فصل: فصل: في بيان محل النسخ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***


فصل‏:‏ في بيان التغيير والتبديل

أما بيان التغيير‏:‏ هو الاستثناء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏ فإن الالف اسم موضوع لعدد معلوم فما يكون دون ذلك العدد يكون غيره لا محالة، فلولا الاستثناء لكان العلم يقع لنا بأنه لبث فيهم ألف سنة، ومع الاستثناء إنما يقع العلم لنا بأنه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، فيكون هذا تغييرا لما كان مقتضى مطلق تسمية الالف‏.‏ وبيان التبديل‏:‏ هو التعليق بالشرط، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن‏}‏ فإنه يتبين به أنه لا يجب إيتاء الاجر بعد العقد إذا لم يوجد الارضاع، وإنما يجب ابتداء عند وجود الارضاع، فيكون تبديلا لحكم وجوب أداء البدل بنفس العقد‏.‏ وإنما سمينا كل واحد منهما بهذا الاسم لما ظهر من أثر كل واحد منهما، فإن حد البيان غير حد النسخ، لأن البيان إظهار حكم الحادثة عند وجوده ابتداء، والنسخ رفع للحكم بعد الثبوت، وعند وجود الشرط يثبت الحكم ابتداء ولكن بكلام كان سابقا على وجود الشرط تكلما به، إلا أنه لم يكن موجبا حكمه إلا عند وجود الشرط، فكان بيانا من حيث إن الحكم ثبت عند وجوده ابتداء، ولم يكن نسخا صورة من حيث إن النسخ هو رفع الحكم بعد ثبوته في محله، فكان تبديلا من حيث إن مقتضى قوله لعبده أنت حر نزول العتق في المحل واستقراره فيه، وأن يكون علة للحكم بنفسه، وبذكر الشرط يتبدل ذلك كله، لانه يتبين به أنه ليس بعلة تامة للحكم قبل الشرط، وأنه ليس بإيجاب للعتق بل هو يمين، وأن محله الذمة حتى لا يصل إلى العبد إلا بعد خروجه من أن يكون يمينا بوجود الشرط، فعرفنا أنه تبديل‏.‏ وكذلك الاستثناء، فإن قوله لفلان علي ألف درهم مقتضاه وجوب العدد المسمى في ذمته ويتغير ذلك بقوله إلا مائة، لا على طريق أنه يرتفع بعض ما كان واجبا ليكون نسخا، فإن هذا في الاخبار غير محتمل، ولكن على طريق أنه يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون إخبارا عن وجوب تسعمائة فقط، فعرفنا أنه تغيير لمقتضى صيغة الكلام الأول، وليس بتبديل، إنما التبديل أن يخرج كلامه من أن يكون إخبارا بالواجب أصلا، فلهذا سميناه بيان التغيير‏.‏ ثم لا خلاف بين العلماء في هذين النوعين من البيان أنه يصح موصولا بالكلام ولا يصح مفصولا ممن لا يملك النسخ، وإنما يختلفون في كيفية إعمال الاستثناء والشرط‏.‏ فقال علماؤنا‏:‏ موجب الاستثناء أن الكلام به يصير عبارة عما وراء المستثنى، وأنه ينعدم ثبوت الحكم في المستثنى لانعدام الدليل الموجب له مع صورة التكلم به، بمنزلة الغاية فيما يقبل التوقيت فإنه ينعدم الحكم فيما وراء الغاية لانعدام الدليل الموجب له، لا لأن الغاية توجب نفي الحكم فيما وراءه‏.‏ وعلى قول الشافعي الحكم لا يثبت في المستثنى لوجود المعارض كما أن دليل الخصوص يمنع ثبوت حكم العام فيما يتناوله دليل الخصوص لوجود المعارض‏.‏ وكذلك الشرط عندنا فإنه يمنع ثبوت الحكم في المحل لانعدام العلة الموجبة له حكما مع صورة التكلم به، لا لأن الشرط مانع من وجود العلة، وعلى قوله الشرط مانع للحكم مع وجود علته‏.‏ والكلام في فصل الشرط قد تقدم بيانه إنما الكلام هنا في الاستثناء، فإنهم احتجوا باتفاق أهل اللسان أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي، فهذا تنصيص على أن الاستثناء موجب ما هو ضد موجب أصل الكلام على وجه المعارضة له في المستثنى، وعليه دل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته‏}‏ فالاستثناء الأول كان من المهلكين ثم فهم منه الانجاء، والاستثناء الثاني من المنجين فإنما فهم منه أنهم من المهلكين‏.‏ وعلى هذا قالوا‏:‏ إذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهمين يلزمه تسعة، لأن الاستثناء الأول من الاثبات فكان نفيا، والاستثناء الثاني من النفي فكان إثباتا، والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فشربوا منه إلا قليلا منهم‏}‏‏:‏ أي إلا قليلا منهم لم يشربوا، فقد نص على هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏}‏ وإذا ثبت أن المراد بالكلام هذا كان في موجبه كالمنصوص عليه، والدليل عليه كلمة الشهادة فإنها كلمة التوحيد لاشتمالها على النفي والاثبات، وإنما يتحقق ذلك إذا جعل كأنه قال إلا الله فإنه هو الاله، والدليل عليه أن صيغة الايجاب إذا صح من المتكلم فهو مفيد حكمه إلا أن يمنع منه مانع وبالاستثناء لا ينتفي التكلم بكلام صحيح في جميع ما تناوله أصل الكلام، ولو لم يكن الاستثناء موجبا هو معارض مانع لما امتنع ثبوت الحكم فيه، لأن بالاستثناء لا يخرج من أن يكون متكلما به فيه، لاستحالة أن يكون متكلما به غير متكلم في كلام واحد، ولكن يجوز أن يكون متكلما به ويمتنع ثبوت الحكم فيه لمانع منع منه كما في البيع بشرط الخيار، فعرفنا أن الطريق الصحيح في الاستثناء هذا، وعليه خرج مذهبه فقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ في آية القذف‏:‏ إن المراد إلا الذين تابوا فأولئك هم الصالحون وتقبل شهادتهم، إلا أنه لا يتناول هذا الاستثناء الجلد على وجه المعارضة، لانه استثناء لبعض الاحوال بإيجاب حكم فيه سوى الحكم الأول وهو حال ما بعد التوبة فيختص بما يحتمل التوقيت دون ما لا يحتمل التوقيت، وإقامة الجلد لا يحتمل ذلك، فأما رد الشهادة والتفسيق يحتمل ذلك‏.‏ وقال في قوله عليه السلام‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء إن المراد لكن إن جعلتموه سواء بسواء فبيعوا أحدهما بالآخر حتى أثبت بالحديث حكمين‏:‏ حكم الحرمة لمطلق الطعام ‏(‏بالطعام‏)‏ فأثبته في القليل والكثير، وحكم الحل بوجود المساواة كما هو موجب الاستثناء فيختص بالكثير الذي يقبل المساواة‏.‏ وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون‏}‏ في أن الثابت به حكمان حكم بنصف المفروض بالطلاق فيكون عاما فيمن يصح منه العفو ومن لا يصح العفو منه نحو الصغيرة والمجنونة، وحكم سقوط الكل بالعفو كما هو موجب الاستثناء فيختص بالكبيرة العاقلة التي يصح منها العفو‏.‏ وعلى هذا إذا قال‏:‏ لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا فإنه يلزمه الالف إلا قدر قيمة الثوب، لأن موجب الاستثناء نفي الحكم في المستثنى بدليل المعارض والدليل المعارض يجب العمل به بحسب الامكان والامكان هنا أن يجعل موجبه نفي مقدار قيمة ثوب لا نفي عين الثوب، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيما إذا قال له علي ألف درهم إلا كر حنطة‏:‏ إنه ينقص من الالف قدر قيمة كر حنطة وإن الاستثناء يصحح بحسب الامكان على الوجه الذي قلنا، بخلاف ما يقوله محمد رحمه الله إنه لا يصح الاستثناء‏.‏ قال‏:‏ ولو كان الكلام عبارة عما وراء المستثنى من الوجه الذي قلتم لكان يلزمه الالف هنا كاملا لأن مع وجوب الالف عليه نحن نعلم أنه لا كر عليه فكيف يجعل هذا عبارة عما وراء المستثنى، والكلام لم يتناول المستثنى أصلا، فظهر أن الطريق فيه ما قلنا‏.‏ وحجتنا في إبطال طريقة الخصم الاستثناء المذكور في القرآن فيما هو خبر نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فشربوا منه إلا قليلا منهم‏}‏‏.‏ ‏{‏فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏ فإن دليل المعارضة في الحكم إنما يتحقق في الايجاب دون الخبر لأن ذلك يوهم الكذب باعتبار صدر الكلام ومع بقاء أصل الكلام للحكم لا يتصور امتناع الحكم فيه بمانع، فلو كان الطريق ما قاله الخصم لاختص الاستثناء بالايجاب كدليل الخصوص ودليل الخصوص يختص بالايجاب‏.‏ والثاني أن الاستثناء إنما يصح إذا كان المستنثى بعض ما تناوله الكلام‏.