فصل: باب المستحاضة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب طهر الحائض

105- مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين أنها قالت كان النساء يبعثن إلى عائشة أم المؤمنين بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيضة يسألنها عن الصلاة فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة‏.‏

106- عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته عن ابنة زيد بن ثابت أنه بلغها أن نساء كن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ينظرن إلى الطهر فكانت تعيب ذلك عليهن وتقول ما كان النساء يصنعن هذا وفي حديث عائشة هذا ما كان نساء السلف عليه من الاهتبال بأمر الدين وسؤال من يطمع بوجود علم ما أشكل عليهن عنده قالت عائشة رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن قال أبو عمر وهكذا المؤمن مهتبل بأمر دينه فهو رأس ماله كما قال الحسن رأس مال المؤمن دينه لا يخلفه في الرحال ولا يأتمن عليه الرجال‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏الدرجة‏)‏‏)‏ فمن رواه هكذا فهو على تأنيث الدرج وكان الأخفش يرويه الدرجة ويقول ‏(‏هي‏)‏ جمع درج مثل خرجه خرج وترسه وترس‏.‏

وأما الكرسف فالقطن والصفرة بقية دم الحيض واختلف قول مالك في الصفرة والكدرة ففي ‏(‏‏(‏المدونة‏)‏‏)‏ لابن القاسم عنه أنه قال في المرأة ترى الصفرة والكدرة في أيام حيضتها وفي غير أيام حيضتها قال مالك ذلك حيض وإن لم تر مع ذلك دما وذكر بن عبدوس في المجموعة لعلي بن زياد عن مالك قال ما رأت المرأة من الصفرة والكدرة في أيام الحيض أو في أيام الاستطهار فهو كالدم وما رأته بعد ذلك فهو استحاضة وهذا قول صحيح إلا أن الأول أشهر عنه وقد اختلف علماء المدينة على هذين القولين‏.‏

وأما قول الشافعي والليث بن سعد وعبيد الله بن الحسين فهو أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تكون الكدرة حيضا إلا بأثر الدم وهو قول داود أن الصفرة والكدرة لا تعد حيضا إلا بعد الحيض لا قبله لأن الأمة قد اختلفت فيهما قبل الحيض وبعده فما اختلفوا فيه من ذلك قبل لم يثبت إذ لا دليل عليه‏.‏

وأما اختلافهم فيهما بعد فلن يزول ما أجمعوا عليه إلا بالإجماع وهو النقاء بالجفوف والقصة البيضاء واحتج بحديث أم عطية ‏(‏‏(‏كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا‏)‏‏)‏‏.‏

قال تريد بعد الطهر‏.‏

وأما ما اتصل منها بالحيض فهو من الحيض قال أبو عمر القياس أن الصفرة والكدرة قبل الحيض وبعده سواء كما أن الحيض في كل زمان سواء وما احتج به داود لا معنى له واختلف أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة في ذلك أيضا فمرة قالوا الصفرة والكدرة حيض في أيامها المعهودة ومرة قالوا ليس ذلك بحيض على جميع الأحوال ولم يختلف قول مالك وأصحابه أنها حيض في أيام الحيض‏.‏

وأما قول عائشة ‏(‏‏(‏لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء‏)‏‏)‏ فإنها تريد لا تعجلن بالاغتسال إذا رأيتن الصفرة لأنها بقية من الحيضة حتى ترين القصة البيضاء وهو الماء الأبيض الذي يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض ‏(‏يشبه‏)‏ لبياضه بالقص وهو الجص ومنه الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقصيص القبور ويروى عن تجصيص القبور يريد تلبيسها بالجص واختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر ففي ‏(‏‏(‏المدونة‏)‏‏)‏‏.‏

قال مالك إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتى تراها إلا أن يطول ذلك بها وقال بن حبيب تطهر بالجفوف وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء قال والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء فمن كان طهرها القصة البيضاء فرأت الجفوف فقد طهرت قال ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف قال وذلك أن أول الحيض دم ثم صفرة ثم كدرة ثم يكون نقاء كالقصة ثم ينقطع فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض قال والجفوف أبرأ وأوعب وليس بعد الجفوف انتظار شيء‏.‏

وأما قول ابنة زيد بن ثابت فإنما أنكرت على النساء افتقادهن أحوالهن في غير أوقات الصلوات وما قاربها لأن جوف الليل ليس بوقت للصلاة وإنما على النساء افتقاد أحوالهن ‏(‏للصلاة‏)‏ في أوقات الصلوات فإن كن قد طهرن تأهبن بالغسل لما عليهن من الصلاة وفي هذا الباب سئل مالك عن الحائض تطهر فلا تجد ماء أتتيمم قال نعم فإن مثلها مثل الجنب إذا لم يجد الماء تيمم وهذا إجماع - كما قال - مالك - لا خلاف فيه والحمد لله ه‏.‏

22- باب جامع الحيضة

107- مالك أنه بلغه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت في المرأة الحامل ترى الدم أنها تدع الصلاة وهذه مسألة اختلف العلماء فيها قديما وحديثا بالمدينة وغيرها واختلف فيها عن عائشة أيضا وعن سعيد بن المسيب وعن بن شهاب‏.‏

108- ذكر مالك أنه سأل بن شهاب عن ‏(‏المرأة‏)‏ الحامل ترى الدم قال تكف عن الصلاة قال مالك وذلك الأمر عندنا ولم يختلف عن يحيى بن سعيد وربيعة أن الحامل إذا رأت دما فهو حيض تكف من أجله عن الصلاة وهو قول مالك وأصحابه والليث بن سعد والشافعي في أحد قوليه وهو قول قتادة وبه قال عبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه وأبو جعفر الطبري وذكر حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال لا يختلف عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم إنها تمسك عن الصلاة حتى تطهر وقد روى عن بن عباس أن الحامل تحيض والله أعلم واختلف عن مالك هل تستطهر أم لا فروى عنه بن القاسم وعلي بن زياد أنها لا تستطهر وإليه ذهب المغيرة وعبد الملك وأبو مصعب والزهري وروى عنه أشهب ومطرف وبن عبد الحكم أنها تستطهر بثلاثة أيام وهو قول أصبغ وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وعبد الله بن الحسن العنبري والحسن بن صالح بن يحيى ليس ما تراه الحامل على حملها من الدم والصفرة والكدرة حيضا وإنما هو استحاضة لا يمنعها من الصلاة وبه قال داود بن علي وهو قول مكحول الدمشقي والحسن البصري ورواية عن بن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر وجابر بن زيد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح والشعبي وإبراهيم النخعي وحماد وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد وأبو ثور ذكر دحيم قال حدثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أنه سمع الزهري يقول الحامل لا تحيض فلتغتسل ولتصل ‏(‏قال ولا يكون حيض على حمل‏)‏‏.‏

وحدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمرو الأوزاعي عن الزهري مثل ذلك وقد روي عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن الحامل تحيض ذكره دحيم قال حدثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل قال‏.‏

وحدثنا الوليد قال‏.‏

وحدثنا الليث عن ربيعة قال الحامل إذا رأت الدم لم تصل لا قبل خروج الولد ولا بعده والحجة لكلا القولين من جهة النظر تكاد أن تتوارى وكلهم يمنع الحامل من الصلاة إذا كانت في الطلق وضربة المخاض لأنه عندهم دم نفاس ولأصحاب مالك في الحامل ترى الدم اضطراب من أقوالهم ورواياتهم عن مالك قد ذكرناها في كتاب اختلاف قول مالك وأصحابه وأصح ما في مذهب مالك عند أولي الفهم من أصحابنا رواية أشهب أن الحامل والحائل إذا رأتا الدم سواء في الاستطهار وسائر أحكام الحيض وإليه ذهب عبد الملك بن حبيب قال ‏(‏‏(‏وأول الحمل وآخره في ذلك سواء وهو الصحيح من مذهب مالك والشافعي والله أعلم وروى أبو زيد عن عبد الملك بن الماجشون في الحامل ترى الدم تقعد أيام حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تستطهر قال ولقد قال أكثر الناس إن الحامل إذا رأت الدم لم تمسك عن الصلاة لأن الحامل عندهم لا تحيض وروى عن المغيرة المخزومي أنه قال الحامل وغيرها سواء وهو قول أصبغ رواه أبو زيد عنه وذكر بن عبدوس عن سحنون أنه أنكر رواية مطرف عن مالك في الحامل التي أيامها في الشهور وقال ليس هذا مذهب مالك ولا غيره وهو خطأ ولا تكون امرأة نفساء إلا بعد الولادة قال أبو عمر رواية مطرف هذه وقوله بها قول ضعيف يزدريه أهل العلم واختلف أهل التأويل في ‏(‏معنى ‏)‏ قوله تعالى ‏(‏وما تغيض الأرحام وما تزداد ‏[‏الرعد 8‏]‏‏.‏

