فصل: فصل: في بيان الصريح والكناية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أصول السرخسي ***


فصل‏:‏ في بيان الحقيقة والمجاز

الحقيقة اسم لكل لفظ هو موضوع في الاصل لشئ معلوم، مأخوذ من قولك‏:‏ حق يحق فهو حق وحاق وحقيق، ولهذا يسمى أصلا أيضا لانه أصل فيما هو موضوع له‏.‏ والمجاز اسم لكل لفظ هو مستعار لشئ غير ما وضع له، مفعل من جاز يجوز سمي مجازا لتعديه عن الموضع الذي وضع في الاصل له إلى غيره، ومنه قول الرجل لغيره‏:‏ حبك إياي مجاز‏:‏ أي هو باللسان دون القلب الذي هو موضع الحب في الاصل، وهذا الوعد منك مجاز‏:‏ أي القصد منه الترويج دون التحقيق على ما عليه وضع الوعد في الاصل، ولهذا يسمى مستعارا، لان المتكلم به استعاره وبالاستعمال فيما هو مراده بمنزلة من استعار ثوبا للبس ولبسه، وكل واحد من النوعين موجود في كلام الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الناس في الخطب والاشعار وغير ذلك، حتى كاد المجاز يغلب الحقيقة لكثرة الاستعمال، وبه اتسع اللسان وحسن مخاطبات الناس بينهم‏.‏ وحكم الحقيقة وجود ما وضع له أمرا كان أو نهيا خاصا كان أو عاما، وحكم المجاز وجود ما استعير لاجله كما هو حكم الحقيقة خاصا كان أو عاما‏.‏ ومن أصحاب الشافعي رحمه الله من قال لا عموم للمجاز، ولهذا قالوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء لا يعارضه حديث ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين فإن المراد بالصاع ما يكال به وهو مجاز لا عموم له، وبالاجماع المطعوم مراد به فيخرج ما سواه من أن يكون مرادا، ويترجح قوله عليه السلام‏:‏ لا تبيعوا الطعام بالطعام لانه حقيقة في موضعه فيثبت الحكم به عاما، واستدلوا لاثبات هذه القاعدة بأن المصير إلى المجاز لاجل الحاجة والضرورة، فأما الاصل هو الحقيقة في كل لفظ لانه موضوع له في الاصل، ولهذا لا يعارض المجاز الحقيقة بالاتفاق حتى لا يصير اللفظ في المتردد بين الحقيقة والمجاز في حكم المشترك، وهذه الضرورة ترتفع بدون إثبات حكم العموم للمجاز فكان المجاز في هذا المعنى بمنزلة ما ثبت بطريق الاقتضاء، فكما لا تثبت هناك صفة العموم لان الضرورة ترتفع بدونه فكذلك ها هنا‏.‏ ولكنا نقول المجاز أحد نوعي الكلام فيكون بمنزلة نوع آخر في احتمال العموم والخصوص لان العموم للحقيقة ليس باعتبار معنى الحقيقة بل باعتبار دليل آخر دل عليه، فإن قولنا رجل اسم لخاص فإذا قرن به الالف واللام وليس هناك معهود ينصرف إليه بعينه كان للجنس فيكون عاما بهذا الدليل، وكذا كل نكرة إذا قرن بها الالف واللام فيما لا معهود فيه يكون عاما بهذا الدليل وقد وجد هذا الدليل في المجاز، والمحل الذي استعمل فيه المجاز قابل للعموم فتثبت به صفة العموم بدليله كما ثبت في الحقيقة، ولهذا جعلنا قوله‏:‏ ‏(‏ولا الصاع بالصاعين‏)‏ عاما، لان الصاع نكرة قرن بها الالف واللام، وما يحويه الصاع محل لصفة العموم، وهذا لان المجاز مستعار ليكون قائما مقام الحقيقة عاملا عمله ولا يتحقق ذلك إلا بإثبات صفة العموم فيه، ألا ترى أن الثوب الملبوس بطريق العارية يعمل عمل الملبوس بطريق الملك فيما هو المقصود وهو دفع الحر والبرد، ولو لم يجعل كذلك لكان المتكلم بالمجاز عن اختيار مخلا بالغرض فيكون مقصرا وذلك غير مستحسن في الاصل، وقد ظهر استحسان الناس للمجازات والاستعارات فوق استحسانهم للفظ الذي هو حقيقة، عرفنا أنه ليس في هذه الاستعارة تقصير فيما هو المقصود وأن للمجاز من العمل ما للحقيقة، وقولهم إن المجاز يكون للضرورة باطل، فإن المجاز موجود في كتاب الله تعالى والله تعالى يتعالى عن أن يلحقه العجز أو الضرورة، إلا أن التفاوت بين الحقيقة والمجاز في اللزوم والدوام من حيث إن الحقيقة لا تحتمل النفي عن موضعها والمجاز يحتمل ذلك وهو العلامة في معرفة الفرق بينهما فإن اسم الاب حقيقة للاب الادنى فلا يجوز نفيه عنه بحال، وهو مجاز للجد حتى يجوز نفيه عنه بأن يقال إنه جد وليس بأب، ولهذا تترجح الحقيقة عند التعارض، لانها ألزم وأدوم والمطلوب بكل كلمة عند الاطلاق ما هي موضوعة له في الاصل فيترجح ذلك حتى يقوم دليل المجاز، بمنزلة الملبوس يترجح جهة الملك للابس فيه حتى يقوم دليل العارية إلا إذا كانت الحقيقة مهجورة فحينئذ يتعين المجاز لمعرفة القصد إلى تصحيح الكلام وينزل ذلك منزلة دليل الاستثناء، ولهذا قلنا لو حلف أن لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر لا ينصرف يمينه إلى عينها وإنما ينصرف إلى ثمرة الشجرة وما يطبخ في القدر، لان الحقيقة مهجورة فيتعين المجاز‏.‏ ولو حلف لا يأكل من هذه الشاة ينصرف يمينه إلى لحمها لا إلى لبنها وسمنها، لان الحقيقة هنا غير مهجورة فإن عين الشاة تؤكل فتترجح الحقيقة على المجاز عند إطلاق اللفظ‏.‏ ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فقد قال بعض مشايخنا يحنث إذا أكل الدقيق بعينه، لانه مأكول، والاصح أنه لا يحنث لان أكل عين الدقيق مهجور فينصرف يمينه إلى المجاز وهو ما يتخذ منه الخبز، وصار دليل الاستثناء بهذا الدليل نحو دليل الاستثناء فيمن حلف أن لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة في الحال فإنه لا يحنث ويصير ذلك القدر من السكنى مستثنى لمعرفة مقصوده وهو أن يمنع نفسه بيمينه عما في وسعه دون ما ليس في وسعه، وعلى هذا لو حلف لا يطلق وقد كان علق الطلاق بشرط قبل هذه اليمين فوجد الشرط لم يحنث، أو كان حلف بعد الجرح أن لا يقتل فمات المجروح لم يحنث، ويجعل ذلك بمنزلة دليل الاستثناء بمعرفة مقصوده‏.‏ ومن أحكام الحقيقة والمجاز أنهما لا يجتمعان في لفظ واحد في حالة واحدة على أن يكون كل واحد منهما مرادا بحال، لان الحقيقة أصل والمجاز مستعار ولا تصور لكون اللفظ الواحد مستعملا في موضوعه مستعارا في موضع آخر سوى موضوعه في حالة واحدة، كما لا تصور لكون الثوب الواحد على اللابس ملكا وعارية في وقت واحد، ولهذا قلنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ المراد الجماع دون اللمس باليد، لان الجماع مراد بالاتفاق حتى يجوز التيمم للجنب بهذا النص، ولا تجتمع الحقيقة والمجاز مرادا باللفظ، فإذا كان المجاز مرادا تتنحى الحقيقة، ولهذا قلنا النص الوارد في تحريم الخمر وإيجاب الحد بشربه بعينه لا يتناول سائر الاشربة المسكرة حتى لا يجب الحد بها ما لم تسكر، لان الاسم للنئ من ماء العنب المشتد حقيقة ولسائر الاشربة المسكرة مجازا، فإذا كانت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن أوصى لبني فلان أو لاولاد فلان وله بنون لصلبه وأولاد البنين فإن أولاد البنين لا يستحقون شيئا، لان الحقيقة مرادة فيتنحى المجاز‏.