‏ ولا يصح إذا كان جميع ما تناوله الكلام، ودليل الخصوص الذي هو رفع للحكم كالنسخ كما يعمل في البعض يعمل في الكل، فعرفنا أنه ليس الطريق في الاستثناء ما ذهب إليه ولكن الطريق فيه أنه عبارة عما وراء المستثنى، حتى إذا كان يتوهم بعد الاستثناء بقاء شئ دون الخبر يجعل الكلام عبارة عنه صح، وإن لم يبق من الحكم شئ‏.‏ وبيان هذا أنه لو قال عبيدي أحرار إلا عبيدي لم يصح الاستثناء، ولو قال إلا هؤلاء وليس له سواهم صح الاستثناء، لانه يتوهم بقاء شئ وراء المستثنى يجعل الكلام عبارة عنه هنا ولا توهم لمثله في الأول، وكذلك الطلاق على هذا‏.‏ ولا يجوز أن يقال إن استثناء الكل إنما لا يصح لانه رجوع، فإن فيما يصح الرجوع عنه لا يصح استثناء الكل أيضا، حتى إذا قال أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي كان الاستثناء باطلا والرجوع عن الوصية يصح، وإنما بطل الاستثناء هنا لانه لا يتوهم وراء المستثنى شئ يكون الكلام عبارة عنه، فعرفنا أنه تصرف في الكلام لا في الحكم، وأنه عبارة عما وراء المستثنى بأطول الطريقين تارة وأقصرهما تارة، والدليل عليه أن الدليل المعارض يستقل بنفسه والاستثناء لا يستقل بنفسه، فإنه ما لم يسبق صدر الكلام لا يتحقق الاستثناء مفيدا شيئا بمنزلة الغاية التي لا تستقل بنفسها‏.‏ فأما دليل الخصوص يصير مستقلا بنفسه وإن لم يسبقه الكلام ويكون مفيدا لحكمه‏.‏ ثم الدليل على صحة ما قال علماؤنا أن الاستثناء يبين أن صدر الكلام لم يتناول المستثنى أصلا فإنه تصرف في الكلام كما أن دليل الخصوص تصرف في حكم الكلام، ثم يتبين بدليل الخصوص أن العام لم يكن موجبا الحكم في موضع الخصوص فكذلك بالاستثناء يتبين أن أصل الكلام لم يكن متناولا للمستثنى‏.‏ والدليل على تصحيح هذه القاعدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما‏}‏ فإن معناه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما، لأن الالف اسم لعدد معلوم ليس فيه احتمال ما دونه بوجه فلو لم يجعل أصل الكلام هكذا لم يمكن تصحيح ذكر الالف بوجه لأن اسم الالف لا ينطلق على تسعمائة وخمسين أصلا، وإذا قال الرجل لفلان علي ألف درهم إلا مائة فإنه يجعل كأنه قال له علي تسعمائة فإن مع بقاء صدر الكلام على حاله وهو الالف لا يمكن إيجاب تسعمائة عليه ابتداء، لأن القدر الذي يجب حكم صدر الكلام وإذا لم يكن في صدر الكلام احتمال هذا المقدار لا يمكن إيجابه حقيقة، فعرفنا به أنه يصير صدر الكلام عبارة عما وراء المستثنى وهو تسعمائة، وكان لهذا العدد عبارتان الاقصر وهو تسعمائة والاطول هو الالف إلا مائة‏.‏ وهذا معنى قول أهل اللغة‏:‏ إن الاستثناء استخراج، يعني استخراج بعض الكلام على أن يجعل الكلام عبارة عما وراء المستثنى، ألا ترى أن بعد دليل الخصوص الحكم الثابت بالعام ما يتناوله لفظ العموم حقيقة، حتى إذا كان العام بعبارة الفرد يجوز فيه الخصوص إلى أن لا يبقى منه إلا واحد، وإذا كان بلفظ الجمع يجوز فيه الخصوص إلى أن لا يبقى منه إلا ثلاثة، فإن أدنى ما تناوله اسم الجمع ثلاثة، وإذا كان الباقي دون ذلك كان رفعا للحكم بطريق النسخ‏.‏ ثم كما يجوز أن يكون الكلام معتبرا في الحكم ويمتنع ثبوت الحكم به لمانع فكذلك يجوز أن تبقى صورة الكلام، ولا يكون معتبرا في حق الحكم أصلا كطلاق الصبي والمجنون، فإذا جعلنا طريق الاستثناء ما ذهبنا إليه بقي صورة التكلم في المستثنى غير موجب بحكمه وذلك جائز، وإذا جعلنا الطريق ما قاله الخصم احتجنا إلى أن نثبت بالكلام ما ليس من محتملاته وذلك لا يجوز، فعرفنا أن انعدام وجوب المائة عليه لانعدام العلة الموجبة لا لمعارض يمنع الوجوب بعد وجود العلة الموجبة، وكذلك في التعليق بالشرط فإن امتناع ثبوت الحكم في المحل لانعدام علته بطريق أن التعليق بالشرط لما منع الوصول إلى المحل، وصورة التكلم بدون المحل لا يكون علة للايجاب، فانعدام الحكم لانعدام العلة في الفصلين لا لمانع كما توهمه الخصم إلا أن الوصول إلى المحل في التعليق متوهم لوجود الشرط فلم يبطل الكلام في حق الحكم أصلا، ولكن نجعله تصرفا آخر وهو اليمين على أنه متى وصل إلى المحل ولم يبق يمينا كان إيجابا، فسميناه بيان التبديل لهذا، وانتفاء المستثنى من أصل الكلام ليس فيه توهم الارتفاع حتى تكون صورة الكلام عاملا فيه، فجعلناه بيان التغيير بطريق أنه عبارة عما وراء المستثنى، لانه لم يصر تصرفا آخر بالاستثناء، وهذا لأن الكلمة كما لا تكون مفهمة قبل انضمام بعض حروفها إلى البعض لا تكون مفهمة قبل انضمام بعض الكلمات إلى البعض، حتى تكون دالة على المراد، فتوقف أول الكلام على آخره في الفصلين ويكون الكل في حكم كلام واحد، فإن ظهر باعتبار آخره لصدر الكلام محل آخر وهو الذمة، كما في الشرط، جعل بيانا فيه تبديل، وإن لم يظهر لصدر الكلام محل آخر بآخره جعل آخره مغيرا لصدره بطريق البيان، وذلك بالاستثناء، على أن يجعل عبارة عما وراء المستثنى، ويجعل بمنزلة الغاية على معنى أنه ينتهي به صدر الكلام ولولاه لكان مجاوزا إليه، كما أن بالغاية ينتهي أصل الكلام على معنى أنه لولا الغاية لكان الكلام متناولا له، ثم انعدام الحكم بعد الغاية لعدم الدليل المثبت لا لمانع بعد وجود المثبت، فكذلك انعدام الحكم في المستثنى لعدم دليل الموجب لا لمعارض مانع‏.‏ فأما قول أهل اللغة الاستثناء من النفي إثبات ومن الاثبات نفي، فإطلاق ذلك باعتبار نوع من المجاز، فإنهم كما قالوا هذا فقد قالوا إنه استخراج وإنه عبارة عما وراء المستثنى ولا بد من الجمع بين الكلمتين، ولا طريق للجمع سوى ما بينا وهو أنه باعتبار حقيقته في أصل الوضع عبارة عما وراء المستثنى، وهو نفي من الاثبات وإثبات من النفي باعتبار إشارته على معنى أن حكم الاثبات يتوقت به كما يتوقت بالغاية فإذا لم يبق بعده ظهر النفي لانعدام علة الاثبات فسمي نفيا مجازا‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا فاسد فإن قول القائل لا عالم إلا زيد يفهم منه الاخبار بأن زيدا عالم، وكذلك كلمة الشهادة تكون إقرارا بالتوحيد حقيقة كيف يستقيم حمل ذلك على نوع من المجاز‏؟‏ قلنا‏:‏ قول القائل لا عالم نفي لوصف العلم وقوله إلا زيد توقيت للوصف به ومقتضى التوقيت انعدام ذلك الوصف بعد الوقت، فمقتضى كلامه هنا نفي صفة العلم لغير زيد ثم ثبت به العلم لزيد بإشارة كلامه لا بنص كلامه، كما أن نفي النهار يتوقت إلى طلوع الفجر فبوجوده يثبت ما هو ضده وهو صفة النهار، ونفي السكون يتوقت بالحركة فبعد انعدام الحركة يثبت السكون، يقرره أن الآدمي لا يخلو عن أحد الوصفين إما العلم وإما نفي العلم عنه، فلما توقت النفي في صفة كلامه بزيد ثبت صفة العلم فيه لانعدام ضده‏.‏ وفي كلمة الشهادة كذلك نقول، فإن كلامه نفي الالوهية عن غير الله تعالى ونفي الشركة في صفة الالوهية لغير الله معه، ثم يثبت التوحيد بطريق الاشارة إليه، وكان المقصود بهذه العبارة إظهار التصديق بالقلب فإنه هو الأصل والاقرار باللسان يبتنى عليه، ومعنى التصديق بالقلب بهذا الطريق يكون أظهر‏.‏ وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا قال إن خرجت من هذه الدار إلا أن يأذن لي فلان فمات فلان قبل أن يأذن له بطلت اليمين، كما لو قال إن خرجت من هذه الدار حتى يأذن لي فلان، لأن في الموضعين يثبت باليمين حظر الخروج موقتا بإذن فلان، ولا تصور لذلك إلا في حال حياة فلان، فأما بعد موته وانقطاع إذنه لو بقيت اليمين كان موجبها حظرا مطلقا والموقت غير المطلق‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس أنه لو قال لامرأته إن خرجت إلا بإذني فإنه يحتاج إلى تجديد الاذن في كل مرة، ولو كان الاستثناء بمنزلة الغاية لكانت اليمين ترتفع بالاذن مرة، كما لو قال إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك‏.