فقال جماعة منهم ما تغيض الأرحام ما تنقص من التسعة الأشهر وما تزداد عليها وممن روي ذلك عنه بن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعطية العوفي فهؤلاء ومن تابعهم قالوا معنى الآية نقصان الحمل عن التسعة الأشهر وقال آخرون بل ‏(‏هو‏)‏ خروج الدم وظهوره من الحائل واستمساكه وزيادته على التسعة الأشهر روي ذلك أيضا عن جماعة منهم عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وسنذكر اختلاف الفقهاء في مدة الحمل لأنهم اختلفوا في أكثرها ولم يختلفوا في أقلها أنه ستة أشهر - في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله‏.‏

109- وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت ‏(‏‏(‏كنت أرجل ‏(‏ 1‏)‏ رأس رسول الله وأنا حائض‏)‏‏)‏ ففيه تفسير لقوله تعالى ‏(‏فاعتزلوا النساء في المحيض ‏[‏البقرة 222‏]‏‏.‏

لأن اعتزالهن كان يحتمل ألا يقربن ولا يجتمع معهن ويحتمل أن يكون اعتزال الوطء خاصة فأتت السنة بما قدمنا في حديث أنس من أنه أراد الجماع على حسب ما وصفنا وبمثل ذلك معنى ترجيل عائشة - وهي حائض - لرأسه عليه السلام وذكرنا في التمهيد من قال عن مالك في هذا الحديث عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وأنا في حجرتي وهو معتكف فأرجله وأنا حائض وذكرنا معاني الاعتكاف وحكم المباشرة فيها والحمد لله وفي ترجيل عائشة لرأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حائض - دليل على طهارة الحائض وأنه ليس منها شيء نجس غير موضع الحيض ولذلك قال لها - عليه السلام ‏(‏‏(‏إن حيضتك ليست في يدك‏)‏‏)‏ حين سألها أن تناوله الخمرة فقالت إني حائض وفيه ترجيل الشعر وفي ترجيله لشعره -عليه السلام- وسواكه وأخذه من شاربه ونحو ذلك ما يدل على أنه ليس من السنة ولا الشريعة ما خالف النظافة وحسن الهيئة في اللباس والزينة التي من شكل الرجال - للرجال ومن شكل النساء للنساء ويدل على أن قوله عليها السلام ‏(‏‏(‏البذاذة من الإيمان‏)‏‏)‏ أراد به اطراح الشهوة في الملبس والإسراف فيه الداعي إلى التبختر والبطر ليصح معاني الآثار ولا تتضاد ومن معنى هذا الحديث حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الترجل إلا غبا يريد عند الحاجة لئلا يكون ثائر الرأس شعثه كأنه شيطان كما جاء عنه عليه السلام وقد ذكرنا الآثار المرفوعة في معاني هذا الباب وشواهد بما وصفنا في مواضع من التمهيد والحمد لله‏.‏

110- وأما حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر الصديق أنها قالت سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرصه ‏(‏3‏)‏ ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل فيه‏)‏‏)‏ فقوله فيه عن أبيه غلط لأن أصحاب هشام بن عروة كلهم يقول فيه عن فاطمة بنت المنذر وهي امرأته ولم يرو عنها أبوه شيئا وإنما هشام يروي عنها هذا الحديث وغيره‏.‏

وأما قوله ‏(‏‏(‏فلتقرصه‏)‏‏)‏ يعني تعركه وتحته وتزيله بظفرها ثم تجمع عليه أصابعها فتغسل موضعه بالماء وقوله ‏(‏‏(‏ ولتنضحه‏)‏‏)‏ يريد ولتغسله والنضح الغسل وهو المعروف في اللسان العربي أنه قد يراد بالنضح الغسل بالماء وهذا الحديث أصل في غسل النجاسات من الثياب لأن الدم نجس إذا كان مسفوحا ومعنى المسفوح الجاري الكثير ولا خلاف أن الدم المسفوح رجس نجس وأن القليل من الدم الذي لا يكون جاريا مسفوحا متجاوز عنه وليس الدم كسائر النجاسات التي قليلها رجس مثل كثيرها وقد ذكرت في التمهيد عن أبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر قال أدركت فقهاءنا يقولون ما أذهبه الحك من الدم فلا يضر‏.‏

وأما أخرجه الفتل مما يخرج من الأنف فلا يضر وقال مجاهد لم يكن أبو هريرة يرى بالقطرة والقطرتين من الدم بأسا في الصلاة وتنخم بن أبي أوفى دما في الصلاة وعصر بن عمر بثرة فخرج منها شيء من دم أو قيح فمسحه بيده وصلى ولم يتوضأ وذكر بن المبارك عن المبارك بن فضالة عن الحسن أن النبي -عليه السلام- كان يقتل القملة في الصلاة ومعلوم أن في قتل القملة دما يسيرا وقد ذكرنا هذه الآثار بأسانيدها في التمهيد وقد تقدم في فتل سالم لما خرج من أنفه من الرعاف وفي هذا المعنى كفاية وأجمع العلماء على غسل النجاسات كلها من الثياب والبدن وألا يصلى بشيء منها في الأرض ولا في الثياب‏.‏

وأما العذرات وأبوال ما لا يؤكل لحمه فقليل ذلك وكثيره رجس وكثيره رجس نجس عند الجمهور من السلف وعليه فقهاء الأمصار واختلفوا هل غسل النجاسات على ما وصفنا فرض أو سنة فقال منهم قائلون غسلها فرض واجب ولا تجزئ صلاة من صلى بثوب نجس عالما كان بذلك أو ساهيا عنه واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الأنجاس من الثياب والأرض والبدن فمن ذلك حديث هذا الباب وهو حديث أسماء في غسل دم الحيض من الثوب ولم تخص منه مقدار درهم من غيره ومنها أمره بصب الماء على بول الصبي إذا بال في حجره ومنها أمره بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي إذ بال في المسجد ومنها أنه قال -عليه السلام- ‏(‏‏(‏أكثر عذاب القبر في البول‏)‏‏)‏ واحتجوا بإجماع الجمهور الذين هم الحجة على من شذ عنهم ولا يعد خلافهم خلافا عليهم - أن من صلى عامدا بالنجاسة يعلمها في بدنه أو ثوبه أو على الأرض التي صلى عليها وهو قادر على إزاحتها واجتنابها وغسلها ولم يفعل وكانت كثيرة أن صلاته باطلة وعليه إعادتها كمن لم يصلها فدل هذا على ما وصفنا من أمر رسول الله بغسل النجاسات وغسلها له من ثوبه على أن غسل النجاسة فرض واجب وإذا كان فرضا غسلها لم يسقط فرض غسلها على من نسيه وصلى بثوب نجس لأن الفرائض لا يسقطها النسيان كما لو نسي مسح رأسه أو غير ذلك من فرائض وضوئه أو صلاته وممن ذهب إلى هذا في غسل النجاسة قليلها وكثيرها إلا ما وصفنا من الدم اليسير نحو دم البراغيث ولما كان مثله - الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو ثور وإليه مال أبو الفرج المالكي وهو مذهب الكوفيين إلا أنهم راعوا ما زاد على مقدار الدرهم قياسا على المخرج في الاستنجاء وقد ‏(‏روي عن بن عباس ما يدل على أن غسل النجاسة فرض مأخوذ‏)‏ من قوله تعالى ‏(‏ وثيابك فطهر‏)‏ ‏[‏المدثر 4‏]‏‏.‏

