْنَا، بَلْ كُنَّا نُخَيَّرُ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَإِلَى ذَلِكَ ‏[‏يُشِيرُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ؛ فَلْيُطِعْهُ‏]‏؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ بِخِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ مَحْضًا؛ لَجَازَ لِلنَّاذِرِ الْعِبَادَةَ أَنْ يَتْرُكَهَا مَتَى شَاءَ، وَيَفْعَلَهَا مَتَى شَاءَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، فَيَجْرِي مَا أَشْبَهَ مَجْرَاهُ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ حَبَّبَ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِنَا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّزْيِينِ تَشْرِيعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَحْسَنُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مَعَ شَرْعِيَّةِ الْمَشَقَّاتِ، وَإِذَا كَانَ الْإِيغَالُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يُورِثَ الْكَلَلَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالِانْقِطَاعَ- الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِتَحْبِيبِ الْإِيمَانِ وَتَزْيِينِهِ- فِي الْقُلُوبِ؛ كَانَ مَكْرُوهًا؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، فَلَمْ يَنْبَغِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمُكَلَّفِ عَلَى أَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ، وَأَحْكَامُهَا تَخْتَلِفُ حَسْبَمَا تُعْطِيهِ أُصُولُ الْأَدِلَّةِ‏.‏

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ حَقَّانِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا هُوَ آكَدُ فِي مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَلَوْ تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ؛ لَقَدَّمَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَصَارَ الْمَنْدُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرَ مَنْدُوبٍ، بَلْ صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، مِنْ ‏"‏ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ‏"‏، وَإِذَا صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ؛ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَامِلُ بِهِ إِذْ ذَاكَ مُتَعَبِّدًا لِلَّهِ بِهِ‏؟‏‏!‏ بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي أُصُولِ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ النَّدْبِ عَتِيدٌ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا التَّعَبُّدِ مَانِعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ حُضُورُ الْوَاجِبِ، فَإِنْ عَمِلَ بِالْوَاجِبِ؛ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُخْلِصٍ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الِالْتِزَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ، وَإِنْ عَمِلَ بِالْمَنْدُوبِ؛ عَصَى بِتَرْكِ الْوَاجِبِ‏.‏

وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي الْمَنْدُوبِ‏:‏ هَلْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ فِي النَّدْبِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ هُنَا وَاجِبٌ عَقْلًا؛ فَقَدْ يَنْهَضُ الْمَنْدُوبُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا؛ بَعُدَ مِنَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ؛ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَا، وَفِيهِ أَيْضًا مَا فِيهِ‏.‏

فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْتِزَامِ النَّوَافِلِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ‏[‏مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ، وَمِنْ هُنَا يُصْبِحُ تَرْكُهُ‏]‏ فَرْضًا إِذَا كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْحَرَجِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الِالْتِزَامُ صَادًّا عَنِ الْوَفَاءِ بِالْوَاجِبَاتِ مُبَاشَرَةً، قَصْدًا أَوْ غَيْرَ قَصْدٍ‏.‏

وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، إِذْ كَانَ الْتِزَامُ قِيَامِ اللَّيْلِ مَانِعًا لَهُ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الزَّوْجَةِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَكَذَلِكَ الْتِزَامُ صِيَامِ النَّهَارِ‏.‏

وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْتِزَامُ صَلَاةِ الضُّحَى أَوْ غَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ مُخِلًّا بِقِيَامِهِ عَلَى مَرِيضِهِ الْمُشْرِفِ وَالْقِيَامِ عَلَى إِغَاثَةِ أَهْلِهِ بِالْقُوتِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَيَجْرِي مَجْرَاهُ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي رُتْبَتِهِ- أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ يُفْضِي بِهِ إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ، أَوْ نَهْكِ قُوَاهُ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الِاكْتِسَابِ لِأَهْلِهِ، أَوْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ عَلَى وَجْهِهَا، أَوِ الْجِهَادِ، أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ؛ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ أَنَّهُ‏:‏ ‏"‏ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ ‏(‏يَوْمًا‏)‏، وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي مَفْرُوضِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ مِنَ التَّخْيِيرِ مَا جَاءَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ‏:‏ إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ‏:‏ ‏"‏ فَأَصْبَحْنَا مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ ثُمَّ سِرْنَا، فَنَزَلْنَا مَنْزَلًا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّكُمْ تُصَبِّحُونَ عَدُوَّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فَأَفْطِرُوا‏.‏