‏ قلنا‏:‏ إنما اختلفا في هذا الوجه لأن كل واحد من الكلامين يتناول محلا آخر، فإن قوله حتى آذن محله الحظر الثابت باليمين فإنه توقيت له، وقوله إلا بإذني محله الخروج الذي هو مصدر كلامه ومعناه إلا خروجا بإذني، والخروج غير الحظر الثابت باليمين، فعرفنا أن كل واحد منهما دخل في محل آخر هنا، فلهذا كان حكم الاستثناء مخالفا لحكم التصريح بالغاية، وبالاستثناء يظهر معنى التوقيت في كل خروج يكون بصفة الاذن، وكل خروج لا يكون بتلك الصفة فهو موجب للحنث‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ اعلم بأن الاستثناء نوعان‏:‏ حقيقة، ومجاز‏.‏ فمعنى الاستثناء حقيقة ما بينا، وما هو مجاز منه فهو الاستثناء المنقطع، وهي بمعنى لكن أو بمعنى العطف‏.‏ وبيانه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏}‏‏:‏ أي لكن أباطيل‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنهم عدو لي إلا رب العالمين‏}‏‏:‏ أي لكن رب العالمين الذي خلقني‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما‏}‏‏:‏ أي لكن سلاما‏.‏ وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين ظلموا منهم‏}‏‏:‏ إنه بمعنى العطف‏:‏ ولا الذين ظلموا، وقيل لكن‏:‏ أي لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني‏.‏ وقيل في قوله ‏{‏إلا خطأ‏}‏‏:‏ إنه بمعنى لكن أي لكن إن قتله خطأ‏.‏ وزعم بعض مشايخنا أنه بمعنى ولا‏.‏ قال رضي عنه‏:‏ وهذا غلط عندي، لانه حينئذ يكون عطفا على النهي فيكون نهيا والخطأ لا يكون منهيا عنه ولا مأمورا به بل هو موضوع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم‏}‏‏.‏ ثم الكلام لحقيقته لا يحمل على المجاز إلا إذا تعذر حمله على الحقيقة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يعفون‏}‏ فإنه يتعذر حمله على حقيقة الاستثناء لانه إذا حمل عليه كان في معنى التوقيت فيتقرر به حكم التنصيف الثابت بصدر الكلام، فعرفنا أنه بمعنى لكن وأنه ابتداء حكم‏:‏ أي لكن إن عفا الزوج بإيفاء الكل أو المرأة بالاسقاط فهو أقرب للتقوى‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ في آية القذف فإنه استثناء منقطع‏:‏ أي لكن إن تابوا من قبل أن التائبين هم القاذفون‏.‏ فتعذر حمل اللفظ على حقيقة الاستثناء فإن الثابت لا يخرج من أن يكون قاذفا، وإن كان محمولا على حقيقة الاستثناء هو استثناء بعض الاحوال‏:‏ أي وأولئك هم الفاسقون في جميع الاحوال إلا أن يتوبوا، فيكون هذا الاستثناء توقيتا بحال ما قبل التوبة فلا تبقى صفة الفسق بعد التوبة لانعدام الدليل الموجب لا لمعارض مانع كما توهمه الخصم‏.‏ وقوله‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء استثناء لبعض الاحوال أيضا‏:‏ أي لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا حالة التساوي في الكيل‏.‏ فيكون توقيتا للنهي بمنزلة الغاية ويثبت بهذا النص أن حكم الربا الحرمة الموقتة في المحل دون المطلقة‏.‏ وإنما تتحقق الحرمة الموقتة في المحل الذي يقبل المساواة في الكيل، فأما في المحل الذي لا يقبل المساواة لو ثبت إنما يثبت حرمة مطلقة وذلك ليس من حكم هذا النص، فلهذا لا يثبت حكم الربا في القليل وفي المطعوم الذي لا يكون مكيلا أصلا‏.‏ وعلى هذا قلنا إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا فإنه تلزمه الالف لأن هذا ليس باستثناء حقيقة، إذ حقيقة الاستثناء في أصل الوضع أن يكون الكلام عبارة عما وراء المستثنى، والمستثنى هنا لم يتناوله صدر الكلام صورة ومعنى حتى يجعل الكلام عبارة عما وراءه فيكون استثناء منقطعا، ومعناه لكن لا ثوب له علي‏.‏ والتصريح بهذا الكلام لا يسقط عنه شيئا من الالف ولا يمنع إعمال أصل الكلام في إيجاب جميع الالف عليه فكذلك اللفظ الذي يدل عليه، ولهذا قال محمد في قوله إلا كر حنطة إنه تلزمه الالف كاملة‏.‏ فأما أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما استحسنا هنا فقالا‏:‏ كلامه استثناء حقيقة باعتبار المعنى، لأن صورة صدر الكلام الاخبار بوجوب المسمى عليه، ومعناه إظهار ما هو لازم في ذمته، والمكيل والموزون كشئ واحد في حكم الثبوت في الذمة على معنى أن كل واحد منهما يثبت في الذمة ثبوتا صحيحا بمنزلة الاثمان، فهذا الاستثناء باعتبار صورة صدر الكلام لا يكون استخراجا، وباعتبار معناه يكون استخراجا، على أنه استخرج هذا القدر مما هو واجب في ذمته، والمعنى يترجح على الصورة لانه هو المطلوب، فلهذا جعلنا استثناءه استخراجا على أن يكون كلامه عبارة عما وراء مالية كر حنطة من الالف، فأما الثوب لا يكون مثل المكيل والموزون في الصورة ولا في المعنى، وهو الثبوت في الذمة، فإنه لا يثبت في الذمة إلا مبيعا والالف تثبت في الذمة ثمنا فلا يمكن جعل كلامه استخراجا باعتبار الصورة ولا باعتبار المعنى، فلهذا جعلناه استثناء منقطعا‏.‏ ثم قال الشافعي بناء على أصله‏:‏ الاستثناء متى تعقب كلمات معطوفة بعضها على بعض ينصرف إلى جميع ما تقدم ذكره، لانه معارض مانع للحكم بمنزلة الشرط، ثم الشرط ينصرف إلى جميع ما سبق حتى يتعلق الكل به فكذلك الاستثناء‏.‏ واستدل عليه بقوله تعالى في آية قطاع الطريق‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ فإنه ينصرف إلى جميع ما تقدم ذكره‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ الاستثناء تغيير وتصرف في الكلام فيقتصر على ما يليه خاصة لوجهين‏:‏ أحدهما أن إعمال الاستثناء باعتبار أن الكل في حكم كلام واحد وذلك لا يتحقق في الكلمات المعطوفة بعضها على بعض‏.‏ والثاني أن أصل الكلام عامل باعتبار أصل الوضع، وإنما انعدم هذا الوصف منه بطريق الضرورة فيقتصر على ما تتحقق فيه الضرورة وهذه الضرورة ترتفع بصرفه إلى ما يليه، بخلاف الشرط فإنه تبديل ولا يخرج به أصل الكلام من أن يكون عاملا إنما يتبدل به الحكم كما بينا، ومطلق العطف يقتضي الاشتراك فلهذا أثبتنا حكم التبديل بالتعليق بالشرط في جميع ما سبق ذكره مع أن فيه كلاما في الفرق بين ما إذا عطفت جملة تامة على جملة تامة وبين ما إذا عطفت جملة ناقصة على جملة تامة ثم تعقبها شرط، ولكن ليس هذا موضع بيان ذلك‏.‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ فلاجل دليل في نص الكلام صرفناه إلى جميع ما تقدم وذلك التقييد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ فإن التوبة في محو الاثم ورجاء المغفرة والرحمة به في الآخرة لا تختلف بوجودها بعد قدرة الامام على التائب أو قبل ذلك، وإنما تختلف في حكم إقامة الحد، الذي يكون مفوضا إلى الامام، فعرفنا بهذا التقييد أن المراد ما سبق من الحد، وقد يتغير حكم مقتضى الكلام لدليل فيه، ألا ترى أن مقتضى مطلق الكلام الترتيب على أن يجعل المتقدم في الذكر متقدما في الحكم، ثم يتغير ذلك بدليل مغير، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما‏}‏ فإن المراد أنزله قيما ولم يجعل له عوجا‏.‏ وكذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى‏}‏ فإن معناه‏:‏ ولولا سبقت من ربك كلمة وأجل مسمى لكان لزاما، وضمة اللام دلنا على ذلك فهذا نظيره‏.‏ وإذا تقرر هذا الأصل قلنا‏:‏ البيان المغير والمبدل يصح موصولا ولا يصح مفصولا، لانه متى كان بيانا كان مقررا للحكم الثابت بصدر الكلام كبيان التقرير وبيان التفسير، وإنما يتحقق ذلك إذا كان موصولا، فأما إذا كان مفصولا فإنه يكون رفعا للحكم الثابت بمطلق الكلام‏.