كما قال بن سيرين ويأتي ذلك بعد احتجاجا لما ذهب إليه أبو الفرج إن شاء الله تعالى وقال آخرون غسل النجاسة سنة واجبة مؤكدة وليس بفريضة قالوا والدليل على ذلك أن كتاب الله تعالى ليس فيه ما يوجب غسل الثياب وتأولوا قوله تعالى ‏(‏وثيابك فطهر‏)‏ على ما تأوله عليه جمهور السلف من أنها طهارة القلب وطهارة الجيب ونزاهة النفس عن الدنايا والآثام والذنوب وذكروا قول سعيد بن جبير اقرأ علي آية بغسل الثياب ذكره أبو بكر قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي شيخ عن سعيد بن جبير قال اقرأ على آية بغسل الثياب قالوا وقول بن سيرين إنه أراد بذلك تطهير الثياب - شذوذ لم يقله غيره وقد أشبعنا هذا المعنى بأقاويل المفسرين من السلف ومن تابعهم من الفقهاء في التمهيد بالآثار والنظر والاعتبار والحمد لله وتقصينا هناك أقاويل الفقهاء فيمن صلى بثوب نجس أو على ثوب نجس أو على موضع نجس أو كانت في بدنه نجاسة أو تيمم على موضع نجس فمن أراد ذلك تأمله هناك ومن الحجة لمن جعل غسل النجاسة ‏(‏سنة‏)‏ حديث حماد بن سلمة عن أبي نعامة السعدي عن أبي نضرة عن أبى سعيد الخدري قال ‏(‏‏(‏بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره فلما رأى ذلك القوم خلعوا نعالهم فلما قضى رسول الله صلاته قال ما حملكم على إلقائكم نعالكم فقالوا رأيناك ألقيت نعالك فألقينا نعالنا فقال رسول الله إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا‏)‏‏)‏ وقد ذكرناه في التمهيد مسندا ومرسلا من وجوه وذكرنا هناك بمثل ذلك حديث بن مسعود أيضا ذكره بن أبي شيبة عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي عن زهير بن معاوية عن أبي حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال خلع النبي -عليه السلام- نعليه وهو يصلي فخلع من خلفه فقال ما حملكم على خلع نعالكم قالوا يا رسول الله ‏!‏ إنك خلعت فخلعنا فقال إن جبريل أخبرني أن في إحداهما قذرا فإنما خلعتهما لذلك فلا تخلعوا نعالكم‏)‏‏)‏ ولما بنى -عليه السلام- على ما صلى بالنجاسة ولم يقطع صلاته لذلك - علمنا أن غسلها لم يكن واجبا ولو كان واجبا فرضا لم تكن صلاة من صلى بها جائزة ولما تمادى في صلاته إذ رآها وعلمها في نعليه وقد روي عن بن عمر وسعيد بن المسيب وسالم وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري يحيى بن سعيد الأنصاري في الذي يصلي بالثوب فيه نجاسة وهو لا يعلم ثم علم أنه لا إعادة عليه وبه قال إسحاق واحتج بحديث أبي سعيد المذكور ومالك - رحمه الله - مذهبه في هذه المسألة نحو مذهب هؤلاء لأنه لا يرى الإعادة إلا في الوقت والإعادة في الوقت استحباب لاستدراك فضل السنة في الوقت ولا يستدرك فضل السنة بعد الوقت لإجماع العلماء على أن من صلى وحده في الوقت ووجد قوما يصلون جماعة بعد الوقت قد فاتتهم تلك الصلاة بنوم أو عذر - أنه لا يصلي معهم وكلهم يأمره لو كان في الوقت - أن يعيد الظهر والعشاء هذا ما لم يختلفوا فيه وقد اختلفوا فيما عدا هاتين الصلاتين على ما نذكره في بابه من هذا الكتاب إن شاء الله ومن ها هنا قال أصحابنا مذهب مالك في غسل النجاسات أنه سنة لا فرض وجملة قول مالك في هذا الباب أن إزالة النجاسة من الثياب والأبدان واجبة بالسنة وليست بوجوب فرض وعلى ذلك جماعة أصحابه إلا أبا الفرج فإن غسلها عنده فرض واجب قالوا ومن صلى بثوب نجس أعاد في الوقت فإن خرج الوقت فلا إعادة عليه وحجة أبي الفرج ومن قال قوله من المالكيين - وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وقد تقدم إلى القول به الحسن ومحمد بن سيرين عالما أهل البصرة وروي عن بن عباس معنى ذلك ذكر محمد بن المثنى ومحمد بن يسار قالا حدثنا يحيى بن سعيد عن بن جريج عن عطاء عن بن عباس في قوله ‏(‏وثيابك فطهر‏)‏ قال في كلام العرب أنقها إنها القلب وقال بن المثنى في حديثه أنق الثياب فالحجة لهم ظاهر قوله تعالى ‏(‏وثيابك فطهر‏)‏ والثياب غير القلوب عند العرب وهي لغة القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في غسل الدماء والأنجاس من الأبدان والثياب والنعال وقد ذكرنا الآثار بذلك في موضعه من التمهيد وإجماع العلماء على أن من صلى وثوبه الذي يستر عورته قد امتلأ بولا أو عذرة أو دما وهو عامد فلا صلاة له وعليه الإعادة في الوقت وبعده وهذا كله دليل عندهم على أن غسل النجاسات فرض واجب وبالله التوفيق‏.‏

وقال مالك لا تعاد الصلاة من يسير الدم في وقت ولا غيره وتعاد من يسير البول والغائط والمذي والمني قال مالك ومن رأى في ثوبه دما يسيرا - وهو في الصلاة - مضى وفي الدم الكثير ينزعه ويستأنف الصلاة فإن رآه بعد فراغه أعاد ما دام في الوقت وكذلك البول والرجيع والمذي والمني وخرء الطير التي تأكل الجيف يعيد ما كان في الوقت من صلى ومن لم يعلم بالنجاسة إلا بعد الوقت لم يعد ومن تعمد الصلاة بالنجاسة أعاد أبدا هذا تحصيل مذهب مالك عند جماعة أصحابه إلا أشهب فإنه لا يعيد المتعمد عنده أيضا إلا في الوقت وقد شذ في قوله ذلك عن الجمهور من السلف والخلف وروي عن الليث بن سعد في ذلك كمذهب مالك‏.‏

وقال الشافعي قليل الدم والبول والعذرة والخمر وكثير ذلك سواء تعاد منه الصلاة أبدا والإعادة واجبة لا يسقطها خروج الوقت واختلف قول مالك في دم الحيض فمرة جعله كسائر الدماء وهو الأشهر عنه ومرة كالبول وهو قول بن وهب إلا ما كان نحو دم البراغيث وما يتعافاه الناس ويتجاوزونه لقلته فإنه لا يفسد الثوب ولا تعاد منه الصلاة وقول أحمد بن حنبل وأبي ثور في ذلك مثل قول الشافعي إلا أنهما يخالفانه في الدم خاصة فلا يريان غسله حتى يتفاحش وهو قول الطبري إلا أن الطبري قال إن كانت النجاسة قدر الدرهم أعاد الصلاة أبدا ولم يحد أولئك حدا وكلهم يروي غسل النجاسة فرضا وقول أبي يوسف وأبي حنيفة في هذا الباب كقول الطبري في مراعاة قدر الدرهم من النجاسة أنه معفو عنه حتى يكون أكثر فتجب منه الإعادة أبدا ويجب حينئذ غسله فرضا وقال محمد بن الحسن إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دون جازت الصلاة به وقال أبو يوسف وأبو حنيفة في الدم والعذرة والبول ونحوها إن صلى وفي ثوبه من ذلك مقدار الدرهم جازت صلاته وكذلك الروث عن أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد في الروث حتى يكون كثيرا فاحشا‏.‏

وقال أبو حنيفة وأبو يوسف في بول ما يؤكل لحمه حتى يكون كثيرا فاحشا وذهب محمد بن الحسن إلى أن بول ما يؤكل لحمه طاهر كقول مالك‏.‏

وقال الشافعي بول ما يؤكل لحمه نجس وليس هذا موضع الاحتجاج لأقوالهم في نجاسة بول الإبل وما يؤكل لحمه وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقال زفر في البول قليله وكثيره يفسد الصلاة وفي الدم حتى يكون أكثر من قدر الدرهم وقال الحسن بن حي في الدم في الثوب يعيد إذا كان مقدار الدرهم وإن كان أقل من ذلك لم يعد وكان يقول إن كان في الجسد أعاد وإن كان أقل من الدرهم وقال في البول والغائط يفسد الصلاة القليل والكثير منه إن كان في الثوب وقال الثوري يغسل الروث والدم ولم يعرف قدر الدرهم وقال الأوزاعي في البول إذا لم يجد ماء يغسله به تيمم وصلى ولا إعادة عليه إذا وجد الماء وقد روي عن الأوزاعي أنه إذا وجد الماء في الوقت أعاد وقال في القيء يصيب الثوب ولا يعلم به حتى يصلي مضت صلاته وقال إنما جاءت الإعادة في الرجيع وكذلك في دم الحيض لا يعيد وقال في البول يعيد في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه وقال الليث في البول والروث والدم وروث الدابة ودم الحيض والمني يعيد فات الوقت أو لم يفت وقال في يسير الدم في الثوب لا يعيد في الوقت ولا بعده قال وسمعت الناس لا يرون في يسير الدم يصلى به وهو في الثوب - بأسا ويرون أن تعاد الصلاة في الوقت من الدم الكثير قال والقيح مثل الدم قال أبو عمر هذا عن الليث أصح مما تقدم عنه رواه بن وهب وغيره عنه وقوله هذا حسن جدا وقد أوردنا أقاويل الفقهاء والسلف في هذا الباب والله الموفق للصواب‏.‏