‏ وقال في السير‏:‏ إذا استأمنوا على آبائهم لا يدخل أجدادهم في ذلك، وإذا استأمنوا على أمهاتهم لا تدخل الجدات في ذلك، لان الحقيقة مرادة فيتنحى المجاز، وعلى هذا قال في الجامع‏:‏ لو أن عربيا لا ولاء عليه أوصى لمواليه وله معتقون ومعتق المعتقين فإن الوصية لمعتقه وليس لمعتق المعتق شئ، لان الاسم للمعتقين حقيقة باعتبار أنه باشر سبب إحيائهم بإحداث قوة المالكية فيهم بالاعتاق، لان الحرية حياة والرق تلف حكما فكانوا منسوبين إليه بالولاء حقيقة كنسبة الولد إلى أبيه، وأما معتق المعتق يسمى مولى له مجازا، لانه بالاعتاق الاول جعله بحيث يملك اكتساب سبب الولاء وهو الاعتاق فيكون متسببا في الولاء الثاني من هذا الوجه، ويسمى مولى له مجازا بطريق الاتصال من حيث السببية، فإذا صارت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، حتى لو لم يكن له معتقون فالوصية لموالي الموالي، لان الحقيقة هنا غير مرادة فيتعين المجاز، ولو كان له معتق واحد والوصية بلفظ الجماعة فاستحق هو نصف الثلث كان الباقي مردودا على الورثة ولا يكون لموالي الموالي من ذلك شئ، لان الحقيقة هنا مرادة ولو كان للموصي موال أعلى وأسفل لم تصح الوصية، لان الاسم مشترك وكل واحد من الفريقين يحتمل أن يكون مرادا إلا أنه لا وجه للجمع بينهما وإثبات العموم لاختلاف المعنى والمقصود فيبطل أصل الوصية، ومعلوم أن التغاير بين الحقيقة والمجاز باعتبار أصل الوضع وفي الاسم المشترك لا تغاير باعتبار أصل الوضع، ثم لم يجز هناك أن يكون كل واحد منهما مرادا باللفظ في حالة واحدة فلان لا يجوز ذلك في الحقيقة والمجاز أولى‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا الاصل لا يستمر في المسائل فإن من حلف أن لا يضع قدمه في دار فلان يحنث إذا دخلها ماشيا كان أو راكبا حافيا كان أو منتعلا، وحقيقة وضع القدم فيها إذا كان حافيا‏.‏ وكذلك لو قال‏:‏ يوم يقدم فلان فامرأته كذا فقدم ليلا أو نهارا يقع الطلاق والاسم للنهار حقيقة ولليل مجاز‏.‏ ولو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان عارية أو بأجر يحنث كما لو دخل دارا مملوكة له‏.‏ وفي السير قال‏:‏ لو استأمن على بنيه يدخل بنوه وبنو بنيه، ولو استأمن على مواليه وهو ممن لا ولاء عليه يدخل في الامان مواليه وموالي مواليه، فقد جمعتم بين الحقيقة والمجاز في هذه الفصول‏.‏ وقال أبو حنيفة ومحمد‏:‏ إذا قال لله علي أن أصوم رجب ونوى به اليمين كان نذرا ويمينا واللفظ للنذر حقيقة ولليمين مجاز‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله‏:‏ إذا حلف أن لا يشرب من الفرات فأخذ الماء من الفرات في كوز فشربه يحنث كما لو كرع في الفرات، ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها يحنث كما لو أكل عينها وفي هذا جمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ في حالة واحدة‏.‏ قلنا‏:‏ جميع هذه المسائل تخرج مستقيما على ما ذكرنا من الاصل عند التأمل، فقد ذكرنا أن المقصود معتبر وأنه ينزل ذلك منزلة دليل الاستثناء‏.‏ ففي مسألة وضع القدم مقصود الحالف الامتناع من الدخول فيصير باعتبار مقصوده كأنه حلف لا يدخل والدخول قد يكون حافيا وقد يكون منتعلا وقد يكون راكبا فعند الدخول حافيا يحنث لا باعتبار حقيقة وضع القدم بل باعتبار الدخول الذي هو المقصود، فعرفنا أنه إنما يحنث في المواضع كلها لعموم المجاز لا لعموم الحقيقة‏.‏ وكذلك قوله يوم يقدم فلان فالمقصود بذكر اليوم هنا الوقت، لانه قرن به ما هو غير ممتد ولا يختص ببياض النهار، واليوم إنما يكون عبارة عن بياض النهار إذا قرن بما يمتد ليصير معيارا له، حتى إذا قال أمرك بيدك يوم يقدم فلان فقدم ليلا لا يصير الأمر بيدها، وكذلك إذا قرن بما يختص بالنهار كقوله لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فأما إذا قرن بما لا يمتد ولا يختص بأحد الوقتين يكون عبارة عن الوقت، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يولهم يومئذ دبره‏}‏ واسم الوقت يعم الليل والنهار فلعموم المجاز قلنا بأنها تطلق في الوجهين جميعا، حتى إذا قال ليلة يقدم فلان فقدم نهارا لم تطلق لان الحقيقة هنا مرادة فيتنحى المجاز‏.‏ وفي مسألة دخول دار فلان المقصود إضافة السكنى وذلك يعم السكنى بطريق الملك والعارية، وإذا دخل دارا يسكنها فلان بالملك إنما يحنث لعموم المجاز لا للملك، حتى لو كان الساكن فيها غير فلان لم يحنث وإن كانت مملوكة لفلان‏.‏ وفي مسألتي السير قياس واستحسان في القياس يتنحى المجاز في الامان كما في الوصية، وفي الاستحسان قال‏:‏ المقصود من الامان حقن الدم وهو مبني على التوسع واسم الابناء والموالي من حيث الظاهر يتناول الفروع إلا أن الحقيقة تتقدم على المجاز في كونه مرادا، ولكن مجرد الصورة تبقى شبهته في حقن الدم كما ثبت الامان بمجرد الاشارة من الفارس إذا دعا الكافر بها إلى نفسه لصورة المسالمة وإن لم يكن ذلك حقيقة‏.‏ فإن قيل‏:‏ لماذا لم تعتبر هذه الصورة في إثبات الامان للاجداد والجدات عند الاستئمان على الآباء والامهات‏؟‏ قلنا‏:‏ لان الحقيقة إذا صارت مرادا فاعتبار هذه الصورة لثبوت الحكم في محل آخر يكون بطريق التبعية لا محالة، وبنو البنين وموالي الموالي تليق صفة التبعية بحالهم، فأما الاجداد والجدات لا يكونون تبعا للآباء والامهات وهم الاصول، فلهذا ترك اعتبار الصورة هناك في إثبات الامان لهم، فأما مسألة النذر فقد قيل معنى النذر هناك يثبت بلفظ ومعنى اليمين بلفظ آخر، فإن قوله لله عند إرادة اليمين كقوله بالله إذ الباء واللام تتعاقبان، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ دخل آدم الجنة فلله ما غربت الشمس حتى خرج، وقوله علي نذر ونحن إنما أنكرنا اجتماع الحقيقة والمجاز في لفظ واحد مع أن تلك الكلمة نذر بصيغتها يمين بموجبها إذا أراد اليمين، لان موجبها وجوب المنذور به، وإيجاب المباح يمين كتحريم الحلال المباح وهو نظير شراء القريب تملك بصيغته وإعتاق بموجبه‏.‏ وأما مسألة الشرب من الفرات فالحنث عندها باعتبار عموم المجاز، لان المقصود شرب ماء الفرات ولا تنقطع هذه النسبة بجعل الماء في الاناء وعند الكرع إنما يحنث لانه شرب ماء الفرات، حتى لو تحول من الفرات إلى نهر آخر لم يحنث إن شرب منه، لان النسبة قد انقطعت عن الفرات بالتحول إلى نهر آخر‏.