‏ أما في الاستثناء فإن الكلام يتم موجبا لحكمه بآخره وذلك بالسكوت عنه أو الانتقال إلى كلام آخر، والاستثناء الموصول ليس بكلام آخر فإنه غير مستقل بنفسه، فأما إذا سكت فقد تم الكلام موجبا لحكمه، ثم الاستثناء بعد ذلك يكون نسخا بطريق رفع الحكم الثابت فلا يكون بيانا مغيرا، وأما الشرط فهو مبدل باعتبار أنه يمتنع الوصول إلى المحل وهو العبد في كلمة الاعتاق ويجعل محله الذمة، وإنما يتحقق هذا إذا كان موصولا، فأما المفصول يكون رفعا عن المحل يعتبر هذا في المحسوسات، فإن تعليق القنديل بالحبل في الابتداء يكون مانعا من الوصول إلى مقره من الارض مبينا أن إزالة اليد عنه لم يكن كسرا، فأما بعد ما وصل إلى مقره من الارض تعليقه بالقنديل يكون رفعا عن محله‏.‏ فتبين بهذا أن الشرط إذا كان مفصولا فإنه يكون رفعا للحكم عن محله بمنزلة النسخ، وهو لا يملك رفع الطلاق والعتاق عن المحل بعدما استقر فيه، فلهذا لا يعمل الاستثناء والشرط مفصولا‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا قال لفلان علي ألف درهم وديعة فإنه يصدق موصولا ولا يصدق إذا قاله مفصولا، لأن قوله وديعة بيان فيه تغيير أو تبديل، فإن مقتضى قوله علي ألف درهم الاخبار بوجوب الالف في ذمته، وقوله وديعة فيه بيان أن الواجب في ذمته حفظها وإمساكها إلى أن يؤديها إلى صاحبها لا أصل المال، فإما أن يكون تبديلا للمحل الذي أخبر بصدر الكلام أنه التزمه لصاحبه أو تغييرا لما اقتضاه أول الكلام، لانه لازم عليه للمقر له من أصل المال إلى الحفظ، فإذا كان موصولا كان بيانا صحيحا، وإذا كان مفصولا كان نسخا فيكون بمنزلة الرجوع عما أقر به‏.‏ وعلى هذا لو قال لغيره أقرضتني عشرة دراهم أو اسلفتني أو أسلمت إلي أو أعطيتني إلا أني لم أقبض فإن قال ذلك مفصولا لم يصدق، وإن قال موصولا صدق استحسانا، لأن هذا بيان تغيير، فإن حقيقة هذه الالفاظ تقتضي تسليم المال إليه ولا يكون ذلك إلا بقبضه، إلا أنه يحتمل أن يكون المراد به العقد مجازا، فقد تستعمل هذه الالفاظ للعقد، فكان قوله لم أقبض تغييرا للكلام عن الحقيقة إلى المجاز فيصح موصولا ولا يصح مفصولا‏.‏ وإذا قال دفعت إلي ألف درهم أو نقدتني إلا أني لم أقبض فكذلك الجواب عند محمد، لأن الدفع والنقد والاعطاء في المعنى سواء، فتجعل هاتان الكلمتان كقوله أعطيتني ويصدق فيهما إذا كان موصولا لا إذا كان مفصولا بطريق أنه بيان تغيير‏.‏ وأبو يوسف قال فيهما لا يصدق موصولا ولا مفصولا، لأن الدفع والنقد اسم للفعل لا يتناول العقد مجازا ولا حقيقة، فكان قوله إلا أني لم أقبض رجوعا والرجوع لا يعمل موصولا ولا مفصولا، فأما الاعطاء قد سمي به العقد مجازا، يقال عقد الهبة وعقد العطية‏.‏ وقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ إذا قال لفلان علي ألف درهم إلا أنها زيوف لم يصدق موصولا ولا مفصولا‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ يصدق موصولا لأن قوله إلا أنها زيوف بيان تغيير، فإن مطلق تسمية الالف في البيع ينصرف إلى الجياد، لانه هو النقد الغالب وبه المعاملة بين الناس وفيه احتمال الزيوف بدون هذه العادة، فكان كلامه بيان تغيير فيصح موصولا لا مفصولا، كما في قوله إلا أنها وزن خمسة وكما في الفصول المتقدمة بل أولى، فإن ذلك نوع من المجاز وهذا حقيقة لأن إسم الدراهم للزيوف حقيقة كما أنها للجياد حقيقة‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ مقتضى عقد المعاوضة وجوب المال بصفة السلامة، والزيافة في الدراهم عيب لأن الزيافة إنما تكون بغش في الدراهم والغش عيب، فكان هذا رجوعا عن مقتضى أول كلامه والرجوع لا يعمل موصولا ولا مفصولا، وصار دعوى العيب في الثمن كدعوى العيب في البيع، بأن قال‏:‏ بعتك هذه الجارية معيبا بعيب كذا، وقال المشتري بل اشتريتها سليمة، فإن البائع لا يصدق سواء قاله موصولا أو مفصولا، بخلاف قوله إلا أنها وزن خمسة فإن ذلك استثناء لبعض المقدار بمنزلة قوله إلا مائتين، وبخلاف قوله لفلان علي كر حنطة من ثمن بيع إلا أنها ردية لأن الرداءة ليست بعيب في الحنطة، فالعيب ما يخلو عنه أصل الفطرة والرداءة في الحنطة تكون بأصل الخلقة، فكان هذا بيان النوع لا بيان العيب فيصح موصولا كان أو مفصولا‏.‏ وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن خمر، فإن عند أبي يوسف ومحمد هذا بيان تغيير من حقيقة وجوب المال إلى ‏(‏بيان‏)‏ مباشرة سبب الالتزام صورة وهو شراء الخمر فيصح موصولا لا مفصولا‏.‏ وأبو حنيفة يقول هذا رجوع، لأن أول كلامه تنصيص على وجوب المال في ذمته وثمن الخمر لا يكون واجبا في ذمة المسلم بالشراء فيكون رجوعا‏.‏ وعلى هذا لو قال لفلان علي ألف درهم من ثمن جارية باعنيها إلا أني لم أقبضها فإن على قول أبي يوسف ومحمد يصدق إذا كان موصولا، وإذا كان مفصولا يسأل المقر له عن الجهة فإن قال الالف لي عليه بجهة أخرى سوى البيع فالقول قوله والمال لازم على المقر، وإن قال بجهة البيع ولكنه قبضها فالقول حينئذ قول المقر أنه لم يقبضها لأن هذا بيان تغيير، فإنه يتأخر به حق المقر له في المطالبة بالالف إلى أن يحضر الجارية ليسلمها بمنزلة شرط الخيار أو الاجل في العقد يكون مغير لمقتضى مطلق العقد، ولا يكون ناسخا لاصله فيصح هذا البيان منه موصولا، وإذا كان مفصولا فإن صدقه في الجهة فقد ثبتت الجهة بتصادقهما عليه، ثم ليس في إقراره بالشراء ووجوب المال عليه بالعقد إقرار بالقبض فكان المقر له مدعيا عليه ابتداء تسليم المبيع، وهو منكر ليس براجع عما أقر به فجعلنا القول قول المنكر، وإذا كذبه في الجهة لم تثبت الجهة التي ادعاها وقد صح تصديقه له في وجوب المال عليه، وبيانه الذي قال إنه من ثمن جارية لم يقبضها بيان تغيير فلا يصح مفصولا‏.‏ وأبو حنيفة يقول هذا رجوع عما أقر به، لانه أقر بأول كلامه أن المال واجب له دينا في ذمته، وثمن جارية لا يوقف على أثرها لا تكون واجبة عليه إلا بعد القبض، فإن المبيعة قبل التسليم إذا صارت بحيث لا يوقف على عينها بحال بطل العقد ولا يكون ثمنها واجبا‏.‏ وقوله من ثمن جارية باعنيها ولكني لم أقبضها إشارة إلى هذا، فإن الجارية التي هي غير معينة لا يوقف على أثرها، وما من جارية يحضرها البائع إلا وللمشتري أن يقول المبيعة غيرها، فعرفنا أن آخر كلامه رجوع عما أقر به من وجوب المال دينا في ذمته، والرجوع لا يصح موصولا ولا مفصولا‏.‏ وعلى هذا قال أصحابنا في كتاب الشركة‏:‏ إذا قال لغيره بعت منك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه فإنه يجعل هذا بيعا لنصف العبد بجميع الالف، ولو قال علي أن لي نصفه يكون بائعا نصف العبد بخمسمائة، لانه إذا قيد كلامه بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى وإنما أدخله على المبيع دون الثمن، وما وراء المستثنى من المبيع نصف العبد فيصير بائعا لذلك بجميع الالف‏.‏ فأما قوله على أن لي نصفه فهو معارض بحكمه لصدر الكلام ويصير بائعا جميع العبد من نفسه ومن المشتري بالالف وبيعه من نفسه معتبر إذا كان مفيدا، ألا ترى أن المضارب يبيع مال المضاربة من رب المال فيجوز لكونه مفيدا، وإذا كان كل واحد من البدلين مملوكا له فهنا أيضا إيجابه لنفسه مفيد في حق تقسيم الثمن فيعتبر ويتبين به أنه صار بائعا نصفه من المشتري بنصف الالف، كما لو باع منه عبدين بألف درهم وأحدهما مملوك له يصير بائعا عبد نفسه منه بحصته من الثمن إذا قسم على قيمته وقيمة العبد الذي هو ملك المشتري‏.‏ وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف فيمن أودع صبيا محجورا عليه مالا فاستهلكه إنه يكون ضامنا، لأن تسليطه إياه على المال بإثبات يده عليه يتنوع نوعين استحفاظ وغير استحفاظ، فيكون قوله أحفظه بيانا منه لنوع ما كان من جهته وهو التمكين، وبيانه تصرف منه في حق نفسه مقصورا عليه غير متناول لحق الغير، فينعدم ما سوى الاستحفاظ لانعدام علته، وينعدم نفوذ الاستحفاظ لانعدام ولايته على المحل وكون الصبي ممن لا يحفظ، وبعد انعدام النوعين يصير كأنه لم يوجد تمكينه من المال أصلا فإذا استهلكه كان ضامنا، كما لو كان المال في يد صاحبه على حاله فجاء الصبي واستهلكه‏.