قَالَ‏:‏ فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الصِّيَامَ رُبَّمَا أَضْعَفَ عَنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَعَمَلِ الْجِهَادِ، فَصِيَامُ النَّفْلِ أَوْلَى بِهَذَا الْحُكْمِ‏.‏

وَعَنْ جَابِرٍ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يُظَلَّلُ عَلَيْهِ وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ؛يَعْنِي‏:‏ أَنَّ الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا- لَيْسَ بِرًّا فِي السَّفَرِ إِذَا بَلَغَ بِهِ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْحَدَّ، مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ، فَالرُّخْصَةُ إِذًا مَطْلُوبَةٌ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ بِهِ آكَدَ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصْلِهِ أَوْلَى‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ؛ فَلَمْ يَأْتِ طَرِيقَ الْبِرِّ عَلَى حَدِّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الرَّدُّ عَلَى إِشْكَالِ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ‏]‏

إِذَا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ؛ وَرَدَ الْإِشْكَالُ الثَّانِي‏:‏

وَهُوَ أَنَّ الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ، وَإِذَا خَالَفَتْ؛ فَالْمُتَعَبِّدُ بِهَا- عَلَى ذَاكَ التَّقْدِيرِ- مُتَعَبِّدٌ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، فَإِمَّا أَنْ تَنْتَظِمَهَا أَدِلَّةُ ذَمِّ الْبِدْعَةِ أَوْ لَا‏:‏

فَإِنِ انْتَظَمَتْهَا أَدِلَّةُ الذَّمِّ؛ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَمْرَيْنِ‏:‏

‏(‏أَحَدُهُمَا‏)‏‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَا كَرِهَ، وَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؛تَرَكَهُ بَعْدُ عَلَى الْتِزَامِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ فَهِمَ مِنْهُ بَعْدَ نَهْيِهِ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ؛ لَمَا الْتَزَمَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ‏:‏ لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏!‏ فَلَوْ قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا بِدْعَةٌ- وَقَدْ ذُمَّ كُلُّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ-؛ لَكَانَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى خَطَأٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ‏.‏

كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتْقَى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ وِصَالِ الصِّيَامِ وَأَشْبَاهِهِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهَا بِدْعَةٌ‏.‏

‏(‏الثَّانِي‏)‏‏:‏ أَنَّ الْعَامِلَ بِهَا دَائِمًا بِشَرْطِ الْوَفَاءِ؛ إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ، فَأَدَّاهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَارْتَفَعَ النَّهْيُ إِذًا، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلدَّلِيلِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذًا‏.‏

وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَهَا، فَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارٍ؛ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ كَالنَّاذِرِ يَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَلَا يُسَمَّى تَرْكُهُ بِدْعَةً، وَلَا عَمَلُهُ فِي وَقْتِ الْعَمَلِ بِدْعَةً، وَلَا يُسَمَّى بِالْمَجْمُوعِ مُبْتَدِعًا، وَإِنْ كَانَ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْذَارِ؛ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ؛ كَمَا لَا ‏[‏يَكُونُ‏]‏ مُخَالِفًا فِي الْوَاجِبِ إِذَا عَارَضَهُ فِيهِ عَارِضٌ، كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَالْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذًا‏.‏

وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَنْتَظِمْهَا أَدِلَّةُ الذَّمِّ؛ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ هَذَا الْأَصْلُ كُلَّ مُلْتَزَمٍ تَعَبُّدِيٍّ كَانَ لَهُ أَصْلٌ أَمْ لَا‏؟‏ لَكِنْ فَحَيْثُ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ كَتَخْصِيصِ لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَيَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، أَوْ بِرَكَعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيَامِ لَيْلَةِ أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْتِزَامِ الدُّعَاءِ جَهْرًا بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَعَ انْتِصَابِ الْإِمَامِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ أَصْلٌ جَلِيٌّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَرِمُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ تَأْصِيلُهُ‏.‏

وَالْجَوَابُ‏:‏

عَنِ الْأَوَّلِ‏:‏ أَنَّ الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ النَّهْيِ الْإِرْشَادُ لِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ؛ فَإِنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ خَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ مِنْ أَمْرٍ مُتَوَقَّعٍ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا‏:‏ ‏"‏ إِنَّ النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنَّمَا كَانَ رَحْمَةً لِلْأُمَّةِ ‏"‏، وَقَدْ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوِصَالِ كَالْمُنَكِّلِ بِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ لَمَا فَعَلَ‏.‏