‏ وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر الحقيقة قال‏:‏ الشرب من الفرات حقيقة معتادة غير مهجورة وإنما يتناول هذا اللفظ الماء بطريق المجاز عن قولهم جرى النهر أي الماء فيها، وإذا صارت الحقيقة مرادا يتنحى المجاز، وكذلك في مسألة الحنطة أبو حنيفة اعتبر الظاهر فقال عين الحنطة مأكول وهو مراد مقصود فيتنحى المجاز، وهما جعلا ذكر الحنطة عبارة عما في باطنها مجازا للعرف، فإنه يقال أهل بلدة كذا يأكلون الحنطة والمراد ما فيها من عين الحنطة وإنما يحنث لعموم المجاز وهو أنه تناول ما فيها وهذا موجود فيما إذا أكل من خبزها، فخرجت المسائل على هذا الحرف وهو اعتبار عموم المجاز بمعرفة المقصود لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ وقد رأيت بعض العراقيين من أصحابنا رحمهم الله قالوا‏:‏ إن الحقيقة والمجاز لا يجتمعان في لفظ واحد في محل واحد ولكن في محلين مختلفين يجوز أن يجتمعا، وهذا قريب بشرط أن لا يكون المجاز مزاحما للحقيقة مدخلا للجنس على صاحب الحقيقة، فإن الثوب الواحد على اللابس يجوز أن يكون نصفه ملكا ونصفه عارية، وقد قلنا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم‏}‏ إنه يتناول الجدات وبنات البنات والاسم للام حقيقة وللجدات مجاز، وكذلك اسم البنات لبنات الصلب حقيقة ولاولاد البنات مجاز، وكذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم‏}‏ فإنه موجب حرمة منكوحة الجد كما يوجب حرمة منكوحة الاب، فعرفنا أنه يجوز الجمع بينهما في لفظ واحد ولكن في محلين مختلفين حتى يكون حقيقة في أحدهما مجازا في المحل الآخر، وهذا بخلاف المشترك فالاحتمال هناك باعتبار معاني مختلفة ولا تصور لاجتماع تلك المعاني في كلمة واحدة، وهنا تجمع الحقيقة والمجاز في احتمال الصيغة لكل واحد منهما معنى واحدا وهو الاصالة في الآباء والاجداد والامهات والجدات والولاد في حق الاولاد ولكن بعضها بواسطة وبعضها بغير واسطة، فيكون هذا نظير ما قال أبو حنيفة رحمه الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ إنه يتناول جميع أجناس الارض باعتبار معنى يجمع الكل وهو التصاعد من الارض وإن كان الاسم للتراب حقيقة‏.‏ وبيان الفرق بين المشترك وبين المجاز مع الحقيقة في المعنى الذي ذكرنا فيما قال في السير‏:‏ لو استأمن لمواليه وله موال أعلى وأسفل فالامان لاحد الفريقين وهو ما أراده الذي آمنه، وإن لم يرد شيئا يأمن الفريقان باعتبار أن الامان يتناول أحدهما لا باعتبار أنه يتناولهما، لان الاسم مشترك، وبمثله لو كان له موال وموالي موال ثبت الامان للفريقين جميعا باعتبار أنه يجوز أن يكون اللفظ الواحد عاملا بحقيقته في موضع وبمجازه في موضع آخر‏.‏ ثم طريق معرفة الحقيقة السماع لان الاصل فيه الوضع ولا يصير ذلك معلوما إلا بالسماع بمنزلة المنصوص في أحكام الشرع، وطريق الوقوف عليها السماع فقط‏.‏ وإنما طريق معرفة المجاز الوقوف على مذهب العرب في الاستعارة دون السماع بمنزلة القياس في أحكام الشرع، فإن طريق تعدية حكم النص إلى الفروع معلوم وهو التأمل في معاني النص واختيار الوصف المؤثر منها لتعدية الحكم بها إلى الفروع، فإذا وقف مجتهد على ذلك وأصاب طريقه كان ذلك مسموعا منه وإن لم يسبق به، فكذلك في الاستعارة إذا وقف إنسان على معنى تجوز الاستعارة به عند العرب فاستعار بذلك المعنى واستعمل لفظا في موضع كان مسموعا منه وإن لم يسبق به، وعلى هذا يجري كلام البلغاء من الخطباء والشعراء في كل وقت‏.‏ فنقول‏:‏ طريق الاستعارة عند العرب الاتصال، والاتصال بين الشيئين يكون صورة أو معنى، فإن كل موجود متصور تكون له صورة ومعنى، فالاتصال لا يكون إلا باعتبار الصورة أو باعتبار المعنى‏.‏ فأما الاستعارة للاتصال معنى فنحو تسمية العرب الشجاع أسدا للاتصال بينهما في معنى الشجاعة والقوة، والبليد حمارا لاتصال بينهما في معنى البلادة، والاستعارة للاتصال صورة نحو تسمية العرب المطر سماء، فإنهم يقولون‏:‏ ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم يعنون المطر، لانها تنزل من السحاب والعرب تسمي كل ما علا فوقك سماء ويكون نزول المطر من علو فسموه سماء مجازا للاتصال صورة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ والغائط اسم للمطمئن من الارض، وسمي الحدث به مجازا لان يكون في المطمئن من الارض عادة، وهذا اتصال من حيث الصورة، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ والمراد الجماع لان اللمس سببه صورة فسماه به مجازا وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إني أراني أعصر خمرا‏}‏ ‏(‏وإنما يعصر العنب وهو مشتمل على السفل والماء والقشر إلا أنه بالعصر يصير خمرا‏)‏ في أوانه فسماه به مجازا لاتصال بينهما في الذات صورة، فسلكنا في الاسباب الشرعية والعلل هذين الطريقين في الاستعارة وقلنا يصح الاستعارة للاتصال سببا فإنه نظير الاستعارة للاتصال صورة في المحسوسات، وللاتصال في المعنى المشروع الذي جاء لاجله شرع يصلح الاستعارة، وهو نظير الاتصال معنى في المحسوسات فإنه لا خلاف بين العلماء أن صلاحية الاستعارة غير مختص بطريق اللغة وأن الاتصال في المعاني والأحكام الشرعية يصلح للاستعارة، وهذا لان الاستعارة للقرب والاتصال وذلك يتحقق في المحسوس وغير المحسوس، فالأحكام الشرعية قائمة بمعناها متعلقة بأسبابها فتكون موجودة حكما بمنزلة الموجود حسا فيتحقق معنى القرب والاتصال فيها، ولان المشروعات إذا تأملت في أسبابها وجدتها دالة على الحكم المطلوب بها باعتبار أصل اللغة فيما تكون معقولة المعنى والكلام فيه ولا استعارة فيما لا يعقل معناه، ألا ترى أن البيع مشروع لايجاب الملك وموضوع له أيضا في اللغة، وقد اتفق العلماء في جواز استعارة لفظ التحرير لايقاع الطلاق به، وجوز الشافعي رحمه الله استعارة لفظ الطلاق لايقاع العتق به، والائمة من السلف استعملوا الاستعارة بهذا الطريق أيضا وكتاب الله تعالى ناطق بذلك، يعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها‏}‏ فإن الله تعالى جعل هبتها نفسها جوابا للاستنكاح وهو طلب النكاح، ولا خلاف أن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينعقد بلفظ الهبة على سبيل الاستعارة لا على سبيل حقيقة الهبة، فإن الهبة لتمليك المال فلا يكون عاملا بحقيقتها فيما ليس بمال، ولانها لا توجب الملك إلا بالقبض فيما كانت حقيقة فيه فكيف فيما ليست بحقيقة فيه، فعرفنا أنها استعارة قامت مقام النكاح بطريق المجاز، وكذلك كان يتعلق بنكاحه حكم القسم والطلاق والعدة وإن كان معقودا بلفظ الهبة، فعرفنا أنه كان بطريق الاستعارة على معنى أن اللفظ متى صار مجازا عن غيره سقط اعتبار حقيقته وصار التكلم به كالتكلم بما هو مجاز عنه‏.