‏ وأبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما قالا‏:‏ التسليط فعل مطلق وليس بعام حتى يصار فيه إلى التنويع، وقوله احفظ كلام ليس من جنس الفعل ليشتغل بتصحيحه بطريق الاستثناء ولكنه معارض، لأن الدفع إليه تسليط مطلقا، وقوله احفظ معارض بمنزلة دليل الخصوص أو بمنزلة ما قاله الخصم في الاستثناء، وإنما يكون معارضا إذا صح منه هذا القول شرعا كدليل الخصوص إنما يكون معارضا إذا صح شرعا، ولا خلاف أن قوله احفظ غير صحيح في حكم الاستحفاظ شرعا فيبقى التسليط مطلقا، فالاستهلاك بعد تسليط من له الحق مطلقا لا يكون موجبا للضمان على الصبي ولا على البالغ‏.‏ وما يخرج من المسائل على هذا الأصل يكثر تعدادها، فمن فهم ما أشرنا إليه فهو يهديه إلى ما سواها، والله أعلم‏.‏ فصل وأما بيان الضرورة فهو نوع من البيان يحصل بغير ما وضع له في الأصل‏.‏ وهو على أربعة أوجه‏:‏ منه ما ينزل منزلة المنصوص عليه في البيان، ومنه ما يكون بيانا بدلالة حال المتكلم، ومنه ما يكون بيانا بضرورة دفع الغرور، ومنه ما يكون بيانا بدلالة الكلام‏.‏ فأما الأول فنحو قوله‏:‏ ‏{‏وورثه أبواه فلامه الثلث‏}‏ فإنه لما أضاف الميراث إليهما في صدر الكلام ثم بين نصيب الام كان ذلك بيانا أن للاب ما بقي فلا يحصل هذا البيان بترك التنصيص على نصيب الاب، بل بدلالة صدر الكلام يصير نصيب الاب كالمنصوص عليه‏.‏ وعلى هذا قال أصحابنا في المضاربة‏:‏ إذا بين رب المال حصة المضارب من الربح ولم يبين حصة نفسه جاز العقد قياسا واستحسانا، لأن المضارب هو الذي يستحق بالشرط وإنما الحاجة إلى بيان نصيبه خاصة وقد وجد، ولو بين نصيب نفسه من الربح ولم يبين نصيب المضارب جاز العقد استحسانا، لأن مقتضى المضاربة الشركة بينهما في الربح فببيان نصيب أحدهما يصير نصيب الآخر معلوما ويجعل ذلك كالمنطوق به فكأنه قال ولك ما بقي‏.‏ وكذلك في المزارعة إذا بين نصيب من البذر من قبله ولم يبين نصيب الآخر جاز العقد استحسانا لهذا المعنى‏.‏ وكذلك لو قال في وصيته أوصيت لفلان وفلان بألف درهم لفلان منها أربعمائة، فإن ذلك بيان أن للآخر ستمائة بمنزلة ما لو نص عليه‏.‏ وكذلك لو قال أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو لزيد من ذلك ألف درهم فإنه يجعل هذا بيانا منه أن ما يبقى من الثلث لعمرو كما لو نص عليه‏.‏ وأما النوع الثاني فنحو سكوت صاحب الشرع عن معاينة شئ عن تغييره يكون بيانا منه لحقيته باعتبار حاله، فإن البيان واجب عند الحاجة إلى البيان، فلو كان الحكم بخلافه لبين ذلك لا محالة ولو بينه لظهر، وكذلك سكوت الصحابة عن بيان قيمة الخدمة للمستحق على المغرور يكون دليلا على نفيه بدلالة حالهم، لأن المستحق جاء يطلب حكم الحادثة وهو جاهل بما هو واجب له، وكانت هذه أول حادثة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوا فيه نصا عنه، فكان يجب عليهم البيان بصفة الكمال، والسكوت بعد وجوب البيان دليل النفي‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا ولدت أمة الرجل ثلاثة أولاد في بطون مختلفة فقال‏:‏ الاكبر ابني، فإنه يكون ذلك بيانا منه أن الآخرين ليسا بولدين له، لأن نفي نسب ولد ليس منه واجب، ودعوى نسب ولد هو منه ليتأكد به على وجه لا ينتفي واجب أيضا، فالسكوت عن البيان بعد تحقق الوجوب دليل النفي فيجعل ذلك كالتصريح بالنفي‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ البكر إذا بلغها نكاح الولي فسكتت يجعل ذلك إجازة منها باعتبار حالها فإنها تستحي، فيجعل سكوتها دليلا على جواب يحول الحياء بينها وبين التكلم به وهو الاجازة التي يكون فيها إظهار الرغبة في الرجال، فإنها إنما تستحي من ذلك‏.‏ وأما النوع الثالث فنحو سكوت المولى عن النهي عند رؤية العبد يبيع ويشتري، فإنه يجعل إذنا له في التجارة لضرورة دفع الغرور عمن يعامل العبد، فإن في هذا الغرور إضرارا بهم والضرر مدفوع ولهذا لم يصح الحجر الخاص بعد الاذن العام المنتشر، والناس لا يتمكنون من استطلاع رأي المولى في كل معاملة يعاملونه مع العبد، وإنما يتمكنون من التصرف بمرأى العين منه، ويستدلون بسكوته على رضاه، فجعلنا سكوته كالتصريح بالاذن لضرورة دفع الغرور‏.‏ وكذلك سكوت الشفيع عن طلب الشفعة بعد العلم بالبيع يجعل بمنزلة إسقاط الشفعة لضرورة دفع الغرور عن المشتري، فإنه يحتاج إلى التصرف في المشتري، فإذا لم يجعل سكوت الشفيع عن طلب الشفعة إسقاطا للشفعة فإما أن يمتنع المشتري من التصرف أو ينقض الشفيع عليه تصرفه، فلدفع الضرر والغرور جعلنا ذلك كالتنصيص منه على إسقاط الشفعة، وإن كان السكوت في أصله غير موضوع للبيان بل هو ضده‏.‏ وكذلك نكول المدعى عليه عن اليمين يجعل بمنزلة الاقرار منه إما لدفع الضرر عن المدعي فيكون من النوع الثالث، أو لحال الناكل وهو امتناعه من اليمين المستحقة عليه بعد تمكنه من إيفائه‏.‏ وأما النوع الرابع فبيانه فيما إذا قال لفلان علي مائة ودرهم أو مائة ودينار، فإن ذلك بيان للمائة أنها من جنس المعطوف عندنا‏.‏ وعند الشافعي يلزمه المعطوف والقول في بيان جنس المائة قوله، وكذلك لو قال مائة وقفيز حنطة أو ذكر مكيلا أو موزونا آخر‏.‏ واحتج فقال‏:‏ إنه أقر بمائة مجملا ثم عطف ما هو مفسر فيلزمه المفسر ويرجع إليه في بيان المجمل، كما لو قال مائة وثوب أو مائة وشاة أو مائة وعبد، وهذا لأن المعطوف غير المعطوف عليه فلا يكون العطف تفسيرا للمعطوف عليه بعينه، وكيف يكون تفسيرا وهو في نفسه مقر به لازم إياه ‏!‏ ولو كان تفسيرا له لم يجب به شئ لأن الوجوب بالكلام المفسر لا بالتفسير‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ قوله ودرهم بيان للمائة عادة ودلالة‏.‏ أما من حيث العادة فلان الناس اعتادوا حذف ما هو تفسير عن المعطوف عليه في العدد إذا كان المعطوف مفسرا بنفسه كما اعتادوا حذف التفسير عن المعطوف عليه والاكتفاء بذكر التفسير للمعطوف، فإنهم يقولون مائة وعشرة دراهم على أن يكون الكل من الدراهم، وإنما اعتادوا ذلك لضرورة طول الكلام وكثرة العدد والايجاز عند ذلك طريق معلوم عادة، وإنما اعتادوا هذا فيما يثبت في الذمة في عامة المعاملات كالمكيل والموزون دون ما لا يثبت في الذمة، إلا في معاملة خاصة كالثياب فإنها لا تثبت في الذمة قرضا ولا بيعا مطلقا، وإنما يثبت في السلم أو فيما هو في معنى السلم كالبيع بالثياب الموصوفة مؤجلا‏.‏ وأما من حيث الدلالة فلان المعطوف مع المعطوف عليه كشئ واحد من حيث الحكم والاعراب بمنزلة المضاف مع المضاف إليه، ثم الاضافة للتعريف حتى يصير المضاف معرفا بالمضاف إليه، فكذلك العطف متى كان صالحا للتعريف يصير المعطوف عليه معرفا بالمعطوف باعتبار أنهما كشئ واحد، ولكن هذا فيما يجوز أن يثبت في الذمة عند مباشرة السبب بذكر المعطوف بالمعطوف عليه كالمكيل والموزون‏.‏ فأما ما ليس بمقدر لا يثبت دينا في الذمة بذكر المعطوف ‏(‏والمعطوف‏)‏ عليه مع إلحاق التفسير بالمعطوف عليه، ولكن يحتاج إلى ذكر شرائط أخر، فلهذا لم نجعل المعطوف عليه مفسرا بالمعطوف هناك‏.‏ واتفقوا أنه لو قال لفلان علي مائة وثلاثة دراهم أنه تلزمه الكل من الدراهم‏.‏ وكذلك لو قال مائة وثلاثة أثواب أو ثلاثة أفراس أو ثلاثة أعبد، لانه عطف إحدى الجملتين على الاخرى ثم عقبهما بتفسير، والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه، فالتفسير المذكور يكون تفسيرا لهما‏.