فصل: فصل: في بيان الكلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***


فصل‏:‏ في بيان الكلام

في القسم الثاني وهو السبب أما الكلام في القسم الثاني فنقول‏:‏ تفسير السبب لغة‏:‏ الطريق إلى الشئ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وآتيناه من كل شئ سببا فأتبع سببا‏}‏ أي طريقا‏.‏ وقيل هو بمعنى الباب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات‏}‏‏:‏ أي أبوابها، ومنه قول زهير‏:‏ ولو نال أسباب السماء بسلم أي أبوابها‏.‏ وقيل هو بمعنى الحبل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فليمدد بسبب إلى السماء‏}‏ الآية يعني بحبل من سقف البيت، فالكل يرجع إلى معنى ‏(‏واحد‏)‏ وهو طريق الوصول إلى الشئ‏.‏ وفي الاحكام السبب‏:‏ عبارة عما يكون طريقا للوصول إلى الحكم المطلوب من غير أن يكون الوصول به ولكنه طريق الوصول إليه، بمنزلة طريق الوصول إلى مكة، فإن الوصول إليها يكون بمشي الماشي وفي ذلك الطريق لا بالطريق، ولكن يتوصل إليها من ذلك الطريق عند قصد الوصول إليها‏.‏ وكذلك الحبل، فإنه طريق للوصول إلى قعر البئر أو إلى الماء الذي في البئر ولكن لا بالحبل بل بنزول النازل أو استقاء النازح بالحبل‏.‏ وأما تفسير العلة فهي‏:‏ المغيرة بحلولها حكم الحال، ومنه سمي المرض علة لأن بحلولها بالشخص يتغير حاله، ومنه يسمى الجرح علة لأن بحلوله بالمجروح يتغير حكم الحال‏.‏ وقيل العلة‏:‏ حادث يظهر أثره فيما حل به لا عن اختبار منه، ولهذا سمي الجرح علة، ولا يسمى الجارح علة، لانه يفعل عن اختيار، ولانه غير حال بالمجروح‏.‏ وفي أحكام الشرع العلة معنى في النصوص وهو تغير حكم الحال بحلوله بالمحل يوقف عليه بالاستنباط، فإن قوله عليه السلام‏:‏ الحنطة بالحنطة مثلا بمثل غير حال بالحنطة ولكن في الحنطة وصف هو حال بها وهو كونه مكيلا مؤثرا في المماثلة ويتغير حكم الحال بحلوله فيكون علة لحكم الربا فيه، حتى إنه لما لم يحل القليل الذي لا يدخل تحت الكيل لا يتغير حكم العقد فيه بل يبقى بعد هذا النص على ما كان عليه قبله‏.‏ وكذلك البيع علة للملك شرعا، والنكاح علة للحل شرعا، والقتل العمد علة لوجوب القصاص شرعا، باعتبار أن الشرع جعلها موجبة لهذه الاحكام، وقد بينا أن العلل الشرعية لا تكون موجبة بذواتها وأنه لا موجب إلا الله إلا أن ذلك الايجاب غيب في حقنا فجعل الشرع الاسباب التي يمكننا الوقوف عليها علة لوجوب الحكم في حقنا للتيسير علينا، فأما في حق الشرع فهذه العلل لا تكون موجبة شيئا، وهو نظير الاماتة، فإن المميت والمحيي هو الله تعالى حقيقة ثم جعله مضافا إلى القاتل بعلة القتل فيما ينبني عليه من الاحكام‏.‏ وكذلك أجزية الاعمال، فإن المعطي للجزاء هو الله تعالى بفضله ثم جعل ذلك مضافا إلى عمل العامل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ فهذا هو المذهب المرضي التوسط بين الطريقين، لا كما ذهب إليه الجبرية من إلغاء العمل أصلا، ولا كما ذهب إليه القدرية من الاضافة إلى العمل حقيقة وجعل ‏(‏العامل‏)‏ مستبدا بعمله‏.‏ ثم هذه العلل الشرعية تسمى نظرا، وتسمى قياسا، وتسمى دليلا أيضا على معنى أنه يوقف به على معرفة الحكم، والدليل على الشئ ما يوقف به على معرفته كالدخان دليل على النار، والبناء دليل على الباني، ولكن ما يكون علة يجوز أن يسمى دليلا، وما يكون دليلا محضا لا يجوز أن يسمى علة، ألا ترى أن حدوث الاعراض دليل على حدوث الاجسام ولا يجوز أن يقال إنها علة لحدوث الاجسام، والمصنوعات دليل على الصانع ولا يجوز أن يقال إنها علة للصانع تعالى، فعرفنا أن الدليل قط لا يكون علة، وقد تكون العلة دليلا‏.‏ وأما الشرط فمعناه لغة‏:‏ العلامة اللازمة، ومنه يقال أشراط الساعة‏:‏ أي علاماتها اللازمة لكون الساعة آتية لا محالة، ومنه الشرطي لانه نصب نفسه على زي وهيئة لا يفارقه ذلك في أغلب أحواله فكأنه لازم له، ومنه شرط الحجام لانه يحصل بفعله في موضع المحاجم علامة لازمة، ومنه الشروط في الوثائق لانها تكون لازمة، فعرفنا أن الشرط في اللغة‏:‏ العلامة اللازمة، ومنه سمى أهل اللغة حرف إن حرف الشرط، من قول القائل لغيره‏:‏ إن أكرمتني أكرمتك، فإن قوله أكرمتك بصيغة الفعل الماضي، ولكن بقوله إن أكرمتني يصير إكرام المخاطب علامة لازمة لاكرام المخاطب إياه، فكان شرطا من هذا الوجه‏.‏ وفي أحكام الشرع ‏(‏الشرط‏)‏ اسم لما يضاف الحكم إليه وجودا عنده لا وجوبا به، فإن قول القائل لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق، يجعل دخول الدار شرطا حتى لا يقع الطلاق بهذا اللفظ إلا عند الدخول، ويصير الطلاق عند وجود الدخول مضافا إلى الدخول موجودا عنده لا واجبا به، بل الوقوع بقوله أنت طالق عند الدخول، ومن حيث إنه لا أثر للدخول في الطلاق من حيث الثبوت به ولا من حيث الوصول إليه لم يكن الدخول سببا ولا علة، ومن حيث إنه مضاف إليه وجودا عنده كان الدخول شرطا فيه، ولهذا لا نوجب الضمان على شهود الشرط بحال، وإنما نوجب الضمان على شهود التعليق بعد وجود الشرط إذا رجعوا‏.‏ وقد يقام الشرط مقام السبب في حكم الضمان عند تعذر إضافة الاتلاف إلى السبب نحو حافر البئر على الطريق يكون ضامنا لما يسقط فيه، وهو صاحب الشرط من حيث إنه أزال بفعله المسكة عن الارض وهو محل يستقر فيه الثقيل، والمحال في حكم الشروط ولكن لما تعذر إضافة الاتلاف إلى ما هو السبب حقيقة وهو ثقل الماشي ومشبه جعل مضافا إلى الشرط في حكم الضمان، حتى لو دفع الواقع في البئر إنسان فإن الضمان يكون على الدافع دون الحافر، لأن السبب هنا صالح لاضافة الاتلاف إليه‏.‏ وسنقرر هذا في فصل الشرط، إن شاء الله تعالى‏.‏ أما العلامة لغة فهي‏:‏ المعرف بمنزلة الميل والمنارة، والميل علامة الطريق لانه معرف له، والمنارة علامة الجامع لانها معرفة له، ومنه سمي المميز بين الارضين من المسناة منار الارض، قال عليه السلام‏:‏ لعن الله من غير منار الارض‏:‏ أي العلامة التي تعرف بها لتمييز بين الارضين‏.‏ وكذلك في أحكام الشرع‏:‏ العلامة ما يكون معرفا للحكم الثابت بعلته من غير أن يكون الحكم مضافا إلى العلامة وجوبا لها لا وجودا عندها، على ما نبينه في فصل على حدة إن شاء الله تعالى‏.‏

فصل‏:‏ في بيان تقسيم السبب

قال رضي الله عنه‏:‏ اعلم بأن أسباب الاحكام الشرعية أنواع أربعة‏:‏ سبب صورة لا معنى وهو يسمى سببا مجازا، وسبب صورة ومعنى وهو يسمى سببا محضا، وسبب فيه شبهة العلة، وسبب هو بمعنى العلة‏.‏ وقد بينا أن السبب‏:‏ ما هو طريق الوصول إلى الشئ‏.‏ فأما الذي يسمى السبب مجازا فنحو اليمين بالله تعالى‏:‏ يسمى سببا للكفارة مجازا باعتبار الصورة، وهو ليس بسبب معنى، فإن أدنى حد السبب أن يكون طريقا للوصول إلى المقصود، والكفارة باليمين إنما تجب بعد الحنث، وهي مانعة من الحنث موجبة لضده وهو البر، فعرفنا أنه ليس بسبب للكفارة معنى قبل الحنث ولكن يسمى سببا مجازا، لانه طريق الوصول إلى وجوب الكفارة بعد زوال المانع وهو البر وكذلك النذر المعلق بالشرط الذي لا يريد كونه، سبب لوجوب المنذور صورة لا معنى، لانه يقصد به منع ما يجب المنذور عند وجوده وهو إيجاد الشرط، وإنما يكون سببا بعد زوال المانع حقيقة‏.‏ وكذلك الطلاق والعتاق المعلق بالشرط، فإن التعليق سبب صورة لا معنى، لانه بالتعليق يمنع نفسه مما يقع الطلاق والعتاق عند وجوده‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ التعليق بالملك صحيح وإن لم يكن الملك موجودا في الحال، لأن المعلق ليس بطلاق ولا هو سبب الطلاق حقيقة ولكن يصير سببا عند وجود الشرط، وهذا لأن الطلاق والعتاق لا يكون بدون المحل والتعليق يمنع الوصول إلى المحل‏.