باب المستحاضة

111- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت قالت فاطمة بنت أبي حبيش يا رسول الله ‏!‏ إني لا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إنما ذلك ‏(‏3‏)‏ عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي الدم عنك وصلي‏)‏‏)‏ ولم يختلف رواه مالك في إسناده ولفظه ورواه محمد بن كناسة عن هشام عن أبيه عن عائشة قال سفيان وتفسيره إذا رأت الدم بعد ما تغسل الدم فقط وقد رواه حماد بن زيد عن هشام بإسناده فجود لفظه قال فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي فقيل لحماد فالغسل قال ومن يشك أن في ذلك غسلا واحدا بعد الحيضة وقال حماد قال أيوب أرأيت لو خرج من جنبها دم أتغتسل وقال فيه أبو حنيفة عن هشام بإسناده فإذا أدبرت فاغتسلي لطهرك وقال فيه أبو معاوية عن هشام بإسناده وإذا أدبرت فاغسلي قال هشام قال أبي ثم تتوضأ لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت وكان بن عيينة يقول فيه عن هشام مرة فإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ومرة قال اغسلي عنك الدم وصلي ومرة قال كذا أو كذا وقال فيه حماد بن سلمة عن هشام بإسناده فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وتطهري وصلي قال حماد قال هشام كان عروة يقول الغسل الأول ثم الطهر لكل صلاة وقال فيه يحيى بن هاشم عن هشام بن عروة بإسناده فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة وصلي وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث ومتونها في التمهيد وذكرنا الاختلاف على الزهري فيه في قصة أم حبيبة بنت جحش واستحاضتها وكلهم يقول في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة إن النبي -عليه السلام- قال لفاطمة بنت أبي حبيش إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وهذا نص ثابت عنه -عليه السلام- في أن الحيض يمنع من الصلاة وهذا إجماع من علماء المسلمين نقلته الكافة كما نقلته الآحاد العدول ولا مخالف فيه إلا طوائف من الخوارج يرون على الحائض الصلاة‏.‏

وأما علماء السلف والخلف وأهل الفتوى بالأمصار فكلهم على أن الحائض لا تصلي ولا تقضي الصلاة أيام حيضها إلا أن من السلف من كان يرى للحائض ويأمرها أن تتوضأ عند وقت الصلاة وتذكر الله وتستقبل القبلة ذاكرة لله جالسة وروى خالد عن عقبة بن عامر ومكحول قال مكحول كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن ذكر عبد الرزاق قال قال معمر بلغني أن الحائض كانت تؤمر بذلك عند وقت كل صلاة وبن جريج عن عطاء قال لم يبلغني ذلك وأنه لحسن قال أبو عمر هو أمر متروك عند جماعة الفقهاء بل يكرهونه ذكر دحيم قال حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن سليمان التيمي قال سئل أبو قلابة عن الحائض إذا حضرت الصلاة أتتوضأ وتذكر الله فقال أبو قلابة قد سألنا عنه فلم نجد له أصلا قال دحيم‏.‏

وحدثنا الوليد بن مسلم قال سألت سعيد بن عبد العزيز عن الحائض أنها إذا كان وقت صلاة مكتوبة توضأت واستقبلت القبلة فذكرت الله في غير صلاة ولا ركوع ولا سجود قال ما نعرف هذا ولكنا نكرهه وقال معمر قلت لابن طاوس أكان أبوك يأمر الحائض عند وقت كل صلاة بطهر وذكر قال لا وعلى هذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء اليوم في الأمصار قال دحيم‏.‏

وحدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا حماد بن زيد عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة أن امرأة سألتها أتقضي المرأة صلاة أيام حيضتها قالت أحرورية أنت كانت إحدانا على عهد رسول الله تحيض فلا تؤمر بقضاء الصلاة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن عاصم الأحول عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة فقلت ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت قد كان يصيبنا ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة وروى قتادة وأبو قلابة عن معاذة العدوية عن عائشة مثله رواه شعبة وسعيد وغيرهما عن قتادة وحماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة وذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن معاذة عن عائشة مثله وذكر بن جريج عن عطاء قال قلت أتقضي الحائض الصلاة قال لا ذلك بدعة وعن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة مثله سواء وعن معمر عن الزهري قال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قلت عمن قال اجتمع الناس عليه وليس في كل شيء تجد الإسناد وعن الثوري عن رجل عن إبراهيم عن عائشة قالت كنا عند رسول الله فلم يأمر امرأة منا أن تقضي الصلاة وقال دحيم‏.‏

وحدثنا يعلى بن عبيد عن عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كنا نحيض على عهد النبي -عليه السلام- فما يأمر امرأة منا برد الصلاة وقال عجلان أبو غالب سألت بن عباس عن النفساء والحائض هل تقضيان الصلاة إذا طهرتا قال هؤلاء نساء النبي -عليه السلام- لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به وروينا عن حذيفة أنه قال ليكونن قوم في آخر هذه الأمة يكذبون أولاهم ويلعنونهم ويقولون جلدوا في الخمر وليس ذلك في كتاب الله ورجموا وليس ذلك في كتاب الله ومنعوا الحائض الصلاة وليس ذلك في كتاب الله وهذا كله قد قال به قوم من غالية الخوارج على أنهم اختلفوا فيه أيضا وكلهم أهل زيغ وضلال أما أهل السنة والحق فلا يختلفون في شيء من ذلك والحمد لله وفي حديث مالك عن هشام بن عروة في هذا الباب دليل على أن المستحاضة لا يلزمها غير ذلك الغسل لأن رسول الله لم يأمرها بغيره ولو لزمها غيره لأمرها به وفي ذلك رد لقول من رأى عليها الغسل لكل صلاة ولقول من رأى عليها أن تجمع بين صلاتي النهار بغسل واحد وصلاتي الليل بغسل واحد وتغتسل للصبح لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بشيء من ذلك كله في حديث هشام هذا ولا صح ذلك عنه في غيره وحديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة هذا أصح ما روي في هذا الباب وهو يدفع الغسل الذي وصفنا وفيه رد لقول من قال بالاستطهار يوما ويومين وثلاثة وأقل وأكثر لأنه أمرها إذا علمت أن حيضتها قد أدبرت وذهبت أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها أن تترك الصلاة ثلاثة أيام لانتظار حيض يجيء أو لا يجيء والاحتياط إنما يجب في عمل الصلاة لا في تركها ولا يخلو قوله عليه السلام في الحيضة إذا ذهب قدرها أن يكون أراد انقضاء أيام حيضتها لمن تعرف الحيضة وأيامها أو يكون أراد انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة لمن تميزه فأي ذلك كان فقد أمرها عند ذهاب حيضتها أن تغتسل وتصلي ولم يأمرها باستطهار وقال أيضا من نفى الاستطهار السنة تنفي الاستطهار لأن أيام دمها جائز أن تكون استحاضة وجائز أن تكون حيضا والصلاة فرض بيقين فلا يجوز أن تدعها حتى تستيقن أنها حائض وذكروا أن مالكا وغيره من العلماء قالوا لأن تصلي المستحاضة وليس عليها ذلك خير من أن تدع الصلاة وهي واجبة عليها لأن الواجب الاحتياط للصلاة فلا تترك إلا بيقين لا بالشك فيه وقال بعض أصحابنا في هذا الحديث دليل على صحة الاستطهار لقوله -عليه السلام- للمستحاضة فإذا ذهب قدرها - يعني الحيض - لأن قدر الحيض قد يزيد مرة وينقص أخرى فلهذا رأى مالك الاستطهار لأن الحائض يجب ألا تصلي حتى تستيقن زواله والأصل في الدم الظاهر من الرحم أنه حيض ولهذا أجمع الفقهاء على أن يأمروا المبتدأة بالدم بترك الصلاة في أول ما ترى الدم وكان أقصى الحيض عند مالك خمسة عشر يوما فكان يقول في المبتدأة وفي التي أيامها معروفة فيزيد حيضها إنهما تقعدان إلى كمال خمسة عشر يوما فإذا زاد فهو استحاضة ثم رجع في التي لها أيام معروفة - أن تستطهر بثلاثة أيام على عادتها ما لم تجاوز خمسة عشر يوما احتياطيا للصلاة ثم تغتسل بعد ذلك وتصلي وكذلك تستطهر المبتدأة على أيام لداتها بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يوما ثم تغتسل أيضا وتصلي لأن ما زاد على ذلك دم استحاضة وهو عرق - كما قال عليه السلام - لا يمنع من الصلاة ولا استطهار عند مالك إلا لهاتين المرأتين في هذين الموضعين وجعل الاستطهار ثلاثة أيام ليستبين فيها انفصال دم الحيض من دم الاستحاضة استدلالا بحديث المصراة إذ حد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام في انفصال اللبن لبن التصرية من اللبن الطارئ واحتجوا بحديث رواه حرام بن عثمان عن ابني جابر عن جابر أن أسماء بنت مرشد الحارثية كانت تستحاض فسألت النبي -عليه السلام- عن ذلك فقال لها النبي - عليه السلام ‏(‏‏(‏اقعدي أيامك التي كنت تقعدين ثم استطهري بثلاث ثم اغتسلي وصلي ورواه إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن حرام بن عثمان عن محمد وعبد الرحمن ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما عن أسماء بنت مرشد كانت تستحاض فذكر معنى ما ذكرنا وهذا حديث لا يوجد إلا بهذا الإسناد وحرام بن عثمان المدني متروك الحديث مجتمع على طرحه لضعفه ونكاره حديثه حتى لقد قال الشافعي الحديث عن حرام بن عثمان حرام وقال بشر بن عمر سألت مالك بن أنس عن حرام بن عثمان فقال ليس ثقة وقد مضى اختلاف قول مالك وأصحابه في الحامل ترى الدم هل تستطهر أم لا في صدر هذا الباب‏.‏