‏ ثم ليس للرسالة أثر في معنى الخصوصية بوجوه الكلام، فإن معنى الخصوصية هو التخفيف والتوسعة وما كان يلحقه حرج في استعمال لفظ النكاح فقد كان أفصح الناس، وهذه جملة لا خلاف فيها، إلا أن الشافعي رحمه الله قال نكاح غيره لا ينعقد بهذا اللفظ لانه عقد مشروع لمقاصد لا تحصى مما يرجع إلى مصالح الدين والدنيا، ولفظ النكاح والتزويج يدل على ذلك باعتبار أنها تبتنى على الاتحاد، فالتزويج تلفيق بين الشيئين على وجه يثبت به الاتحاد بينهما في المقصود كزوجي الخف ومصراعي الباب، والنكاح بمعنى الضم الذي ينبئ عن الاتحاد بينهما في القيام بمصالح المعيشة، وليس في هذين اللفظين ما يدل على التمليك باعتبار أصل الوضع، ولهذا لا يثبت ملك العين بهما، فالالفاظ الموضوعة لايجاب ملك العين فيها قصور فيما هو المقصود بالنكاح، إلا أن في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينعقد نكاحه بهذا اللفظ مع قصور فيه تخفيفا عليه وتوسعة للغات عليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏خالصة لك‏}‏ وفي حق غيره لا يصلح هذا اللفظ لانعقاد النكاح به لما فيه من القصور، وهو معنى ما يقولون‏:‏ إنه عقد خاص شرع بلفظ خاص‏.‏ ونظيره الشهادة فإنها مشروعة بلفظ خاص فلا تصلح بلفظ آخر لقصور فيه حتى إذا قال الشاهد أحلف لا يكون شهادة لان لفظ الحلف موجب بغيره ولفظ الشهادة موجب بنفسه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏}‏ وكذلك لفظ الهبة لا تنعقد به المعاوضة المحضة وهي البيع ابتداء وكأن ذلك لقصور فيها، وفي صفة المعاوضة النكاح أبلغ من البيع، وعلى هذا الاصل لم يجوزوا نقل الأخبار بالمعنى من غير مراعاة اللفظ، ولكنا نقول‏:‏ النكاح موجب ملك المتعة، وهذه الالفاظ في محل ملك المتعة توجب ملك المتعة تبعا لملك الرقبة فإنها توجب ملك الرقبة وملك الرقبة يوجب ملك المتعة في محله فكان بينهما اتصالا من حيث السببية وهو طريق صالح للاستعارة، ولا حاجة إلى النية لان هذا المحل الذي أضيف إليه متعين لهذا المجاز وهو النكاح، والحاجة إلى النية عند الاشتباه للتعيين، وما ذكروا من مقاصد النكاح فهي لكونها غير محصورة بمنزلة الثمرة كما هو المطلوب من هذا العقد، فأما المقصود فإثبات الملك عليها ولهذا وجب البدل لها عليه، فلو كان المقصود ما سواها من المقاصد لم يجب البدل لها عليه، لان تلك المقاصد مشتركة بينهما، وكذلك جعل الطلاق بيد الزوج لانه هو المالك فإليه إزالة الملك، وإذا ثبت أن المقصود هو الملك وهذه الالفاظ موضوعة لايجاب الملك، ثم لما انعقد هذا العقد بلفظ غير موضوع لايجاب ما هو المقصود وهو الملك، فلان ينعقد بلفظ موضوع لايجاب ما هو المقصود وهو الملك كان أولى، وإنما انعقد هذا العقد بلفظ النكاح والتزويج وإن لم يوضعا لايجاب الملك بهما في الاصل لانهما جعلا علما في إثبات هذا الملك بهما وما يكون علما لشئ بعينه فهو بمنزلة النص فيه فيثبت الحكم به بعينه ولهذا لم ينعقد بهما الاسباب الموجبة لملك العين، فأما الالفاظ الموضوعة لايجاب الملك لا ينتفي باسم العلم عن هذا المحل، وقد تقرر صلاحية الاستعارة بالاتصال من حيث السببية فيثبت هذا الملك بها بطريق الاستعارة‏.‏ فإن قيل‏:‏ الاتصال من حيث السببية لا يختص بأحد الجانبين بل يكون من الجانبين جميعا ثم لم يعتبر هذا الاتصال والقرب في إثبات ملك الرقبة باللفظ الذي هو موضوع لايجاب ملك المتعة، فكذلك لا يعتبر هذا الاتصال لاثبات ملك المتعة باللفظ الموضوع لاثبات ملك الرقبة‏.‏ قلنا‏:‏ الاتصال من حيث السببية نوعان‏:‏ أحدهما اتصال الحكم بالعلة وذلك معتبر في صلاحية الاستعارة من الجانبين، لان العلة غير مطلوبة لعينها بل لثبوت الحكم بها، والحكم لا يثبت بدون العلة فيتحقق معنى القرب والاتصال لافتقار كل واحد منهما إلى الآخر‏.‏ وبيان هذا فيما قال في الجامع‏:‏ إذا قال‏:‏ إن ملكت عبدا فهو حر فاشترى نصف عبد ثم باعه ثم اشترى النصف الثاني لا يعتق، فإن قال‏:‏ عنيت الملك متفرقا كان أو مجتمعا يدين في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى ويعتق النصف الباقي في ملكه‏.‏ ولو قال‏:‏ إن اشتريت عبدا فهو حر فاشترى نصفه فباعه ثم اشترى النصف الباقي يعتق هذا النصف، فإن قال‏:‏ عنيت الشراء مجتمعا يدين فيما بينه وبين الله تعالى فلا يعتق هذا النصف، وقيل الشراء موجب للملك والملك حكم الشراء فيصلح أن يكون ذكر الملك مستعارا عن ذكر الشراء إذا نوى التفرق فيه، ويصلح أن يكون ذكر الشراء مستعارا عن ذكر الملك إذا نوى الاجتماع فيه حتى يعمل بنيته من حيث الديانة في الموضعين، ولكن فيما فيه تخفيف عليه لا يدين في القضاء للتهمة، وفيما فيه تشديد عليه يدين لانتفاء التهمة‏.‏ والنوع الآخر اتصال الفرع بالاصل والحكم بالسبب، فإن بهذا الاتصال تصلح استعارة الاصل للفرع والسبب للحكم، ولا تصلح استعارة الفرع للاصل والحكم للسبب، لان الاصل مستغن عن الفرع والفرع محتاج إلى الاصل، لانه تابع له فيصير معنى الاتصال معتبرا فيما هو محتاج إليه دون ما هو مستغنى عنه‏.‏ وهو نظير الجملة الناقصة إذا عطفت على الجملة الكاملة، فإنه يعتبر اتصال الجملة الناقصة بالكاملة فيما يرجع إلى إكمال الناقصة لحاجتها إلى ذلك حتى يتوقف أول الكلام على آخره ولا يعتبر اتصال الناقص بالكامل في حكم الكامل لانه مستغنى عنه، فملك الرقبة سبب ملك المتعة بينهما اتصال من هذا الوجه فلهذا جاز استعارة السبب للحكم ولا يجوز استعارة الحكم للسبب، واللفظ الموضوع لايجاب ملك الرقبة يجوز أن يستعار لايجاب ملك المتعة، والموضوع لايجاب ملك المتعة لا يصلح مستعارا لايجاب ملك الرقبة، ولهذا الطريق قلنا إن لفظ التحرير عامل في إيقاع الطلاق به مجازا لانها موضوعة لازالة ملك الرقبة، وزوالها سبب لزوال ملك المتعة إلا أنه لا يعمل بدون النية، لان المحل المضاف إليه غير متعين لهذا المجاز، بل هو محل لحقيقة الوصف بالحرية فيحتاج إلى النية ليتعين فيها الاستعمال بطريق المجاز، ولفظ الطلاق لا يحصل به العتق لانه موضوع لازالة ملك المتعة، وزوال ملك المتعة ليس بسبب لزوال ملك الرقبة، بل هو حكم ذلك السبب فلا يصلح استعارة الحكم للسبب كما لا يصلح استعارة الفرع للاصل لكونه مستغنى عنه، ولكن الشافعي رحمه الله جوز هذه الاستعارة أيضا للقرب بينهما من حيث المشابهة في المعنى وكل واحد منهما إزالة بطريق الابطال مبني على الغلبة، والسراية غير محتمل للفسخ محتمل للتعليق بالشرط والايجاب في المجهول فللمناسبة بينهما في هذا المعنى جوز استعارة كل واحد منهما للآخر، ولكنا نقول‏:‏ المناسبة في المعنى صالح للاستعارة لكن لا بكل وصف بل بالوصف الذي يختص بكل واحد منهما، ألا ترى أنه لا يسمى الجبان أسدا ولا الشجاع حمارا للمناسبة بينهما من حيث الحيوانية والوجود وما أشبه ذلك، ويسمى الشجاع أسدا للمناسبة بينهما في الوصف الخاص وهو الشجاعة، وهذا لان اعتبار هذه المناسبة بينهما للاستعارة بمنزلة اعتبار المعنى في المنصوص لتعدية الحكم به إلى الفروع، ثم لا يستقيم تعليل النص بكل وصف بل بوصف له أثر في ذلك الحكم، لانه لو جوز التعليل بكل وصف انعدم معنى الابتلاء أصلا، فكذلك ههنا لو صححنا الاستعارة للمناسبة