‏ وكذلك النذر، فإنه التزام في الذمة والتعليق يمنع وصول المنذور إلى الذمة، والتصرف بدون المحل لا يكون سببا كبيع الحر، إلا أن هناك ينعقد تصرف آخر وهو اليمين، لانه عقد مشروع لمقصود وفي ذلك المقصود التصرف صادف محله وهو ذمة الحالف، بخلاف بيع الحر فإنه لا ينعقد أصلا، وعلى هذا لا يجوز التكفير بعد اليمين قبل الحنث بالمال ولا بالصوم، لانها ليست بسبب للكفارة معنى، والاداء قبل تحقق السبب لا يجوز، بخلاف تعجيل الكفارة بعد الجرح قبل زهوق الروح في الآدمي والصيد، لانه سبب محض من حيث إنه طريق مفض إلى القتل عند زهوق الروح بالسراية، يوضحه أن اليمين لا تبقى بعد الحنث لانها مشروعة لمقصود وهو البر، وذلك يفوت بالحنث أصلا، والعقد لا يبقى بعد فوات مقصوده‏.‏ ولما كانت الكفارة لا تجب إلا بعد الحنث الذي يرتفع به اليمين عرفنا أن اليمين ليست بسبب لها معنى إذ العقد لا يكون سببا للحكم الذي يثبت ‏(‏بعد فسخه‏.‏ وكذلك اليمين بالطلاق، فإن الطلاق إنما يكون واقعا بما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله أنت طالق، والنذر إنما يثبت‏)‏ باعتبار ما يبقى بعد وجود الشرط وهو قوله على صوم أو صلاة، فعرفنا أن الموجود قبل وجود الشرط لا يكون سببا معنى، بخلاف كفارة القتل فإنه جزاء الفعل والفعل بالسراية يتقرر ولا يرتفع، فكان قبل السراية سببا وملك النصاب قبل كمال الحول هكذا، لانه يتقرر عنده ما لاجله كان النصاب سببا وهو معنى النمو، إلا أن مع هذا التعليق بالشرط لكونه سببا، مجازا أثبتنا فيه معنى السببية بوجه، بخلاف ما يقوله زفر رحمه الله إنه لا يثبت فيه حكم السببية بوجه‏.‏ وبيان هذا في تنجيز الثلاث بعد صحة التعليق فإنه مبطل للتعليق عندنا، لأن التعليق يمين وموجبه البر فإذا كان هذا السبب مضمونا ‏(‏بالبر‏)‏ كان له شبهة السببية في الحكم الذي يجب به بعد فوات البر على وجه الخلف عنه، كالغصب، فإنه موجب ضمان الرد في العين ثم له شبهة السببية في حكم ضمان القيمة الذي ثبت خلفا عن رد العين عند فوات العين، فكما يشترط قيام الملك وصفة الحل في المحل لبقاء ما هو سبب للحكم حقيقة فكذلك يشترط لبقاء ما فيه شبهة السببية للحكم، وتنجيز الثلاث يفوت ذلك كله‏.‏ وزفر يقول‏:‏ ليس في التعليق شبهة السببية للحكم وهو الطلاق والعتاق وإنما هو تصرف آخر وهو اليمين محلها الذمة واشتراط الملك في المحل عند انعقاده ليترجح جانب الوجود على جانب العدم حتى يصح إيجاب اليمين به، وهذا غير معتبر في حال البقاء، ألا ترى أن بعد التطليقات الثلاث لو علق الطلاق ابتداء بالنكاح كان صحيحا، وصفة الحل الذي به يصير المحل محلا للطلاق معدوم أصلا‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ الملك سبب هو في معنى العلة، فإن النكاح علة لملك الطلاق، فالتطليق بمنزلة سبب هو في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى، فأما الاضافة إلى وقت لا تعدم السببية معنى كما يعدمه التعليق بالشرط، ولهذا قلنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعدة من أيام أخرى‏}‏‏:‏ إنه لا يخرج شهود الشهر من أن يكون سببا حقيقة في حق جواز الاداء‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسبعة إذا رجعتم‏}‏ يخرج المتمتع من أن يكون سببا لصوم السبعة قبل الرجوع من منى حتى لو أداه لا يجوز، لانه لما تعلق بشرط الرجوع فقبل وجود الشرط لا يتم سببه معنى، وهناك إضافة الصوم إلى وقت فقبل وجود الوقت يتم السبب فيه معنى حتى يجوز الاداء‏.‏ وأما السبب المحض وهو‏:‏ ما يكون طريقا للوصول إلى الحكم ولكن لا يضاف الحكم إليه وجوبا به ولا وجودا عنده بل تتخلل بين السبب والحكم العلة التي يضاف الحكم إليها وتلك العلة غير مضافة إلى السبب، وذلك نحو حل قيد العبد، فإنه طريق لوصول العبد إلى الاباق الذي هو متو مالية المولى فيه، ولكن يتخلل بينه وبين الاباق الذي تتوى به المالية قصد وذهاب من العبد وهو غير مضاف إلى السبب السابق، فيبقى حل القيد سببا محضا‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ لو فتح باب الاصطبل فندت الدابة أو باب القفص فطار الطير لم يجب الضمان عليه، لأن العلة قوة الدابة في نفسها على الذهاب وقوة الطير على الطيران، وهو غير مضاف إلى السبب الأول‏.‏ وكذلك لو دل إنسانا على مال الغير فأتلفه أو على نفسه فقتله أو على قافلة حتى قطع الطريق عليهم لم يكن ضامنا شيئا، لأن الدلالة سبب محض من حيث إنه طريق الوصول إلى المقصود، ويتخلل بينه وبين حصول المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الأول، وذلك الفعل الذي يباشره المدلول‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ لو قال لرجل هذه المرأة حرة فتزوجها، فذهب وتزوجها واستولدها ثم ظهر أنها كانت أمة فإنه لا يرجع بضمان قيمة الأولاد على المخبر، بخلاف ما إذا زوجها منه على أنها حرة، لأن إخباره سبب للوصول إلى المقصود، ولكن تخلل بينه وبين المقصود وهو الاستيلاد ما هو علة فهو غير مضاف إلى السبب الأول، وذلك عقد النكاح الذي باشرته المرأة على نفسها‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ الموهوب له الجارية إذا استولدها ثم استحقت لم يرجع بقيمة الأولاد على الواهب، والمستعير إذا أتلف العين باستعماله ثم ظهر الاستحقاق لم يرجع بالقيمة على المعير، لأن الهبة والاعارة سبب ولكن تخلل بينه وبين حصول الأولاد ما هو علة وهو الاستيلاد والاستعمال المفضي إلى التلف، وذلك غير مضاف إلى السبب الأول، بخلاف المشتري إذا استولدها ثم ظهر الاستحقاق فإنه يرجع بقيمة الأولاد، لأن بمباشرة عقد الضمان قد التزم له صفة السلامة عن العيب، ولا عيب فوق الاستحقاق، وبمباشرة عقد التبرع لا يصير ملتزما سلامة المعقود عليه عن العيب، ولهذا لا يرجع بالعقد في الوجهين لانه لزمه بدلا عما استوفاه ولا رجوع له بسبب العيب فيما استوفاه لنفسه، وإن كان البائع ضمن له صفة السلامة عن العيب‏.‏ وزعم بعض أصحابنا أن رجوع المغرور باعتبار الكفالة وذلك باشتراط البدل، فإن البائع يصير كأنه قال ضمنت لك سلامة الأولاد على أنه إن لم يسلم لك فأنا ضامن لك ما يلزمك بسببه‏.‏ وهذا الضمان لا يثبت في عقد التبرع وإنما يثبت في حق الضمان باشتراط البدل إلا أن الأول أصح‏.‏ وقد قال في كتاب العارية‏:‏ العبد المأذون إذا آجر دابة فتلفت باستعمال المستأجر ثم ظهر الاستحقاق رجع المستأجر بما ضمن من قيمتها على العبد في الحال، والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة ما لم يعتق، وهو مؤاخذ بالضمان الذي يكون سببه العيب بعدما التزم صفة السلامة عن العيب بعقد الضمان‏.‏ ولا يدخل على ما قلنا دلالة المحرم على قتل الصيد، فإنها توجب عليه ضمان الجزاء وهي سبب محض لا يتخلل بينها وبين المقصود ما هو العلة وهو القتل من المدلول، وهذا لأن وجوب الضمان عليه بجنايته بإزالة الامن عن الصيد، فإن أمنه في البعد عن أيدي الناس وأعينهم، وقد التزم بعقد الاحرام الامن للصيد عنه، فإذا صار بالدلالة جانيا من حيث إزالته الامن كان ضامنا لذلك، إلا أن قبل القتل لا يجب عليه الضمان لبقاء التردد، فقد يتوارى الصيد على وجه لا يقدر المدلول عليه فيعود آمنا كما كان، فبالقتل تستقر جنايته بإزالة الامن‏.