‏ وكذلك لو قال له علي أحد وعشرون درهما فالكل دراهم، لانه عطف العدد المبهم على ما هو واحد مذكور على وجه الابهام، وقوله درهما مذكور على وجه التفسير فيكون تفسيرا لهما، والاختلاف في قوله له مائة ودرهمان كالاختلاف في قوله ودرهم‏.‏ وقد روي عن أبي يوسف أنه إذا قال له علي مائة وثوب أو مائة وشاة فالمعطوف يكون تفسيرا للمعطوف عليه، بخلاف ما إذا قال مائة وعبد لأن في قوله مائة ودرهم إنما جعلناه تفسيرا باعتبار أن المعطوف والمعطوف عليه كشئ واحد، وهذا يتحقق في كل ما يحتمل القسمة، فإن معنى الاتحاد بالعطف في مثله يتحقق، فأما ما لا يحتمل القسمة مطلقا كالعبد لا يتحقق فيه معنى الاتحاد بسبب العطف فلا يصير المجمل بالمعطوف فيه مفسرا، والله أعلم‏.‏ باب‏:‏ النسخ جوازا وتفسيرا قال رضي الله عنه‏:‏ اعلم بأن الناس تكلموا في معنى النسخ لغة فقال بعضهم‏:‏ هو عبارة عن النقل، من قول القائل‏:‏ نسخت الكتاب إذا نقله من موضع إلى موضع‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو عبارة عن الابطال، من قولهم نسخت الشمس الظل‏:‏ أي أبطلته‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو عبارة عن الازالة من قولهم نسخت الرياح الآثار‏:‏ أي أزالتها‏.‏ وكل ذلك مجاز لا حقيقة، فإن حقيقة النقل أن تحول عين الشئ من موضع إلى موضع آخر ونسخ الكتاب لا يكون بهذه الصفة إذ لا يتصور نقل عين المكتوب من موضع إلى موضع آخر وإنما يتصور إثبات مثله في المحل الآخر‏.‏ وكذلك في الاحكام فإنه لا يتصور نقل الحكم الذي هو منسوخ إلى ناسخه وإنما المراد إثبات مثله مشروعا في المستقبل أو نقل المتعبد من الحكم الأول إلى الحكم الثاني‏.‏ وكذلك معنى الازالة فإن إزالة الحجر عن مكانه لا يعدم عينه ولكن عينه باق في المكان الثاني، وبعد النسخ لا يبقى الحكم الأول، ولو كان حقيقة النسخ الازالة لكان يطلق هذا اسم على كل ما توجد فيه الازالة وأحد لا يقول بذلك‏.‏ وكذلك لفظ الابطال فإن بالنص لا تبطل الآية وكيف تكون حقيقة النسخ الابطال وقد أطلق الله تعالى ذلك في الاثبات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ فعرفنا أن الاسم شرعي عرفناه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها‏}‏ وأوجه ما قيل فيه إنه عبارة عن التبديل من قول القائل نسخت الرسوم‏:‏ أي بدلت برسوم أخر‏.‏ وقد استبعد هذا المعنى بعض من صنف في هذا الباب من مشايخنا وقال‏:‏ في إطلاق لفظ التبديل إشارة إلى أنه رفع الحكم المنسوخ وإقامة الناسخ مقامه، وفي ذلك إيهام البداء والله تعالى يتعالى عن ذلك‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ وعندي أن هذا سهو منه وعبارة التبديل منصوص عليه في القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏ وإذا كان اسم النسخ شرعيا معلوما بالنص فجعله عبارة عما يكون معلوما بالنص أيضا يكون أولى الوجوه‏.‏ ثم هو في حق الشارع بيان محض، فإن الله تعالى عالم بحقائق الامور لا يعزب عنه مثقال ذرة، ثم إطلاق الامر بشئ يوهمنا بقاء ذلك على التأبيد من غير أن نقطع القول به في زمن من ينزل عليه الوحي، فكان النسخ بيانا لمدة الحكم المنسوخ في حق الشارع وتبديلا لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا على ما كان معلوما عندنا لو لم ينزل الناسخ، بمنزلة القتل فإنه انتهاء الاجل في حق من هو عالم بعواقب الامور‏.‏ لأن المقتول ميت بأجله بلا شبهة، ولكن في حق القاتل جعل فعله جناية على معنى أنه يعتبر في حقه حتى يستوجب به القصاص وإن كان ذلك موتا بالاجل المنصوص عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ ومن فهم معنى التبديل بهذه الصفة عرف أنه ليس فيه من إيهام البداء شئ‏.‏ ثم المذهب عند المسلمين أن النسخ جائز في الامر والنهي الذي يجوز أن يكون ثابتا ويجوز أن لا يكون على ما نبينه في فصل محل النسخ، وعلى قول اليهود النسخ لا يجوز أصلا‏.‏ وهم في ذلك فريقان‏:‏ فريق منهم يأبى النسخ عقلا، وفريق يأبى جوازه سمعا وتوقيفا‏.‏ وقد قال بعض من لا يعتد بقوله من المسلمين إنه لا يجوز النسخ أيضا، وربما قالوا لم يرد النسخ في شئ أصلا‏.‏ ولا وجه للقول الأول إذا كان القائل ممن يعتقد الاسلام، فإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لما قبلها من الشرائع فكيف يتحقق هذا القول منه مع اعتقاده لهذه الشريعة‏.‏ والثاني باطل نصا، فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا بدلنا آية مكان آية‏}‏ نص قاطع على جواز النسخ، وانتساخ التوجه إلى بيت المقدس بفرضية التوجه إلى الكعبة أمر ظاهر لا ينكره عاقل، فقول من يقول لم يوجد باطل من هذا الوجه‏.‏ فأما من قال من اليهود إنه لا يجوز بطريق التوقيف استدل بما يروى عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والارض‏.‏ وزعموا أن هذا مكتوب في التوراة عندهم، وقالوا قد ثبت عندنا بالطريق الموجب للعلم وهو خبر التواتر عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ إن شريعتي لا تنسخ كما تزعمون أنتم أن ذلك ثبت عندكم بالنقل المتواتر عمن تزعمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبهذا الطريق طعنوا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا من أجل العمل في السبت لا يجوز تصديقه ولا يجوز أن يأتي بمعجزة تدل على صدقه‏.‏ ومن أنكر منهم ذلك عقلا قال الامر بالشئ دليل على حسن المأمور به، والنهي عن الشئ دليل على قبح المنهي عنه، والشئ الواحد لا يجوز أن يكون حسنا وقبيحا، فالقول بجواز النسخ قول بجواز البداء، وذلك إنما يتصور ممن يجهل عواقب الامور والله تعالى يتعالى عن ذلك، يوضحه أن مطلق الامر يقتضي التأبيد في الحكم وكذلك مطلق النهي، ولهذا حسن منا اعتقاد التأبيد فيه فيكون ذلك بمنزلة التصريح بالتأبيد، ولو ورد نص بأن العمل في السبت حرام عليكم أبدا لم يجز نسخه بعد ذلك بحال، فكذلك إذا ثبت التأبيد بمقتضى مطلق الامر إذ لو كان ذلك موقتا كما قلتم لكان تمام البيان فيه بالتنصيص على التوقيت، فما كان يحسن إطلاقه عن ذكر التوقيت وفي ذلك إيهام الخلل فيما بينه الله تعالى فلا يجوز القول به أصلا‏.‏ وحجتنا فيه من طريق التوقيف اتفاق الكل على أن جواز النكاح بين الاخوة والاخوات قد كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام، وبه حصل التناسل، وقد انتسخ ذلك بعده، وكذلك جواز الاستمتاع بمن هو بعض من المرء قد كان في شريعته، فإن حواء رضي الله عنها خلقت منه وكان يستمتع بها ثم انتسخ ذلك الحكم حتى لا يجوز لاحد أن يستمتع بمن هو بعض منه بالنكاح نحو ابنته، ولأن اليهود مقرون بأن يعقوب عليه السلام حرم شيئا من المطعومات على نفسه، وأن ذلك صار حراما عليهم كما أخبرنا الله تعالى به في قوله‏:‏ ‏{‏كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏}‏ الآية، والنسخ ليس إلا تحريم المباح أو إباحة الحرام، وكذلك العمل في السبت كان مباحا قبل زمن موسى عليه السلام فإنهم يوافقوننا على أن حرمة العمل في السبت من شريعة موسى، وإنما يكون من شريعته إذا كان ثبوته بنزول الوحي عليه، فأما إذا كان ذلك قبل شريعته على هذا الوجه أيضا فلا فائدة في تخصيصه أنه شريعته، فإذا جاز ثبوت الحرمة في شريعته بعد ما كان مباحا جاز ثبوت الحل في شريعة نبي آخر قامت الدلالة على صحة نبوته‏.‏ ومن حيث المعقول الكلام من وجهين‏:‏ أحدهما أن النسخ في المشروعات التي يجوز أن تكون مشروعا ويجوز أن لا تكون، ومعلوم أن هذه المشروعات شرعها الله تعالى على سبيل الابتلاء لعباده حتى يميز المطيع من العاصي‏.