في أي معنى كان ارتفع معنى الامتحان واستوى العالم والجاهل، فعرفنا أنه إنما تعتبر المناسبة في الوصف الخاص ولا مناسبة هنا في الوصف الذي لاجله وضع كل واحد منهما في الاصل، فالطلاق موضوع للاطلاق برفع المانع من الانطلاق لا بإحداث قوة الانطلاق في الذات، ومنه إطلاق الابل وإطلاق الاسير والعتاق لاحداث معنى في الذات يوجب القوة، من قول القائل‏:‏ عتق الفرخ إذا قوي حتى طار، وفي ملك اليمين المملوك عاجز عن الانطلاق لضعف في ذاته وهو أنه صار رقيقا مملوكا مقهورا محتاجا إلى إحداث قوة فيه يصير بها مالكا مستوليا مستبدا بالتصرف، والمنكوحة مالكة أمر نفسها ولكنها محبوسة عند الزوج بالملك الذي له عليها فحاجتها إلى رفع المانع وذلك يكون بالطلاق كما يكون برفع القيد عن الاسير وبحل العقال عن البعير، ولا مناسبة بين رفع المانع وبين إحداث القوة، كما لا مناسبة بين رفع القيد وبين البرء من المرض، فعرفنا أنه لا وجه للاستعارة بطريق المناسبة بينهما في المعنى ولكن بالاتصال من حيث السببية والحكم، وقد بينا أن ذلك صالح من أحد الجانبين دون الجانب الآخر‏.‏ فإن قيل‏:‏ عندكم الاجازة لا تنعقد بلفظ البيع نص عليه في كتاب الصلح حيث قال‏:‏ بيع السكنى باطل، فالبيع سبب لملك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة‏.‏ ثم لم تصح الاستعارة بهذا الطريق عندكم مجازا، وعلى عكس هذا إذا قال لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فقال أعتقت يثبت التملك شراء بهذا الكلام والعتق ليس بسبب للشراء ثم كان عبارة عنه مجازا، وكذلك شراء القريب إعتاق عندكم والشراء ليس بسبب العتق ثم كان عبارة عنه‏.‏ قلنا‏:‏ أما استعمال لفظ البيع في الاجارة فإنما لا يجوز عندنا لانعدام المحل لا لانعدام الصلاحية للاستعارة، لانه إن أضيف لفظ البيع إلى رقبة الدار والعبد فهو عامل بحقيقته في تمليك العين، وإن أضيف إلى منفعتهما فالمنفعة معدومة والمعدوم لا يكون محلا للتمليك، واللفظ متى صار مجازا عن غيره يجعل كأنه وجد التصريح باللفظ الذي هو مجاز عنه‏.‏ ولو قال‏:‏ أجرتك منافع هذه الدار لا يصح أيضا وإنما يصح إذا قال أجرتك الدار باعتبار إقامة العين المضاف إليه العقد مقام المنفعة، ولفظ البيع متى أضيف إلى العين كان عاملا في حقيقته حتى لو قال الحر لغيره‏:‏ بعتك نفسي شهرا بعشرة يجوز ذلك على وجه الاستعارة عن الاجارة، لان عين الحر ليس بمحل لما وضع له البيع حقيقة، وأهل المدينة يسمون الاجارة بيعا فتجوز ههنا الاستعارة للاتصال من حيث السببية، وأما قوله أعتق عبدك عني فمن يقول إن ذلك مجاز عن الشراء فقد أخطأ خطأ فاحشا وكيف يكون ذلك مجازا عنه وهو عامل بحقيقته واللفظ متى صار مجازا عن غيره يسقط اعتبار حقيقته‏؟‏ وفي الموضع الذي لا يثبت حقيقة العتق بأن يكون القائل صبيا أو عبدا مأذونا لا يثبت الشراء، فعرفنا أن ثبوت الشراء هناك بطريق الاقتضاء للحاجة إلى تحصيل المقصود الذي صرحنا به وهو الاعتاق عنه فإن من شرطه ثبوت الملك له في المحل والمقتضى ليس من المجاز في شئ، وكذلك شراء القريب عندنا ليس بإعتاق مجازا، وكيف يكون ذلك وهو عامل بحقيقته وهو ثبوت الملك به ولا يجمع بين الحقيقة والمجاز في محل واحد‏؟‏ بل بطريق أن الشراء موجب ملك الرقبة وملك الرقبة متمم علة العتق في هذا المحل، فيصير الحكم وهو العتق مضافا إلى السبب الموجب لما تتم به العلة بطريق أنه بمنزلة علة العلة، فأما أن يكون بطريق المجاز فلا‏.‏ ومن أحكام هذا الفصل أن اللفظ متى كان له حقيقة مستعملة ومجاز متعارف، فعلى قول أبي حنيفة مطلقه يتناول الحقيقة المستعملة دون المجاز، وعلى قولهما مطلقه يتناولهما باعتبار عموم المجاز‏.‏ وبيانه فيما قلنا إذا حلف لا يشرب من الفرات أو لا يأكل من هذه الحنطة، وهذا في الحقيقة يبتني على أصل وهو أن المجاز عندهما خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم فهو المقصود لا نفس العبارة، وباعتبار الحكم يترجح عموم المجاز على الحقيقة فإن الحكم به يثبت في الموضعين، وعند أبي حنيفة المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم به لا في الحكم، لانه تصرف من المتكلم في عبارته من حيث إنه يجعل عبارته قائمة مقام عبارة، ثم الحكم يثبت به أصلا بطريق أنه يجعل كالمتكلم بما كان المجاز عبارة عنه لا أنه خلف عن الحكم، وإذا كان المجاز خلفا في التكلم لا يثبت المزاحمة بين الاصل والخلف فيجعل اللفظ عاملا في حقيقته عند الامكان وإنما يصار إلى إعماله بطريق المجاز في الموضع الذي يتعذر إعماله في حقيقته‏.‏ وعلى هذا الاصل قال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ إذا قال لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابني يعتق عليه، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يعتق، لان صريح كلامه محال والمجاز عندهما خلف عن الحقيقة في إيجاب الحكم ففي كل موضع يصلح أن يكون السبب منعقدا لايجاب الحكم الاصلي يصلح أن يكون منعقدا لايجاب ما هو خلف عن الاصل، وفي كل موضع لا يوجد في السبب صلاحية الانعقاد للحكم الاصلي لا ينعقد موجبا لما هو خلف عنه، فإن قوله لامس السماء يصلح منعقدا لايجاب ما هو الاصل وهو البر من حيث إن السماء غير ممسوسة فيصلح أن يكون منعقدا لايجاب الخلف عنه وهو الكفارة، واليمين الغموس لا تصلح سببا لايجاب ما هو الاصل وهو البر فلا يكون موجبا لما هو خلف عنه وهو الكفارة، فهنا أيضا هذا اللفظ في معروف النسب الذي يولد مثله لمثله يصلح سببا لايجاب ما هو الاصل وهو ثبوت النسب إلا أنه امتنع إعماله ‏(‏للحكم‏)‏ لثبوت نسبه من الغير فيكون موجبا لما هو خلف عنه وهو العتق، وفيمن هو أكبر سنا منه لا يصلح سببا لايجاب ما هو الاصل فلا يكون موجبا لما هو خلف عنه، ولهذا لا تصير أم الغلام أم الولد له هنا، وفي معروف النسب تصير أم ولد له على ما نص في كتاب الدعوى، وعلى هذا جعلنا بيع الحرة نكاحا، لان هناك المانع من الحكم الذي هو أصل في هذا المحل شرعي وهو تأكد الحرية على وجه لا يحتمل الابطال لا باعتبار أن السبب ليس بصالح لاثبات الحكم الاصلي به في هذا المحل فيكون منعقدا لاثبات ما هو خلف عنه وهو ملك المتعة، ولكن أبو حنيفة يقول المجاز خلف عن الحقيقة في التكلم لا في الحكم كما قررنا، فالشرط فيه أن يكون الكلام صالحا وصلاحيته بكونه مبتدأ وخبرا بصيغة الايجاب وهو موجود هنا فيكون عاملا في إيجاب الحكم الذي يقبله هذا المحل بطريق المجاز على معنى أنه سبب للتحرير، فإن من ملك ولده يعتق عليه ويصير معتقا له إذا اكتسب سبب تملكه، فاللفظ متى صار عبارة عن غيره مجازا للاتصال من حيث السببية يسقط اعتبار حقيقته، وباعتبار مجازه ما صادف إلا محلا صالحا، ولما تبين أنه خلف في التكلم لا في الحكم كان عمله كعمل الاستثناء والاستثناء صحيح على أن يكون عبارة عما وراء المستثنى وإن لم يصادف أصل الكلام محلا صالحا له باعتبار أنه تصرف من المتكلم في كلامه، حتى لو قال لامرأته أنت طالق ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين لم تقع إلا واحدة، نص عليه في المنتقى، ومعلوم أن المحل غير صالح لما صرح به ومع ذلك كان الاستثناء صحيحا لانه تصرف من المتكلم في كلامه فهنا كذلك‏.