‏ فهو نظير الجراحة التي يتوهم فيها الاندمال بالبرء على وجه لا يبقى لها أثر، فإنه يستأني فيها مع كون الجرح جناية، ولكن لبقاء التردد يستأني حتى يتقرر حكمها في حق الضمان، بخلاف الدلالة على مال الغير، فإن حفظ الاموال بالايدي لا بالبعد عن الايدي والاعين، فالدال لا يصير جانيا بإزالة الحفظ بدلالته، وهذا بخلاف المودع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة فإنه يصير ضامنا، لانه جان بترك ما التزمه من الحفظ بعقده وهو ترك التضييع وبالدلالة يصير مضيعا، فهو نظير المحرم يدل على قتل الصيد حتى يصير ضامنا لتركه ما التزمه بالعقد وهو أمن الصيد عنه‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ من أخرج ظبية من الحرم فولدت فهو ضامن للولد لانها بالحرم آمنة، وثبوت يده عليها يفوت معنى الصيدية، فيثبت به معنى إزالة الامن في حق الولد، بخلاف الغاصب فإنه لا يكون ضامنا للزوائد لأن الاموال محفوظة بالايدي، فإنما يجب الضمان هنا بالغصب الذي هو موجب قصر يد المالك عن ماله، وذلك غير موجود في الزيادة مباشرة ولا تسبيبا، ولا ينكر كونه متعديا في إمساك الولد، ولهذا نجعله آثما ونوجب عليه رده‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ هو ليس بغاصب للولد تسبيبا ولا مباشرة، وبتعد آخر سوى الغصب لا يوجب ضمان الغصب، واليد الثابتة على الام عند انفصال الولد عنها حكم الغصب لا نفس الغصب، فعرفنا أنه لم يثبت الغصب في الولد بطريق السراية ولا قصدا بطريق المباشرة ولا بطريق التسبب بغصب الام، لأن قصر يد المالك تكون بإزالة يده عما كان في يده، أو بإزالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده، وذلك غير موجود في الولد أصلا قبل أن يطالبه بالرد‏.‏ ومن السبب المحض أن يدفع سكينا إلى صبي فيجأ الصبي به نفسه، فإنه لا يجب على الدافع ضمان وإن كان فعله بعلة طريق الوصول، ولكن قد تخلل بينه وبين المقصود ما هو علة وهو غير مضاف إلى السبب الأول، وذلك قتل الصبي به نفسه، بخلاف ما إذا سقط من يده على رجله فعقره، لأن السقوط من يده مضاف إلى السبب الأول وهو مناولته إياه، فكان هذا سببا في معنى العلة، على ما نبينه إن شاء الله تعالى‏.‏ وكذلك لو أخذ صبيا حرا من يد وليه فمات في يده بمرض لم يضمن الآخذ شيئا، بخلاف ما إذا قربه إلى مسبعة حتى افترسه سبع، فإن السبب هنا بمعنى العلة باعتبار الاضافة إليه، فإنه يقال لولا تقريبه إياه من هذه المسبعة ما افترسه السبع، ولا يقال لولا أخذه من يد وليه لم يمت من مرضه‏.‏ ولو قتل الصبي في يد الآخذ رجلا فضمن عاقلته الدية لم يرجعوا به على عاقلة الآخذ، لانه تخلل بين السبب ووجوب الضمان عليهم ما هو علة وهو غير مضاف إلى ذلك التسبيب‏.‏ وعلى هذا لو قال لصبي‏:‏ ارق هذه الشجرة فانفضها لي، فسقط كان ضامنا، بخلاف ما لو قال‏:‏ كل ثمرتها أو فانفضها لنفسك، لأن كلامه تسبيب قد تخلل بينه وبين السقوط ما هو علة وهو صعود الصبي الشجرة لمنفعة نفسه، وفي الأول لما كان صعوده لمنفعة الآمر صار بسببه في معنى العلة بطريق الاضافة إليه‏.‏ وكذلك لو حمل صبيا على الدابة فسقط ميتا كان الحامل ضامنا لديته، ولو سيرها الصبي فسقط منها فمات لم يضمن الذي حمله عليها شيئا‏.‏ ليعلم أن السائل على هذا الأصل أكثر من أن تحصى‏.‏ ومما هو في معنى السبب المحض ما هو أحد شطري علة الحكم، نحو إيجاب البيع وأحد وصفي علة الربا، فإنه سبب محض على معنى أنه طريق الوصول إلى المقصود عند غيره، وذلك الغير ليس بمضاف إليه، فيكون سببا محضا‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد جعلتم حد السبب ما يتخلل بينه وبين المقصود ما هو علة للحكم، وهنا الذي يتخلل هو الوصف الآخر وهو ليس بعلة للحكم بانفراده، فكيف يستقيم قولكم إن أحد الوصفين سبب محض‏؟‏ قلنا‏:‏ هو مستقيم من حيث إن الحكم متى تعلق بعلة ذات وصفين فإنه يضاف إلى آخر الوصفين على معنى أن تمام العلة به حصل، ولهذا قلنا‏:‏ إن الموجب للعتق القرابة القريبة مع الملك ثم يضاف العتق إلى آخر الوصفين وجودا، حتى إذا كان العبد مشتركا بين اثنين ادعى أحدهما نسبه كان ضامنا لشريكه، وإذا اشترى نصف قريبه من أحد الشريكين كان ضامنا لشريكه‏.‏ وكذلك النسب مع الموت موجب للارث فيضاف إلى آخر الوصفين ثبوتا، حتى إن شهود النسب بعد الوفاة إذا رجعوا ضمنوا، بخلاف شهود النسب في حالة الحياة، فإذا ثبت أن إضافة الحكم إلى آخر الوصفين وهو يتخلل بين الوصف الأول وبين الحكم، عرفنا أن الوصف الأول في معنى السبب المحض‏.‏ وهذا أصل مستمر في الشروط والعلل جميعا، حتى قلنا‏:‏ إذا قال لامرأته إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق، فأبانها ودخلت إحدى الدارين في غير ملكه ثم تزوجها فدخلت الاخرى في ملكه تطلق، لأن الحكم يكون مضافا إلى تمام الشرط وجودا عنده، وذلك حصل بدخول الدار الاخرى، فيشترط قيام الملك عنده لا عند دخول الأولى‏.‏ ومن الاسباب السفينة إذا كانت تحتمل مائة من وقد جعل فيها ذلك القدر فوضع إنسان آخر فيها منا فغرقت كان ضامنا للجميع، لأن تمام علة الغرق حصل بفعله‏.‏ وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما في المثلث‏:‏ إن السكر منه حرام، ثم السكر الذي هو حرام القدح الاخير، لأن تمام علة الاسكار عندها فيكون مضافا إليها خاصة‏.‏ ومحمد رحمه الله ترك هذا الأصل في هذه المسألة احتياطا لاثبات الحرمة، فإنها تثبت باعتبار الصورة تارة وباعتبار المعنى أخرى‏.‏ وأما السبب الذي هو في معنى العلة فنحو قود الدابة وسوقها فإنه طريق الوصول إلى الاتلاف غير موضوع له ليكون علة، وهو في معنى العلة من حيث إن الاتلاف مضاف إليه، يقال‏:‏ أتلفه بقود الدابة أو سوقها‏.‏ وكذلك إذا أشرع جناحا في الطريق أو وضع حجرا أو ترك هدم الحائط المائل بعد التقدم إليه فيه، فهذا كله سبب في معنى العلة‏.‏ وكذلك إذا أدخل دابته زرع إنسان حتى أكلت الدابة الزرع، فهذا سبب في معنى العلة للاتلاف، ولهذا كان موجبا عليه ضمان المتلف، ولا يكون شئ من هذا موجبا لحرمان الميراث ولا الكفارة، فإن ذلك جزاء مباشرة الفعل‏.‏ وكذلك قطع حبل القنديل المعلق وشق الزق وفيه مائع‏:‏ سبب هو في معنى العلة‏.‏ وكذلك شهادة الشهود بالقصاص يكون سببا للقتل من غير مباشرة، لأن قضاء القاضي بعد الشهادة يكون عن اختيار‏.‏ وكذلك استيفاء الولي والشهادة غير موضوعة للقتل في الأصل، ولهذا لا يوجب الكفارة ولا يثبت حرمان الميراث في حق الشهود، ولا يوجب عليهم القصاص‏.‏ والشافعي رحمه الله لا ينكر هذا ولكن يقول هو تسبيب قوي من حيث إنه قصد به شخصا بعينه فيصلح أن يكون موجبا للقود عليه، لأن فيه معنى العلة من حيث إن قضاء القاضي من موجبات الشهادة، والقتل مضاف إلى ذلك‏.‏ إلا أنا نقول‏:‏ القاضي إنما يقضي عن اختيار منه وليس في وسع الشاهد ما يظهره القاضي بقضائه أو يوجبه، فبقيت شهادة الشهود تسبيبا في الحقيقة، ولا مماثلة بين التسبيب والمباشرة، ووجوب القصاص يعتمد المباشرة‏.‏ وعلى هذا قال في السير‏:‏ إذا قال للغزاة‏:‏ أدلكم على حصن في دار الحرب تجدون فيه الغنائم، فإن ذهب معهم حتى دلهم عليه كان شريكهم في المصاب، لأن فعله تسبيب فيه معنى العلة، وإن وصف لهم الطريق حتى وصلوا إليه بوصفه ولم يذهب معهم لم يكن شريكهم في المصاب، لأن ما صنعه تسبيب محض وليس فيه من معنى العلة شئ‏.