فَانْظُرْ كَيْفَ اجْتَمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ‏.‏

وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ مَا يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ؛ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْهُ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَيُجِيزُونَ الْبَيْعَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَيَجْعَلُونَهُ فَاسِدًا، وَإِنْ وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ فِيهِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ، بَلْ إِلَى أَمْرٍ يُجَاوِرُهُ، وَبِذَلِكَ يُعَلِّلُ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قَالَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ زَجْرٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، لَا لِأَجْلِ النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ أَيْضًا، وَلَا النَّهْيُ رَاجِعٌ إِلَى نَفْسِ الْبَيْعِ‏.‏

فَالْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ شَيْءٌ، وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ يُوفِي بِهَا أَوْ لَا شَيْءٌ آخَرُ، فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا الْتَزَمَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا الْتَزَمَ، وَنَهْيُهُ إِيَّاهُ ابْتِدَاءً لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّدَافُعُ، وَهُوَ مُحَالٌ‏.‏

إِلَّا أَنَّ هَاهُنَا نَظَرًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَالْمُرْشِدِ لِلْمُكَلَّفِ وَكَالْمُتَبَرِّعِ بِالنَّصِيحَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَظِنَّةِ الِاسْتِنْصَاحِ، فَلَمَّا اتَّكَلَّ الْمُكَلَّفُ عَلَى اجْتِهَادِهِ دُونَ نَصِيحَةِ النَّاصِحِ الْأَعْرَفِ بِعَوَارِضِ النُّفُوسِ؛ صَارَ كَالْمُتَّبِعِ لِرَأْيِهِ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، فَإِنْ سُمِّيَ فِي اللَّفْظِ بِدْعَةً؛ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَإِلَّا؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ الْمَنْصُوصِ مِنْ صَاحِبِ النَّصِيحَةِ، وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ‏.‏

وَمِنْ هُنَا قِيلَ فِيهَا‏:‏ إِنَّهَا بِدْعَةٌ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضَافِيَّةً‏:‏ أَنَّ الدَّلِيلَ فِيهَا مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الدَّوَامُ عَلَيْهَا، وَرَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ وَفَّى بِشَرْطِهَا، وَلِذَلِكَ وَفَّى بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بَعْدَمَا ضَعُفَ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهَا بَعْضُ الْحَرَجِ حَتَّى تَمَنَّى قَبُولَ الرُّخْصَةِ؛ بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مَفْقُودٌ حَقِيقَةً؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا‏.‏

فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ خَطَأِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا مُتَقَارِبٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ فِي الْإِشْكَالِ‏:‏ ‏"‏ إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ فَأَدَّى الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا‏.‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إِلَى آخِرِهِ؛ فَصَحِيحٌ؛ إِلَّا قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏ فَإِنْ تَرَكَهَا لِعَارِضٍ؛ فَلَا حَرَجَ؛ كَالْمَرِيضِ ‏"‏؛ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ثَمَّ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَهَا بِسَبَبٍ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنْ لَيْسَ مِنْ سَبَبِهِ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ- مَثَلًا- بِاخْتِيَارِهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَتَرْكَهُ لِمَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ، فَإِنْ عَمِلَ فِي سَبَبٍ يُلْحِقُهُ عَادَةً بِالْمَرِيضِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْجِهَادِ؛ فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَمِنْ حَيْثُ تَسَبُّبُهُ فِي الْمَانِعِ لَا يَكُونُ مَحْمُودًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ أَوْ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمُكَلَّفُ قَدْ خَالَفَ النَّهْيَ، وَمِنْ حَيْثُ وَقَعَ لَهُ الْحَرَجُ الْمَانِعُ فِي الْعِبَادَةِ مِنْ أَدَائِهَا عَلَى وَجْهِهَا؛ قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا، فَصَارَ هُنَا نَظَرٌ بَيْنَ نَظَرَيْنِ، لَا يَتَخَلَّصُ مَعَهُ الْعَمَلُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَقْسَامِ الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ ‏"‏، فَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَذَاكَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ هُوَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ يُشْبِهُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَيُشْبِهُ الْمُبَاحَ مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى التَّارِكِ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، لَا يَتَخَلَّى إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ إِلَّا أَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ الْعَمَلِ شَرْطًا كَمَا شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ تَرْكِهِ شَرْطًا‏:‏

فَشَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ‏:‏ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ مُدْخَلًا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْحَرَجِ الْمُؤَدِّي إِلَى انْخِرَامِ النَّدْبِ فِيهِ رَأْسًا، أَوِ انْخِرَامِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا وَرَاءَ هَذَا مَوْكُولٌ إِلَى خِيَرَةِ الْمُكَلَّفِ‏.‏