‏ ثم فيه طريقان لابي حنيفة‏:‏ أحدهما أنه بمنزلة التحرير ابتداء باعتبار أنه ذكر كلاما هو سبب للتحرير في ملكه وهو البنوة فيصير محررا ‏(‏به‏)‏ ابتداء مجازا، ولهذا لا تصير الام أم ولد له لانه ليس لتحرير الغلام ابتداء تأثير في إيجاب أمية الولد ‏(‏لامه‏)‏ ولانه لا يملك إيجاب ذلك الحق لها بعبارته على الحقيقة ابتداء بل بفعل هو استيلاد، ولهذا قال في كتاب الدعوى‏:‏ لو ورث رجلان مملوكا ثم ادعى أحدهما أنه ابنه يصير ضامنا لشريكه قيمة نصيبه إذا كان موسرا باعتبار أن ذلك كالتحرير المبتدأ منه، وعلى الطريق الآخر يجعل هذا إقرارا منه بالحرية مجازا كأنه قال عتق علي من حين ملكته فإن ما صرح به وهو البنوة سبب لذلك وهنا هو الاصح، فقد قال في كتاب الاكراه إذا أكره على أن يقول هذا ابني لا يعتق عليه، والاكراه إنما يمنع صحة الاقرار بالعتق لا صحة التحرير ابتداء، ووجوب الضمان في مسألة الدعوى بهذا الطريق أيضا فإنه لو قال عتق علي من حين ملكته كان ضامنا لشريكه أيضا، وعلى هذا الطريق نقول‏:‏ الجارية تصير أم ولد له لان كلامه كما جعل إقرارا بالحرية للولد جعل إقرارا بأمية الولد للام، فإن ما تكلم به سبب موجب هذا الحق لها في ملكه كما هو موجب حقيقة الحرية للولد، وبهذا الطريق في معروف النسب يثبت العتق لا بالطريق الذي قالا، فإنه مكذب شرعا في الحكم الاصلي والمكذب في كلامه شرعا كالمكذب حقيقة في إهدار كلامه، ألا ترى أنه لو أكره على أن يقول لعبده هذا ابني لا يعتق عليه لانه مكذب شرعا بدليل الاكراه إلا أن دليل التكذيب هناك عامل في الحقيقة والمجاز جميعا، وهنا دليل التكذيب وهو ثبوت نسبه من الغير عامل في الحقيقة دون المجاز وهو الاقرار بحريته من حين ملكه، ولهذا قلنا‏:‏ لو قال لزوجته وهي معروفة النسب من غيره هذه ابنتي لا تقع الفرقة بينهما لانه ليس بكلام موجب بطريق الاقرار في ملكه إنما موجبه إثبات النسب وقد صار مكذبا فيه شرعا فصار أصل كلامه لغوا‏.‏ وبيان هذا أن التبعية لا توجب الفرقة ولكنها تنافي النكاح أصلا، واللفظ متى صار مجازا عن غيره يجعل قائما مقام ذلك اللفظ فكأنه قال ما تزوجتها أو ما كان بيني وبينها نكاح قط، وذلك لا يوجب الفرقة، وكذلك لا يثبت به حرمتها عليه على وجه ينتفي به النكاح، لان في حكم الحرمة هذا الاقرار عليها لا على نفسه والعين هي التي تتصف بالحرمة وهو مكذب شرعا في إقراره على غيره‏.‏ ولا يدخل على هذا ما إذا قال لعبده يا ابني لان النداء لاستحضار المنادي بصورته لا بمعناه وإنما صار هذا اللفظ مجازا باعتبار معناه كما بينا، فأما إذا قال يا حر أو يا عتيق فإعمال ذلك اللفظ باعتبار أنه علم لاسقاط الرق به لا باعتبار المعنى فيه فكان عاملا على أي وجه أضافه إلى المملوك، والله أعلم‏.‏

فصل‏:‏ في بيان الصريح والكناية

الصريح هو كل لفظ مكشوف المعنى والمراد حقيقة كان أو مجازا، يقال‏:‏ فلان صرح بكذا، أي أظهر ما في قلبه لغيره من محبوب أو مكروه بأبلغ ما أمكنه من العبارة، ومنه سمي القصر صرحا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا‏}‏ والكناية بخلاف ذلك وهو ما يكون المراد به مستورا إلى أن يتبين بالدليل، مأخوذ من قولهم‏:‏ كنيت وكنوت، ولهذا كان الصريح ما يكون مفهوم المعنى بنفسه، وقد تكون الكناية ما لا يكون مفهوم المعنى بنفسه، فإن الحرف الواحد يجوز أن يكون كناية نحو هاء الغائبة وكاف المخاطبة، يقول الرجل هو يفعل كذا، وهذا الهاء لا يميز اسما من اسم فتكون هذه الكناية من الصريح بمنزلة المشترك من المفسر، وكذلك كل اسم هو ضمير نحو أنا وأنت ونحن فهو كناية، وكل ما يكون متردد المعنى في نفسه فهو كناية، والمجاز قبل أن يصير متعارفا بمنزلة الكناية أيضا لما فيه من التردد، ومنه أخذت الكنية فإنها غير الاسم‏.‏ والاسم الصريح لكل شخص ما جعل علما له، ثم يكنى بالنسبة إلى ولده فيكون ذلك تعريفا له بالولد الذي هو معروف بالنسب إليه، وهذا ليس من المجاز في شئ ولكن لما كان معرفة المراد منه بغيره سمي كنية، وعلى هذا الاستعارات والتعريضات في الكلام بمنزلة الكناية فإن العرب تكني الحبشي بأبي البيضاء، والضرير بأبي العيناء، وليس بينهما اتصال بل بينهما مضادة، وقد ذكرنا أن المجاز حده الاتصال بينه وبين ما جعل مجازا عنه‏.‏ عرفنا أن الكناية غير المجاز ولكنهم يكنون بالشئ عن الشئ على وجه السخرية أو على وجه التفاؤل فيكنون عما يذم بما يمدح به على سبيل التفاؤل كما يذكرون صيغة الأمر على وجه الزجر والتهديد، ويقولن تربت يداك على وجه التعطف، فبهذا يتبين أن حد الكناية غير حد المجاز‏.‏ ثم حكم الصريح ثبوت موجبه بنفسه من غير حاجة إلى عزيمة، وذلك نحو لفظ الطلاق والعتاق فإنه صريح فعلى أي وجه أضيف إلى المحل من نداء أو وصف أو خبر كان موجبا للحكم، حتى إذا قال يا حر أو يا طالق أو أنت حر أو أنت طالق أو قد حررتك أو قد طلقتك يكون إيقاعا نوى أو لم ينو لان عينه قائم مقام معناه في إيجاب الحكم لكونه صريحا فيه‏.‏ وحكم الكناية أن الحكم بها لا يثبت إلا بالنية أو ما يقوم مقامها من دلالة الحال، لان في المراد بها معنى التردد فلا تكون موجبة للحكم ما لم يزل ذلك التردد بدليل يقترن بها، وعلى هذا سمى الفقهاء لفظ التحريم والبينونة من كنايات الطلاق وهو مجاز عن التسمية باعتبار معنى التردد فيما يتصل به هذا اللفظ حتى لا يكون عاملا إلا بالنية، فسمي كناية من هذا الوجه مجازا، فأما إذا انعدم التردد بنية الطلاق فاللفظ عامل في حقيقة موجبه حتى يحصل به الحرمة والبينونة، ومعلوم أن ما يكون كناية عن غيره فإن عمله كعمل ما جعل كناية عنه، ولفظ الطلاق لا يوجب الحرمة والبينونة بنفسه، فعرفنا أنه عامل بحقيقته وإنما سمي كناية مجازا إلا قوله اعتدي فإنه كناية لاحتماله وجوها متغايرة وعند إرادة الطلاق لا يكون اللفظ عاملا في حقيقته، فإن حقيقته من باب العد والحساب وذلك محتمل عدد الاقراء وغير ذلك، فإذا نوى الطلاق وكان بعد الدخول وقع الطلاق بمقتضاه من حيث إن الاحتساب بعدد الاقراء من العدة لا يكون إلا بعد الطلاق فكأنه صرح بالطلاق، ولهذا كان الواقع رجعيا ولا يقع به أكثر من واحدة وإن نوى، وإن كان قبل الدخول يقع الطلاق به عند النية على أنه لفظ مستعار للطلاق شرعا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة اعتدي ثم راجعها، وقال لحفصة اعتدي ثم راجعها، وكذلك قوله استبرئي رحمك، وكذلك قوله أنت واحدة فإن في قوله واحدة احتمال كونه نعتا لها أو للتطليقة فلا يتعين بدون النية وعند النية يقع الطلاق به بطريق الاضمار، أي أنت طالق تطليقة واحدة، ولهذا كان الواقع به رجعيا‏.