‏ وأما السبب الذي له شبهة العلة كحفر البئر في الطريق، فإنه سبب للقتل من حيث إيجاد شرط الوقوع وهو زوال المسكة وليس بعلة في الحقيقة، فالعلة ثقل الماشي في نفسه، والسبب المطلق مشيه في ذلك الموضع، فأما الحفر فهو إيجاد شرط الوقوع ولكن له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده لا ثبوتا به، ولهذا لم يكن موجبا الكفارة ولا حرمان الميراث، فإن ذلك جزاء الفعل وفعله تم من غير اتصال بالمقتول، وإنما اتصل بالمقتول عند الوقوع بسبب آخر وهو مشيه، إلا أنه يجب ضمان الدية عليه، لأن ذلك بدل المتلف لا جزاء الفعل وقد حصل التلف مضافا إلى حفره وجودا عنده، فإذا كان ذلك تعديا منه وجب الضمان عليه بمقابلة المتلف حتى لو اعترض على فعله ما يمكن إضافة الحكم إليه، نحو دفع دافع إياه في البئر، فإنه يكون الضمان على الدافع دون الحافر‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا تزوج كبيرة ورضيعة فأرضعت الكبيرة الرضيعة، فإن الزوج يغرم نصف صادق الصغيرة ثم يرجع به على الكبيرة إن تعمدت الفساد، وإن لم تتعمد ذلك لم يرجع عليها بشئ، لأن ثبوت الحرمة بالارضاع وذلك موجود من الصبية، إلا أن إلقام الثدي إياها سبب من الكبيرة له شبهة العلة من حيث إن الحكم يضاف إليه وجودا عنده‏.‏ وهذا الضمان ليس بضمان إتلاف ملك النكاح، فإنه لا يضمن بالاتلاف عندنا، ولكن ضمان تقرير نصف صداق على الزوج، فإذا صار ذلك مضافا إلى فعلها وجودا عنده كان لفعلها شبهة العلة، وقد كانت متعدية في ذلك حين تعمدت الفساد، فيلزمها ضمان العدوان، والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في تقسيم العلة

قال رضي الله عنه‏:‏ أنواع العلة ستة‏:‏ علة اسما ومعنى وحكما وهو حقيقة العلة، وعلة اسما لا معنى ولا حكما وهو يسمى علة مجازا، وعلة اسما ومعنى لا حكما، وعلة تشبه السبب، وعلة معنى وحكما لا اسما، وعلة اسما وحكما لا معنى‏.‏ فالأول‏:‏ نحو البيع للملك، والنكاح للحل، والاعتاق لزوال الرق وإثبات الحرية، وإيقاع الطلاق للوقوع، فإن هذا كله علة اسما من حيث إنه موضوع لهذا الموجب، فإن هذا الموجب مضاف إليه لا بواسطة، وهو علة معنى من حيث إنه مشروع لاجل هذا الموجب، وهو علة حكما من حيث إن هذا الحكم يثبت به ولا يجوز أن يتراخى عنه‏.‏ واختلف مشايخنا في أن مثل هذه العلة المطلقة هل يجوز أن تكون موجودة والحكم متأخر عنه‏؟‏ فمنهم من جوز ذلك وقال‏:‏ الذي لا يجوز كون العلة خالية عن الحكم، فأما يجوز أن لا يتصل الحكم بها ولكن يتأخر لمانع‏.‏ والاصح عندنا أنه لا يجوز تأخر الحكم عن هذه العلة ولكن الحكم يتصل ثبوته بوجود هذه العلة بعد صحتها لا محالة، وهو عندنا بمنزلة الاستطاعة مع الفعل لا يجوز القول بأنها تسبق الفعل‏.‏ وأما العلة اسما لا معنى ولا حكما‏:‏ فبيانها فيما ذكرنا من تعليق الطلاق والعتاق بالشرط واليمين قبل الحنث، فإنها علة اسما لا معنى ولا حكما، لأن العلة معنى وحكما ما يكون ثبوت الحكم عند تقرره لا عند ارتفاعه، وبعد الحنث لا تبقى اليمين بل ترتفع، وكذلك بعد وجود الشرط في اليمين بالطلاق والعتاق لا يبقى اليمين‏.‏ وأما العلة اسما ومعنى لا حكما‏:‏ فنحو البيع الموقوف، فإنه علة للملك اسما من حيث إنه بيع حقيقة موضوع لهذا الموجب، ومعنى من حيث إنه منعقد شرعا بين المتعاقدين لافادة هذا الحكم، فإن انعقاده وتمامه معنى بما هو من خالص حقها، وليس فيه تعدي الضرر إلى الغير، وهو ليس بعلة حكما لما في ثبوت الملك به من الاضرار بالمالك في خروج العين عن ملكه من غير رضاه، ولهذا إذا وجد الاجازة منه يستند الحكم إلى وقت العقد حتى يملكه المشتري بزوائده، فيتبين به أن العلة موجودة اسما ومعنى‏.‏ وكذلك إذا صرح بشرط الخيار للبائع فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لأن خيار الشرط داخل على الحكم لا على أصل البيع، وكان القياس أن لا يجوز اشتراط الخيار في البيع لمعنى الغرر إلا أنا لو أدخلنا الشرط على أصل السبب دخل على الحكم ضرورة، ولو أدخلناه على الحكم خاصة لم يكن داخلا على أصل السبب، فكان معنى الغرر والجهالة في هذا أقل، وإذا ظهر أن الشرط دخل على الحكم خاصة عرفنا أن البيع بهذا الشرط علة اسما ومعنى لموجبه لا حكما، ولهذا لو سقط الخيار يثبت الملك للمشتري من وقت العقد حتى يملك البيع بالزيادة المتصلة والمنفصلة، إلا أن أصل الملك لما صار متعلقا بالشرط لم يكن موجودا قبل الشرط أصلا، فالعتق الموجود في هذه الحالة من المشتري لا يتوقف على أن ينفذ ثبوت الملك له إذا سقط الخيار، وفي الأول إنما يثبت في الملك صفة التوقف لا التعليق بالشرط وتوقف الشئ لا يعدم أصله، فثبت إعتاقه بصفة التوقف أيضا على أن ينفذ بنفوذ الملك له بالاجارة‏.‏ ومن هذا النوع الاجارة، فإنها علة للملك اسما ومعنى لا حكما، لانها تتناول المعدوم حقيقة، والمعدوم لا يكون محلا للملك، ولهذا لم يثبت الملك في الاجر لانعدام العلة حكما، ويملك بشرط التعجيل لوجود العلة اسما ومعنى، إلا أن هناك وجود العلة اسما ومعنى من حيث إن المنتفع به جعل كالمنفعة التي هي المقصودة بالعقد، فأما العقد في حق الحكم حقيقة وهو ملك المنفعة صار مضافا إلى حالة الوجود فيقتضي الملك في الاجر على حال استيفاء المنفعة لهذا، ولا يثبت مستندا إلى وقت العقد، لأن إقامة العين مقام المنفعة في حكم صحة الايجاب دون الحكم، وعلى هذا الطلاق الرجعي، فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، لأن حكم زوال الملك به متعلق بشرط انقضاء العدة قبل الرجعة، وهو في حكم حرمة المحل ركن من أركان العلة، فعرفنا أنه ليس بعلة حكما، ولهذا لم يثبت زوال ملك الحل به ولا حرمة الوطئ أصلا‏.‏ وأما العلة التي تشبه السبب فصورتها أن يكون ما يضاف إليه الحكم أصله موجودا وصفته منتظرا متأخرا في وجوده خطر‏.‏ فمن حيث وجود الأصل كان علة لأن الصفة تابعة للاصل وبانعدام الوصف لا ينعدم الأصل، ومن حيث إن كونه موجبا للحكم باعتبار الصفة وهو منتظر متأخر فالأصل قبل وجود الوصف كان طريقا للوصول إليه فكان سببا‏.‏ وبيان ذلك في النصاب للزكاة فإنه سبب لوجوب الزكاة بصفة النماء، وحصول هذا النماء منتظر لا يكون إلا بعد مدة قدر الشرع تلك المدة بالحول، وبما ذكره لم ينتصب الحول شرطا، فإنه قال‏:‏ ‏(‏لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول‏)‏ وحتى كلمة غاية لا كلمة شرط، وبانعدام صفة النماء للحال لا ينعدم أصل المال الذي يضاف إليه هذا الحكم شرعا، فجعلناه علة تشبه السبب حتى يجوز التعجيل بعد كمال النصاب، ولا يكون المؤدى زكاة للمال لانعدام صفة العلة، بخلاف المسافر إذا صام في شهر رمضان، والمقيم إذا صلى في أول الوقت، فالمؤدى يكون فرضا لوجود العلة، مطلقة بصفتها، ثم إذا تم الحول حتى وجب الزكاة جاز المؤدى عن الزكاة باعتبار أن الاداء وجد بعد وجود العلة، ولو كان محض سبب لم يكن المؤدى قبل وجود العلة محسوبا من الزكاة كالمؤدى قبل كمال النصاب‏.‏ فبهذا يتبين أن حولأن الحول ليس بتأجيل فيه، لأن التأجيل مهلة لمن عليه الحق بعد كمال العلة فإذا أسقط المهلة بالتعجيل كان في الحال مؤديا للواجب وهنا لا يكون في الحال مؤديا للواجب، وإذا تم الحول ونصابه غير كامل كان المؤدى تطوعا، فعرفنا أن النصاب قبل وجود صفة النماء يمضي المدة يكون علة في معنى السبب، حتى يثبت حكم الاداء بحسب هذه العلة، ولا يثبت الوجوب أصلا بل يكون المؤدى موقوف الصحة على أن يكون عن الواجب إذا تم ما هو صفة العلة باستناد حكم الوجوب إليه، وعلى أن يكون تطوعا إذا لم يتم ذلك الوصف‏.‏ ولا يدخل على هذا إذا كانت الابل علوفة، فعجل عنها الزكاة ثم جعلها سائمة، لأن هناك أصل العلة لم يوجد وهو المال النامي، فإن الغناء مطلقا لا يحصل شرعا إلا بالمال النامي، وبما لا يحصل الغناء من المال لا تكون العلة موجودة بمنزلة ما دون النصاب‏.