وأما قوله فإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي فقد تقدم من رواية الثوري ومحمد بن زيد وحماد بن سلمة وغيرهم ما يفسر ذلك وهو أن تغتسل عند إدبار الحيضة وإقبال استحاضتها كما تغتسل الحائض عند رؤية طهرها لأن المستحاضة طاهر ودمها دم عرق كدم الجرح السائل والخراج وذلك لا يوجب طهارة إذ لا يمنع من صلاة وهذا إنما يكون في امرأة تعرف دم حيضتها من دم استحاضتها وليس في حديث مالك هذا ذكر الوضوء لكل صلاة المستحاضة وقد ذكرناه في هذا الحديث عنده فلذلك كان مالك يستحبه لها ولا يوجبه عليها كما لا يوجبه على من سلس بوله فلم ينقطع عنه وممن أوجب الوضوء لكل صلاة على المستحاضة سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والشافعي وأصحابه والأوزاعي وهؤلاء كلهم ومالك معهم لا يرون على المستحاضة غسلا غير مرة واحدة عند إدبار حيضتها وإقبال استحاضتها ثم تغسل عنها الدم وتصلي ولا تتوضأ إلا عند الحدث عند مالك وهو قول عكرمة وأيوب السختياني وكذلك التي تقعد أيامها المعروفة ثم تستطهر عند مالك أو لا تستطهر عند غيره وتغتسل أيضا عند انقضاء أيامها واستطهارها ولا شيء عليها إلا أن تحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء عند مالك ومن قال بقوله‏.‏

وأما عند الشافعي وأبي حنيفة والثوري فتتوضأ لكل صلاة على حسب ما ذكرنا عنهم فيما سلف من كتابنا في سلس البول وذلك واجب عليها عندهم وذهبت طائفة إلى أن الغسل لكل صلاة واجب عليها لأحاديث رووها بذلك قد ذكرناها في التمهيد قالوا لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا وهي فيه شاكة هل هي حائض أو طاهر مستحاضة أو هل طهرت في ذلك الوقت بانقطاع دم حيضتها أم لا فواجب عليها الغسل للصلاة قالوا ولو شاء الله لابتلاها بأشد من هذا ورووا هذا عن علي وبن عباس وبن الزبير وسعيد بن جبير وقد ذكرنا الأسانيد عنهم بذلك في التمهيد‏.‏

112- وذكر مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أنها رأت زينب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف وكانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي هكذا رواه يحيى وغيره عن مالك في الموطأ وهو وهم من مالك لأنه لم تكن قط زينب بنت جحش تحت عبد الرحمن بن عوف وإنما كانت تحت زيد بن حارثة ثم كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما التي كانت تحت عبد الرحمن أم حبيبة بنت جحش وكن ثلاث أخوات زينب كما ذكرنا وأم حبيبة تحت عبد الرحمن بن عوف وحمنة بنت جحش تحت طلحة بن عبيد الله وقد قيل إنهن ثلاثتهن استحضن وقد قيل إنهن لم يستحض منهن إلا أم حبيبة وحمنة والله أعلم وروى الليث بن سعد عن هشام عن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة أن أم حبيبة بنت جحش كانت تستحاض فكانت تغتسل وتصلي وكذلك رواه يحيى بن سعيد عن عروة وعمرة عن زينب بنت أبي سلمة ‏(‏أن أم حبيبة‏)‏ وذكر الحديث وقد أسند حديث أم حبيبة هذا - الزهري فرواه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فأمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة فإن قيل لم يرفعه إلا محمد بن إسحاق عن الزهري‏.‏

وأما سائر أصحاب الزهري فإنهم يقولون فيه عنه عن عروة عن عائشة أن أم حبيبة بنت جحش استحيضت فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو عرق وليس بالحيضة وأمرها أن تغتسل وتصلي فكانت تغتسل لكل صلاة قيل لما أمرها رسول الله أن تغتسل لكل صلاة ‏(‏فهمت عنه فكانت تغتسل لكل صلاة‏)‏ على أن قوله ‏(‏‏(‏تغتسل وتصلي‏)‏‏)‏ يقتضي ألا تصلي حتى تغتسل وقد ذكرنا طرق حديث الزهري هذا في ‏(‏‏(‏التمهيد‏)‏‏)‏ واختلاف أصحابه عليه فيه وقال آخرون يجب عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا وللمغرب والعشاء غسلا واحدا وتؤخر الظهر فتصليها في آخر وقتها وتقدم العصر في أول وقتها وكذلك تفعل بالمغرب والعشاء وتغتسل للصبح غسلا واحدا ورووا بذلك آثارا قد ذكرتها في التمهيد وروي عن علي وبن عباس أيضا مثل ذلك وقد ذكرت الرواية عنهما في التمهيد وهو قول إبراهيم النخعي وعبد الله بن شداد وفرقة وقال آخرون تغتسل كل يوم مرة في أي وقت شاءت من النهار ورواه معقل بن يسار عن علي قال إذا انقضى حيضها اغتسلت كل يوم واتخذت صوفة فيها سمن أو زيت وقال آخرون تغتسل من طهر إلى طهر‏.‏

113- رواه مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن أن القعقاع بن حكيم وزيد بن أسلم أرسلاه إلى سعيد بن المسيب يسأله كيف تغتسل المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت وكان مالك يقول ما أرى الذي حدثني به من طهر إلى طهر إلا قد وهم قال أبو عمر ليس ذلك بوهم لأنه صحيح عن سعيد معروف عنه من مذهبه في المستحاضة تغتسل كل يوم مرة من طهر إلى طهر وكذلك رواه بن عيينة عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال تغتسل من طهر إلى طهر وتتوضأ لكل صلاة فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت قال سمي فأرسلوني عمن يذكر ذلك فحصبني وكذلك الثوري عن سمي عن سعيد مثله من طهر إلى طهر وكذلك رواه وكيع عن سعيد بن أبي عروبة ‏(‏عن قتادة عن سعيد بن المسيب‏)‏ مثله من طهر إلى طهر وهو قول عطاء بن أبي رباح وسالم والحسن البصري وروي مثل ذلك عن بن عمر وأنس بن مالك ورواية عن عائشة وقد روي عن سعيد بن المسيب في ذلك مثل قول مالك وسائر الفقهاء أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر ‏(‏على ‏)‏ ما وصفنا من انقضاء أيام دمها إذا كانت تميز دم استحاضتها وعلى هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة الكوفي وأصحابهم وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما بقي من الناس أحد أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت الحيضة فلتغتسل وتصلي وذكره بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد عن القعقاع بن حكيم قال سألت سعيد بن المسيب عن المستحاضة فقال ما أعلم بهذا مني إذا أقبلت الحيضة فلتدع الصلاة وإذا أدبرت فلتغتسل ولتغسل عنها الدم ولتتوضأ لكل صلاة قال أبو عمر يحتمل أن تكون هذه الرواية عن سعيد في امرأة ميزت إقبال دم حيضتها وإدباره وإقبال دم استحاضتها تكون رواية مالك عن سمي في امرأة أطبق عليها الدم فلم تميزه والله أعلم ومن ذكر في هذا الخبر وما كان مثله وتتوضأ لكل صلاة - فقد زاد زيادة صحيحة جاءت بها الآثار المرفوعة وقد ذكرناها في التمهيد والفقهاء بالحجاز والعراق مجمعون على أن المستحاضة تؤمر بالوضوء لكل صلاة منهم من رأى ذلك عليها واجبا ومنهم من استحبه وقد ذكرنا ذلك والحمد لله‏.‏