فَإِذَا دَخَلَ فِيهِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى قَصْدِ انْخِرَامِ الشَّرْطِ أَوْ لَا‏:‏

فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الشَّارِعَ طَالَبَهُ بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهُوَ يُطَالِبُ نَفْسَهُ بِوَضْعِهِ وَإِدْخَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَتَكْلِيفِهَا مَا لَا يُسْتَطَاعُ، مَعَ زِيَادَةِ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ‏.‏

وَإِنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَجْرِيَ الْمَنْدُوبُ عَلَى مَجْرَاهُ أَوْ لَا‏:‏

فَإِنْ أَجْرَاهُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَفْعَلَ مِنْهُ مَا اسْتَطَاعَ إِذَا وَجَدَ نَشَاطًا وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى ‏(‏مِمَّا دَخَلَ فِيهِ‏)‏؛ فَهُوَ مَحْضُ السُّنَّةِ الَّتِي لَا مَقَالَ فِيهَا؛ لِاجْتِمَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِذْ قَدْ أُمِرَ فَهُوَ غَيْرُ تَارِكٍ، وَنُهِيَ عَنِ الْإِيغَالِ وَإِدْخَالِ الْحَرَجِ فَهُوَ مُتَحَرِّزٌ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ كَانَ شَأْنَ ‏(‏السَّلَفِ‏)‏ الْأُوَلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ‏.‏

وَإِنْ لَمْ يُجْرِهِ عَلَى مَجْرَاهُ، وَلَكِنَّهُ أَدْخَلَ فِيهِ رَأْيَ الِالْتِزَامِ وَالدَّوَامِ؛ فَذَلِكَ الرَّأْيُ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، لَكِنْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّ الْوَفَاءَ- إِنْ حَصَلَ- فَهُوَ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- كَفَّارَةُ النَّهْيِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَعْنَى الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ الْمُوفِينَ بِالنَّذْرِ وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلِ الْوَفَاءُ؛ تَمَحَّضَ وَجْهُ النَّهْيِ، وَرُبَّمَا أَثِمَ فِي الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ‏.‏

وَلِأَجْلِ احْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبِدْعَةِ، لَا لِأَجْلِ أَنَّهُ عَمَلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمٌ‏.‏

وَلِذَلِكَ؛ إِذَا الْتَزَمَ الْإِنْسَانُ بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الدَّوَامَ فِيهَا لَا يُوقِعُ فِي حَرَجٍ أَصْلًا، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا، لَمْ يَقَعْ فِي نَهْيٍ، بَلْ فِي مَحْضِ الْمَنْدُوبَاتِ؛ كَالنَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ فِي آثَارِهَا، وَالذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ الْمُلْتَزَمِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ أَوْلَى، وَلَا يُدْخِلُ حَرَجًا بِنَفْسِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ‏.‏

وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جَاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلَى اخْتِيَارِهِمْ؛ لِأَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ‏"‏، وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَنَّ الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ‏"‏، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ- كَمَا تَرَى- نَظَرًا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- إِلَى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وَإِنْ كَانَ شَهْرًا فِي السَّنَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَوْ أَنَّهُ أَظْهَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَصْلِهِ وَاقِعًا كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا؛ قَالَ‏:‏ ‏"‏ نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ ‏"‏، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ ‏"‏ نِعْمَ ‏"‏ الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ التَّعَجُّبِ لَوْ قَالَ‏:‏ مَا أَحْسَنَهَا مِنْ بِدْعَةٍ‏!‏ وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً‏.‏

وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبِي أُمَامَةَ مُسْتَشْهِدًا بِالْآيَةِ، حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏"‏ أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ ‏"‏؛ إِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ‏:‏ ‏"‏ فَدُومُوا عَلَيْهِ ‏"‏، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لَنَهَى عَنْهُ‏.‏

وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجْرَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا نَهَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ مِنَ التَّعَبُّدِ الْمُخَوِّفِ الْحَرَجَ فِي الْمَآلِ، وَاسْتَسْهَلْنَا وَضْعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِهَا وَوَضْعِهَا فِي الشَّرْعِ مَوَاضِعَهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهَا مُغْتَرٌّ، فَيَأْخُذَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَجَشَّمْنَا إِطْلَاقَ اللَّفْظِ هُنَا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْعَلَ لَوْلَا الضَّرُورَةُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