‏ وعلى هذا مرض الموت، فإنه علة للحجر عن التبرعات فيما هو حق الوارث بعد الموت بصفة إيصال الموت به وهذا منتظر، فكان الموجود في الحال علة تشبه السبب، فإذا تم باتصال الموت به استند حكمه إلى أول المرض حتى يبطل تبرعه بما زاد على الثلث، وإذا برأ من مرضه كان تبرعه نافذا لأن العلة لم تتم بصفتها‏.‏ وكذلك الجرح علة لوجوب الكفارة في الصيد والآدمي بصفة السراية وهي صفة منتظرة، فكان الموجود قبل السراية علة تشبه السبب حتى يجوز أداء الكفارة بالمال والصوم جميعا، وإذا اتصل به الموت كان المؤدى جائزا عن الواجب، وهذا كله لأن الوصف لا يقوم بنفسه وإنما يقوم بالموصوف، فلا يمكن جعل الموصوف أحد وصفي العلة ليكون سببا لا علة كما بينا في فصل السبب، ولا يمكن جعل الوصف علة معنى وحكما بمنزلة آخر الوصفين وجودا من علة هي ذات وصفين، فلهذا جعلناها علة تشبه السبب‏.‏ ومن هذا النوع علة العلة، وذلك أن تكون العلة موجبة للحكم بواسطة تلك العلة من موجبات العلة الأولى فتكون بمنزلة علة توجب الحكم بوصف وذلك الوصف قائم بالعلة، فكما أن الحكم هناك يكون مضافا إلى العلة دون الصفة فهنا يكون أيضا مضافا إلى العلة دون الواسطة، وذلك نحو الرمي، فإنه يوجب تحرك السهم ومضيه في الهواء ونفوذه في المقصود حتى يبتنى عليه علة القتل، ولكن هذه الواسطات من موجبات الرمي، فكان الرمي علة تامة لمباشرة القتل حتى يجب القصاص على الرامي، ولهذا قلنا في شراء القريب إنه إعتاق تتأدى به الكفارة إذا نواه، لأن الشراء موجب للملك والملك في القريب موجب للعتق، فيصير الحكم مضافا إلى السبب الأول لكون الواسطة من موجباته، بخلاف ما إذا اشترى المحلوف بعتقه بنية الكفارة، لأن الواسطة وهي الشرط يضاف إليه العتق وجودا عنده، لا وجوبا به، والعتق عند وجوده مضاف إلى ما وجد من التعليق بما هو باق بعد وجود الشرط، وهو قوله أنت حر، ولم تقترن به نية الكفارة‏.‏ وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا‏:‏ إذا رجعوا ضمنوا لأن التزكية في معنى علة العلة فإن الموجب للحكم بالرجم شهادة الشهود، والشهادة لا تكون موجبة بدون التزكية، فمن هذا الوجه يصير الحكم مضافا إلى التزكية، ومن حيث إن التزكية صفة للشهادة بقي الحكم مضافا إلى الشهادة أيضا، فأي الفريقين رجع كان ضامنا‏.‏ ومما هو نظير العلة التي تشبه السبب ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في رجل قال‏:‏ آخر عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبدا ثم عبدا ثم مات، فإنه يعتق الثاني من حين اشتراه‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ آخر امرأة أتزوجها فهي طالق، لأن الثاني موصوف بصفة الآخرية باعتبار معنى منتظر، وهو أن لا يشتري بعده غيره حتى يموت، ولا يتزوج بعدها غيرها فلم يكن الحكم ثابتا في الحال لمعنى الانتظار في هذا الوصف، فإذا زال الانتظار وتقرر الوصف كان الحكم ثابتا من حين وجدت العلة لا من حين زوال الانتظار، كما هو حكم العلة التي تشبه السبب‏.‏ وقد جعل بعض مشايخنا الايجاب المضاف إلى وقت من هذا القسم‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ والاصح عندي أنه من القسم الثالث فإنه علة اسما ومعنى لا حكما، ولهذا لو نذر أن يتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم جاز عن المنذور للحال، ولو كان هذا من نظير القسم الرابع لتأخر حكم جوازه عن المنذور إلى مجئ ذلك الوقت كما بينا في تعجيل الزكاة‏.‏ وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله في النذر بالصوم والصلاة إذا أضافه إلى وقت في المستقبل‏:‏ يجوز تعجيله قبل ذلك الوقت لوجود العلة اسما ومعنى، وإن تأخر حكم وجوب الاداء إلى مجئ ذلك الوقت بمنزلة الصوم في حق المسافر‏.‏ وقال محمد رحمه الله‏:‏ لا يجوز اعتبارا لما يوجبه على نفسه في وقت بعينه بما أوجب الله عليه في وقت بعينه حتى لا ينفك ذلك الوقت عن وجوب الاداء أو وجود الاداء فيه، وإذا جاز التعجيل خلا الوقت المضاف عن ذلك أصلا‏.‏ فأما العلة التي هي معنى حكما لا اسما، فهو آخر الوصفين من علة تشتمل على وصفين مؤثرين في العتق، نحو ما بينا في القرابة المحرمة للنكاح مع الملك، فإنهما وصفان مؤثران في العتق، ثم آخرهما وجودا يكون علة معنى وحكما، والمراد بالمعنى كونه مؤثرا فيه، وبالحكم أنه يثبت الحكم عنده، وهذا لأن الوصف الثاني مع الأول استويا في الوجوب بهما وترجح الثاني بالوجود عنده فكان علة معنى وحكما لا اسما، فإن الحكم مضاف إلى الوصفين جميعا، فمن حيث الاسم الوصف الثاني شطر العلة‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ أحد وصفي علة الربا يحرم النسأ بانفراده لأن كل واحد من الوصفين علة معنى وحكما إذا تأخر وجوده عن الوصف الآخر، وحرمة النسأ مبني على الاحتياط وهو أسرع ثبوتا من حرمة الفضل لقوله عليه السلام‏:‏ إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد فجعل ثابتا بوجود أحد الوصفين‏.‏ ولا يدخل على هذا حكم الشهادة، فإن شهادة الشاهد الثاني بعد الأول لا تجعل علة للاستحقاق معنى وحكما وإن كان استحقاق الحكم عنده يكون، لأن هناك الاستحقاق لا يثبت بالشهادة بل بقضاء القاضي، وقضاء القاضي يكون بشهادة الشاهدين جميعا فلا يتصور فيه كون أحدهما سابقا والآخر متمما لعلة الاستحقاق‏.‏ فأما العلة اسما وحكما لا معنى، فهو السفر والمرض في ثبوت الرخص بهما فإنها في الشريعة مضافة إلى السفر والمرض، فعرفنا أن كل واحد منهما علة اسما، وكذلك من حيث الحكم، فحكم جواز الترخص بالفطر ونحوه يثبت عند وجود السفر والمرض، فأما المعنى المؤثر في هذه الرخصة فهو المشقة التي تلحقه بالصوم دون السفر والمرض، لما بينا أن المعنى ما يكون مؤثرا في الحكم وذلك المشقة، وإليه أشار الله تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ إلا أن المشقة باطن تتفاوت أحوال الناس فيه ولا يمكن الوقوف على حقيقته فأقام الشرع السفر بصفة مخصوصة مقام تلك المشقة لكونه دالا عليها غالبا، وكذلك أقام المرض بوصف مخصوص مقام تلك المشقة، فعرفنا أنه علة اسما وحكما لا معنى، ولهذا لو أصبح مقيما صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة لوجود علة الاسقاط اسما، وإن انعدم معنى وحكما حتى لا يكون الفطر مباحا له في هذا اليوم أصلا‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ النوم في كونه حدثا علة اسما وحكما لا معنى، إذ المعنى الذي هو مؤثر في الحدث خروج نجس من البدن أو من أحد السبيلين على حسب ما اختلف العلماء فيه وذلك غير موجود في النوم إلا أن النوم بصفة مخصوصة وهو أن يكون مضطجعا أو متكئا لكونه دليل استرخاء المفاصل يقوم مقام خروج شئ من البدن تيسيرا‏.‏ وعلى هذا حكم النسب فإن ملك النكاح علة لثبوت النسب اسما وحكما لا معنى، لأن المعنى الذي هو مؤثر في النسب كون الولد مخلوقا من مائه ولكنه باطن، فقام النكاح الذي هو ظاهر مقامه تيسيرا‏.‏ وكذلك المس عن شهوة والنكاح في حكم حرمة المصاهرة، فإنه يكون اسما وحكما لا معنى‏.‏ وكذلك الاستبراء، فإن استحداث ملك الوطئ بملك اليمين علة لوجوب الاستبراء اسما وحكما لا معنى، لأن المؤثر في إيجاب الاستبراء اشتغال الرحم بماء الغير لمقصود صيانة مائه عن الخلط بماء آخر، وذلك باطن فقام السبب الظاهر الدال عليه وهو استحداث ملك الوطئ بملك اليمين مقام ذلك المعنى في وجوب الاستبراء به‏.