وأما الغسل لكل صلاة فقد مضى القول فيه‏.‏

114- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال ليس على المستحاضة إلا أن تغتسل غسلا واحدا ثم تتوضأ بعد ذلك لكل صلاة قال مالك الأمر عندنا في المستحاضة على حديث هشام بن عروة عن أبيه وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك‏.‏

115- وأما حديث مالك عن نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة كانت تهراق الدماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏(‏‏(‏لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ‏(‏2‏)‏ ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي فقد ذكرنا في التمهيد اختلاف الناس في هذا الحديث في إسناد ألفاظه فمن ذلك أن الليث بن سعد رواه عن نافع فأدخل بين سليمان بن يسار وأم سلمة رجلا لم يسمه وكذلك رواه أنس بن عياض عن عبد الله بن عمر عن نافع عن سليمان عن رجل من الأنصار عن أم سلمة وقال فيه أيوب السختياني إن المرأة التي استفتت لها أم سلمة عن استحاضتها هي فاطمة بنت أبي حبيش المذكورة في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة على ما رواه مالك وغيره عن هشام في هذا الباب حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن يوسف قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب السختياني عن سليمان بن يسار أنه سمعه يحدث عن أم سلمة قالت كانت فاطمة بنت أبي حبيش تستحاض فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه ليس بالحيضة ولكنه عرق وأمرها أن تدع الصلاة قدر إقرائها أو قدر حيضتها ثم تغتسل فإن غلبها الدم استثفرت بثوب وصلت وقد مضى القول في حديث هشام بن عروة ونذكرها هنا ما يوجب القول في حديث نافع هذا لأنه عندنا حديث آخر وذلك أن حديث هشام في امرأة عرفت إقبال حيضتها من إدبارها فأجابها رسول الله على ذلك وحديث نافع في امرأة كانت لها أيام معروفة فزادها الدم وأطبق عليها ولم تميز أقبال دم الحيضة من إدباره وانقطاعه وإقبال دم الاستحاضة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تترك الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيضهن من الشهر ثم تغتسل ولم تذكر لها أيضا استطهارا والقول في الاستطهار هنا كالقول الذي مضى في حديث هشام سواء‏.‏

وقال أحمد بن حنبل في الحيض ثلاثة أحاديث اثنان ليس في نفسي منهما شيء أحدهما حديث هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش والثاني حديث نافع عن سليمان بن يسار عن أم سلمة‏.‏

وأما الثالث الذي في قلبي منه شيء فحديث حمنة بنت جحش رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش وقد ذكرناه في التمهيد فجعل أحمد حديث نافع عن سليمان بن يسار غير حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقال مع أحمد جماعة غيره فلذلك قلنا إنهما حديثان في معنيين مختلفين على ما وصفنا‏.‏

وأما حديث مالك عن سليمان بن يسار فمعناه عند أهل العلم أنها كانت امرأة لا ينقطع دمها ولا ينفصل ولا ترى منه طهرا وقد زادها - على ذلك - على أيام كانت لها معروفة وتمادى بها فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لتعلم هل حكم ذلك الدم كحكم دم الحيض إذا كانت عندها وعند غيرها عادة دم الحيض أنه ينقطع فأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرها إذا انقضت أيامها أو عدد أيامها أن تغتسل وتستثفر وتصلي وأجمع العلماء على أن للدماء الظاهرة من الأرحام ثلاثة أحكام أحدها دم الحيض يمنع الصلاة وتسقط الصلاة مع وجوده من غير إعادة لها على ما قدمناه عن جماعة العلماء والثاني دم النفاس عند الولادة وحكمه في الصلاة كحكم دم الحيض بإجماع وقد اختلف العلماء في مقداره كما اختلفوا في مقدار الحيض وسنبين ذلك كله إن شاء الله والدم الثالث دم ليس بعادة ولا طبع للنساء ولا خلقه معروفه منهن وإنما هو عرق انقطع وسال دمه فهذا حكمه أن تكون المرأة في الأيام التي ينوبها فيها طاهرة ولا يمنعها من صلاة ولا صوم ولا يوقف على دم العرق من غيره إلا بمعرفة ما زاد على هذا الحيض بإجماع أو ما نقص عنه باختلاف وقد اختلف العلماء في ذلك فأما فقهاء أهل المدينة فيقولون إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما وجائز عندهم أن يكون خمسة عشر يوما فما دون وما زاد على خمسة عشر يوما فلا يكون حيضا وإنما هو استحاضة وهو دم العرق المنقطع وهذا مذهب مالك وأصحابه في الجملة وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره إلا ما يوجد في النساء وأكثر ما بلغه أنه وجد في النساء خمسة عشر يوما والدفعة عنده من الدم حيض تمنع من الصلاة ولكن الدفعة وما كان مثلها لا تحسب قرءا في العدة ‏(‏هذا مذهب‏)‏ بن القاسم وأكثر المصريين والمدنيين عنه وقال بن الماجشون عنه أقل الحيض خمسة أيام وأقل الطهر خمسة أيام وهو قول بن الماجشون قال أبو عمر أما أقل الطهر فقد اضطرب فيه قول مالك وأصحابه فروى بن القاسم عنه عشرة أيام وروى عنه أيضا أقل الطهر ثمانية أيام وهو قول سجنون وقال عبد الملك بن الماجشون عبد الملك قال أقل الطهر خمسة أيام ورواه عن مالك وإلى هذه الرواية مال بعض البغداديين من المالكيين وقال محمد بن مسلمة أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري وهو الصحيح لأن الله قد جعل عدة ذات الأقراء ثلاثة قروء وجعل عدة من لا تحيض من كبر أو صغر ثلاثة أشهر فكان كل قرء عوضا من شهر والشهر يجمع الطهر والحيض فإذا قل الحيض كثر الطهر وإذا كثر الحيض قل الطهر فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يوما وجب أن يكون أقل الطهر خمسة عشر يوما ليكمل في الشهر الواحد حيض وطهر وهو المتعارف في الأغلب من كثرة النساء وجبلتهن مع دلائل القرآن والسنة على ذلك كما ذكرنا وقال بن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج بأن الشهر جعل عدل كل حيضة وطهر في العدة والحيض في العادة أقل من الطهر فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر يوما ووجب أن يكون عشرة أيام لأن الناس في أكثر الحيض على هذين القولين فلما لم تصح الخمسة عشر لأن العادة في الحيض أن يكون أقل من الطهر صحت العشرة الأيام وإذا صحت العشرة حيضا كان ما بقي طهرا وهو تسعة عشر يوما لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين‏.‏

وأما اختلافهم مجملا في أقل الحيض وأكثره فكان مالك لا يوقت في قليل الحيض ولا في كثيره وقال أقله دفقة من دم غير أنها لا تعتد بها من طلاق ثم قال أكثره الحيض خمسة عشر يوما فيما بلغنا وقال محمد بن مسلمة أكثره خمسة عشر يوما وأقله ثلاثة أيام‏.‏

وقال الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل قول مالك أن ذلك مردود إلى عرف النساء وقال الطبري أقله يوم وأكثره خمسة عشر يوما فإن تمادى بها الدم خمسة عشر يوما وزادها قضت صلاة أربعة عشر يوما وروي عن سعيد بن جبير إذا زاد على ثلاثة عشر يوما فهو استحاضة‏.‏

وقال أحمد بن حنبل أقصى ما سمعنا سبعة عشر يوما وكان نساء الماجشون يحضن سبعة عشر يوما وبه قال بن نافع صاحب مالك‏.‏

وقال أبو ثور مثل قول الشافعي أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وبه قال أحمد بن حنبل وهو قول عطاء بن أبي رباح وقال الأوزاعي أقل الحيض يوم قال وعندنا امرأة تحيض غدوة وتطهر عشية‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام قال أبو عمر ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة لا يمنع من الصلاة إلا عند ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات إن كانت أقل من ثلاثة أيام وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين وعند الحجازيين على خمسة عشر يوما فهو استحاضة على ما قدمنا‏.‏