‏ ثم الاصل في الكلام الصريح لانه موضوع للافهام، والصريح هو التام في هذا المراد فإن الكناية فيها قصور باعتبار الاشتباه فيما هو المراد، ولهذا قلنا‏:‏ إن ما يندرئ بالشبهات لا يثبت بالكناية، حتى إن المقر على نفسه ببعض الاسباب الموجبة للعقوبة ما لم يذكر اللفظ الصريح كالزنا والسرقة لا يصير مستوجبا للعقوبة وإن ذكر لفظا هو كناية، ولهذا لا تقام هذه العقوبات على الاخرس عند إقراره به بإشارته لانه لم يوجد التصريح بلفظه، وعند إقامة البينة عليه لانه ربما يكون عنده شبهة لا يتمكن من إظهارها في إشارته، وعلى هذا لو قذف رجل رجلا بالزنا فقال له رجل آخر صدقت فإن الثاني لا يستوجب الحد، لان ما يلفظ به كناية عن القذف لاحتمال مطلق التصديق وجوها مختلفة، وكذلك لو قال لغيره أما أنا فلست بزان لا يلزمه حد القذف لانه تعريض وليس بتصريح بنسبته إلى الزنا فيكون قاصرا في نفسه‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس أنه لو قذف رجل رجلا بالزنا فقال آخر هو كما قلت فإن الثاني يستوجب الحد وهذا تعريض محتمل أيضا‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم ولكن كاف التشبيه توجب العموم عندنا في المحل الذي يحتمله، ولهذا قلنا في قول علي رضي الله عنه‏:‏ إنما أعطيناهم الذمة وبدلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا‏:‏ إنه مجرى على العموم فيما يندرئ بالشبهات وما يثبت مع الشبهات، فهذا الكاف أيضا موجبه العموم، لانه حصل في محل يحتمله، فيكون نسبته إلى الزنا قطعا بمنزلة كلام الاول على ما هو موجب العام عندنا‏.‏

فصل‏:‏ في بيان جملة ما تترك به الحقيقة

وهي خمسة أنواع‏:‏ أحدها دلالة الاستعمال عرفا، والثاني دلالة اللفظ‏.‏ والثالث سياق النظم، والرابع دلالة من وصف المتكلم، والخامس من محل الكلام‏.‏ فأما الاول فنقول‏:‏ تترك الحقيقة بدلالة الاستعمال عرفا، لان الكلام موضوع للافهام والمطلوب به ما تسبق إليه الاوهام، فإذا تعارف الناس استعماله لشئ عينا كان ذلك بحكم الاستعمال كالحقيقة فيه وما سوى ذلك - لانعدام العرف - كالمهجور لا يتناوله إلا بقرينة، ألا ترى أن اسم الدراهم عند الاطلاق يتناول نقد البلد لوجود العرف الظاهر في التعامل به ولا يتناول غيره إلا بقرينة لترك التعامل به ظاهرا في ذلك الموضع وإن لم يكن بين النوعين فرق فيما وضع الاسم له حقيقة‏.‏ وبيان هذا في اسم الصلاة فإنها للدعاء حقيقة، قال القائل‏:‏ وصلي على دنها وارتسم وهي مجاز للعبادة المشروعة بأركانها، سميت به لانها شرعت للذكر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأقم الصلاة لذكري‏}‏ وفي الدعاء ذكر وإن كان يشوبه سؤال، ثم عند الاطلاق ينصرف إلى العبادة المعلومة بأركانها سواء كان فيها دعاء أو لم يكن كصلاة الاخرس وإنما تركت الحقيقة للاستعمال عرفا‏.‏ وكذلك الحج فإن اللفظ للقصد حقيقة ثم سميت العبادة بها لما فيها من العزيمة والقصد للزيارة فعند الاطلاق الاسم يتناول العبادة للاستعمال عرفا، والعمرة والصوم والزكاة وغيرها على هذا فإن نظائر هذا أكثر من أن تحصى، ولهذا قلنا من نذر صلاة أو حجا أو مشيا إلى بيت الله يلزمه العبادة وإن لم ينو ذلك، فالمشي إلى بيت الله تعالى غير الحج حقيقة ولكن للاستعمال عرفا ينصرف مطلق اللفظ إليه‏.‏ وكذلك لو قال لله علي أن أضرب بثوبي حطيم الكعبة يلزمه التصدق بالثوب للاستعمال عرفا، فاللفظ حقيقة في غير ذلك‏.‏ ومن حلف أن لا يشتري رأسا ينصرف يمينه إلى ما يتعارف بيعه في الاسواق من الرؤوس على حسب ما اختلفوا فيه وكان ذلك للاستعمال عرفا، فأما من حيث الحقيقة الاسم يتناول كل رأس‏.‏ ومن حلف أن لا يأكل بيضا يتناول يمينه بيض الدجاج والاوز خاصة لاستعمال ذلك عند الاكل عرفا، ولا يتناول بيض الحمام والعصفور وما أشبه ذلك، وقد بينا أن العام إذا خص منه شئ يصير شبيه المجاز‏.‏ وبيان النوع الثاني وهو دلالة اللفظ فيما إذا حلف أن لا يأكل لحما فأكل لحم السمك أو الجراد لم يحنث في يمينه، لانه أطلق اللحم في لفظه ولحم السمك ‏(‏أو الجراد‏)‏ لا يذكر إلا بقرينة فكان قاصرا فيما يتناوله اسم مطلق اللحم، بمنزلة الصلاة على الجنازة فإنه قاصر فيما يتناوله مطلق اسم الصلاة من حيث إنه لا يذكر إلا بالقرينة، فلا يتناوله الاسم بدون القرينة‏.‏ فإن قيل‏:‏ أليس أنه لو أكل لحم خنزير أو لحم إنسان فإنه يحنث في يمينه وهذا لا يذكر إلا بقرينة‏؟‏ قلنا‏:‏ نعم ولكن ذكر القرينة هنا ليس لقصور معنى اللحمية فيهما، فإن اللحم اسم معنوي موضوع لما يتولد من الدم ولا قصور في ذلك في لحم الخنزير والآدمي، فأما لحم السمك والجراد فإنه قاصر في ذلك المعنى، لانه لا دم للسمك ولا للجراد، فكذلك معنى الغذاء المطلوب باللحم لا يتم بالسمك والجراد‏.‏ فعرفنا أن القرينة فيها للقصور، ومعنى الغذاء المطلوب باللحم يتم في لحم الخنزير والآدمي، فعرفنا أن القرينة لبيان الحرمة لا لقصور في معنى اللحمية، وليس للحرمة تأثير في المنع من إتمام شرط الحنث، وعلى هذا قلنا في قوله كل مملوك لي حر لا يدخل المكاتب بدون النية لانه تلفظ بالمملوك والمكاتب متردد بين كونه مالكا وبين كونه مملوكا فإنه مالك يدا وتصرفا مملوك رقا، وكذلك صرح بالاضافة إليه والمكاتب مضاف إليه من وجه دون وجه، فللدلالة في لفظه لا يتناوله الكلام بدون النية ولكن يتناوله مطلق اسم الرقبة المذكورة في قوله‏:‏ ‏{‏أو تحرير رقبة‏}‏ لانه يتناول الذات المرقوق، والرق لا ينتقض بعقد الكتابة بدليل احتمالها الفسخ واشتراط الملك بقدر ما يصح به التحرير وذلك موجود في المكاتب فيتأدى به الكفارة‏.‏ وكذلك قوله كل امرأة له طالق لا يتناول المختلعة بغير نية وإن كانت في العدة من غير النية لبقاء ملك اليد وزوال أصل ملك النكاح، وعلى عكس ما ذكرنا من معنى القصور معنى الزيادة أيضا، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال‏:‏ من حلف لا يأكل فاكهة فأكل عنبا أو رطبا أو رمانا لم يحنث، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يحنث لان اسم الفاكهة يتناولها عند الاطلاق من غير قرينة فتكون كاملة في المعنى المطلوب بهذا الاسم، وأبو حنيفة رحمه الله يقول هي زيادة على ما هو المطلوب بالاسم لان اشتقاق اللفظ من التفكه وهو التنعم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏انقلبوا فاكهين‏}‏ أي منعمين والتنعم زائد على ما به القوام، والرطب والعنب قوت يقع به القوام، والرمان في معنى الدواء وقد يقع به القوام أيضا وهو قوت في جملة التوابل وما يقع به القوام فهو زائد على التنعم، ولهذا عطف الله تعالى الفاكهة عليها وقال ‏{‏وعنبا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وفاكهة وأبا‏}‏ فللزيادة لا يتناولها مطلق الاسم كما أن للنقصان لا يتناول مطلق الاسم للسمك والجراد‏.