‏ ولم يقم ملك النكاح مقام ذلك المعنى لأن زوال ملك النكاح بعد وجود السبب الموجب لشغل الرحم يعقب عدة بها يحصل المقصود وهو براءة الرحم فلا حاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك، وأما زوال ملك اليمين بعد الوطئ لا يعقب وجوب ما هو دليل براءة الرحم، فتقع الحاجة إلى إيجاب الاستبراء عند حدوث ملك الحل بملك اليمين لمقصود براءة الرحم‏.‏ وأمثلة هذا النوع أكثر من أن تحصى‏.‏ وهذا في الحاصل نوعان‏:‏ أحدهما إقامة الداعي مقام المدعو كالمس والنكاح الداعي ‏(‏إلى‏)‏ ما يثبت به معنى البعضية‏.‏ والثاني إقامة الدليل مقام المدلول كاسترخاء المفاصل بالنوم، فإنه دليل خروج شئ من البدن، والتقاء الختانين في كونه موجبا للاغتسال، لانه دليل خروج المني عن شهوة، والمباشرة الفاحشة في كونه حدثا عند أبي حنيفة وأبى يوسف رحمة الله عليهما، لانه دليل خروج شئ منه حين انتشرت الآلة بالمباشرة‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا قال لامرأته‏:‏ إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت كذا، فإن إخبارها به في المجلس يكون دليل وجود ما جعله شرطا، فجعل قائما مقام المدلول‏.‏ وفيه ثلاثة أوجه من الفقه‏:‏ أحدها الضرورة والعجز عن الوقوف على ما هو الحقيقة كما في المحبة والبغض، وبه تعدى الحكم إلى قوله إن حضت فأنت كذا، فقالت حضت فإنه يقام خبرها به مقام حقيقة الشرط في وقوع الطلاق‏.‏ والثاني الاحتياط في باب الحرمات والعبادات‏.‏ والثالث دفع الحرج عن الناس فيما تتحقق فيه الحاجة لهم، ولهذا جعل الشرع في باب الاجارة ملك العين المنتفع به مقام ملك المعقود عليه وهو المنفعة في جواز العقد، وأقام سبب وجود المنفعة وهو كون العين منتفعا بها مقام حقيقة وجودها، لانها بعد الوجود لا تبقى وقتين فلا يمكن إبراد العقد عليها وتسليمها، فلدفع الحرج فيما للناس حاجة إليه أقام الشرع غير المقصود بالعقد مقام المقصود فيما ينبني عليه عقد المعاوضة، وهو وجود المعقود عليه وكونه مملوكا للعاقد‏.‏ فهذه حدود يتم بمعرفتها فقه الرجل، ولكن في ضبط حدودها بعض الحرج لما فيها من الدقة، فلا يطلبها فقيه بكسل، ولا يقفن عن طلبها بفشل، والله الهادي لمن جاهد في سبيله‏.‏

فصل‏:‏ في بيان تقسيم الشرط

وهي ستة أقسام‏:‏ شرط محض، وشرط في حكم العلة، وشرط فيه شبهة العلة، وشرط في معنى السبب، وشرط اسما لا حكما، وشرط بمعنى العلامة الخالصة‏.‏ فأما الشرط المحض فهو ما يتوقف وجود العلة على وجوده ويمتنع وجود العلة حقيقة بعد وجودها صورة، حتى يوجد ذلك الشرط فتصير موجودة عندها حقيقة، على ما بينا في الفرق بين الشرط والعلة أن الحكم مضاف إلى الشرط وجودا عنده لا وجوبا به، وذلك نحو كلمات الشرط كلها كقوله لعبده إن دخلت الدار فأنت حر أو إذا دخلت أو متى دخلت أو كلما دخلت، فإن التحرير الذي هو علة يتوقف وجوده على وجود الشرط حقيقة بعد ما وجد صورته بكلماته من المولى، وعند وجود الشرط يوجد التحرير حقيقة فيثبت به حكم العتق‏.‏ وعلى هذا حكم العبادات والمعاملات، فإنها تعلقت بأسباب جعلها الشرع سببا للوجوب كما بينا، ثم وجود العلة حقيقة يتأخر إلى وجود ما هو شرط فيه وهو العلم به أو ما يقوم مقام العلم به، حتى إن النص النازل قبل علم المخاطب به جعل في حقه كأنه غير نازل، ولهذا قلنا‏:‏ من أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب العبادات عليه حتى مضى زمان ثم علم بذلك فإنه لا يلزمه قضاء شئ باعتبار السبب في الماضي، وإذا أسلم في دار الاسلام يلزمه القضاء لا لأن العلم ليس بشرط ولكن لأن شيوع الخطاب في دار الاسلام وتيسير الوصول إليه بأدنى طلب يقوم مقام وجود العلم به، فتصير العلة موجودة حقيقة بوجود الشرط حكما، وعلى هذا تؤدى العبادات بأداء أركانها نحو الصلاة، فإن أركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، ثم لا يوجد الاداء بها إلا بعد وجود الشرط وهو النية والطهارة‏.‏ وكذلك المعاملات، فإن ركن النكاح وهو الايجاب والقبول لا يوجد به انعقاد العقد إلا عند وجود الشرط وهو الشهود، ثم هذا النوع من الشرط إنما يعرف بصيغته أو بدلالته، فمتى وجد صيغة كلمة الشرط لم ينفك عن معنى الشرط‏.‏ والذي قاله بعض المتأخرين من مشايخنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا‏}‏ إنه مذكور على سبيل العادة، وإنه لا فائدة فيه سوى أن الحاجة إلى الكتابة أمس في هذه الحالة، قال رضي الله عنه‏:‏ هذا ليس بقوي عندي، لأن تحت هذا الكلام أنه ليس في ذكر هذا الشرط فائدة معنى الشرط، وكلام الله تعالى منزه عن هذا، بل فيه فائدة الشرط‏.‏ وبيانه أن الامر للايجاب تارة وللندب أخرى، والمراد الندب هنا بدليل ما بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏وآتوهم من مال الله الذي آتاكم‏}‏ فإنه للندب دون الايجاب، وعقد الكتابة وإن كان مباحا قبل أن يعلم فيه خيرا فإنما يصير مندوبا إليه إذا علم أن فيه خيرا، فظهر فائدة الشرط من هذا الوجه‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يستطع منكم طولا‏}‏ فإنه غير مذكور على وفاق العادة عندنا بل لبيان الندب، فإن نكاح الامة مع طول الحرة وإن كان مباحا له إلا أنه غير مندوب إليه وإنما يندب إليه بشرط عدم طول الحرة‏.‏ وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم‏}‏ غير مذكور على وفاق العادة بل هو بمعنى الشرط حقيقة، لأن المراد هو القصر في أحوال الصلاة كالاداء راكبا بالايماء والايجاز في القراءة وتخفيف الركوع والسجود، وذلك إنما يوجد عند وجود هذا الشرط وهو الخوف، ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن اطمأننتم فأقيموا الصلاة‏}‏ فأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن‏}‏ فهو غير مذكور بصيغة الشرط فيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم‏}‏ وحكم الجواز لا يثبت إلا عند وجود هذا الشرط‏.‏ وبيان دلالة الشرط فيما قال علماؤنا‏:‏ إذا قال لنسوة‏:‏ المرأة التي أتزوجها منكن طالق، أو قال لاربع نسوة له‏:‏ المرأة التي تدخل الدار منكن طالق، فإنه يتوقف وجود العلة حقيقة على وجود التزوج والدخول لوجود دلالة الشرط فيه، وهو أنه مذكور على سبيل الوصف للنكرة، بخلاف ما لو قال‏:‏ هذه المرأة التي أتزوجها أو هذه المرأة التي تدخل الدار، فإنه مذكور على سبيل الوصف للعين فلا يكون شرطا ولا يتوقف وجود العلة على وجوده، ولو أتى بصيغة الشرط في الوجهين يوقف وجود العلة على وجوده بأن قال‏:‏ إن تزوجت امرأة منكن أو هذه المرأة إن تزوجتها‏.‏ وأما الشرط الذي هو حكم العلة فنحو شق الزق حتى يسيل ما فيه من الدهن، وقطع حبل القنديل حتى يسقط فينكسر، فإن الشق في الصورة مباشرة إتلاف جزء من الزق، وفي حق الدهن هو إيجاد شرط السيلان، ولكن جعل هذا الشرط في حكم العلة حتى يجعل كأنه باشر إراقة الدهن، لأن المائع لا يكون محفوظا إلا بوعاء، فإزالة ما به تماسكه يكون مباشرة تفويت ما كان محفوظا به، وكذلك القنديل على ما هو مصنوع له عادة لا يكون محفوظا إلا بحبل يعلقه به، فكان قطع ذلك الحبل مباشرة تفويت ما كان محفوظا به فيكون إلقاء وكسرا‏.‏ وعلى هذا جرح الانسان إذا اتصل به السراية يكون مباشرة القتل حتى يجب القصاص به إذا كان عمدا، لأن الحياة لا يمكن إزهاقه حقيقة بالاخذ والاخراج ولكنه محفوظ في البدن بسلامة البنية، فنقض البنية بالجرح والقطع يكون تفويتا لما كان به محفوظا، فيجعل ذلك مباشرة علة القتل حكما، بخلاف الطلاق والعتاق فإنه محفوظ عند المالك بامتناعه عن التكلم بكلمة الايقاع، فبعد ما تكلم بكلمة الايقاع كان التعليق بالشرط للمنع من الوقوع، ومن أن يكون ذلك التكلم علة حقيقة، وإذا صار عند وجود الشرط علة حقيقة كان الحكم مضافا إلى العلة ثبوتا به، وإلى الشرط وجودا عنده، فلم يكن الشرط هناك في حكم العلة، حتى كان وجوب الضمان عند الرجوع على شهود التعليق دون شهود الشرط، ولا ضمان على شهود الشرط إذا رجعوا دون شهود التعليق‏.