وأما الشافعي والأوزاعي فما كان أقل من يوم أو يوم وليلة فهو استحاضة وهو قول الطبري واعتبروا في أقل الطهر ما ذكرنا عنهم خمسة عشر يوما فجعلوا ما دونها كدم متصل وعند محمد بن مسلمة في هذا شيء من خلاف ليس بنا حاجة إلى ذكره فهذه أصولهم فقف عليها في مقدار الطهر والحيض فلا غنى عنها في المسألة الواردة في الحيضة المنقطعة وفي العدة فمن قاد أصله فيها كان أسعد بالصواب والمسألة امرأة حاضت يوما أو يومين ثم طهرت يوما أو يومين فتمادى بها الأمر أياما فأما مالك وأصحابه فقالوا تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل عند كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي ما دامت طاهرة وتكف عن الصلاة في أيام الدم وتحصي ذلك فإذا اجتمع لها من الدم خمسة عشر يوما اغتسلت وصلت وعلمنا أنها حيضة انقطعت وإن زادت على خمسة عشر يوما فهي مستحاضة هذه رواية أهل المدينة عن مالك وهو قول الشافعي في رواية الربيع وغيره عنه وقال الطحاوي قد أجمعوا أنه لو انقطع ساعة أو نحوها - أنه كدم متصل فكذلك اليوم واليومان لأنه لا يعتد به من طلاق وليس الثلاث عنده كاليومين وهو قول محمد بن مسلمة وروى بن القاسم والمصريون عنه أنها تضم أيام الدم بعضها إلى بعض فإن دام ذلك بها أيام عادتها استطهرت بثلاثة أيام على أيام حيضتها وإن رأت في أيام الاستطهار طهرا ألغته أيضا حتى تحصل لها ثلاثة أيام من الدم للاستطهار وتصلي وتصوم ويأتيها زوجها وتكون ما جمعته من الدم حيضة واحدة ولا تعتد بشيء من أيام الطهر في عدة من طلاق وتغتسل كل يوم من أيام طهرها عند انقطاع الدم لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها وقال محمد بن مسلمة إذا كان طهرها يوما وحيضتها يوما فطهرها أقل الطهر وحيضتها أقل الحيض ولكنه يقطع طهرها وحيضها فكأنها قد حاضت خمسة عشر يوما متوالية وطهرت خمسة عشر يوما متوالية فحال الحيضة لا يضرها واجتماع الأيام وافتراقها سواء ولا تكون هذه مستحاضة فقال محمد بن مسلمة في هذه المسألة بتلفيق الطهر إلى الطهر ولم يقله غيره وسائر أصحاب مالك إنما يقولون بتلفيق الدم إلى الدم فقط وقال أبو الفرج ليس بنكير أن تحيض يوما وتطهر يوما وتنقطع الحيضة عليها كما لا ينكر أن يتأخر حيضها عن وقته لأن تأخر بعضه عن اتصاله كتأخره كله فمن أجل ذلك كانت عندنا بالقليل حائضا ولم يكن القليل حيضة لأن الحيضة لا تكون إلا بأن يمضي لها وقت حيض تام وطهر تام أقله فيما روي عن عبد الملك خمسة أيام قال ولو أن قلة الدم تخرجه من أن تكون ‏(‏حيضا لأخرجت من أن تكون دم استحاضة لأن دم العرق هو‏)‏ استحاضة دون دم العرق الكثير الزائد على ما يعرف قال أبو عمر راعى عبد الملك وأحمد بن المعذل في هذه المسألة ما أصلاه في أن أقل الطهر خمسة أيام وراعى محمد بن مسلمة خمسة عشر يوما وجعل كل واحد منهم ما يأتي من الدم قبل تمام الطهر مضافا إلى الدم الأول إلا أن يكون بعد تمام مدة أكثر الحيض فيكون حينئذ عرقا ولا تترك فيه الصلاة وكذلك يلزم كل من أصل في أقل الطهر وأقل الحيض أصلا بعدة معلومة أن يكون ما خرج عنها في النقصان والزيادة استحاضة وقد جعل بن مسلمة أقل الحيض ثلاثة أيام وهو قول الكوفيين في أقل الحيض فيجب أن يكون ما دونه عنده دم عرق واستحاضة‏.‏

وأما مذهب بن القاسم وروايته وغيره من المصريين عن مالك فعلى ما احتج له أبو الفرج لأنه جعل اليسير حيضا يمنع من الصلاة ولم يجعله حيضة يعتد بها من طلاق وهو المشهور من أصل قول مالك وغيره يقول ما لا يعتد به من عدة الطلاق فليس بحيض وإنما هو استحاضة لا يمنع من الصلاة وقد احتج أصحابنا عليهم في غير موضع والكلام في الحيض والاستحاضة ومقدار الحيض والنفاس بين المختلفين كثير جدا طويل وقد ذكرنا مذاهبهم وأصول أقوالهم وأضربنا عن الاعتلال لهم بما ذكروه لأنفسهم لما فيه من التطويل والتشغيب ولأن الحيض ومقداره والنفاس ومدته مأخوذ أصلهما من العادة والعرف والآراء والاجتهاد فلذلك كثر بينهم فيه الاختلاف والتشغيب وفيما لوحنا به ما يبين لك المراد منه إن شاء الله وقد أوضحنا القول وبسطناه في حكم الحيض والاستحاضة ومهدناه في باب نافع وباب هشام بن عروة من التمهيد والحمد لله قال أبو عمر‏.‏

وأما مسألة تقطع الطهر والحيض فهي لمن تدبرها ناقضة لما أصلوه في أقل الحيض والطهر وأكثرهما فتدبرها تجدها كذلك إن شاء الله‏.‏

وأما قوله إن المستحاضة إذا صلت آن لزوجها أن يصيبها وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن رأت الدم بعد ذلك فإنه يصيبها زوجها لأنها بمنزلة المتسحاضة قال أبو عمر أما وطء المستحاضة فمختلف فيه بالمدينة وغيرها ذكر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال سئل سليمان بن يسار أيصيب المستحاضة زوجها فقال إنما سمعت بالرخصة في الصلاة قال معمر وسألت الزهري أيصيب المستحاضة زوجها قال إنما سمعنا بالصلاة وعن الثوري عن منصور قال لا تصوم ولا يأتيها زوجها ولا تمس المصحف وروي عن عائشة أنه لا يأتيها زوجها وبه قال بن علية وذكر عن شريك عن منصور عن إبراهيم قال المستحاضة تصوم وتصلي ولا يأتيها زوجها وعن حماد بن زيد عن حفص بن سليمان عن الحسن مثله وعن عبد الواحد بن سالم عن حريث عن الشعبي مثله وهو قول الحكم وبن سيرين وحجة من ذهب هذا المذهب أن الله تعالى قد سمى الحيض أذى وأمر باعتزال النساء من أجله وهو دم خارج من الفرج وأجمعوا على نجاسته وغسل الثوب منه فكل دم يجب غسله ويحكم بنجاسته - فحكمه حكم دم الحيض في تحريم الوطء إذا وجد في موضع الوطء وذكر إسماعيل بن إسحاق قال أخبرنا مصعب قال سمعت المغيرة بن عبد الرحمن - وكان من أعلى أصحاب مالك - يقول قولنا في المستحاضة - إذا استمر بها الدم بعد انقضاء أيام حيضتها - أنا لا ندري هل ذلك انتقال من دم حيضها إلى أيام أكثر منها أم ذلك استحاضة فنأمرها أن تغتسل إذا مضت أيام حيضها وتصلي وتصوم ولا يغشاها زوجها احتياطا حتى ينظر إلى ما يصير إليه حالها بعد ذلك فإن كانت حيضتها انتقلت من أيام إلى أكثر منها - عملت فيما تستقبل على الأيام التي انتقلت إليها ولم يضرها ما كانت احتاطت من الصلاة والصيام وإن كان ذلك الدم الذي استمر بها استحاضة كانت قد احتاطت للصلاة والصوم قال أبو مصعب هذا قولنا وبه نقضي وقال جمهور الفقهاء المستحاضة تصوم وتصلي وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن ويأتيها زوجها وممن روي عنه إجازة وطء المستحاضة عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب والحسن - على اختلاف عنه وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وهو قول عطاء والليث بن سعد والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وإسحاق وأبي ثور وكان أحمد بن حنبل يقول أحب إلي ألا يطأها إلا أن يطول ذلك وذكر بن المبارك عن الأجلح عن عكرمة عن بن عباس قال في المستحاضة لا بأس أن يجامعها زوجها وذكر عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن شروس أنه سمع من عكرمة مثله وزاد وإن سال الدم على عقبيها وعبد الرزاق عن الثوري عن سمي عن بن المسيب وعن الثوري عن يونس عن الحسن قال في المستحاضة تصوم وتصلي ويجامعها زوجها وعن الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير أنه سأله عن المستحاضة أتجامع فقال الصلاة أعظم من الجماع وذكر بن وهب عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال المستحاضة تصوم وتصلي ويطؤها زوجها قال بن وهب‏.‏