‏ ومعنى الابتلاء يختلف باختلاف أحوال الناس، وباختلاف الاوقات، فإن في هذا الابتلاء حكمة بالغة وليس ذلك إلا منفعة للعباد في ذلك عاجلا أو آجلا، لأن الله تعالى يتعالى عن أن يلحقه المضار والمنافع، وما لا منفعة فيه أصلا يكون عبثا ضدا للحكمة، ثم قد تكون المنفعة في إثبات شئ في وقت وفي نفيه في وقت آخر كإيجاب الصوم في النهار إلى غروب الشمس أو طلوع النجوم كما هو مذهبهم، ونفي الصوم بعد ذلك، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس كوجوب اعتزال المرأة في حالة الحيض وانتفاء ذلك بعدما طهرت، ألا ترى أنه لو نص على ذكر الوقت فيه بأن قال حرمت عليكم العمل في السبت ألف سنة ثم هو مباح بعد ذلك كان مستقيما وكان معنى الابتلاء فيه متحققا ولم يكن فيه من معنى البداء شئ، فكذلك عند إطلاق اللفظ في التحريم‏.‏ ثم النسخ بعد ذلك إذا انتهت مدة التحريم الذي كان معلوما عند الشارع حين شرعه لا يكون فيه من معنى البداء شئ بل يكون امتحانا للمخاطبين في الوقتين جميعا، وهو بمنزلة تبديل الصحة بالمرض والمرض بالصحة، وتبديل الغنى بالفقر والفقر بالغنى، فإن ذلك ابتلاء بالطريق الذي قلنا إليه أشار الله تعالى فيما أنزله على نبينا صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏{‏إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج نبتليه‏}‏ والثاني أن النسخ بيان مدة بقاء الحكم وذلك غيب عنا لو بينه لنا في وقت الامر كان حسنا لا يشوبه من معنى القبح شئ فكذلك إذا بينه بعد ذلك بالنسخ‏.‏ وإنما قلنا ذلك لأن النسخ إنما يكون فيما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون مشروعا ومع الشرع مطلقا يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل أن يكون مؤبدا احتمالا على السواء، لأن الامر يقتضي كونه مشروعا من غير أن يكون موجبا بقاءه مشروعا وإنما البقاء بعد الثبوت بدليل آخر سبق أو بعدم الدليل المزيل، فأما أن يكون ذلك واجبا بالامر فلا، لأن إحياء الشريعة بالامر به كإحياء الشخص وذلك لا يوجب بقاءه وإنما يوجب وجوده، ثم البقاء بعد ذلك بإبقاء الله تعالى إياه أو بانعدام سبب الفناء، فكما أن الاماتة بعد الاحياء لا يكون فيه شئ من معنى القبح، ولا يكون دليل البداء والجهل بعواقب الامور بل يكون ذلك بيانا لمدة بقاء الحياة الذي كان معلوما عند الخالق حين خلقه، وإن كان ذلك غيبا عنا فكذلك النسخ في حكم الشرع‏.‏ فإن قيل‏:‏ فعلى هذا بقاء الحكم قبل أن يظهر ناسخه لا يكون مقطوعا به لانه ما لم يكن هناك دليل موجب له لا يكون مقطوعا به، ولا دليل سوى الامر به‏.‏ قلنا‏:‏ أما في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك نقول بقاءه بعد الامر إنما يكون باستصحاب الحال لجواز نزول الوحي بما ينسخه ويبين به مدة بقائه إلا أن الواجب علينا التمسك بما ظهر عندنا لا بما هو غيب عنا، فما لم تظهر لنا مدة البقاء بنزول الناسخ يلزمنا العمل به، وكذلك بعد نزول الناسخ قبل أن يعلم المخاطب به‏.‏ وهو نظير حياة المفقود بعدما غاب عنا فإنه يكون ثابتا باستصحاب الحال لا بدليل موجب لبقائه حيا، ولكنا نجعله في حكم الاحياء بناء على ما ظهر لنا حتى يتبين انتهاء مدة حياته بظهور موته، فأما بعد وفاة الرسول عليه السلام فلم يبق احتمال النسخ وصار البقاء ثابتا بدليل مقطوع به وهو أن النسخ لا يكون إلا على لسان من ينزل عليه الوحي، ولا توهم لذلك بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فإن قيل‏:‏ فعلى هذا لا يكون النسخ في أصل الامر لأن الحكم الثابت بالامر غير الامر فببيان مدته لا يثبت تبديل الامر بالنهي‏.‏ قلنا‏:‏ وهكذا نقول فإنه ليس في النسخ تعرض للامر بوجه من الوجوه بل للحكم الثابت به ظاهرا بناء على ما هو معلوم لنا، فإنه كان يجوز البقاء بعد هذه المدة باعتبار الاطلاق الذي كان عندنا‏.‏ فأما في حق الشارع فهو بيان مدة الحكم كما كان معلوما له حقيقة ولا يتحقق منه توهم التعرض للامر ولا لحكمه، كالاماتة بعد الاحياء، فإنه بيان المدة من غير أن يكون فيه تعرض لاصل الاحياء ولا لما يبتنى عليه من مدة البقاء، فاعتبار ما هو ظاهر لنا يكون فيه تبديل صفة الحياة بصفة الوفاة، وإنما تتحقق المنافاة بين القبح والحسن في محل واحد في وقت واحد، فأما في وقتين ومحلين فلا يتحقق ذلك، ألا ترى أنه لا يتوجه الخطاب على من لا يعقل من صبي أو مجنون ثم يتوجه عليه الخطاب بعدما عقل، ويكون كل واحد منهما حسنا لاختلاف الوقت أو لاختلاف المحل‏.‏ وهذا لأن أحوالنا تتبدل فيكون النسخ تبديلا بناء على ما يتبدل من أحوالنا من العلم مدة البقاء والجهل به لا يكون مؤديا إلى الجمع بين صفة القبح والحسن والله يتعالى عن ذلك، فكان في حقه بيانا محضا لمدة بقاء المشروع بمنزلة المنصوص عليه حين شرعه‏.‏ وما استدلوا به من السمع لا يكاد يصح عندنا بعدما ثبت رسالة رسل بعد موسى عليه السلام بالآيات المعجزة، والدلائل القاطعة‏.‏ ودعواهم أن ذلك في التوراة غير مسموعة منهم، لانه ثبت عندنا على لسان من ثبتت رسالته أنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا، ولأن كلام الله تعالى لا يثبت إلا بالنقل المتواتر وذلك لا يوجد في التوراة بعدما فعل بختنصر ببني إسرائيل ما فعل من القتل الذريع وإحراق أسفار التوراة‏.‏ وفي المسألة كلام كثير بين أهل الاصول، ولكنا اقتصرنا هنا على قدر ما يتصل بأصول الفقه، والمقصود من بيان هذه المسألة هنا ما يترتب عليها من أصول الفقه، والله الموفق للاتمام‏.‏

فصل‏:‏ في بيان محل النسخ

قد بينا أن جواز النسخ مختص بما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون مشروعا وهو مما يحتمل التوقيت نصا مع كونه مشروعا، لانه بيان مدة بقاء الحكم وبعد انتهاء المدة لا يبقى مشروعا فلا بد من أن يكون فيه احتمال الوصفين‏.‏ وبهذا البيان يظهر أنه إذا كان موقتا فلا بد من أن يكون محتملا للتوقيت نصا، وفي هذا بيان أنه ليس في أصل التوحيد احتمال النسخ بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل كان ولا يزال يكون، ومن صفاته أنه صادق حكيم عالم بحقائق الامور فلا احتمال للنسخ في هذا بوجه من الوجوه، ألا ترى أن الامر بالايمان بالله وكتبه ورسله لا يحتمل التوقيت بالنص، وأنه لا يجوز أن يكون غير مشروع بحال من الاحوال‏.‏ وعلى هذا قال جمهور العلماء لا نسخ في الاخبار أيضا، يعنون في معاني الاخبار واعتقاد كون المخبر به على ما أخبر به الصادق الحكيم، بخلاف ما يقوله بعض أهل الزيغ من احتمال النسخ في الاخبار التي تكون في المستقبل، لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ ولكنا نقول‏:‏ الاخبار ثلاثة‏:‏ خبر عن وجود ما هو ماض وذلك ليس فيه احتمال التوقيت ولا احتمال أن لا يكون موجودا، وخبر عما هو موجود في الحال وليس فيه هذا الاحتمال أيضا، وخبر عما هو كائن في المستقبل نحو الاخبار بقيام الساعة وليس فيه احتمال ما بينا من التردد، فتجويز النسخ في شئ من ذلك يكون قولا بتجويز الكذب والغلط على المخبر به، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال اعتقدوا الصدق في هذا الخبر إلى وقت كذا ثم اعتقدوا فيه الكذب بعد ذلك‏.‏ والقول بجواز النسخ في معاني الاخبار يؤدي إلى هذا لا محالة، وهو البداء والجهل الذي تدعيه اليهود في أصل النسخ‏.‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ فقد فسره الحسن رضي الله عنه بالاحياء والاماتة‏.‏ وفسره زيد بن أسلم رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء‏}‏ مما أنزله من الوحي ‏{‏ويثبت‏}‏ بإنزال الوحي فيه‏.‏ فعلى هذا يتبين أن المراد ما يجوز أن يكون مؤقتا أو أن المراد التلاوة، ونحن نجوز ذلك في الاخبار أيضا بأن تترك التلاوة فيه حتى يندرس وينعدم حفظه من قلوب العباد كما في الكتب المتقدمة، وإنما لا يجوز ذلك في معاني الاخبار على ما قررنا‏.‏ وإنما محل النسخ الاحكام المشروعة بالامر والنهي مما يجوز أن لا يكون مشروعا ويجوز أن يكون مشروعا موقتا‏.