‏ وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قيد عبده ثم قال‏:‏ إن كان في قيدك عشرة أرطال حديد فأنت حر وإن حل هذا القيد فأنت حر، فشهد الشاهدان أن في القيد عشرة أرطال حديد فأعتقه القاضي ثم حل القيد، فإذا فيه خمسة أرطال، فإن الشهود يضمنون قيمة العبد، لأن قضاء القاضي عنده بشهادة الزور ينفذ ظاهرا وباطنا، فكان العتق ثابتا بقضاء القاضي بعد شهادتهما قبل أن يحل القيد، وهما في الصورة شاهدا الشرط، ولكنهما مثبتان علة العتق بشهادتهما، لانهما شهدا أن المولى علق عتقه بشرط موجود، والتعليق بشرط موجود يكون تنجيزا، فكأنهما شهدا بتنجيز العتق، فضمنا لاثباتهما شرطا هو علة في الحكم‏.‏ وأما الشرط الذي يشبه العلة، فهو أن يعارضه ما لا يصلح أن يكون علة للحكم بانفراده، ومتى عارضه ما يصلح علة بانفراده فذلك الشرط لا يشبه العلة لمعنى وهو أن الأصل في إضافة الحكم إليه ‏(‏العلة‏)‏ وعلل الشرع فيما يرجع إلى ثبوت الحكم بها كأنها شروط على معنى أنها أمارات غير موجبة للحكم بذواتها، بل بجعل الشرع إياها كذلك، والشرط من وجه يشبهها على معنى أن الحكم يصير مضافا إلى الشرط وجودا عنده، فأمكن جعله خلفا عن العلة في الحكم، فقلنا‏:‏ متى عارض الشرط ما لا يصلح أن يكون علة في الحكم صار موجودا بعد وجود الشرط، فلا بد من أن يجعل الشرط خلفا عن العلة في إثبات الحكم به، ومتى أمكن جعل المعارض علة بانفراده فلا حاجة إلى إثبات هذه الخلافة، فلم يجعل للشرط شبه العلة‏.‏ وبيانه فيما قلنا‏:‏ إن حفر البئر في الطريق إيجاد شرط الوقوع بإزالة المسكة عن ذلك الموضع إلا أن ما عارضه من العلة وهو ثقل الماشي لا يصلح بانفراده علة الاتلاف بطريق العدوان، وما هو سببه وهو مشيه، لا يصلح علة لذلك فإنه مباح مطلقا، فكان الشرط بمنزلة العلة في إضافة الحكم إليه حتى يجب الضمان على الحافر، ولكن لا يصير مباشرا للاتلاف حتى تلزمه الكفارة ولا يحرم عن الميراث، فكان لهذا الشرط شبه العلة لا أن يكون على حكما‏.‏ وقلنا في شهود التعليق وشهود الشرط‏:‏ إذا رجعوا فالضمان على شهود التعليق خاصة، لانهم نقلوا قول المولى أنت حر، وهذا بانفراده علة تامة لاضافة حكم العتق إليه فلم يكن للشرط هناك شبه العلة، فلهذا لا يضمن شهود الشرط شيئا سواء رجع الفريقان أو رجع شهود الشرط خاصة‏.‏ وكذلك إذا رجع شهود التخيير وشهود الاختيار، فإن الضمان على شهود الاختيار خاصة، لأن التخيير سبب وما عارضه وهو الاختيار علة تامة للحكم، فكان الحكم مضافا إليه دون السبب، فلم يضمن شهود السبب شيئا كما لا يضمن شهود الشرط‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا اختلف حافر البئر مع ولي الواقع فيها وقال الحافر أوقع فيها نفسه، وقال الولي لا بل وقع فيها، فالقول قول الحافر استحسانا، لأن الحفر شرط جعل خلفا عن العلة لضرورة كون العلة غير صالحة، فالحافر يتمسك بما هو الأصل وهو صلاحية العلة للحكم وينكر سبب الخلافة، وذلك حكم ضروري فكان القول قوله، بخلاف الجارح إذا ادعى أن المجروح مات بسبب آخر، وقال الولي‏:‏ مات من تلك الجارحة، فإن القول قول الولي، لأن الجارح صاحب علة لا صاحب شرط كما بينا، والأصل في العلة الصلاحية للحكم، فكان الولي هو المتمسك بالأصل هنا‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ إذا غصب من آخر حنطة فزرعها فإن الزرع يكون مملوكا للغاصب، لأن ما هو العلة لحصول الخارج وهو قوة الارض والهواء والماء مسخر بتقدير الله تعالى لا اختيار له، فلا يصلح لاضافة الحكم إليه، والالقاء الذي هو شرط جامع بين هذه الاشياء يجعل كالعلة خلفا عنها في الحكم، فبهذا الطريق يصير الزرع كسب الغاصب مضافا إلى عمله فيكون مملوكا له، وإذا سقط الحب في الارض من غير صنع أحد بأن هبت به الريح فقد تعذر جعل هذا الشرط خلفا عن العلة، فجعل المحل الذي هو في حكم الشرط كالعلة خلفا حتى يكون الخارج لصاحب الحنطة لكونها محلا لما حصل وهو الخارج‏.‏ وأما الشرط الذي هو في معنى السبب فهو أن يعترض عليه فعل من مختار ويكون سابقا عليه، وذلك نحو ما إذا حل قيد عبد فأبق لم يضمن عند أصحابنا جميعا، وحل القيد إزالة المانع للعبد من الذهاب فكان شرطا، فقد اعترض عليه فعل من مختار وهو الذهاب من العبد الذي هو علة تلف المالية فيه، فما هو الشرط كان سابقا عليه، وما هو العلة غير مضاف إلى السابق من الشرط، فتبين به أنه بمنزلة السبب المحض، لأن سبب الشئ يتقدمه، وشرطه يكون متأخرا عن صورته وجودا، وإذا كان بمعنى السبب كان تلف المالية مضافا إلى ما اعترض عليه من العلة دون ما سبق من السبب‏.‏ وعلى هذا لو أرسل دابة في الطريق فجالت يمنة أو يسرة عن سنن الطريق ثم سارت فأصابت شيئا فلا ضمان على المرسل، لأن الارسال هناك سبب محض وقد اعترض عليه فعل من مختار وهو غير منسوب إلى السبب الأول حين لم تذهب على سنن إرساله حتى يكون سابقا بذلك الارسال، فكان الأول المتقدم شرطا بمعنى السبب، ثم في الوجهين يضاف الهلاك إلى ما اعترض من الفعل دون ما سبق، وفعل الدابة لا يوجب الضمان على مالكها‏.‏ وعلى هذا قلنا في الدابة المنفلتة‏:‏ إذا أتلفت زرع إنسان ليلا أو نهارا لم يضمن صاحبها شيئا، لانه لم يوجد منه علة ولا سبب ولا شرط يصير به الاتلاف مضافا إليه‏.‏ وعلى هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما‏:‏ إذا فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاسطبل فندت الدابة في فور ذلك، فإن الفاتح للباب لم يضمن شيئا، لأن فعله شرط لانه إزالة المانع من الانطلاق وذلك شرط الانطلاق، ثم اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إليه، فكان الأول شرطا في معنى السبب فلا يصير الهلاك مضافا إليه، وقد اعترض عليه ما هو العلة، بخلاف حفر البئر إذا وقع فيه الماشي، فإن ما اعترض هناك من مشيه لا يصلح أن يكون علة الاتلاف حين لم يكن عالما بعمق ذلك المكان، حتى لو أوقع نفسه في البئر لم يضمن الحافر شيئا، لأن ما اعترض علة صالحة للحكم وهو فعل حصل من مختار على وجه القصد إليه، ولهذا لو مشى على قنطرة واهية موضوعة بغير حق وهو عالم به فانخسفت به لم يضمن الواضع شيئا، وكذلك إذا مشى في موضع من الطريق قد صب فيه الماء وهو عالم به فزلقت رجله‏.‏ ولكن محمدا رضي الله عنه يقول فعل الدابة هدر شرعا وهو غير صالح لاضافة الحكم إليه فيكون مضافا إلى الشرط السابق الذي هو في معنى السبب، بخلاف فعل العبد من الاباق فإنه صالح شرعا لاضافة الحكم إليه‏.‏ والجواب لهما أن فعل الدابة لا يصلح لايجاب حكم به، ولكن يصلح لقطع الحكم، ألا ترى أن في الدابة التي أرسلها صاحبها في الطريق إذا جالت يمنة أو يسرة اعتبر فعلها في قطع حكم إرسال صاحبها‏.‏ وكذلك الصيد إذا خرج من الحرم يعتبر فعله في قطع الحكم وهو الحرمة الثابتة له بسبب الحرم‏.‏ وإذا صال على إنسان فكذلك الجواب‏.‏ وبظاهر هذا الكلام يقول الشافعي في الجمل إذا صال على إنسان فقتله إنه لا يضمن شيئا، لأن فعل الجمل صالح لقطع الحكم الثابت به وهو العصمة والتقوم الثابت فيه لحق المالك‏.