وقال مالك أمر أهل الفقه والعلم على ذلك وإن كان دمها كثيرا‏.‏

وقال مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏‏(‏إنما ذلك عرق وليس بالحيضة‏)‏‏)‏ فإذا لم تكن حيضة فما يمنعه أن يصيبها وهي تصلي وتصوم قال أبو عمر حكم الله تعالى في دم الاستحاضة أنه لا يمنع الصلاة وتعبد فيه بعبادة غير عبادة الحيض لذلك وجب ألا يحكم له بحكم الحيض إلا أن يجمعوا على شيء فيكون موقوفا على ذلك وإنما أجمعوا على غسله كسائر الدماء‏.‏

وأما قول مالك وكذلك النفساء إذا بلغت أقصى ما يمسك النساء الدم فإن العلماء قد اختلفوا قديما وحديثا في مدة دم النفاس الممسك للنساء عن الصلاة والصوم فكان مالك يقول أقصى ذلك شهران ثم رجع فقال يسأل عن ذلك النساء وأصحابه على أن أقصى مدة النفاس شهران ستون يوما وبه قال عبيد الله بن الحسن وهو قول الشافعي وأبي ثور وقال الأوزاعي تجلس كامرأة من نسائها فإن لم يكن لها نساء كأمهاتها وأخواتها فأربعون يوما وروي ذلك عن عطاء وقتادة على اختلاف عن عطاء وقال أكثر أهل العلم أقصى مدة النفاس أربعون يوما وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعثمان بن أبي العاصي وأنس بن مالك وعائذ بن عمر والمزني وأم سلمة زوج النبي عليه السلام وهؤلاء كلهم صحابة لا مخالف لهم فيه وبه قال سفيان الثوري والليث بن سعد وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود وقد حكي عن الليث بن سعد أن من الناس من يقول سبعون يوما وروي عن الحسن أنه قال لا يكاد النفاس يجاوز أربعين يوما فإن جاوز خمسين يوما فهي مستحاضة وحكى الأوزاعي عن أهل دمشق أن أجل النفاس من الغلام ثلاثون يوما ومن الجارية أربعون يوما وروي عن الضحاك قول شاذ أيضا أن النفساء تنتظر سبع ليال وأربع عشرة ليلة ثم تغتسل وتصلي وهذا لا وجه له‏.‏

وأما أقل النفاس فقال مالك إذا ولدت المرأة ولم تر دما اغتسلت وصلت وهو قول الأوزاعي والشافعي وأبي عبيد ومحمد بن الحسن وأبي ثور ولم يحد الثوري وأحمد وإسحاق في أقل النفاس حدا وروي عن الحسن البصري عشرين يوما وعن أبي حنيفة خمسة وعشرين يوما وعن أبي يوسف أحد عشر يوما قال أبو عمر التحديد في ضعيف لأنه لا يصح إلا بتوقيف وليس في مسألة أكثر النفاس موضع للاتباع والتقليد إلا من قال بالأربعين فإنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مخالف لهم منهم وسائر الأقوال جاءت عن غيرهم ولا يجوز عندنا الخلاف عليهم بغيرهم لأن إجماع الصحابة حجة على من بعدهم والنفس تسكن إليهم فأين المهرب عنهم دون سنة ولا أصل وبالله التوفيق‏.‏

باب ما جاء في بول الصبي

116- مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي فبال على ثوبه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فأتبعه إياه‏.‏

117- مالك عن بن شهاب عن عبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا رسول الله بماء فنضحه ولم يغسله قوله في هذا الحديث ‏(‏‏(‏ولم يغسله‏)‏‏)‏ يريد ولم يفركه ويقرصه بالماء وقال بعض شيوخنا قوله في هذا الحديث ‏(‏‏(‏ولم يغسله‏)‏‏)‏ ليس في الحديث وزعم أن آخر الحديث ‏(‏‏(‏فنضحه‏)‏‏)‏ ولا يتبين عندي ما قاله لصحة رواية مالك هذه وقد قال فيها ولم يغسله نسقا واحدا وكذلك رواية بن جريج عن بن شهاب في هذا الحديث قال فيه ‏(‏‏(‏ولم يغسله‏)‏‏)‏ كما قال مالك ورواه عبد الرزاق عن بن عيينة وبن جريج كذلك أيضا وذكره بن أبي شيبة عن بن عيينة عن الزهري بإسناده قال فيه ‏(‏‏(‏فدعا بماء فرشه ولم يزد‏)‏‏)‏ وقال فيه معمر ‏(‏‏(‏فنضحه ولم يزد‏)‏‏)‏ وهذان الحديثان معناهما واحد وهو صب الماء على البول لأن قوله في حديث هشام ‏(‏‏(‏ فأتبعه إياه‏)‏‏)‏ وقوله في حديث بن شهاب ‏(‏‏(‏فنضحه‏)‏‏)‏ سواء والنضح في هذا الموضع صب الماء وهو معروف في اللسان العربي بدليل قوله عليه السلام ‏(‏‏(‏إني لأعرف قرية ينضح البحر بناحيتها - أو قال بحائطها أو سورها - لو جاءهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر‏)‏‏)‏ وفي حديث آخر ‏(‏‏(‏إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر بها حي من المغرب لو أتاهم رسولي ما رموه بسهم ولا حجر‏)‏‏)‏ وقد يكون النضح أيضا في اللسان العربي الرش هذا وذاك معروفان في اللسان ففي هذين الحديثين ما يدل على صب الماء على بول الصبي من غير عرك ولا فرك وقد يسمى الصب غسلا بدليل قول العرب غسلتني السماء وقد أمر -عليه السلام- بصب الذنوب من الماء على بول الأعرابي فدل على أن كل ما يزيل النجاسة ويذهبها - فقد طهر موضعها بعرك وبغير عرك لأن الماء إذا غلب على النجاسة ولم يظهر منها فيه شيء وغمرها طهرها وكان الحكم له لا لها وقد مضى هذا المعنى محررا فبما تقدم من كتابنا هذا والحمد لله وقد أجمع المسلمون على أن بول كل صبي يأكل الطعام ولا يرضع نجس كبول أبيه واختلفوا في بول الصبي والصبية إذا كانا يرضعان لا يأكلان الطعام فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما بول الصبي والصبية كبول الرجل مرضعين كانا أو غير مرضعين وقال الأوزاعي لا بأس ببول الصبي ما دام يشرب اللبن ولا يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن وهب صاحب مالك‏.‏

وقال الشافعي بول الصبي الذي لم يأكل الطعام ليس بنجس حتى يأكل الطعام ولا يتبين لي فرق ما بين الصبية وبينه ولو غسل كان أحب إلي وقال الطبري بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع ماء وهو قول الحسن البصري وذكر عبد الرزاق عن معمر وبن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول الصبي ويغسل بول الجارية ولفظ بن جريج مكان يرش ينضح وذكر بن أبي شيبة عن محمد بن بكر عن جريج عن بن شهاب قال مضت السنة بأن يرش بول من لم يأكل الطعام ومضت السنة بغسل بول من أكل الطعام من الصبيان ولم يفرق بين الغلام والجارية في هذه الرواية قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في هذا الباب على معنى ما فيه من الآثار الصحاح وتفسير ذلك ما رواه الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة قالت بول الغلام يصب عليه الماء صبا وبول الجارية يغسل طعمت أو لم تطعم وعن عائشة مثله وكان الحسن يفتي به لصحته عنده وروى حميد الطويل عن الحسن أنه قال في بول الصبية يغسل غسلا وبول الصبي يتبع بالماء وهذا أولى ما قيل به في هذا الباب والله الموفق وقد روى قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه عن علي عن النبي -عليه السلام- أنه قال ‏(‏‏(‏يغسل بول الجارية وينضح على بول الغلام‏)‏‏)‏‏.‏

قال قتادة ما لم يطعما الطعام فإذا طعما الطعام غسلا وقد أجمع المسلمون أنه لا فرق بين بول الرجل والمرأة ففي القياس كذلك بول الغلام والجارية وقد رويت بالتفرقة بينهما في أن بول الصبي لا يغسل وبول الجارية يغسل - آثار ليست بالقوية قد ذكرتها في التمهيد وعلى ما اخترنا في هذا تتفق معاني الآثار ولا تختلف وهو الذي عليه المدار والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