‏ وذلك ينقسم أربعة أقسام‏:‏ قسم منه ما هو مؤبد بالنص، وقسم منه ما يثبت التأبيد فيه بدلالة النص، وقسم منه ما هو موقت بالنص‏.‏ فهذه الاقسام الثلاثة ليس فيها احتمال النسخ أيضا، وإنما احتمال النسخ في القسم الرابع وهو المطلق الذي يحتمل أن يكون موقتا ويحتمل أن يكون مؤبدا احتمالا على السواء‏.‏ فأما بيان القسم الأول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة‏}‏ ففيه تنصيص على التأبيد، وكذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فيها أبدا‏}‏ لأن بعد التنصيص على التأبيد بيان التوقيت فيه بالنسخ لا يكون إلا على وجه البداء وظهور الغلط، والله تعالى يتعالى عن ذلك‏.‏ وما ثبت التأبيد فيه بدلالة النص فبيانه في الشرائع بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقرا عليها فإنه ليس فيها احتمال النسخ، لأن النسخ لا يكون إلا على لسان من ينزل عليه الوحي، وقد ثبت بدليل مقطوع به أن رسول الله خاتم النبيين وأنه لا نسخ لشريعته فلا يبقى احتمال النسخ بعد هذه الدلالة فيما كان شريعة له حين قبض‏.‏ ونظيره من المخلوقات الدار الآخرة فقد ثبت بدليل مقطوع به أنه لا فناء لها‏.‏ وأما القسم الثالث‏:‏ فبيانه في قول القائل‏:‏ أذنت لك في أن تفعل كذا إلى مائة سنة، فإن النهي قبل مضي تلك المدة يكون من باب البداء، ويتبين به أن الاذن الأول كان غلطا منه لجهله بعاقبة الامر، والنسخ الذي يكون مؤديا إلى هذا لا يجوز القول به في أحكام الشرع، ولم يرد شرع بهذه الصفة‏.‏ فأما القسم الرابع‏:‏ فبيانه في العبادات المفروضة شرعا عند أسباب جعلها الشرع سببا لذلك فإنها تحتمل التوقيت نصا يعني في الاداء اللازم باعتبار الامر، وفي الاسباب التي جعلها الله تعالى سببا لذلك، فإنه لو قال جعلت زوال الشمس سببا لوجوب صلاة الظهر عليكم إلى وقت كذا كان مستقيما، ولو قال جعلت شهود الشهر سببا لوجوب الصوم عليكم إلى وقت كذا كان مستقيما‏.‏ وهذا كله في الأصل مما يجوز أن يكون مشروعا ويجوز أن لا يكون، فكان النسخ فيه بيانا لمدة بقاء الحكم وذلك جائز باعتبار ما بينا من المعنيين‏:‏ أحدهما أن معنى الابتلاء والمنفعة للعباد في شئ يختلف باختلاف الاوقات واختلاف الناس في أحوالهم‏.‏ والثاني أن دليل الايجاب غير موجب للبقاء بمنزلة البيع يوجب الملك في المبيع للمشتري ولا يوجب بقاء الملك بل بقاؤه بدليل آخر مبق أو بعدم دليل المزيل وهو موجب الثمن في ذمة المشتري ولا يوجب بقاء الثمن في ذمته لا محالة، ولا يكون في النسخ تعرضا للامر ولا للحكم الذي هو موجبه، وامتناع جواز النسخ فيما تقدم من الاقسام كان لاجتماع معنى القبح والحسن، وإنما يتحقق ذلك في وقت واحد لا في وقتين، حتى إن ما يكون حسنا لعينه لا يجوز أن يكون قبيحا لعينه بوجه من الوجوه‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس أن الخليل صلى الله عليه وسلم أمر بذبح ولده وكان الامر دليلا على حسن ذبحه ثم انتسخ ذلك فكان منهيا عن ذبحه مع قيام الامر حتى وجب ذبح الشاة فداء عنه، ولا شك أن النهي عن ذبح الولد الذي به يثبت الانتساخ كان دليلا على قبحه وقد قلتم باجتماعهما في وقت واحد‏.‏ قلنا‏:‏ لا كذلك فإنا لا نقول بأنه انتسخ الحكم الذي كان ثابتا بالامر، وكيف يقال به وقد سماه الله محققا رؤياه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا‏}‏‏:‏ أي حققت ما أمرت به‏.‏ وبعد النسخ لا يكون هو محققا ما أمر به، ولكنا نقول الشاة كانت فداء كما نص الله عليه في قوله‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ على معنى أنه يقدم على الولد في قبول حكم الوجوب بعد أن كان الايجاب بالامر مضافا إلى الولد حقيقة، كمن يرمي سهما إلى غيره فيفديه آخر بنفسه بأن يتقدم عليه حتى ينفذ فيه بعد أن يكون خروج السهم من الرامي إلى المحل الذي قصده، وإذا كان فداء من هذا الوجه كان هو ممتثلا للحكم الثابت بالامر فلا يستقيم القول بالنسخ فيه، لأن ذلك يبتنى على النهي الذي هو ضد الامر، فلا يتصور اجتماعهما في وقت واحد‏.‏ فإن قيل‏:‏ فإيش الحكمة في إضافة الايجاب إلى الولد إذا لم يجب به ذبح الولد‏؟‏ قلنا‏:‏ فيه تحقيق معنى الابتلاء في حق الخليل عليه السلام حتى يظهر منه الانقياد والاستسلام والصبر على ما به من حرقة القلب على ولده، وفي حق الولد بالصبر والمجاهدة على معرة الذبح إلى حال المكاشفة‏.‏ وفيه إظهار معنى الكرامة والفضيلة للخليل عليه السلام بالاسلام لرب العالمين، وللولد بأن يكون قربانا لله، وإليه أشار الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏فلما أسلما‏}‏ ثم استقر حكم الوجوب في الشاة بطريق الفداء للولد كما قال‏:‏ ‏{‏وفديناه بذبح عظيم‏}‏ والفداء اسم لما يكون واجبا بالسبب الموجب للاصل فيه يتبين انعدام النسخ هنا لانعدام ركنه فإنه بيان مدة بقاء الواجب، وحين وجبت الشاة فداء كان الواجب قائما والولد حرام الذبح، فعرفنا أنه لا وجه للقول بأنه كان نسخا‏.‏ ثم على مذهب علمائنا يجوز نسخ الاخف بالاثقل كما يجوز نسخ الاثقل بالاخف‏.‏ وذكر الشافعي في كتاب الرسالة أن الله تعالى فرض فرائض أثبتها وأخرى نسخها رحمة وتخفيفا لعباده، فزعم بعض أصحابه أنه أشار بهذا إلى وجه الحكمة في النسخ‏.‏ وقال بعضهم بل أراد به أن الناسخ أخف من المنسوخ وكان لا يجوز نسخ الاخف بالاثقل، واستدلوا فيه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها‏}‏ وبالاتفاق ليس المراد أن الناسخ أفضل من المنسوخ، فعرفنا أن المراد أنه خير من حيث إنه أخف، وعليه نص في موضع آخر فقال‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ الآية‏.‏ ولكنا نستدل بقوله‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت‏}‏ فالتقييد بكون الناسخ أخف من المنسوخ يكون زيادة على هذا النص من غير دليل، ثم المعنى الذي دل على جواز النسخ وهو ما أشرنا إليه من الابتلاء والنقل إلى ما فيه منفعة لنا عاجلا أو آجلا لا يفصل بينهما، فقد يكون المنفعة تارة في النقل إلى ما هو أخف على البدن، وتارة في النقل إلى ما هو أشق على البدن، ألا ترى أن الطبيب ينقل المريض من الغذاء إلى الدواء تارة، ومن الدواء إلى الغذاء تارة بحسب ما يعلم من منفعته فيه‏.‏ ثم هو بيان مدة بقاء الحكم على وجه لو كان مقرونا بالامر لكان صحيحا مستقيما، وفي هذا لا فرق بين الاثقل والاخف، ولا حجة لهم في قوله‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم‏}‏ فإن النسخ في ذلك الحكم بعينه كان نقلا من الاثقل إلى الاخف، وهذا يدل على أن كل نسخ يكون بهذه الصفة، ألا ترى أن حد الزنا كان في الابتداء هو الحبس والاذى باللسان ثم انتسخ ذلك بالجلد والرجم‏.‏ ولا شك أن الناسخ أثقل على البدن‏.‏ وجاء عن معاذ وابن عمر رضي الله عنهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن تصوموا خير لكم‏}‏ أن حكمه كان هو التخيير للصحيح بين الصوم والفدية ثم انتسخ ذلك بفرضية الصوم عزما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏ وانتسخ حكم إباحة الخمر بالتحريم وهو أشق على البدن‏.‏ ثم لا شك أنه قد افترض على العباد بعض ما كان مشروعا لا بصفة الفرضية وإلزام ما كان مباحا يكون أشق لا محالة‏.‏ وبهذا يتبين أنه ليس المراد من قوله‏:‏ ‏{‏نأت بخير منها‏}‏ الاخف على البدن، فإن الحج ما كان لازما قبل نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولله على الناس حج البيت‏}‏ وكان كل مسلم مندوبا إلى أدائه ثم صار الاداء لازما بهذه الآية وهذا أشق على البدن، يوضحه أن ترك الخروج للحج يكون أخف على البدن من الخروج، ولا إشكال أن الخروج إلى أداء الحج بعد التمكن خير من الترك‏.‏ فبهذا يتبين ضعف استدلالهم‏.‏