‏ ولكنا نقول‏:‏ فعل الدابة غير صالح لايجاب الشئ على مالكها، وفي إسقاط حقه في تضمين المتلف إيجاب حكم عليه وهو الكف عن الاعتداء على من اعتدى عليه بإتلاف ماله ومثله لا يوجد في صيد الحرم‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ لو أرسل كلبا على صيد مملوك لانسان فقتله الكلب أو أشلاه على بعير إنسان فقتله أو على ثوب إنسان فخرقه، لم يضمن شيئا، لأن ما وجد منه من الاشلاء سبب قد اعترض عليه فعل من مختار غير منسوب إلى ذلك السبب، فإن بمجرد الاشلاء لا يكون سابقا له، بخلاف ما إذا أرسل كلبه المعلم على صيد فذبحه فإنه يجعل كأنه ذبحه بنفسه في حكم الحل، لأن الاصطياد نوع كسب ينفي عنه معنى الحرج ويبني الحكم فيه على قدر الامكان، فأما في ضمان العدوان يجب الاخذ بمحض القياس، لأن مع الشك في السبب الموجب للضمان لا يجب الضمان بحال‏.‏ وعلى هذا قلنا‏:‏ لو أوقد نارا في ملكه فهبت الريح بها إلى أرض جاره حتى أحرقت كدسه لم يضمن، ولو ألقى شيئا من الهوام على الطريق فانقلبت من مكان إلى مكان آخر ثم لدغت إنسانا لم يضمن الملقي شيئا‏.‏ فما كان من هذا الجنس فتخريجه على الأصل الذي قلنا‏.‏ وأما الشرط اسما لا حكما وهو المجاز في هذا الباب فنحو الشرط السابق وجودا فيما علق بالشرطين، نحو أن يقول لعبده إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر، فإن دخوله في الدار الأولى شرط اسما لا حكما، لأن الحكم غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ولهذا لم يعتبر علماؤنا قيام الملك عند وجود الشرط الأول خلافا لزفر رضي الله عنه، وهذا لأن الملك في المحل شرط لنزول الجزاء أو لصحة الايجاب، والحكم غير مضاف إلى الشرط وجوبا به فإنه لا تأثير للشرط في ذلك، ولا وجودا عنده فإنه لا يترك الطلاق في المحل ما لم يتم الشرط، فلو اعتبرنا الملك عند وجوده إنما يعتبر لبقاء اليمين ومحل اليمين الذمة، فكانت باقية ببقاء محلها من غير أن يشترط فيه الملك في المحل‏.‏ وأما الشرط الذي هو علامة فنحو الاحصان لايجاب الرجم، فإنه علامة يعرف بظهوره كون الزنا موجبا للرجم، وهو في نفسه ليس بعلة ولا سبب ولا شرط محض في إيجاب الرجم‏.‏ وحد الشرط‏:‏ ما يمتنع ثبوت العلة حقيقة بعد وجودها صورة إلى وجوده، كما في تعليق الطلاق بدخول الدار، والزنا موجب للعقوبة بنفسه ولا يمتنع ثبوت الحكم به إلى وجود الاحصان، كيف ولو وجد الاحصان بعد الزنا لا يثبت بوجوده حكم الرجم‏؟‏ فعرفنا أنه غير مضاف إليه وجوبا به ولا وجودا عند وجوده، ولكنه يعرف بظهوره أن الزنا حين وجد كان موجبا للرجم فكان علامة، ولهذا لا يوجب الضمان على شهود الاحصان إذا رجعوا، بخلاف ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في المزكين لشهود الزنا إذا رجعوا بعد الرجم، فإن التزكية بمنزلة علة العلة ‏(‏كما بينا‏)‏ ولهذا يثبت الاحصان بعد الزنا بشهادة رجل وامرأتين عندنا خلافا لزفر، لانه لما كان معرفا ولم يكن الرجم مضافا إليه وجوبا ولا وجودا كانت هذه الحالة كغيرها من الاحوال في حكم الشهادة، فكما ثبت النكاح بشهادة رجل وامرأتين في غير هذه الحالة فكذلك في هذه الحالة‏.‏ فإن قيل‏:‏ أنا أثبت النكاح بهذه الشهادة ولكن لا يثبت التمكن للامام من إقامة الرجم، لانه كما لا مدخل لشهادة النساء في إيجاب الرجم فلا مدخل لشهادتهن في إثبات التمكن من إقامة الرجم، بمنزلة ما لو كان الزاني عبدا مسلما لنصراني فشهد عليه نصرانيان أن مولاه كان أعتقه قبل الزنا، فإنه تثبت الحرية بهذه الشهادة ولا يثبت تمكن الامام من إقامة الرجم عليه، لانه كما لا مدخل لشهادة الكفار في إيجاب الرجم على المسلم فلا مدخل لشهادتهم في إثبات التمكن من إقامة الرجم على المسلم‏.‏ قلنا‏:‏ هذا ليس بصحيح، لأن شهادة النساء دخلها الخصوص في المشهود به لا في المشهود عليه، والمشهود به ليس يمس الرجم أصلا، وشهادة الكفار دخلها الخصوص في المشهود عليه لا في المشهود به فإن شهادتهم حجة في الحد على الكفار ولكنها ليست بحجة على المسلم، والاقامة عند الشهادة تكون على المسلم وهو حادث فلا تجعل شهادتهم فيه حجة، وهذا لأن في الموضعين جميعا في الشهادة معنى تكثير محل الجناية من حيث الجناية على نعمة الحرية في أحد الموضعين وعلى نعمة إصابة الحلال بطريقه في الموضع الآخر وهو الاحصان‏.‏ ثم في تكثير محل الجناية يتضرر الجاني والجاني مسلم، وشهادة الكفار فيما يتضرر به المسلم لا تكون حجة أصلا، فأما شهادة النساء فيما يتضرر به الرجل تكون حجة، وإنما لا تكون حجة فيما تضاف إليه العقوبة وجوبا به أو جودا عنده، وذلك لا يوجد في هذه الشهادة أصلا‏.‏ وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله‏:‏ إذا علق طلاقا أو عتاقا بولادة امرأة ولم يقر بأنها حبلى ثم شهدت القابلة على ولادتها، يثبت بها وقوع الطلاق والعتاق، لأن هذا شرط بمنزلة العلامة من حيث إن الطلاق إنما يصير مضافا إلى نفس الولادة وجودا عندها، وأما ظهور الولادة فمعرف لا يضاف إليه الطلاق وجوبا به ولا وجودا عنده، والولادة تظهر بشهادة النساء في غير هذه الحالة حتى يثبت النسب بشهادة القابلة وحدها، فكذلك في هذه الحالة كما في مسألة الاحصان‏.‏ ولكن أبو حنيفة رضي الله عنه يقول‏:‏ الولادة شرط محض من حيث إنه يمنع ثبوت علة الطلاق والعتاق حقيقة إلى وجوده ثم لا يكون الطلاق والعتاق من أحكام الولادة، وشهادة القابلة حجة ضرورية في الولادة لانه لا يطلع عليها الرجال، فإنما تكون حجة فيما هو من أحكام الولادة أو مما لا تنفك الولادة عنه خاصة، فأما في الطلاق والعتاق هذا الشرط كغيره من الشرائط‏.‏ وعلى هذا قال أبو يوسف ومحمد في المعتدة إذا جاءت بولد فشهدت القابلة على الولادة‏:‏ يثبت النسب بشهادتها وإن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا إقرار من الزوج بالحبل، لأن الولادة لثبوت النسب شرط بمنزلة العلامة، فإن بها يظهر ويعرف ما كان موجودا في الرحم قبل الولادة، وكان ثابت النسب من حين وجد، فلم يكن النسب مضافا إلى الولادة وجوبا بها ولا وجودا عندها، والولادة في غير هذه الحالة تثبت بشهادة القابلة وحدها، يعني إذا كان هناك فراش قائم أو حبل ظاهر أو إقرار من الزوج بالحبل، فكذلك في هذه الحالة‏.‏ وأبو حنيفة رحمه الله يقول‏:‏ الولادة بمنزلة المعرف كما قالا ولكن في حق من يعرف الباطن، فأما في حقنا فالنسب مضاف إلى الولادة، لانا نبني الحكم على الظاهر ولا نعرف الباطن، فما كان باطنا يجعل في حقنا كالمعدوم إلى أن يظهر بالولادة، بمنزلة الخطاب النازل في حق من لم يعلم به، فإنه يجعل كالمعدوم ما لم يعلم به، وإذا صار النسب مضافا إلى الولادة من هذا الوجه لا تثبت الولادة في حقه إلا بما هو حجة لاثبات النسب، بخلاف ما إذا كان الفراش قائما، فالفراش المعلوم هناك مثبت للنسب قبل الولادة فكانت الولادة علامة معرفة، وكذلك إذا كان الحبل ظاهرا أو أقر الزوج بالحبل فقد كان السبب هناك ثابتا بظهور ما يثبته لنا قبل الولادة‏.‏ وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ استهلال المولود في حكم الارث لا يثبت بشهادة القابلة وحدها، لأن حياة الولد كان غيبا عنا وإنما يظهر عند استهلاله فيصير مضافا إليه في حقنا، والارث يبتنى عليه، فلا يثبت بشهادة القابلة كما لا يثبت حق الرد بالغيب بشهادة النساء في جارية اشتراها بشرط البكارة إذا شهدت أنها ثيب قبل القبض ولا بعده ولكن يستحلف البائع، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الاستهلال ‏(‏معرف، فإن حياة الولد لا تكون مضافا إليه وجوبا به ولا وجودا عنده، ونفس الاستهلال‏)‏ في غير حالة التوريث يثبت بشهادة القابلة حتى يصلى على المولود، فكذلك في حالة التوريث‏.‏