‏ وكذلك لو حلف لا يأكل إداما، عند أبي حنيفة رحمه الله الادام ما يصطبغ به لانه تبع فلا يتناول ما يتأتى أكله مقصودا من الجبن والبيض واللحم، وعلى قول محمد رحمه الله يتناول ذلك لكمال معنى المؤادمة وهي الموافقة فيها كما في المسألة الاولى، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في هذه المسألة‏.‏ وبيان النوع الثالث، وهو سياق النظم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا‏}‏ فإن بسياق النظم يتبين أن المراد هو الزجر والتوبيخ دون الأمر والتخيير، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير‏}‏ فإن بسياق النظم يتبين أنه ليس المراد ما هو موجب صيغة الأمر بهذه الصفة‏.‏ وعلى هذا لو أقر وقال‏:‏ لفلان علي ألف درهم إن شاء الله لم يلزمه شئ، ولو قال‏:‏ لفلان علي ألف درهم ليس له علي شئ إن شاء الله تلزمه الالف، لان قوله ليس رجوع وصيغة قوله إن شاء الله صيغة التعليق، والارسال والتعليق كل واحد منهما متعارف بين أهل اللسان فكان ذلك من باب البيان لا من باب الرجوع ووجوب المال عليه من حكم إرسال الكلام فمع صيغة التعليق لا يلزمه حكم الارسال باعتبار سياق النظم‏.‏ وقال في السير الكبير‏:‏ لو قال مسلم لحربي محصور انزل فنزل كان آمنا، ولو قال انزل إن كنت رجلا فنزل كان فيئا، ولو قال له الحربي المأسور في يده الامان الامان وقال المسلم في جوابه الامان الامان كان آمنا حتى لو أراد قتله بعد هذا فعلى أمراء الجيش أن يمنعوه من ذلك ولا يصدقونه في قوله أردت رد كلامه، ولو قال الامان الامان ستعلم ما تلقى أو قال الامان الامان تطلب أو قال لا تعجل حتى ترى لم يكن ذلك أمانا بدلالة سياق النظم‏.‏ وكذلك لو قال لغيره اصنع في مالي ما شئت إن كنت رجلا أو قال طلق زوجتي إن كنت رجلا لم يكن توكيلا‏.‏ ولو قال لغيره‏:‏ لي عليك ألف درهم فقال الآخر لك علي ألف درهم ما أبعدك من ذلك لم يكن إقرارا‏.‏ فعرفنا أن بدليل سياق النظم تترك الحقيقة‏.‏ وبيان النوع الرابع‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستفزز من استطعت منهم بصوتك‏}‏ فإن كل واحد يعلم بأنه ليس بأمر لانه لا يجوز أن يظن ظان بأن الله تعالى يأمر بالكفر بحال، فتبين بأن المراد الاقدار والامكان لعلمنا أن ما يأتي به اللعين يكون بإقدار الله تعالى عليه إياه، وكذلك قول القائل اللهم اغفر لي يعلم أنه سؤال لا أمر لوصف المتكلم وهو أن العبد المحتاج إلى نعمة مولاه لا يطلب منه النعمة إلزاما وإنما يسأله ذلك سؤالا، وعلى هذا قلنا إذا قال لغيره تعال تغد عندي فقال والله لا أتغدى ثم رجع إلى بيته فتغدى لا يحنث لان المتكلم دعاه إلى الغداء الذي بين يديه وقد أخرج كلامه مخرج الجواب، فإذا تقيد الخطاب بالمعلوم من إرادة المتكلم يتقيد الجواب أيضا به‏.‏ وكذلك لو قامت امرأة لتخرج فقال لها إن خرجت فأنت طالق فرجعت ثم خرجت بعد ذلك اليوم لم تطلق، وعلى هذا لو قالت له زوجته إنك تغتسل في هذه الدار الليلة من الجنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر ثم اغتسل فيها في ‏(‏غير‏)‏ تلك الليلة أو في تلك الليلة من غير الجنابة لم يحنث‏.‏ وبيان النوع الخامس‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما يستوي الاعمى والبصير‏}‏ فإن بدلالة محل الكلام يعلم أنه ليس المراد نفي المساواة بينهما على العموم بل فيما يرجع إلى البصر فقط، وقد قلنا إن لفظ العموم في غير المحل القابل للعموم يكون بمعنى المجمل فلا يثبت به إلا ما يتيقن أنه مراد به ويكون ذلك شبه المجاز لدلالة محل الكلام، وعلى هذا قال علماؤنا رحمهم الله في قوله عليه السلام‏:‏ الاعمال بالنيات وفي قوله عليه السلام‏:‏ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه إنه لا يقتضي العموم وارتفاع الحكم، لان بمحل الكلام يتبين أنه ليس المراد أصل العمل فإن ذلك يتحقق بغير النية ومع الخطأ والنسيان والاكراه، فإما أن يكون المراد الحكم أو الاثم، ولا يجوز أن يقال كل واحد منهما مراد لانهما يبتنيان على معنيين متغايرين فإن الثواب على العمل الذي هو عبادة والاثم بالعمل الذي هو محرم يبتني على العزيمة والقصد، والجواز والفساد الذي هو حكم يبتني على الأداء بالاركان والشرائط، ألا ترى أن من توضأ بالماء النجس وهو لا يعلم به فصلى لم تجز صلاته مطلقا حتى لو علم لزمه الاعادة ومع ذلك إذا لم يعلم ولم يكن منه التقصير كان مطيعا باعتبار قصده وعزيمته فيكون هذا بمنزلة المشترك الذي لا عموم له لتغاير المعنى فيما يحتمله فلا يجوز الاحتجاج به في حكم الجواز والفساد إلا بدليل يقترن به فيصير كالمؤول حينئذ، فأما ما يعترض من الدليل الموجب للنسخ أو التخصيص فليس من هذا الباب في شئ، وإنما هذا الباب لمعرفة الوجوه فيما يقترن بالكلام فيصير حقيقة ودليل النسخ والتخصيص كلام معارض إلا أن النسخ معارض صورة وحقيقة والتخصيص معارض صورة، وبيان معنى حتى لا يكون إلا بالمقارن ولكن ذلك المقارن إنما يتبين بما هو نسخ مبتدأ صيغة، فعرفنا أنه ليس من هذا الباب في شئ‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ والعراقيون من مشايخنا رحمهم الله يزعمون أنه لا عموم للنصوص الموجبة لتحريم الأعيان نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ وقوله عليه السلام‏:‏ حرمت الخمر لعينها وقالوا امتنع ثبوت حكم العموم في هذه الصورة معنى لدلالة محل الكلام وهو أن الحل والحرمة لا تكون وصفا للمحل وإنما تكون وصفا لافعالنا في المحل حقيقة فإنما يصير المحل موصوفا به مجازا وهذا غلط فاحش، فإن الحرمة بهذه النصوص ثابتة للاعيان الموصوفة بها حقيقة، لان إضافة الحرمة إلى العين تنصيص على لزومه وتحققه فيه، فلو جعلنا الحرمة صفة للفعل لم تكن العين حراما، ألا ترى أن شرب عصير الغير وأكل مال الغير فعل حرام ولم يكن ذلك دليلا على حرمة العين ولزوم هذا الوصف للعين، ولكن عمل هذه النصوص في إخراج هذه المحال من أن تكون قابلة للفعل الحلال وإثبات صفة الحرمة لازمة لاعيانها فيكون ذلك بمنزلة النسخ الذي هو رفع حكم وإثبات حكم آخر مكانه، فبهذا الطريق تقوم العين مقام الفعل في إثبات صفة الحرمة والحل له حقيقة، وهذا إذا تأملت في غاية التحقيق، فمع إمكان العمل بهذه الصيغة جعل هذه الحرمات مجازا باعتبار أنها صفة للفعل لا للمحل يكون خط فاحشا‏.‏